تحميل:
بحث حول الصابئة
- اقوال الفقهاء
- التحقيق في المسألة
- المحور الأول: الأمور الکبرويّة
- الأمر الأول
المراد من «الکتاب» في آية الجزية
فقد اشتهر ان عنوان «الكتاب » في الآيات القرآنية المبينة لحكم أهل الكتاب ومنها آية الجزية(13)، يراد به التوراة والانجيل، قال في الجواهر: «ان المنساق من الكتاب في القرآن العظيم هو التوراة والانجيل »، ونقل عن منتهى العلامة دعوى الاجماع على ان اللام في الكتاب في آية الجزية للعهد اليهما(14).
الا اننا اثبتنا خلاف ذلك تفصيلاً في ما سبق وقلنا ما حاصله ان عنوان «أهل الكتاب » في القرآن الكريم وان كان لا يبعد ان يراد به اليهود والنصارى على ما ربما يشهد به التتبع والتأمل الا ان عنوان «الكتاب » في الآيات الشريفة القرآنية اذا استعمل مجرداً عن ذاك التعبير التركيبي (= أهل الكتاب) خالياً عن قرينة معينة، لا يراد به التوراة والانجيل أو كتاب خاص آخر من كتب الانبياء السالفة، بل يراد به مطلق ما نزل من السماء وحياً على نبي من انبياء الله (ع)، من غير اختصاص أو اشارة إلى كتاب خاص، وهذا ايضاً مما يشهد به التتبع والتأمل في تفاصيل الآيات. بناء عليه فالكتاب في آية الجزية هو الاعم من التوراة والانجيل، ولا شاهد على تقييده بهما، بل يشهد على كونه اعم منهما انه يشمل كتاب المجوس باجماع الأمة وبمعونة الروايات الحاكية عن ان للمجوس كتاباً، وهكذا يتضح ايضاً انه لا شاهد على تقييده بالكتب المشرعة، اي التي جاءت بدين جديد؛ اذ الظاهر ان كتاب المجوس ليس من الكتب المشرعة، ونبيهم ليس من اولي العزم، فاطلاق الكتاب في الآية الشريفة يشمل غيره.
ولزيادة الايضاًح في ذلك نقول: ان الظاهر من معنى الكتاب في الكلام عن الانبياء والاديان الإلهية، هو الحد الفاصل والمائز الفكري والاعتقادي والعملي بين الايمان والكفر، فالكتاب هو الوحي الالهي الذي يخرج الافراد والجماعات عن ربقة الاديان البشرية والمجعولة كعبادة الاصنام والآلهة المزعومة، ويسوقهم إلى دين الله تعالى وعبادته، فهو الصحيفة الإلهية المشتملة على معرفة الله تعالى ومعرفة الحقائق التي تتصدى لتشريحها وتحقيقها الرسالات السماوية، والتي تقابل الإلحاد والشرك والوثنية، وهذا معنى عام يشمل انواع الكتب السماوية، قال الله تعالى: (ومنهم اميون لايعلمون الكتاب)(15)، وقال تعالى ايضاً: (وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين ءاسلمتم)(16)، فجعل أهل الكتاب والعلماء به في مقابلة الاميين، ويريد بهم عباد الاصنام.
وقال تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين )(17)، فجعل الكتاب في مقابلة الشرك.
وقال تعالى: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)(18)، فجعل الكتاب مائزاً للنبوة وحاكماً لأهل الدين في ما اختلفوا فيه.
ومن الواضح ان هذه صفات لعامة كتب الله تعالى.
فهذه الآيات وغيرها تدل على ان الكتاب في مصطلح القرآن الكريم هو ما ينزل من الله تعالى على انبيائه لهداية الناس والحكم فيهم واخراجهم من ظلمات الكفر والشرك والالحاد، فلم لا يكون الكتاب في آية الجزية بنفس المعنى؟! واي شاهد على استعماله في الاخص منه؟
هذا، وتشهد ايضاً لعموم معنى الكتاب في باب الجزية رواية الواسطي عن بعض اصحابنا قال: سئل ابوعبدالله (ع) عن المجوس اكان لهم نبي؟ فقال: نعم، اما بلغك كتاب رسول الله (ص) إلى اهل مكة: اسلموا والا نابذتكم بحرب، فكتبوا إلى النبي(ص) أن خذ منا الجزية ودعنا على عبادة الاوثان، فكتب اليهم النبي (ص): اني لست آخذ الجزية الا من أهل الكتاب، فكتبوا اليه يريدون بذلك تكذيبه: زعمت انك لا تأخذ الجزية الا من أهل الكتاب ثم اخذت الجزية من مجوس هجر، فكتب اليهم رسول الله (ص): ان المجوس كان لهم نبي فقتلوه وكتاب احرقوه اتاهم نبيهم بكتابهم في اثني عشر الف جلد ثور...(19).
واطلاق الكتاب فيها على كتاب المجوس بل اطلاق أهل الكتاب عليهم لا يدع المجال لاحتمال اختصاصهما بالتوراة والانجيل واهلهما في مصطلح اهل الشرع.
وقريب منها مرسلة الصدوق عن النبي (ص) ورواية الاصبغ بن نباتة عن اميرالمؤمنين (ع)(20).
وضعف اسناد هذه الروايات لا يضر، بعد ما هو المعلوم من تلقي الاصحاب لمضامينها بالقبول والعمل بها في خصوص المجوس. مضافاً إلى ان هناك روايات معتبرة وقع فيها التصريح بان المجوس اهل كتاب، منها معتبرة سماعة:
عن ابي عبدالله (ع) قال: بعث النبي (ص) خالد بن الوليد إلى البحرين .. (الى ان قال:) فكتب اليه رسول الله (ص): ان ديتهم مثل دية اليهود والنصارى، وقال: انهم أهل الكتاب(21). ومنها موثقة زرارة: سالته عن المجوس ما حدهم؟ فقال: هم من أهل الكتاب، ومجراهم مجرى اليهود والنصارى في الحدود والديات »(22)، واضمار الرواية غير مضربعد كون المضمر مثل زرارة.
فبملاحظة هذه الروايات يظهر ضعف ما يتوهم ويدعى من ان اطلاق الكتاب بلا قرينة ينصرف إلى الكتابين؛ اذ مع التعبير عن المجوس بأهل الكتاب لا مجال لمثل هذه الدعوى.
ثم ان هناك روايات اخرى في المجوس ايضاً ورد فيها: سنّوا بهم (اي بالمجوس) سنة أهل الكتاب. والمراد بأهل الكتاب فيها: اليهود والنصارى. وهذا يشعر بان اطلاق أهل الكتاب على اليهود والنصارى كان دائراً في عرف المحادثات، والظاهر ان ذلك كان من جهة غلبة وجود الفرقتين دون غيرهما في الجزيرة العربية.
واين هذا من اختصاص عنوان أهل الكتاب بأهل الكتابين دون غيرهما؟! فضلاً عن اختصاص عنوان الكتاب بالتوراة والانجيل.
والمتحصل من ذلك كله ان «الكتاب » في مصطلح القرآن وفي لسان الاحاديث وهكذا في عرف المتشرعة في صدر الاسلام، حتى زمن الائمة (ع) كان يستعمل في مطلق الكتاب السماوي، ولا شاهد على اختصاصه في آية الجزية بكتاب خاص التوراة والانجيل أو غيرهما فيستنتج من ذلك ان الكتاب الذي يحكم بالجزية في حق متبعيه هو مطلق الكتاب السماوي.
ويدل على ذلك ايضاً رواية الواسطي المتقدمة، حيث علل فيها رسول الله (ص) حكمه بالجزية على المجوس بانهم كان لهم رسول وكتاب، ومقتضاه عموم هذا الحكم بالنسبة لكل فرقة لهم كتاب، والمعلوم ان كتاب المجوس مغاير للتوراة والانجيل، ولم يعلم انه كان كتاباً مشرعاً حاوياً لدين جديد، وبناء عليه فالحكم شامل لكل كتاب من اي نبي من الانبياء.
هذا، وربما يستفاد من الكلام الذي نقلناه عن المفيد (رحمه الله) ان هناك دليلاً من السنة على اختصاص الجزية بالطوائف الثلاث (اليهود والنصارى والمجوس)، واذا صح ذلك فاطلاق ما عرفت في الآية الكريمة (آية الجزية) ورواية الواسطي يقيد بهذا الدليل، ويكون هذا شاهداً على ارادة خصوص الكتب الثلاثة من الكتاب في الآية، قال في طي كلامه المنقول سابقاً: واما نحن فلا نتجاوز بايجاب الجزية إلى غير من عددناه؛ لسنة رسول الله (ص) فيهم والتوقيف الوارد في احكامهم. إلى آخر كلامه الشريف.
الا انه لم يتضح لنا المراد من السنة في كلامه، فان اراد السنة القولية، فليس في ما بايدينا من الروايات ما يدل على اختصاص الجزية باليهود والنصارى والمجوس، ولم نعثر على من ادعى وجود رواية بهذا المضمون، حتى من قريبي العهد بزمان المفيد كاصحاب المجاميع الحديثية وغيرهم، بل هناك بعض ما ربما يستفاد منه تعميم الجزية لجميع الكفار، كما ستسمعه ان شاء الله.
وان اراد السنة الفعلية بمعنى عدم وضع الجزية على الصابئة في زمان حياة النبي (ص) فهي:
اولا: غير ثابتة؛ اذ عدم النقل اعم من عدم الوقوع.
وثانياً : لو سلم فربما يكون ناشئاً من عدم وجود الصابئة في عداد القانطين في رقعة الفتوح الاسلامية آنذاك، فهؤلاء كانوا ساكنين في الميسان والحرنان، وكلا المكانين قد فتحا بعد وفاته (ص)، وربما يكون ناشئاً عن اسباب أخرى.
والحاصل ان السنة الفعلية في عدم أخذ الجزية من الصابئة لا تكفي لاثبات ان الحكم فيهم عدم الجزية، نعم لو كان هناك ما يدل على محاربتهم لكان دالاً على المطلوب بوجه، وانى يثبت ذلك؟!
وحاصل الكلام في النقطة الأولى هو ان الكتاب في باب الجزية لا ينحصر في الكتابين كما لا ينحصر في الكتب المشرعة، بل لو فرض ثبوت تبعية قوم لكتاب يحيى أو داود أو ادريس مثلاً، فهؤلاء من الذين اوتوا الكتاب، فيحقن دماؤهم ويقرّون على دينهم، ويؤخذ منهم الجزية.
13. و هي قوله تعالى: (من الذين اُوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية...) التوبة: 29.
14. الجواهر 21: 232.
15. البقرة: 78.
16. آل عمران: 20.
17. البقرة: 105.
18. البقرة: 213.
19. الوسائل: ب 49 من جهاد العدو، ح1.
20. المصدر السابق: ح5 و 7.
21. الوسائل: ب 13 من ديات النفس، ح7.
22. المصدر السابق: ح11. - الأمر الثاني
- الأمر الثالث
- الأمر الرابع
- مقتضى الاصل العملي
-
- المحور الثاني: الأمور الصغرويّة
-