تحميل:
بحث حول الصابئة
- اقوال الفقهاء
- التحقيق في المسألة
- المحور الأول: الأمور الکبرويّة
- الأمر الأول
- الأمر الثاني
- الأمر الثالث
الأمر الثالث:
هل يجوز التمسك بدعواهم في عقائدهم اذا ادعوا التوحيد والاعتقاد بنبي من الانبياء وكتاب من الكتب السماوية وامثال ذلك؟ ربما يتبادر ذلك إلى الذهن من وجوه:
اولاً: افتى الفقهاء (رحمهم الله) بحجية قول الكافر اذا ادعى انه كتابي بمعنى أهل الكتاب المعروفين اعني اليهود والنصارى. قال في المبسوط: اذا احاط المسلمون بقوم من المشركين فذكروا انهم اهل كتاب وبذلوا الجزية فانه تقبل منهم. إلى آخر كلامه(25).
والظاهر انه اراد من أهل الكتاب اليهود والنصارى المعروفين بهذا العنوان، فاذا كان قول الكافر حجة في ذلك فلم لا يكون حجة اذا ادعى انه موحد وانه من متبعي احد انبياء الله تعالى؟!
ثانياً : ان الآية الشريفة: (ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمناً...) (26) تجعل قول من كان يعرف بالكفر حجة في دعواه الاسلام، فلم لا يكون حجة من باب تنقيح المناط في دعواه التوحيد والايمان بنبي من الانبياء؟!
اذ المناط هو عدم التعرض لمن يظهر انه ممن لا يجوز التعرض لهم، سواء من جهة الاسلام أو من جهة الاندراج في الطوائف الذين لا يتعرض لهم من الكفار، وليس خصوصية لدعوى الاسلام، ولذا لو ادعى انه من اهل الذمة يسمع منه ايضاً.
وثالثاً: ان قبول قول اهل الملل في عقائدهم امر عقلائي لا يتخلف عنه العقلاء عادة، وذلك من جهة الظن النوعي بكونهم صادقين في دعواهم هذه، والسر في ذلك ان من يعتقد بشي ء انما يعتقد به من جهة انه يراه حقاً وصدقاً، بل يراه الشي ء الوحيد الذي ينبغي ان يعتقد به؛ ولذا تراه صادعاً بعقيدته اذا لم يوجد الدواعي الموجبة لاخفاء عقيدته كالخوف والتقية، فلا يعقل ان يقول اهل ملّة باجمعهم وفي مرّ الازمان عن ملتهم ونحلتهم التي يتبعونها غير ما يعلمون منها، فقولهم حجة على غيرهم في ما يقولون عن نحلتهم بحسب هذا البناء العقلائي الذي لم يردع عنه الشارع المقدس.
هذا، ويمكن الخدشة في الوجوه المذكورة بما يوهن الاستدلال بها.
اما الوجه الأول فيمكن التفريق فيه بين المقيس والمقيس عليه؛ بان دعوى الكافر في ما ذكره الشيخ (رحمه الله) انما هو اخبار عن امر قائم بنفسه؛ اي ايمانه وعقيدته، ولا يعرف ذلك الا من قبله، وفي مثله لا مناص عن قبول قول المدعي، وبذلك افتى الفقهاء في امثاله، ولذا ترى انه اذا أمكن الوصول إلى الواقع بواسطة البينة المتشكلة ممن اسلم منهم وصار معدلاً وتبين كذب الدعوى بطل العهد والذمة(27).
وهذا بخلاف ما نحن فيه؛ اذ الدعوى هاهنا ليس امراً راجعاً إلى اعتقاد الشخص بامرمعلوم حتى يكون امراً لا يعرف الا من قبله، بل راجع إلى امر اعم من ذلك؛ اعني اشتمال الدين الذي يعتنقه على عقيدة التوحيد وكذا وكذا ...
وبعبارة أخرى: هناك فرق بين ان يدعي أحد انه من اليهود مثلاً، وأن يدعي ان دين اليهود يشتمل على كذا وكذا من العقائد والاحكام، ففي الأول يجري كلام الشيخ (رحمه الله)، واما في الثاني فلا؛ لان هذا ليس مما يكون قائماً بنفس المدعي، وليس مما لا يمكن معرفته الا من قبله، حتى يلزم قبول قوله فيه، بل هو امر خارجي يمكن ان يعرفه كل من بحث وفحص عنه، فلا يلزم قبول قول المدعي فيه.واما الوجه الثاني، ففيه:
اولاً: ان الآية الشريفة لم تأمر بقبول دعوى المدعي، بل امرت بالتبين والتثبت وعدم التسرع إلى قتل من يدعي الاسلام أو السلم بداعي ابتغاء عرض الحياة الدنيا، بل يمكن استئناس عدم قبول قول المدعي من ايجاب التبين في الآية؛ اذ لو كان قبول قوله جائزاً لما بقي وجه للتبين.
وثانياً : ان ما ذكر من المناط غير مقطوع به؛ اذ كم فرق بين دعوى من يدعي الاسلام ودعوى من يظهر الكفر به، والآية الشريفة بصدد بيان حكم الأول، ولا يبعد وجود خصوصية في مدعي الاسلام دون غيره، وأن يكون المناط هو لزوم الاحتياط في دماء من يحتمل فيه الايمان به، وعدم السماح لتطرق الدواعي النفسية والشخصية في هذا الأمر الخطير.
واما الوجه الثالث فيمكن ان يقال فيه: بان الآية الشريفة الآمرة بالتبين (فتبينوا ولاتقولوا لمن القى اليكم السلام...)(28)
ردع من ناحية الشارع عن قبول قول المدعي في امر الدين، فلو سلم ما ذكرتم من بناء العقلاء فهو مردوع عنه من قبل الشارع المقدس.
هذا، ولكن يمكن دفع شبهة الردع عن هذا الوجه بان الأمر بالتبين لو سلم كونه ردعاً عن قبول قول مدعي الايمان دائماً فلا يكون ردعاً عن قبول ما يقوله اهل الملل والاديان عن مضمون نحلتهم وما تتضمنه من العقائد والاحكام، فالآية اجنبية عما نحن فيه بالمرة.
فالوجه الثالث مما ذكرناه في مقام اثبات جواز التمسك بدعوى الكافر في معتقداته متين وسالم عن الايراد، ويمكن توضيحه بان يقال: ان المناط في اعتبار كثير من القواعد العقلائية المقبولة شرعاً كقاعدة الصحة في باب العقود والايقاعات وقاعدة جواز اقرار العقلاء على انفسهم وقاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به وامثالها من القواعد الكثيرة المعمول بها في الفقه هو بناء عرفي عقلائي علم من الشارع المقدس امضاؤه له واعتباره لديه، لا بمعنى الامضاء وجعل الاعتبار في كلّ واحدة من هذه القواعد على حدة حتى يناط الاعتبار الشرعي في كل منها بامضاء الشارع له بالخصوص ويكون مقتضى القاعدة عند الشك في امضاء الشارع لواحدة منها عدم الاعتبار، بل بمعنى تصديق الشارع لما يشترك فيه الكل؛ من الاعتماد على ما يتعامل به الناس في الامور الراجعة اليهم، وعدم الاعتناء باحتمال وقوعها غير صحيحة وغير منطبقة على ما هو الحق الحقيق، والبناء على صحة ما يأتون به لمصالحهم أو ما يبدونه من الاعمال لجلب النفع اليهم أو دفع الشر عن نفسهم، فحاصل هذا البناء العقلائي الذي لم يردع عنه الشارع المقدس هو الاعتماد على اعمالهم واقوالهم المعتادة لهم في امورهم وشؤونهم والبناء على صحتها؛ والا لم يبق لتعامل الناس بعضهم مع بعض اساس يعتمد ويتكأ عليه، ومن ذلك ما يبدون ويظهرون من عقائدهم واديانهم، فاذا اراد احد التوصل إلى ما يحتويه الدين البرهمي أو البوذي فلا طريق له إلى ذلك غير الرجوع إلى اقوال اهل ذاك الدين وما كتبوه عنه في كتبهم وآثارهم، فهم حجة على غيرهم في ذلك لدى العقلاء، طبعا في ما لم يرد في ذلك ما يعارض دعواهم من الصادق المصدق.
وعلى هذا، فالتمسك بدعوى الصابئة في بيان عقائدهم وما ينتحلونه من المعارف والاحكام امر عقلائي موافق لبناء العقلاء في امثال ذلك. فلو فرض انهم يدعون الايمان بالله واليوم الآخر والاتباع لنبي من انبياء الله المعروفين لدينا والعمل بكتاب من الكتب السماوية التي يفرض نزولها من عند الله، فمقتضى القاعدة العقلائية التي لم يردع عنها الشارع هو الاخذ بكلامهم والتبني لدعواهم بغير تطرق وسوسة وريب في ذلك.
وسوف يأتي في بعض الامور اللاحقة دعواهم لعقيدة التوحيد والايمان بالله والملائكة واليوم الآخر والتبعية لبعض انبياء الله تعالى.
25. المبسوط2: 37.
26. النساء: 94.
27. انظر المبسوط2: 37.
28. النساء: 94. - الأمر الرابع
- مقتضى الاصل العملي
-
- المحور الثاني: الأمور الصغرويّة
-