تحميل:
بحث حول الصابئة
- اقوال الفقهاء
- التحقيق في المسألة
- المحور الأول: الأمور الکبرويّة
- الأمر الأول
- الأمر الثاني
- الأمر الثالث
- الأمر الرابع
الأمر الرابع:
لو بقي الشك في كونهم ممن أوتي الكتاب، فما هو مقتضى القاعدة في ذلك؟ وهل هناك اصل لفظي أو عملي يعمل بمقتضاه؟
ظاهر كلام الشيخ (رحمه الله) في الخلاف ان الاصل بالنسبة إلى كل ملة لم يحرز كونهم كتابيين هو عدم قبول الجزية منهم وعدم اقرارهم على دينهم. قال في مقام الاستدلال على جريان هذا الحكم بالنسبة للصابئة: دليلنا اجماع الفرقة واخبارهم، وايضاً قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)(29) وقال: (فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)(30)، ولم يأمر بأخذ الجزية منهم، وايضاً قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)(31). فشرط في اخذ الجزية ان يكونوا من أهل الكتاب، وهؤلاء ليسوا بأهل الكتاب. انتهى(32).
وحاصل كلامه (رحمه الله) ان هناك اصلاً لفظياً، وهو عموم هذا الحكم في الآيات المذكورة بالنسبة إلى ما سوى أهل الكتاب من الكفار، فمتى لم يثبت الخروج عن هذا العموم بدليل خاص فمقتضى القاعدة عموم حكم العام له. ولا يخفى على المتأمل ان قوله: «وهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب » انما هو نفي احراز كونهم من أهل الكتاب، لا نفي كونهم كذلك واقعاً؛ اذ لا سبيل لاحد إلى الكشف القطعي بانهم ليسوا بكتابيين الا من طريق اخبار الصادق المصدق(33)، والمفروض عدم ورود دليل في باب الصابئة على انهم غير كتابيين، فالمراد: انهم غير محرز كونهم كتابيين. وقد صرح بذلك صاحب الجواهر (رحمه الله)، حيث قال: من شك فيه انه كتابي يتجه عدم قبولها [اي الجزية] منه؛ للعمومات الآمرة بقتل المشركين المقتصر في الخروج منها على [عنوان] الكتابية، التي هي شرط قبول الجزية(34)، انتهى. فموضوع الحكم في كلامه (رحمه الله) هو من شك في كتابيته.
اقول: للخدشة في ما يستفاد من كلام الشيخ (رحمه الله) والذي تبعه فيه صاحب الجواهر (رحمه الله) مجال:
اما اولاً: فلان العمومات المشار اليها في كلام صاحب الجواهر ومنها الآيتان المذكورتان في كلام الشيخ (رحمه الله) قد سبق الحديث عنها بالتفصيل (في الابحاث السابقة)، وقلنا انها أو اكثرها ناظرة إلى حكم مشركي الحجاز من عبدة الاوثان الذين كان رسول الله (ص) والمسلمون يومئذ مبتلين بهم كاعداء محاربين، وليس فيها تعرض لحكم مطلق الكافر بالمعنى العام؛ اي الذي لم يتدين بما جاء به نبي الاسلام (ص)، وليست بصدد الأمر بقتلهم على العموم، ولا اقل من الشك في ذلك وكون هذا المقدار هو القدر المتيقن من مدلول الآيات.
وثانياً : ان ما افاده الشيخ وصاحب الجواهر (رحمهم الله) كاصل متبع في باب المعاملة مع الكفار اعني الحكم بعدم الجزية في من يشك في كونه ممن اوتي الكتاب من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية لمخصصه؛ بمعنى ان من يشك في كونه داخلاً في عنوان «من اوتي الكتاب » وهو عنوان المخصص لعمومات عدم اقرار الكافر على دينه يشك في كونه داخلاً في المراد الجدي من عنوان العام بعد ورود الدليل المخصص؛ اعني الكافر غير الكتابي، وهذا يقتضي عدم جواز الاستدلال بالعام لحكم هذا الفرد المشكوك.
نعم، لو فرض ان عنوان «من اوتي الكتاب » وهو عنوان دليل المخصص مشتبه مفهوماً؛ بان دار امره بين صاحب الكتاب المشرع مثلاً أو الاعم منه ومن غير المشرع، فاجمال المخصص بهذا النحو لا يوجب عدم جواز التمسك بعموم دليل الكفار؛ لان الدليل العام يشمل صاحب الكتاب غير المشرع، ولا نعلم بشمول الدليل الخاص له، فالأمر في شمول الدليلين لهذا الفرد المشكوك دائر بين الحجة واللا حجة.
ولعل هذا هو الوجه في استدلال صاحب الجواهر(رحمه الله) بعموم آيات القتال في بيان حكم الصابئة.
ثم ان ما ذكرنا من الفرق بين الصورتين اعني ما كانت الشبهة فيه من قبيل الاشتباه في المفهوم، وما كان المفهوم فيه امراً جلياً غير مشتبه ولكن الشبهة أتت من ناحية الاشتباه في المصداق فتفصيله مذكور في الاصول.
ومجمل القول فيه: انه في صورة الاشتباه المفهومي، والذي يكون امر المخصص دائراً مفهوماً بين الاقل والاكثر؛ كما لو دار الأمر في معنى الفاسق الذي ورد في الدليل المخصص موضوعاً لعدم الاكرام، كقول القائل: لا تكرم العالم الفاسق، دار امره بين مرتكب الكبيرة فقط ومرتكب الاعم من الكبيرة والصغيرة من الذنب، فدلالة هذا الدليل المخصص على حكم الاقل وهو خصوص مرتكب الكبيرة معلومة، ولكن دلالته على حكم مرتكب كل ذنب ولو صغيرة غير معلومة، فاذا كان هناك عالم مرتكب لصغيرة فدلالة المخصص عليه وشموله له غير معلومة، في حين ان دلالة العام عليه وهو اكرام كل عالم معلومة، فتعارض العام والخاص بالنسبة لهذا المورد اعني العالم مرتكب الصغيرة تعارض بين الحجة واللاحجة، فلا مناص من التمسك فيه بالعام، وفي ما نحن فيه اذا فرض ان الدليل المخصص اعني آية الجزية مجمل من حيث المفهوم فيحتمل فيه ارادة خصوص اهل الكتب الثلاثة أو الكتب المشرعة، كما يحتمل شموله لهم ولغيرهم، فدلالة هذا الدليل على حكم غير اهل الكتب الثلاثة غير معلوم، في حين ان دلالة العام اي عمومات الكفار عليهم ثابتة بلا ريب، فيحكم عليهم بمقتضاه.
واما في ما كان عنوان الدليل المخصص امراً واضحاً وانما وقع الاشتباه من ناحية الشبهة المصداقية فالأمر يختلف تماماً؛ فاذا فرض ان مفهوم الفاسق في المثال الذي سبق ذكره غير مشتبه، ولكن شك في فسق زيد بالخصوص، فحينئذ لما كان المراد الجدي من قول القائل: اكرم كل عالم هو اكرام كل عالم غير فاسق وذلك بقرينة المخصص المنفصل الذي يقول: لا تكرم اي عالم فاسق، فشمول العام للفرد المشكوك كونه فاسقاً أو غير فاسق بعينه كشمول الدليل المخصص له في ان كلاً منهما لا يشمل سوى ما احرز كونه مصداقاً له، وبعبارة ادق: ان كلاً منهما لا يكون حجة الا في ما احرز كونه مصداقاً له، فكما لا يشمل الدليل المخصص هذا الفرد المشتبه كونه فاسقاً كذلك لا يشمله الدليل العام.
فبناء على كون الشبهة في باب عنوان «من اوتي الكتاب » وشموله للصابئة من باب الشبهة المصداقية، تكون النتيجة ان عمومات قتال الكفار لا تشمل الصابئين، فلا وجه لاستدلال الشيخ وصاحب الجواهر (رحمهما الله) بتلك العمومات لاجل اثبات خروجهم عن احكام اهل الذمة، وقد علمنا في ما قبل ان الشبهة في هذا المورد ليست شبهة مفهومية في راي صاحب الجواهررحمه الله على ما يبدو من التأمل في كلامه، وهو صحيح وواضح بناء على ما ذكرناه سابقاً من ان الكتاب في آية الجزية يشمل الكتب السماوية جميعاً من غير اختصاص ببعضها. وعليه فلو بقي هناك شبهة في امر الصابئة فهي انما تكون من باب الشبهة المصداقية، وفيها لا يجوز التمسك بالعام كما مر.
فحاصل الكلام في هذا الأمر: انه ليس هناك عموم أو اطلاق يمكن الاستدلال به في المشكوك كونه كتابياً على جواز قتله وعدم اقراره على دينه. نعم ترتيب جميع احكام الكتابي على هذا المشكوك ايضاً مشكل؛ لان ادلتها انما تثبتها لمن كان كتابياً، ولازمه احراز هذا الموضوع، فما لم يحرز كونه كتابياً لا يمكن ترتيب تلك الاحكام عليه. اللهم الا ان يقال: ان حكم الجزية يشمل هذا الفرد المشكوك كونه كتابياً بمفهوم الأولوية، وقد سبق منا توضيح ذلك.
هذا كله في الاصول اللفظية.
29. التوبة: 5.
30. محمد (ص): 4.
31. التوبة: 29.
32. الخلاف5: 543.
33. إلاّ أن يكون مراده من أهل الكتاب خصوص اليهود و النصارى.
34. جواهر الكلام 21: 231. - مقتضى الاصل العملي
-
- المحور الثاني: الأمور الصغرويّة
-