تحميل:
بحث حول الصابئة
- اقوال الفقهاء
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وآله الطاهرين.ان القول بجريان احكام اهل الذمة أو عدم جريانها عليهم يحتاج إلى زيادة فحص في ادلة الحكم وايضاً إلى بحث وتتبع جادين في معرفة الموضوع؛ اذ عمدة الاشكال في حكمهم ناشى ء من عدم المعرفة بحالهم وحقيقة دينهم واعتقادهم، ولابد اولاً من نقل الكلمات فيهم.
اقوال الفقهاء
1- قال الشيخ المفيد(1): «وقد اختلف فقهاء العامة في الصابئين ومن ضارعهم في الكفر سوى من ذكرناه من الأصناف الثلاثة فقال مالك بن انس والاوزاعي: كلّ دين بعد دين الاسلام سوى اليهودية والنصرانية فهو مجوسية وحكم اهله حكم المجوس.» ثم استمر في نقل الكلمات في تسويتهم مع المجوس. ثم قال (رحمه الله): «فأما نحن فلا نتجاوز بايجاب الجزية إلى غير من عددناه؛ لسنة رسول الله (ص) فيهم والتوقيف الوارد عنه في احكامهم.» ثم قال (رحمه الله) في مقام استبعاد ما ذكره القوم من تسوية الصابئة للمجوس: «فلو خلينا والقياس لكانت المانوية والمزدقية والديصانية عندي بالمجوسية اولى من الصابئين؛ لانهم يذهبون في اصولهم مذاهب تقارب المجوسية وتكاد تختلط بهما.»
ثم ذكر بعض النحل المهجورة، وبين قربها من النصرانية أو من مشركي العرب، ثم قال (رحمه الله):
«فأما الصابئون فمنفردون بمذاهبهم ممن عددناه؛ لان جمهورهم يوحد الصانع في الازل، ومنهم من يجعل معه هيولى في القدم صنع منها العالم فكانت عندهم الاصل. ويعتقدون في الفلك وما فيه الحياة والنطق وانه المدبر لما في هذا العالم، والدالّ عليه، وعظموا الكواكب وعبدوها من دون الله عز وجل وسماها بعضهم ملائكة وجعلها بعضهم آلهة وبنوا لها بيوتاً للعبادات، وهؤلاء بالقياس إلى مشركي العرب وعباد الاوثان اقرب من المجوس؛ لانهم وجهوا عبادتهم إلى غير الله سبحانه في التحقيق وعلى القصد والضمير، وسموا من عداه من خلقه باسمائه جل عما يقول المبطلون...» إلى آخر كلامه الشريف الذي سلك فيه مسلك الفقيه المتكلم، وعمد إلى ابطال حجة فتوى الخصم بكون الصابئة من اهل الذمة، من طريق الخدشة في مشابهة المقيس والمقيس عليه.
وهو في غاية الجودة والاتقان اذا فرض ان ما نسبه (رحمه الله) إلى الصابئة من العقائد هي العقائد المقبولة لديهم وهي التي تشكل اصول دينهم ونحلتهم، وسوف تعرف الكلام في ذلك.
2- وقال الشيخ (رحمه الله) في الخلاف(2): «الصابئة لا يؤخذ منهم الجزية ولا يقرّون على دينهم، وبه قال ابو سعيد الاصطخري، وقال باقي الفقهاء: انه يؤخذ منهم الجزية، دليلنا اجماع الفرقة واخبارهم، وايضاً قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)(3) وقال: (فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)(4)، ولم يأمر بأخذ الجزية منهم، وايضاً قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)(5)، فشرط في اخذ الجزية ان يكونوا من أهل الكتاب، وهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب.» انتهى كلامه رفع الله مقامه.
فاستناده إلى الآيتين بضميمة انه لم يأمر بأخذ الجزية منهم، بمنزلة تأسيس اصل عام في معاملة الكفار، وحاصله: ان مقتضى الآيتين قتال الكفار الا من امر بأخذ الجزية منهم، وهؤلاء لم يرد الأمر بالجزية في حقهم.
واما استناد ذلك إلى آية الجزية فهو متوقف على امرين:
الأول: دلالتها على عدم الجزية بالنسبة لغير من اوتي الكتاب ولو بضميمة رواية عبدالكريم الهاشمي(6).
الثاني: اثبات كون الصابئة من غير «الذين اوتوا الكتاب » أو قل: عدم احراز كونهم من الذين اوتوا الكتاب، وسوف نذكر في ذلك ما هو المؤدي اليه نظرنا ان شاء الله تعالى.
3- وقال الطبرسي (رحمه الله) في تفسير قوله تعالى: (ان الذين آمنوا ... والصابئين)(7) بعد نقل كلمات الفقهاء واهل اللغة في معنى الصابئة وما هم عليه من الاعتقاد: «والفقهاء باجمعهم يجيزون اخذ الجزية منهم، وعندنا لا يجوز ذلك؛ لانهم ليسوا باهل كتاب.(8)» انتهى. واستدلاله يشبه ما مر من الخلاف.
4- وفي تفسير علي بن ابراهيم في بيان قوله تعالى: (ان الذين آمنوا والذين هادوا...)(9)، قال (يعني علي بن ابراهيم): «الصابئون قوم لا مجوس ولا يهود ولا نصارى ولا مسلمون، وهم يعبدون الكواكب والنجوم(10).»
5- وفي الجواهر بعد ما نقل عن ابن الجنيد تصريحه بأخذ الجزية منهم، قال: ولا باس به ان كانوا من احدى الفرق الثلاث. ثم اخذ في ذكر اقوال من صرحوا بكون الصابئة داخلة في احدى تلك الفرق، مع ما فيها من التضارب. ثم قال: وحينئذ يتجه قبول الجزية منهم. ثم ذكر بعده اقوال من ينسبهم إلى عبادة النجوم وامثالها، واضاف: وعليه يتجه عدم قبولها منهم. إلى آخر كلامه(11).
ولكن الظاهر من كلام ابن الجنيد (رحمه الله) المذكور في مختلف العلامة رحمه الله انه حكم بدخول الصابئة في من يؤخذ منهم الجزية كفرقة مستقلة عن الفرق الثلاث المذكورين قبلها، لا كجزء منها، كما ان هذا ينبغي ان يكون هو المراد في كلام من يعتقد بأخذ الجزية من الصابئة؛ والا فأخذ الجزية من جميع الديانات الثلاث مما لا يختلف فيه اثنان(12).محصل الأقوال
والذي يتحصل من الاقوال:
اولا: انه ليس في المسألة اجماع من اصحابنا؛ وذلك لمخالفة ابن الجنيد (رحمه الله) الذي هو من الذين لابد ان يعتنى بقولهم في تحقق الاجماع وعدمه، ولان فتوى العلماء بعدم اخذ الجزية من الصابئة انما تنشأ مما وصلوا اليه في تشخيص الموضوع؛ اعني كون هؤلاء من غير أهل الكتاب، كما عرفت ذلك في كلام المفيد والقمي والطبرسي وغيرهم إلى صاحب الجواهر (رحمه الله)، واين هذا من الاجماع الحجة الذي يحكي عن حكم الله تعالى في موضوع محدد معلوم؟!
وثانياً : ان الموضوع في هذه المسألة مما لم ينقح من قبل فقهائنا، لا بالفحص الخارجي بالتتبع في احوال منتحلي هذه النحلة واستماع عقائدهم منهم أو فهمها من كتبهم واسفارهم، ولا بمقارنة ما قيل عنهم بتاريخهم أو بعضها ببعض حتى يحصل من ذلك ما يمكن الركون اليه في معرفة هذه الفرقة التي ذكر اسمها في القرآن الكريم ثلاث مرات.
نعم ربما يوجد في بعض كتب الملل والنحل ما يلقي الضوء على شطر من عقائدهم ونبذة من تاريخهم، وان كان هذا غير كاف في احراز الموضوع في مسالة عصمة الكافر واخذ الجزية منه وعدمها، ولعل هذا الإعراض أو قلة الاهتمام في احراز الموضوع جاء نتيجة لعدم الابتلاء كثيراً بحكمه، لا سيما لأمثال فقهائنا الكرام الذين كانوا بمعزل عن الحكم وادارة شؤون المجتمع وغير مبتلين بمسالة اخذ الجزية من الكافر أو محاربته، لا في العمل ولا حتى في الإفتاء وبيان الحكم.
1. المقنعه: 270.
2. الخلاف 5: 542.
3. التوبة: 5.
4. محمد (ص): 4.
5. التوبة: 29.
6. و هي الصحيحة المذكورة في الباب 9 من أبواب جهاد العدو من الوسائل، الحديث2، و محل الاستدلال فيها قوله (ع) بعد تلاوة آية الجزية: «فاستثناء الله تعالى و اشتراطه من أهل الكتاب، فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء؟!... الحديث» حيث إنّ الظاهر من استفهام الإمام (ع) ـ الذي وقع في مقام الاستنكار ـ أنّ مفهوم اللقب في الأية الشريفة حجّة.
7. البقرة:62.
8. مجمع البيان1: 249. ط ـ دار التقريب.
9. البقرة: 62.
10. تفسير علي بن إبراهيم: 48.
11. جواهر الكلام21: 230 ـ 231.
12. راجع كلام ابن الجنيد في المختلف 4: 431. ط ـ مؤسسة النشر الإسلامي. - التحقيق في المسألة
- المحور الأول: الأمور الکبرويّة
- الأمر الأول
المراد من «الکتاب» في آية الجزية
فقد اشتهر ان عنوان «الكتاب » في الآيات القرآنية المبينة لحكم أهل الكتاب ومنها آية الجزية(13)، يراد به التوراة والانجيل، قال في الجواهر: «ان المنساق من الكتاب في القرآن العظيم هو التوراة والانجيل »، ونقل عن منتهى العلامة دعوى الاجماع على ان اللام في الكتاب في آية الجزية للعهد اليهما(14).
الا اننا اثبتنا خلاف ذلك تفصيلاً في ما سبق وقلنا ما حاصله ان عنوان «أهل الكتاب » في القرآن الكريم وان كان لا يبعد ان يراد به اليهود والنصارى على ما ربما يشهد به التتبع والتأمل الا ان عنوان «الكتاب » في الآيات الشريفة القرآنية اذا استعمل مجرداً عن ذاك التعبير التركيبي (= أهل الكتاب) خالياً عن قرينة معينة، لا يراد به التوراة والانجيل أو كتاب خاص آخر من كتب الانبياء السالفة، بل يراد به مطلق ما نزل من السماء وحياً على نبي من انبياء الله (ع)، من غير اختصاص أو اشارة إلى كتاب خاص، وهذا ايضاً مما يشهد به التتبع والتأمل في تفاصيل الآيات. بناء عليه فالكتاب في آية الجزية هو الاعم من التوراة والانجيل، ولا شاهد على تقييده بهما، بل يشهد على كونه اعم منهما انه يشمل كتاب المجوس باجماع الأمة وبمعونة الروايات الحاكية عن ان للمجوس كتاباً، وهكذا يتضح ايضاً انه لا شاهد على تقييده بالكتب المشرعة، اي التي جاءت بدين جديد؛ اذ الظاهر ان كتاب المجوس ليس من الكتب المشرعة، ونبيهم ليس من اولي العزم، فاطلاق الكتاب في الآية الشريفة يشمل غيره.
ولزيادة الايضاًح في ذلك نقول: ان الظاهر من معنى الكتاب في الكلام عن الانبياء والاديان الإلهية، هو الحد الفاصل والمائز الفكري والاعتقادي والعملي بين الايمان والكفر، فالكتاب هو الوحي الالهي الذي يخرج الافراد والجماعات عن ربقة الاديان البشرية والمجعولة كعبادة الاصنام والآلهة المزعومة، ويسوقهم إلى دين الله تعالى وعبادته، فهو الصحيفة الإلهية المشتملة على معرفة الله تعالى ومعرفة الحقائق التي تتصدى لتشريحها وتحقيقها الرسالات السماوية، والتي تقابل الإلحاد والشرك والوثنية، وهذا معنى عام يشمل انواع الكتب السماوية، قال الله تعالى: (ومنهم اميون لايعلمون الكتاب)(15)، وقال تعالى ايضاً: (وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين ءاسلمتم)(16)، فجعل أهل الكتاب والعلماء به في مقابلة الاميين، ويريد بهم عباد الاصنام.
وقال تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين )(17)، فجعل الكتاب في مقابلة الشرك.
وقال تعالى: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)(18)، فجعل الكتاب مائزاً للنبوة وحاكماً لأهل الدين في ما اختلفوا فيه.
ومن الواضح ان هذه صفات لعامة كتب الله تعالى.
فهذه الآيات وغيرها تدل على ان الكتاب في مصطلح القرآن الكريم هو ما ينزل من الله تعالى على انبيائه لهداية الناس والحكم فيهم واخراجهم من ظلمات الكفر والشرك والالحاد، فلم لا يكون الكتاب في آية الجزية بنفس المعنى؟! واي شاهد على استعماله في الاخص منه؟
هذا، وتشهد ايضاً لعموم معنى الكتاب في باب الجزية رواية الواسطي عن بعض اصحابنا قال: سئل ابوعبدالله (ع) عن المجوس اكان لهم نبي؟ فقال: نعم، اما بلغك كتاب رسول الله (ص) إلى اهل مكة: اسلموا والا نابذتكم بحرب، فكتبوا إلى النبي(ص) أن خذ منا الجزية ودعنا على عبادة الاوثان، فكتب اليهم النبي (ص): اني لست آخذ الجزية الا من أهل الكتاب، فكتبوا اليه يريدون بذلك تكذيبه: زعمت انك لا تأخذ الجزية الا من أهل الكتاب ثم اخذت الجزية من مجوس هجر، فكتب اليهم رسول الله (ص): ان المجوس كان لهم نبي فقتلوه وكتاب احرقوه اتاهم نبيهم بكتابهم في اثني عشر الف جلد ثور...(19).
واطلاق الكتاب فيها على كتاب المجوس بل اطلاق أهل الكتاب عليهم لا يدع المجال لاحتمال اختصاصهما بالتوراة والانجيل واهلهما في مصطلح اهل الشرع.
وقريب منها مرسلة الصدوق عن النبي (ص) ورواية الاصبغ بن نباتة عن اميرالمؤمنين (ع)(20).
وضعف اسناد هذه الروايات لا يضر، بعد ما هو المعلوم من تلقي الاصحاب لمضامينها بالقبول والعمل بها في خصوص المجوس. مضافاً إلى ان هناك روايات معتبرة وقع فيها التصريح بان المجوس اهل كتاب، منها معتبرة سماعة:
عن ابي عبدالله (ع) قال: بعث النبي (ص) خالد بن الوليد إلى البحرين .. (الى ان قال:) فكتب اليه رسول الله (ص): ان ديتهم مثل دية اليهود والنصارى، وقال: انهم أهل الكتاب(21). ومنها موثقة زرارة: سالته عن المجوس ما حدهم؟ فقال: هم من أهل الكتاب، ومجراهم مجرى اليهود والنصارى في الحدود والديات »(22)، واضمار الرواية غير مضربعد كون المضمر مثل زرارة.
فبملاحظة هذه الروايات يظهر ضعف ما يتوهم ويدعى من ان اطلاق الكتاب بلا قرينة ينصرف إلى الكتابين؛ اذ مع التعبير عن المجوس بأهل الكتاب لا مجال لمثل هذه الدعوى.
ثم ان هناك روايات اخرى في المجوس ايضاً ورد فيها: سنّوا بهم (اي بالمجوس) سنة أهل الكتاب. والمراد بأهل الكتاب فيها: اليهود والنصارى. وهذا يشعر بان اطلاق أهل الكتاب على اليهود والنصارى كان دائراً في عرف المحادثات، والظاهر ان ذلك كان من جهة غلبة وجود الفرقتين دون غيرهما في الجزيرة العربية.
واين هذا من اختصاص عنوان أهل الكتاب بأهل الكتابين دون غيرهما؟! فضلاً عن اختصاص عنوان الكتاب بالتوراة والانجيل.
والمتحصل من ذلك كله ان «الكتاب » في مصطلح القرآن وفي لسان الاحاديث وهكذا في عرف المتشرعة في صدر الاسلام، حتى زمن الائمة (ع) كان يستعمل في مطلق الكتاب السماوي، ولا شاهد على اختصاصه في آية الجزية بكتاب خاص التوراة والانجيل أو غيرهما فيستنتج من ذلك ان الكتاب الذي يحكم بالجزية في حق متبعيه هو مطلق الكتاب السماوي.
ويدل على ذلك ايضاً رواية الواسطي المتقدمة، حيث علل فيها رسول الله (ص) حكمه بالجزية على المجوس بانهم كان لهم رسول وكتاب، ومقتضاه عموم هذا الحكم بالنسبة لكل فرقة لهم كتاب، والمعلوم ان كتاب المجوس مغاير للتوراة والانجيل، ولم يعلم انه كان كتاباً مشرعاً حاوياً لدين جديد، وبناء عليه فالحكم شامل لكل كتاب من اي نبي من الانبياء.
هذا، وربما يستفاد من الكلام الذي نقلناه عن المفيد (رحمه الله) ان هناك دليلاً من السنة على اختصاص الجزية بالطوائف الثلاث (اليهود والنصارى والمجوس)، واذا صح ذلك فاطلاق ما عرفت في الآية الكريمة (آية الجزية) ورواية الواسطي يقيد بهذا الدليل، ويكون هذا شاهداً على ارادة خصوص الكتب الثلاثة من الكتاب في الآية، قال في طي كلامه المنقول سابقاً: واما نحن فلا نتجاوز بايجاب الجزية إلى غير من عددناه؛ لسنة رسول الله (ص) فيهم والتوقيف الوارد في احكامهم. إلى آخر كلامه الشريف.
الا انه لم يتضح لنا المراد من السنة في كلامه، فان اراد السنة القولية، فليس في ما بايدينا من الروايات ما يدل على اختصاص الجزية باليهود والنصارى والمجوس، ولم نعثر على من ادعى وجود رواية بهذا المضمون، حتى من قريبي العهد بزمان المفيد كاصحاب المجاميع الحديثية وغيرهم، بل هناك بعض ما ربما يستفاد منه تعميم الجزية لجميع الكفار، كما ستسمعه ان شاء الله.
وان اراد السنة الفعلية بمعنى عدم وضع الجزية على الصابئة في زمان حياة النبي (ص) فهي:
اولا: غير ثابتة؛ اذ عدم النقل اعم من عدم الوقوع.
وثانياً : لو سلم فربما يكون ناشئاً من عدم وجود الصابئة في عداد القانطين في رقعة الفتوح الاسلامية آنذاك، فهؤلاء كانوا ساكنين في الميسان والحرنان، وكلا المكانين قد فتحا بعد وفاته (ص)، وربما يكون ناشئاً عن اسباب أخرى.
والحاصل ان السنة الفعلية في عدم أخذ الجزية من الصابئة لا تكفي لاثبات ان الحكم فيهم عدم الجزية، نعم لو كان هناك ما يدل على محاربتهم لكان دالاً على المطلوب بوجه، وانى يثبت ذلك؟!
وحاصل الكلام في النقطة الأولى هو ان الكتاب في باب الجزية لا ينحصر في الكتابين كما لا ينحصر في الكتب المشرعة، بل لو فرض ثبوت تبعية قوم لكتاب يحيى أو داود أو ادريس مثلاً، فهؤلاء من الذين اوتوا الكتاب، فيحقن دماؤهم ويقرّون على دينهم، ويؤخذ منهم الجزية.
13. و هي قوله تعالى: (من الذين اُوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية...) التوبة: 29.
14. الجواهر 21: 232.
15. البقرة: 78.
16. آل عمران: 20.
17. البقرة: 105.
18. البقرة: 213.
19. الوسائل: ب 49 من جهاد العدو، ح1.
20. المصدر السابق: ح5 و 7.
21. الوسائل: ب 13 من ديات النفس، ح7.
22. المصدر السابق: ح11. - الأمر الثاني
الأمر الثاني:
اذا لم يحرز صغروياً ان الصابئة اهل كتاب من الكتب السماوية، فهل وجود الشبهة في امرهم وعدم الجزم بخروجهم من دائرة أتباع الانبياء يكفي في جريان حكم أهل الكتاب فيهم؛ من اقرارهم على دينهم واجراء عقد الذمة معهم وغير ذلك؟ ام لا، بل لا بد في ذلك من احراز كونهم من متّبعي الانبياء والكتب السماوية؟
واجمال القول في ذلك: ان احد العناوين التي تكرر ذكرها في هذا الباب من الكتب الفقهية عنوان «من له شبهة كتاب »، والظاهر ان هذا التعبير ليس له اصل حديثي؛ اذ لم نجد في روايات هذه الابواب ما يمكن استقاء هذا التعبير منه، وانما نشأ ذكره من عصر شيخ الطائفة (رحمه الله)، وهو اول من وجدنا هذا العنوان في كلماته، قال في المبسوط: الكفار على ثلاثة اضرب: اهل كتاب وهم اليهود والنصارى ... ومن له شبهة كتاب فهم المجوس فحكمهم حكم أهل الكتاب. إلى آخره(23).
وأخذ منه تلميذه ومعاصره القاضي ابن البراج(24)، ثم تبعهما في ذلك ابن ادريس والمحقق والعلامة (رحمهم الله)، ولم نجد في كلمات قدماء اصحابنا إلى زمان المحقق الحلي (رحمه الله) من استعمله غير من ذكرنا. وهؤلاء استعملوه تعبيراً عن المجوس وجعلوه مقابلاً لعنوان أهل الكتاب المراد بهم اليهود والنصارى.
والظاهر من مساق كلماتهم ان في ذكر هذا التعبير نوع اشارة إلى مناط الحكم في امر المجوس، فكان جريان ما يجري على المجوس من الاحكام انما نشأ من وجود الشبهة في امرهم أو في كتابهم؛ والا لم يكن وجه للعدول عن تسمية المجوس باسمهم إلى التعبير عنهم بعنوان كلي، فالروايات الواردة في المجوس انما تتصدى لحكم المجوس بعنوان المجوس فقط، فلم يكن الباحث في بيان حكمهم كمجوسيين بحاجة إلى ذكر عنوان كلي كهذا، وعلى هذا فيكون ذكر هذا العنوان؛ اعني وجود الشبهة في امر كتابهم، بحكم الاشارة إلى ان هذا هو المناط في حكمهم. وعلى هذا فالحكم لا ينحصر فيهم، بل يجري في كل نحلة تشترك معهم في هذا المناط؛ اعني وجود الشبهة.
ومما يقوي هذا الاحتمال في كلامهم ما ذكره العلامة (رحمه الله) في المنتهى، فانه قال في مقام الرد على ابي حنيفة الذي قاس مشركي العرب بأهل الكتاب والمجوس ما لفظه: والجواب بالفرق بين المقيس والمقيس عليه؛ فان أهل الكتاب لهم كتاب يتدينون به، والمجوس لهم شبهة كتاب ثم نقل رواية الواسطي ثم قال: والشبهة تقوم مقام الحقيقة في ما بني على الاحتياط، فحرمت دماؤهم للشبهة، بخلاف من لا كتاب له ولا شبهة كتاب، انتهى.
فاستدلاله لحكم المجوس بوجود الشبهة في امرهم كالصريح في ان عنوان «من لهم شبهة الكتاب » لا يراد به الاشارة إلى المجوس فحسب، بل هو حامل لاستدلال عام يشمل المجوس وغيرهم من الفرق التي يكون فيها مثل ما كان في المجوس من الشبهة.
ويؤيد ذلك كلامه الآخر في المنتهى فانه قال في مقام تقسيم الكفار إلى الذمي والحربي: فالذمي يشمل من له كتاب كاليهود والنصارى ومن له شبهة كتاب كالمجوس، انتهى.
فقوله: «كالمجوس » فيه اشعار إلى ان المجوس احد المصاديق لهذا العنوان الكلّي، لا المصداق المنحصر له.
وحاصل ما ذكرنا إلى هنا هو ان المناط في الحاق المجوس باليهود والنصارى في احكامهم هو وجود الشبهة في امرهم وعدم احراز كونهم غير منتمين إلى نبي من الانبياء وكتاب من الكتب السماوية.
ثم ان اناطة حرمة الدماء والنفوس بالشبهة امر موافق لما علمناه من الشرع، من الاحتياط في امر الدماء والاموال والفروج، مضافاً إلى ان من الممكن القول بان هدر الدماء وحل النفوس انما يختص بالمحاربين للدولة الاسلامية دون غيرهم من الكفار، وان حكم القتل والقتال بالنسبة إلى الكفار ليس أمراً شاملاً لكلّ كافر الا ما خرج، بل يختص بطوائف منهم على ما احتملناه ونفينا عنه البعد في بعض المباحث السابقة وعلى فرض قصور الدليل على ذلك فلا أقل من الاحتياط الذي اشرنا اليه في الطوائف التي قامت الشبهة في امرهم، وقد سمعت في ما نقلناه عن العلامة (رحمه الله) ان: «الشبهة تقوم مقام الحقيقة في ما بني على الاحتياط، فحرمت دماؤهم (اي المجوس) للشبهة ». فهذا المقدار مما لا يحتاج إلى زيادة تكلف في الاستدلال، الا ان معاملة أهل الكتاب لا تنحصر في حرمة نفوسهم واموالهم، بل تشمل عقد الذمة معهم والذي يشمل كثيراً من الفروع والاحكام، ومن المعلوم ان ما انيط به حرمة الدماء والاموال من وجود الشبهة ولزوم الاحتياط لا يكفي لاثبات تلك الاحكام.
الا ان يدعى الأولوية في ذلك؛ بان يقال: الجزية وسائر ما يكلف الذمي به تكون بمنزلة العوض الذي يؤديه في مقابل حقن دمه وحرمة نفسه وماله، فاذا كلفنا الكتابي بذلك فالمشتبه بالكتابي اولى منه به.
فالحاصل: ان القول بجريان احكام أهل الكتاب في من يحتمل كونه كتابياً مما لا يبعد عن القواعد الفقهية المتسالم عليها، فهذا هو الوجه في ذكر عنوان «من له شبهة كتاب » في كلمات بعض القدماء، وجعله قسيماً لأهل الكتاب موضوعاً ومشتركاً له حكماً.
ولكن هذا كله بناء على ان المراد من الشبهة في العنوان المذكور الشبهة والشك في كونهم اهل كتاب، الشبهة هنا بناء على هذا المعنى من قبيل شبهة الأمان؛ حيث قلنا هناك ان من احتمل في حقّه الأمان فهو محقون، كما ان من توهم الأمان بالنسبة إلى نفسه كمن سمع صوتاً من مسلم فتوهمه أماناً له ايضاً محقون، مع ان في المثال الأول يحتمل عدم الأمان في الواقع، وفي المثال الثاني عدم الأمان معلوم واقعاً، الا ان الشارع حكم بترتيب آثار الأمان في المثالين احتياطاً في امر الدماء والنفوس، فهنا ايضاً يحكم في حق مشتبه الكتابية باحكام أهل الكتاب احتياطاً للدماء والنفوس.
واما بناء على ان يكون المراد من «شبهة الكتاب» ما احتملناه سابقاً في البحث عن حكم المجوس من ان المراد بالشبهة المشتبه فيه، والمعنى: ان ما بيد القوم من الكتاب الذي يزعمونه كتابا سماوياً ليس هو الكتاب السماوي الذي نزل على نبيهم؛ بمعنى ان الأمر اشتبه عليهم في ذلك، كما هو الحال في المجوس بحسب ما ورد فيهم من الروايات، حيث ورد انه كان لهم نبي وقد انزل عليه كتاب ولكن احرق الكتاب ولم يبق منه شي ء، فما هو الآن بايديهم ليس هو الكتاب الحقيقي النازل من السماء بل شي ء مشتبه به، فعلى هذا المعنى يختلف الأمر مع ما ذكرناه على المعنى السابق؛ اذ الحكم بالنسبة لمن حاله هكذا كالمجوس ليس حكماً احتياطياً؛ لانهم أهل الكتاب واقعاً وليس من جهة اشتباههم بأهل الكتاب، فالحكم فيهم بعينه هو الحكم في اليهود والنصارى.
الا ان صحة استعمال هذا التعبير في حق كل طائفة ونحلة يتوقف على اثبات كونها اهل كتاب واقعاً بدليل معتبر، كما هو الحال في حق المجوس، ولا يكفي فيه الحدس الظني من طريق مقارنة ما بايديهم من الكتاب بما تحتويه الكتب السماوية عادة، أو من اي طريق ظني آخر.
فحينئذ لو فرض ثبوت مثل هذا الدليل في باب الصابئة فهو، والا فاجراء عنوان «من له شبهة الكتاب » في حقهم مشكل.
وسوف ياتي ان شاء الله في بيان النقاط التالية ما يوضح الأمر اكثر.
23. المبسوط 2: 9. ط ـ حيدري.
24. المهذّب 1: 298. ط ـ قم. - الأمر الثالث
الأمر الثالث:
هل يجوز التمسك بدعواهم في عقائدهم اذا ادعوا التوحيد والاعتقاد بنبي من الانبياء وكتاب من الكتب السماوية وامثال ذلك؟ ربما يتبادر ذلك إلى الذهن من وجوه:
اولاً: افتى الفقهاء (رحمهم الله) بحجية قول الكافر اذا ادعى انه كتابي بمعنى أهل الكتاب المعروفين اعني اليهود والنصارى. قال في المبسوط: اذا احاط المسلمون بقوم من المشركين فذكروا انهم اهل كتاب وبذلوا الجزية فانه تقبل منهم. إلى آخر كلامه(25).
والظاهر انه اراد من أهل الكتاب اليهود والنصارى المعروفين بهذا العنوان، فاذا كان قول الكافر حجة في ذلك فلم لا يكون حجة اذا ادعى انه موحد وانه من متبعي احد انبياء الله تعالى؟!
ثانياً : ان الآية الشريفة: (ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمناً...) (26) تجعل قول من كان يعرف بالكفر حجة في دعواه الاسلام، فلم لا يكون حجة من باب تنقيح المناط في دعواه التوحيد والايمان بنبي من الانبياء؟!
اذ المناط هو عدم التعرض لمن يظهر انه ممن لا يجوز التعرض لهم، سواء من جهة الاسلام أو من جهة الاندراج في الطوائف الذين لا يتعرض لهم من الكفار، وليس خصوصية لدعوى الاسلام، ولذا لو ادعى انه من اهل الذمة يسمع منه ايضاً.
وثالثاً: ان قبول قول اهل الملل في عقائدهم امر عقلائي لا يتخلف عنه العقلاء عادة، وذلك من جهة الظن النوعي بكونهم صادقين في دعواهم هذه، والسر في ذلك ان من يعتقد بشي ء انما يعتقد به من جهة انه يراه حقاً وصدقاً، بل يراه الشي ء الوحيد الذي ينبغي ان يعتقد به؛ ولذا تراه صادعاً بعقيدته اذا لم يوجد الدواعي الموجبة لاخفاء عقيدته كالخوف والتقية، فلا يعقل ان يقول اهل ملّة باجمعهم وفي مرّ الازمان عن ملتهم ونحلتهم التي يتبعونها غير ما يعلمون منها، فقولهم حجة على غيرهم في ما يقولون عن نحلتهم بحسب هذا البناء العقلائي الذي لم يردع عنه الشارع المقدس.
هذا، ويمكن الخدشة في الوجوه المذكورة بما يوهن الاستدلال بها.
اما الوجه الأول فيمكن التفريق فيه بين المقيس والمقيس عليه؛ بان دعوى الكافر في ما ذكره الشيخ (رحمه الله) انما هو اخبار عن امر قائم بنفسه؛ اي ايمانه وعقيدته، ولا يعرف ذلك الا من قبله، وفي مثله لا مناص عن قبول قول المدعي، وبذلك افتى الفقهاء في امثاله، ولذا ترى انه اذا أمكن الوصول إلى الواقع بواسطة البينة المتشكلة ممن اسلم منهم وصار معدلاً وتبين كذب الدعوى بطل العهد والذمة(27).
وهذا بخلاف ما نحن فيه؛ اذ الدعوى هاهنا ليس امراً راجعاً إلى اعتقاد الشخص بامرمعلوم حتى يكون امراً لا يعرف الا من قبله، بل راجع إلى امر اعم من ذلك؛ اعني اشتمال الدين الذي يعتنقه على عقيدة التوحيد وكذا وكذا ...
وبعبارة أخرى: هناك فرق بين ان يدعي أحد انه من اليهود مثلاً، وأن يدعي ان دين اليهود يشتمل على كذا وكذا من العقائد والاحكام، ففي الأول يجري كلام الشيخ (رحمه الله)، واما في الثاني فلا؛ لان هذا ليس مما يكون قائماً بنفس المدعي، وليس مما لا يمكن معرفته الا من قبله، حتى يلزم قبول قوله فيه، بل هو امر خارجي يمكن ان يعرفه كل من بحث وفحص عنه، فلا يلزم قبول قول المدعي فيه.واما الوجه الثاني، ففيه:
اولاً: ان الآية الشريفة لم تأمر بقبول دعوى المدعي، بل امرت بالتبين والتثبت وعدم التسرع إلى قتل من يدعي الاسلام أو السلم بداعي ابتغاء عرض الحياة الدنيا، بل يمكن استئناس عدم قبول قول المدعي من ايجاب التبين في الآية؛ اذ لو كان قبول قوله جائزاً لما بقي وجه للتبين.
وثانياً : ان ما ذكر من المناط غير مقطوع به؛ اذ كم فرق بين دعوى من يدعي الاسلام ودعوى من يظهر الكفر به، والآية الشريفة بصدد بيان حكم الأول، ولا يبعد وجود خصوصية في مدعي الاسلام دون غيره، وأن يكون المناط هو لزوم الاحتياط في دماء من يحتمل فيه الايمان به، وعدم السماح لتطرق الدواعي النفسية والشخصية في هذا الأمر الخطير.
واما الوجه الثالث فيمكن ان يقال فيه: بان الآية الشريفة الآمرة بالتبين (فتبينوا ولاتقولوا لمن القى اليكم السلام...)(28)
ردع من ناحية الشارع عن قبول قول المدعي في امر الدين، فلو سلم ما ذكرتم من بناء العقلاء فهو مردوع عنه من قبل الشارع المقدس.
هذا، ولكن يمكن دفع شبهة الردع عن هذا الوجه بان الأمر بالتبين لو سلم كونه ردعاً عن قبول قول مدعي الايمان دائماً فلا يكون ردعاً عن قبول ما يقوله اهل الملل والاديان عن مضمون نحلتهم وما تتضمنه من العقائد والاحكام، فالآية اجنبية عما نحن فيه بالمرة.
فالوجه الثالث مما ذكرناه في مقام اثبات جواز التمسك بدعوى الكافر في معتقداته متين وسالم عن الايراد، ويمكن توضيحه بان يقال: ان المناط في اعتبار كثير من القواعد العقلائية المقبولة شرعاً كقاعدة الصحة في باب العقود والايقاعات وقاعدة جواز اقرار العقلاء على انفسهم وقاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به وامثالها من القواعد الكثيرة المعمول بها في الفقه هو بناء عرفي عقلائي علم من الشارع المقدس امضاؤه له واعتباره لديه، لا بمعنى الامضاء وجعل الاعتبار في كلّ واحدة من هذه القواعد على حدة حتى يناط الاعتبار الشرعي في كل منها بامضاء الشارع له بالخصوص ويكون مقتضى القاعدة عند الشك في امضاء الشارع لواحدة منها عدم الاعتبار، بل بمعنى تصديق الشارع لما يشترك فيه الكل؛ من الاعتماد على ما يتعامل به الناس في الامور الراجعة اليهم، وعدم الاعتناء باحتمال وقوعها غير صحيحة وغير منطبقة على ما هو الحق الحقيق، والبناء على صحة ما يأتون به لمصالحهم أو ما يبدونه من الاعمال لجلب النفع اليهم أو دفع الشر عن نفسهم، فحاصل هذا البناء العقلائي الذي لم يردع عنه الشارع المقدس هو الاعتماد على اعمالهم واقوالهم المعتادة لهم في امورهم وشؤونهم والبناء على صحتها؛ والا لم يبق لتعامل الناس بعضهم مع بعض اساس يعتمد ويتكأ عليه، ومن ذلك ما يبدون ويظهرون من عقائدهم واديانهم، فاذا اراد احد التوصل إلى ما يحتويه الدين البرهمي أو البوذي فلا طريق له إلى ذلك غير الرجوع إلى اقوال اهل ذاك الدين وما كتبوه عنه في كتبهم وآثارهم، فهم حجة على غيرهم في ذلك لدى العقلاء، طبعا في ما لم يرد في ذلك ما يعارض دعواهم من الصادق المصدق.
وعلى هذا، فالتمسك بدعوى الصابئة في بيان عقائدهم وما ينتحلونه من المعارف والاحكام امر عقلائي موافق لبناء العقلاء في امثال ذلك. فلو فرض انهم يدعون الايمان بالله واليوم الآخر والاتباع لنبي من انبياء الله المعروفين لدينا والعمل بكتاب من الكتب السماوية التي يفرض نزولها من عند الله، فمقتضى القاعدة العقلائية التي لم يردع عنها الشارع هو الاخذ بكلامهم والتبني لدعواهم بغير تطرق وسوسة وريب في ذلك.
وسوف يأتي في بعض الامور اللاحقة دعواهم لعقيدة التوحيد والايمان بالله والملائكة واليوم الآخر والتبعية لبعض انبياء الله تعالى.
25. المبسوط2: 37.
26. النساء: 94.
27. انظر المبسوط2: 37.
28. النساء: 94. - الأمر الرابع
الأمر الرابع:
لو بقي الشك في كونهم ممن أوتي الكتاب، فما هو مقتضى القاعدة في ذلك؟ وهل هناك اصل لفظي أو عملي يعمل بمقتضاه؟
ظاهر كلام الشيخ (رحمه الله) في الخلاف ان الاصل بالنسبة إلى كل ملة لم يحرز كونهم كتابيين هو عدم قبول الجزية منهم وعدم اقرارهم على دينهم. قال في مقام الاستدلال على جريان هذا الحكم بالنسبة للصابئة: دليلنا اجماع الفرقة واخبارهم، وايضاً قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)(29) وقال: (فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)(30)، ولم يأمر بأخذ الجزية منهم، وايضاً قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)(31). فشرط في اخذ الجزية ان يكونوا من أهل الكتاب، وهؤلاء ليسوا بأهل الكتاب. انتهى(32).
وحاصل كلامه (رحمه الله) ان هناك اصلاً لفظياً، وهو عموم هذا الحكم في الآيات المذكورة بالنسبة إلى ما سوى أهل الكتاب من الكفار، فمتى لم يثبت الخروج عن هذا العموم بدليل خاص فمقتضى القاعدة عموم حكم العام له. ولا يخفى على المتأمل ان قوله: «وهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب » انما هو نفي احراز كونهم من أهل الكتاب، لا نفي كونهم كذلك واقعاً؛ اذ لا سبيل لاحد إلى الكشف القطعي بانهم ليسوا بكتابيين الا من طريق اخبار الصادق المصدق(33)، والمفروض عدم ورود دليل في باب الصابئة على انهم غير كتابيين، فالمراد: انهم غير محرز كونهم كتابيين. وقد صرح بذلك صاحب الجواهر (رحمه الله)، حيث قال: من شك فيه انه كتابي يتجه عدم قبولها [اي الجزية] منه؛ للعمومات الآمرة بقتل المشركين المقتصر في الخروج منها على [عنوان] الكتابية، التي هي شرط قبول الجزية(34)، انتهى. فموضوع الحكم في كلامه (رحمه الله) هو من شك في كتابيته.
اقول: للخدشة في ما يستفاد من كلام الشيخ (رحمه الله) والذي تبعه فيه صاحب الجواهر (رحمه الله) مجال:
اما اولاً: فلان العمومات المشار اليها في كلام صاحب الجواهر ومنها الآيتان المذكورتان في كلام الشيخ (رحمه الله) قد سبق الحديث عنها بالتفصيل (في الابحاث السابقة)، وقلنا انها أو اكثرها ناظرة إلى حكم مشركي الحجاز من عبدة الاوثان الذين كان رسول الله (ص) والمسلمون يومئذ مبتلين بهم كاعداء محاربين، وليس فيها تعرض لحكم مطلق الكافر بالمعنى العام؛ اي الذي لم يتدين بما جاء به نبي الاسلام (ص)، وليست بصدد الأمر بقتلهم على العموم، ولا اقل من الشك في ذلك وكون هذا المقدار هو القدر المتيقن من مدلول الآيات.
وثانياً : ان ما افاده الشيخ وصاحب الجواهر (رحمهم الله) كاصل متبع في باب المعاملة مع الكفار اعني الحكم بعدم الجزية في من يشك في كونه ممن اوتي الكتاب من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية لمخصصه؛ بمعنى ان من يشك في كونه داخلاً في عنوان «من اوتي الكتاب » وهو عنوان المخصص لعمومات عدم اقرار الكافر على دينه يشك في كونه داخلاً في المراد الجدي من عنوان العام بعد ورود الدليل المخصص؛ اعني الكافر غير الكتابي، وهذا يقتضي عدم جواز الاستدلال بالعام لحكم هذا الفرد المشكوك.
نعم، لو فرض ان عنوان «من اوتي الكتاب » وهو عنوان دليل المخصص مشتبه مفهوماً؛ بان دار امره بين صاحب الكتاب المشرع مثلاً أو الاعم منه ومن غير المشرع، فاجمال المخصص بهذا النحو لا يوجب عدم جواز التمسك بعموم دليل الكفار؛ لان الدليل العام يشمل صاحب الكتاب غير المشرع، ولا نعلم بشمول الدليل الخاص له، فالأمر في شمول الدليلين لهذا الفرد المشكوك دائر بين الحجة واللا حجة.
ولعل هذا هو الوجه في استدلال صاحب الجواهر(رحمه الله) بعموم آيات القتال في بيان حكم الصابئة.
ثم ان ما ذكرنا من الفرق بين الصورتين اعني ما كانت الشبهة فيه من قبيل الاشتباه في المفهوم، وما كان المفهوم فيه امراً جلياً غير مشتبه ولكن الشبهة أتت من ناحية الاشتباه في المصداق فتفصيله مذكور في الاصول.
ومجمل القول فيه: انه في صورة الاشتباه المفهومي، والذي يكون امر المخصص دائراً مفهوماً بين الاقل والاكثر؛ كما لو دار الأمر في معنى الفاسق الذي ورد في الدليل المخصص موضوعاً لعدم الاكرام، كقول القائل: لا تكرم العالم الفاسق، دار امره بين مرتكب الكبيرة فقط ومرتكب الاعم من الكبيرة والصغيرة من الذنب، فدلالة هذا الدليل المخصص على حكم الاقل وهو خصوص مرتكب الكبيرة معلومة، ولكن دلالته على حكم مرتكب كل ذنب ولو صغيرة غير معلومة، فاذا كان هناك عالم مرتكب لصغيرة فدلالة المخصص عليه وشموله له غير معلومة، في حين ان دلالة العام عليه وهو اكرام كل عالم معلومة، فتعارض العام والخاص بالنسبة لهذا المورد اعني العالم مرتكب الصغيرة تعارض بين الحجة واللاحجة، فلا مناص من التمسك فيه بالعام، وفي ما نحن فيه اذا فرض ان الدليل المخصص اعني آية الجزية مجمل من حيث المفهوم فيحتمل فيه ارادة خصوص اهل الكتب الثلاثة أو الكتب المشرعة، كما يحتمل شموله لهم ولغيرهم، فدلالة هذا الدليل على حكم غير اهل الكتب الثلاثة غير معلوم، في حين ان دلالة العام اي عمومات الكفار عليهم ثابتة بلا ريب، فيحكم عليهم بمقتضاه.
واما في ما كان عنوان الدليل المخصص امراً واضحاً وانما وقع الاشتباه من ناحية الشبهة المصداقية فالأمر يختلف تماماً؛ فاذا فرض ان مفهوم الفاسق في المثال الذي سبق ذكره غير مشتبه، ولكن شك في فسق زيد بالخصوص، فحينئذ لما كان المراد الجدي من قول القائل: اكرم كل عالم هو اكرام كل عالم غير فاسق وذلك بقرينة المخصص المنفصل الذي يقول: لا تكرم اي عالم فاسق، فشمول العام للفرد المشكوك كونه فاسقاً أو غير فاسق بعينه كشمول الدليل المخصص له في ان كلاً منهما لا يشمل سوى ما احرز كونه مصداقاً له، وبعبارة ادق: ان كلاً منهما لا يكون حجة الا في ما احرز كونه مصداقاً له، فكما لا يشمل الدليل المخصص هذا الفرد المشتبه كونه فاسقاً كذلك لا يشمله الدليل العام.
فبناء على كون الشبهة في باب عنوان «من اوتي الكتاب » وشموله للصابئة من باب الشبهة المصداقية، تكون النتيجة ان عمومات قتال الكفار لا تشمل الصابئين، فلا وجه لاستدلال الشيخ وصاحب الجواهر (رحمهما الله) بتلك العمومات لاجل اثبات خروجهم عن احكام اهل الذمة، وقد علمنا في ما قبل ان الشبهة في هذا المورد ليست شبهة مفهومية في راي صاحب الجواهررحمه الله على ما يبدو من التأمل في كلامه، وهو صحيح وواضح بناء على ما ذكرناه سابقاً من ان الكتاب في آية الجزية يشمل الكتب السماوية جميعاً من غير اختصاص ببعضها. وعليه فلو بقي هناك شبهة في امر الصابئة فهي انما تكون من باب الشبهة المصداقية، وفيها لا يجوز التمسك بالعام كما مر.
فحاصل الكلام في هذا الأمر: انه ليس هناك عموم أو اطلاق يمكن الاستدلال به في المشكوك كونه كتابياً على جواز قتله وعدم اقراره على دينه. نعم ترتيب جميع احكام الكتابي على هذا المشكوك ايضاً مشكل؛ لان ادلتها انما تثبتها لمن كان كتابياً، ولازمه احراز هذا الموضوع، فما لم يحرز كونه كتابياً لا يمكن ترتيب تلك الاحكام عليه. اللهم الا ان يقال: ان حكم الجزية يشمل هذا الفرد المشكوك كونه كتابياً بمفهوم الأولوية، وقد سبق منا توضيح ذلك.
هذا كله في الاصول اللفظية.
29. التوبة: 5.
30. محمد (ص): 4.
31. التوبة: 29.
32. الخلاف5: 543.
33. إلاّ أن يكون مراده من أهل الكتاب خصوص اليهود و النصارى.
34. جواهر الكلام 21: 231. - مقتضى الاصل العملي
مقتضى الاصل العملي
واما الاصل العملي فربما يبدو ان المورد مجرى استصحاب عدم كون الصابئة ممن اوتي الكتاب، ويمكن تقريره على وجهين:
الأول: ان يكون المراد بالعدم المستصحب هو العدم المفروض في ما قبل وجود الصابئة، فيكون هذا الاستصحاب من جزئيات استصحاب عدم الخصوصية المفروض في ظرف عدم موضوعها، المعروف لدى الاصوليين باستصحاب العدم الازلي، ففي ما نحن فيه يصدق ان هؤلاء قبل وجودهم لم يكونوا ممن اوتي الكتاب، فيستصحب هذا العدم. وهذا النوع من الاستصحاب قد استقر على امكانه وصحته رأي اكثر متأخري الاصوليين، بذريعة تمامية اركان الاستصحاب فيه، ولذا ترونهم يتمسكون به في باب الشك في تذكية الحيوان المشكوك ذكاته والشك في قرشية المرأة المشكوك كونها قرشية وغيرهما من الامثلة الكثيرة.
الا اننا مع الاعتراف بما يدعى من انطباق قاعدة الاستصحاب عليه شكلياً وعدم قبول ما يورد عليه من هذه الجهة لم نتمكن من الاعتراف به بحسب شمول ادلة الاستصحاب عليه لفظاً أو اطلاقاً، وهكذا بحسب انطباق الاستصحاب عليه كقاعدة عقلائية متداولة في عرف العقلاء، ونرى ان حكم العقلاء بعدم وجود الخصوصية المشكوك فيها في موضوع ما في صورة سبق السلب بانتفاء الموضوع انما هو من باب ان الحكم بوجود كل خصوصية ذاتية كانت أو عرضية في اي موضوع من الموضوعات انما يحتاج إلى وجود دليل لذلك، فحكمهم بعدم الخصوصية من باب عدم الدليل عليها، لا من باب الاستصحاب. والتفصيل في ذلك موكول إلى محاله ولا يسعه المجال في ما نحن فيه.
الثاني: ان يكون المراد بالعدم المستصحب عدم نزول الكتاب على الجماعة المعتنقة لهذه النحلة في اول الأمر، وهذا خارج عن استصحاب العدم الازلي؛ اذ العدم المستصحب انما فرض في ظرف وجود موضوعه لا في ظرف عدمه، فكل جماعة يفرض اعتناقها اولاً لنحلة ما اذا شك في نزول الكتاب السماوي عليها، يمكن استصحاب عدم نزوله عليهم في ما قبل ذلك، والنتيجة هي ان الجماعة المعتنقة اولاً لتلك النحلة والمسماة اولاً بذاك الاسم ليست ممن اوتي الكتاب. وهذا كاف في تنقيح هذا الموضوع بالنسبة إلى من يتبعهم في الازمنة اللاحقة؛ اذ المفروض عدم نزول الكتاب عليهم بعد تلك الازمنة.
والاستصحاب على هذا التقرير ايضاً تام الاركان، ولا يرد عليه ما يمكن ان يورد على استصحاب العدم الازلي، الا ان الاعتماد على مثله في الامور الخطيرة التي ترتبط بالنفوس والاموال والاعراض لا سيما في المسائل العامة الراجعة إلى الجماعات المتعاقبة والاقوام المتتابعة مما لا يمكن المساعدة عليه؛ وذلك لوضوح ان احالة امر دماء الالوف من افراد النوع البشري إلى مجرد عدم العلم بكونهم محقوني الدم بعيد عن مذاق الشرع، ولا يعهد عن التعاليم الالهية وبالخصوص عن الشريعة الاسلامية التي تعتبر كرامة الانسان وحرمة دمه من اعظم الامور، ولا تسمح بهدر الدماء وهتكها بغير حق ان تحكم بحل دم انسان واحد فضلاً عن الجموع الكثيرة بمجرد الشك في حرمة دمائهم واعتماداً على امثال هذا الاستصحاب.
وتوهم ان الاحتياط في امر الدماء مختص بدماء المسلمين مردود؛ بان المناط في هذا الاحتياط انما هو احتمال حقن الدم في مورده، ومعلوم ان منشأ هذا الاحتمال لا ينحصر في الاسلام بل يشمل الكتابي المعاهد وامثاله ايضاً، فكلما وجد هذا الاحتمال من اي طريق كان ومن اي منشأ، يكون المورد مورد الاحتياط، والواضح وجود هذا الاحتمال في امثال ما نحن فيه.
فالحاصل ان جريان استصحاب عدم الكتابية في ما نحن فيه لا يستقيم بوجه. فالظاهر ان المورد مجرى اصالة الاحتياط من جهة لزوم ذلك في باب النفوس والاموال والاعراض، والله العاصم.
هذا كله في الامور الراجعة إلى كبريات المسألة.
-
- المحور الثاني: الأمور الصغرويّة
-