تحميل:
بحث حول الصابئة
- اقوال الفقهاء
- التحقيق في المسألة
- المحور الأول: الأمور الکبرويّة
- الأمر الأول
- الأمر الثاني
الأمر الثاني:
اذا لم يحرز صغروياً ان الصابئة اهل كتاب من الكتب السماوية، فهل وجود الشبهة في امرهم وعدم الجزم بخروجهم من دائرة أتباع الانبياء يكفي في جريان حكم أهل الكتاب فيهم؛ من اقرارهم على دينهم واجراء عقد الذمة معهم وغير ذلك؟ ام لا، بل لا بد في ذلك من احراز كونهم من متّبعي الانبياء والكتب السماوية؟
واجمال القول في ذلك: ان احد العناوين التي تكرر ذكرها في هذا الباب من الكتب الفقهية عنوان «من له شبهة كتاب »، والظاهر ان هذا التعبير ليس له اصل حديثي؛ اذ لم نجد في روايات هذه الابواب ما يمكن استقاء هذا التعبير منه، وانما نشأ ذكره من عصر شيخ الطائفة (رحمه الله)، وهو اول من وجدنا هذا العنوان في كلماته، قال في المبسوط: الكفار على ثلاثة اضرب: اهل كتاب وهم اليهود والنصارى ... ومن له شبهة كتاب فهم المجوس فحكمهم حكم أهل الكتاب. إلى آخره(23).
وأخذ منه تلميذه ومعاصره القاضي ابن البراج(24)، ثم تبعهما في ذلك ابن ادريس والمحقق والعلامة (رحمهم الله)، ولم نجد في كلمات قدماء اصحابنا إلى زمان المحقق الحلي (رحمه الله) من استعمله غير من ذكرنا. وهؤلاء استعملوه تعبيراً عن المجوس وجعلوه مقابلاً لعنوان أهل الكتاب المراد بهم اليهود والنصارى.
والظاهر من مساق كلماتهم ان في ذكر هذا التعبير نوع اشارة إلى مناط الحكم في امر المجوس، فكان جريان ما يجري على المجوس من الاحكام انما نشأ من وجود الشبهة في امرهم أو في كتابهم؛ والا لم يكن وجه للعدول عن تسمية المجوس باسمهم إلى التعبير عنهم بعنوان كلي، فالروايات الواردة في المجوس انما تتصدى لحكم المجوس بعنوان المجوس فقط، فلم يكن الباحث في بيان حكمهم كمجوسيين بحاجة إلى ذكر عنوان كلي كهذا، وعلى هذا فيكون ذكر هذا العنوان؛ اعني وجود الشبهة في امر كتابهم، بحكم الاشارة إلى ان هذا هو المناط في حكمهم. وعلى هذا فالحكم لا ينحصر فيهم، بل يجري في كل نحلة تشترك معهم في هذا المناط؛ اعني وجود الشبهة.
ومما يقوي هذا الاحتمال في كلامهم ما ذكره العلامة (رحمه الله) في المنتهى، فانه قال في مقام الرد على ابي حنيفة الذي قاس مشركي العرب بأهل الكتاب والمجوس ما لفظه: والجواب بالفرق بين المقيس والمقيس عليه؛ فان أهل الكتاب لهم كتاب يتدينون به، والمجوس لهم شبهة كتاب ثم نقل رواية الواسطي ثم قال: والشبهة تقوم مقام الحقيقة في ما بني على الاحتياط، فحرمت دماؤهم للشبهة، بخلاف من لا كتاب له ولا شبهة كتاب، انتهى.
فاستدلاله لحكم المجوس بوجود الشبهة في امرهم كالصريح في ان عنوان «من لهم شبهة الكتاب » لا يراد به الاشارة إلى المجوس فحسب، بل هو حامل لاستدلال عام يشمل المجوس وغيرهم من الفرق التي يكون فيها مثل ما كان في المجوس من الشبهة.
ويؤيد ذلك كلامه الآخر في المنتهى فانه قال في مقام تقسيم الكفار إلى الذمي والحربي: فالذمي يشمل من له كتاب كاليهود والنصارى ومن له شبهة كتاب كالمجوس، انتهى.
فقوله: «كالمجوس » فيه اشعار إلى ان المجوس احد المصاديق لهذا العنوان الكلّي، لا المصداق المنحصر له.
وحاصل ما ذكرنا إلى هنا هو ان المناط في الحاق المجوس باليهود والنصارى في احكامهم هو وجود الشبهة في امرهم وعدم احراز كونهم غير منتمين إلى نبي من الانبياء وكتاب من الكتب السماوية.
ثم ان اناطة حرمة الدماء والنفوس بالشبهة امر موافق لما علمناه من الشرع، من الاحتياط في امر الدماء والاموال والفروج، مضافاً إلى ان من الممكن القول بان هدر الدماء وحل النفوس انما يختص بالمحاربين للدولة الاسلامية دون غيرهم من الكفار، وان حكم القتل والقتال بالنسبة إلى الكفار ليس أمراً شاملاً لكلّ كافر الا ما خرج، بل يختص بطوائف منهم على ما احتملناه ونفينا عنه البعد في بعض المباحث السابقة وعلى فرض قصور الدليل على ذلك فلا أقل من الاحتياط الذي اشرنا اليه في الطوائف التي قامت الشبهة في امرهم، وقد سمعت في ما نقلناه عن العلامة (رحمه الله) ان: «الشبهة تقوم مقام الحقيقة في ما بني على الاحتياط، فحرمت دماؤهم (اي المجوس) للشبهة ». فهذا المقدار مما لا يحتاج إلى زيادة تكلف في الاستدلال، الا ان معاملة أهل الكتاب لا تنحصر في حرمة نفوسهم واموالهم، بل تشمل عقد الذمة معهم والذي يشمل كثيراً من الفروع والاحكام، ومن المعلوم ان ما انيط به حرمة الدماء والاموال من وجود الشبهة ولزوم الاحتياط لا يكفي لاثبات تلك الاحكام.
الا ان يدعى الأولوية في ذلك؛ بان يقال: الجزية وسائر ما يكلف الذمي به تكون بمنزلة العوض الذي يؤديه في مقابل حقن دمه وحرمة نفسه وماله، فاذا كلفنا الكتابي بذلك فالمشتبه بالكتابي اولى منه به.
فالحاصل: ان القول بجريان احكام أهل الكتاب في من يحتمل كونه كتابياً مما لا يبعد عن القواعد الفقهية المتسالم عليها، فهذا هو الوجه في ذكر عنوان «من له شبهة كتاب » في كلمات بعض القدماء، وجعله قسيماً لأهل الكتاب موضوعاً ومشتركاً له حكماً.
ولكن هذا كله بناء على ان المراد من الشبهة في العنوان المذكور الشبهة والشك في كونهم اهل كتاب، الشبهة هنا بناء على هذا المعنى من قبيل شبهة الأمان؛ حيث قلنا هناك ان من احتمل في حقّه الأمان فهو محقون، كما ان من توهم الأمان بالنسبة إلى نفسه كمن سمع صوتاً من مسلم فتوهمه أماناً له ايضاً محقون، مع ان في المثال الأول يحتمل عدم الأمان في الواقع، وفي المثال الثاني عدم الأمان معلوم واقعاً، الا ان الشارع حكم بترتيب آثار الأمان في المثالين احتياطاً في امر الدماء والنفوس، فهنا ايضاً يحكم في حق مشتبه الكتابية باحكام أهل الكتاب احتياطاً للدماء والنفوس.
واما بناء على ان يكون المراد من «شبهة الكتاب» ما احتملناه سابقاً في البحث عن حكم المجوس من ان المراد بالشبهة المشتبه فيه، والمعنى: ان ما بيد القوم من الكتاب الذي يزعمونه كتابا سماوياً ليس هو الكتاب السماوي الذي نزل على نبيهم؛ بمعنى ان الأمر اشتبه عليهم في ذلك، كما هو الحال في المجوس بحسب ما ورد فيهم من الروايات، حيث ورد انه كان لهم نبي وقد انزل عليه كتاب ولكن احرق الكتاب ولم يبق منه شي ء، فما هو الآن بايديهم ليس هو الكتاب الحقيقي النازل من السماء بل شي ء مشتبه به، فعلى هذا المعنى يختلف الأمر مع ما ذكرناه على المعنى السابق؛ اذ الحكم بالنسبة لمن حاله هكذا كالمجوس ليس حكماً احتياطياً؛ لانهم أهل الكتاب واقعاً وليس من جهة اشتباههم بأهل الكتاب، فالحكم فيهم بعينه هو الحكم في اليهود والنصارى.
الا ان صحة استعمال هذا التعبير في حق كل طائفة ونحلة يتوقف على اثبات كونها اهل كتاب واقعاً بدليل معتبر، كما هو الحال في حق المجوس، ولا يكفي فيه الحدس الظني من طريق مقارنة ما بايديهم من الكتاب بما تحتويه الكتب السماوية عادة، أو من اي طريق ظني آخر.
فحينئذ لو فرض ثبوت مثل هذا الدليل في باب الصابئة فهو، والا فاجراء عنوان «من له شبهة الكتاب » في حقهم مشكل.
وسوف ياتي ان شاء الله في بيان النقاط التالية ما يوضح الأمر اكثر.
23. المبسوط 2: 9. ط ـ حيدري.
24. المهذّب 1: 298. ط ـ قم. - الأمر الثالث
- الأمر الرابع
- مقتضى الاصل العملي
-
- المحور الثاني: الأمور الصغرويّة
-