موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي
تحميل:

سائر الكتب

  • الفكر الأصيل
  • ضَرورة العَودة إلى القرآن
  • العودة إلى نهج البلاغة
  • روح التوحيد رفض عبودية غير الله
  • دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)
  • الامام الرضا(ع) وولاية العهد
  • عنصر الجهاد في حياة الأئمة (عليهم السلام)
  • كتاب الفن والأدب في التصور الإسلامي
  • الإمامة والولاية في الإسلام
    • مقدمة
    • المقالة الأولى: معنى الولاية
    • المقالة الثانية: العلاقة المهيمنة على الأمة الإسلامية
    • المقالة الثالثة: جنة الولاية
    • المقالة الرابعة: من هو الحاكم على البشرية؟
    • المقالة الخامسة: حول الولاية
    • المقالة السادسة: العلاقة بين الولاية والهجرة
      سهلة الطبع  ;  PDF

       

      المقالة السادسة: العلاقة بين الولاية والهجرة

      الأمر الرابع الذي يرتبط بالولاية هو الهجرة، فلو درسنا الولاية بشكل واسع كما فعلنا فيما تقدم فإن الهجرة ترتبط عندئذ بالولاية إرتباطاً قوياً، لأن الولاية عبارة عن الارتباط والعلاقة المحكمة بين أفراد الصف الواحد وقطع كل أنحاء التبعية والارتباط بين الصف المؤمن وبين الصف غير المؤمن، ويترتب على هذا البعد من الولاية إيجاد الارتباط القوي المحكم بين كل أفراد الصف المؤمن وبين النقطة المركزية والقدرة الواحدة التي بيدها إدارة المجتمع الإسلامي أي الإمام والولي والحاكم. وتعرضنا فيما سبق إلى بحث خصائص وصفات الأشخاص الذين يصلحون لإمامة وقيادة المجتمع المسلم، وأخذنا الإجابة من القرآن الكريم {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}(42).
      وأشرنا إلى قصة أمير المؤمنين صلوات الله عليه مع السائل، فإذا درسنا الولاية بهذه الشمولية والسعة ولم نحصرها في المسائل الجزئية والفرعية تكون مسألة الهجرة داخلة في صميم بحث الولاية، لأنه مع الرضوخ لولاية الله سبحانه وقبولها لابد من توظيف كل الطاقات والنشاطات الجسدية والفكرية والنفسية في الطريق الذي يرسمه ولي الله، وعلى الإنسان أن يكون عبداً للّه بكل جوارحه وجوانحه وعناصر وجوده لا عبداً للطاغوت، ولابد من أن نخرج من تبعات الخضوع لولاية الطاغوت ونحرر أنفسنا منها ونحطم قيود ولايته، وعلينا أن نحيا تحت ظل ولاية الله المباركة، فلو خضعنا في مورد ما لولاية الطاغوت بعد خروجنا على ولاية الله فعلينا الرجوع والإنابة إلى الله سبحانه، فإن هذا هو ميثاقنا وعهدنا مع الله سبحانه أن نخرج من ولاية الطاغوت إلى ولايته سبحانه.
      والهجرة: هي الخروج على ولاية الولي والإمام الظالم ثم الانضواء تحت لواء ولاية الإمام العادل. حينئذ تطرح مسألة الهجرة متفرعة على مفهوم الولاية. وقد تقدم الحديث عن الأمور الثلاث المفرعة على الولاية. وهذا هو الأمر الرابع.
      لماذا كان من ضروري على الإنسان أن يفر من الولاء للطاغوت؟
      والإجابة على هذا التساؤل تأتي بعد الإجابة عن سؤال آخر أريد منكم أن تحللوا مفرداته في أذهانكم حتى تحصلوا على الإجابة المطابقة للأصول والمفاهيم الإسلامية والعقائدية.
      والسؤال هو: هل يمكن للإنسان أن يجمع بين الخضوع لولاية الطاغوت وبين كونه مسلماً؟ وهل يمكن لمسلم أن يحيا تحت ظل ولاية الشيطان وهو في نفس الوقت عبدٌ للرحمن؟ وهل ثمة مورد تجتمع فيه حالتان؛ حالة تأثير الدافع غير الإلهي على كل آفاق الإنسان وشؤون حياته سواء في ذلك شؤون الجسد والفكر والنفس أي حالة الخضوع للدوافع الشيطانية والطاغوتية، وحالة العبودية للّه والتدين بالإسلام عقيدة ومبدءً؛ هل يمكن الجمع بين هاتين الحالتين؟
      أنتم الآن تهيئون الإجابة حول هذا السؤال، ولابد من تحليل مفردات هذا السؤال وتفسيرها وتوضيحها، نحن نسأل عن إمكانية الجمع بين الخضوع لولاية الشيطان وبين اختيار الإنسان للإسلام ديناً ومبدءً، وهذا السؤال يتركب من مقطعين وفقرتين، فعلينا أن نحلل هذين المقطعين ونتوصل إلى معناهما.
      المقطع الأول: خضوع الإنسان لولاية الطاغوت والشيطان.
      ماذا نعني بالولاء للشيطان والطاغوت؟ إذا لاحظنا المعنى الذي استخلصناه من القرآن الكريم لمصطلح الولاية وضممناه إلى فقرة ولاية الشيطان ودرسنا هذه الفقرة على أساس ذلك المصطلح يتضح معنى ولاية الشيطان؛ فهو: سيطرة الشيطان على كل الطاقات والاستعدادات والإبداعات الإنسانية وتوظيفها في الخط الذي يرسمه الشيطان. ونكرر هنا أن للشيطان معنىً كلي، فسوف يفكر الإنسان في المجالات التي يحددها الشيطان ويرسمها. ويكون حال هذا الإنسان الخاضع لولاية الشيطان كحال من كان في وسط نهر شديد الجريان أو كمن جرفه سيل عرم، فهو لا يحب أن تصيبه الصخور الضخمة الهائلة لتحطم رأسه، ولا يحب أن يجرفه الماء ليلقيه في مستنقع آسن كما لا يحب أن يخنقه الماء وهو في غمرات أمواجه. مع أنه لا يحب كل ذلك فإن الجريان المتدفق الهادر يجرفه من غير اختياره والذي يستطيع أن يفعله هو أن يحرك رجليه ويلصق جسده بهذا الطرف أو ذاك ويتشبث بكل شيء أمامه، ولكن هذا لا يعني شيئاً لمواجهة المياه المتدفقة.
      يقول القرآن الكريم {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار}(43) فهم قادة يقدمون قومهم ومن تولاهم إلى النار والشقاء.
      {ألم ترَ إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار}(44).
      ما هي النعمة التي كفر بها هؤلاء؟ إنها نعمة القدرة وهي مظهر قدرة الله وسلطانه وحاكميته؛ فالقدرات الدنيوية هي نعمة ربط إدارة أمور الإنسان وجزئياته بمحور واحد، ونعمة التوظيف السليم والإثارة النافعة للقدرات والاستعدادات والمعارف والطاقات الكثيرة المودعة في الوجود الإنساني. كل هذه نعم وهي رأسمال يدر الخير على البشر، وكل فرد يقع تحت اختيار وهيمنة أولئك الأئمة الذين أشارت إليهم الآية يستطيع أن يكون إنساناً كبيراً ويصل إلى أعلى مدارج الكمال، ولكن هؤلاء كفروا بهذه النعم ولم يصرفوها في طريقها الطبيعي، والقرآن الكريم يقول: {وأحلوا قومهم دار البوار}، فهم ومن تولاهم في دار العدم والفناء والهلاك {جهنم يصلونها وبئس القرار}.
      وقد قرأ الإمام موسى بن جعفر (ع) هذه الآية على مسامع هارون الرشيد وأفهمه بأنه من هؤلاء الأئمة الذين يقودون قومهم ومن تولاهم إلى النار وبئس القرار، عندما سأله هارون هل نحن من الكفار يريد بذلك أن يقول نحن نعتقد بالله ونبيه ودينه، فقرأ عليه الإمام هذه الآية وأفهمه أن الكافر ليس هو من يقول بكل صراحة وعن يقين وقطع أنه لا وجود لله، والقرآن كذب وباطل، والنبي خرافة، فهذا كفر وهو أهون أقسام الكفر، لأن صاحبه يصرح بعقيدته بصورة كاملة، وعندئذ يعرفه الناس، ويحددون موقفهم منه. ولكن أسوأ الكفار من يكفر بتلك النعم العظيمة المودعة لديه والتي وضعت تحت اختياره وتصرفه، فهو يصرفها ويوظفها في منهج غير صحيح، ولا يقود نفسه فقط نحو النار بل يقدم قومه إليها أيضاً، يقود قومه ومن تولاه نحو جهنم. هذه هي ولاية الطاغوت والذي يعيش في ظل ولايته كأنه فاقد لإرادته وحريته، ولا أقول ليس له إرادة أو اختيار بصورة مطلقة، وبعد أن طرحنا وحللنا معنى الآية يتضح لنا هذا الأمر وهو في وسط السيل العرم يتحرك معه وفي غمراته ولن يستطيع أن يضرب بيديه ورجليه، وهو يريد أن ينحرف عن طريق جهنم لكنه لا يستطيع وهو يرى أن كل أفراد جماعته يتحركون نحو جنهم وهم يدفعونه معهم.. هل ذهبتم إلى الأماكن المزدحمة والمكتظة بالناس كبعض الأسواق والطرق؟ فأنت ترغب أن تسير في هذه الجهة لكن الحشود تدفعك من غير أن تستطيع المقاومة إلى الجهة المقابلة، والذي يخضع لولاية الطاغوت يُحب أن يكون صالحاً حسن الفعال والأخلاق ويحب أن يحيا حياة المسلمين الصالحة، حياة الإنسان الفاضل ويحب أن يحيا مسلماً ويموت مسلماً، لكنه لا يستطيع.
      فإن السيل المتدفق لحركة المجتمع يجرفه بشكل لا يترك له أي قدرة على تحريك يديه ورجليه، وإذا استطاع أن يضرب بهما الأرض فلن يحصل على أكثر من هدر طاقة من طاقاته، ليس فقط لا يستطيع ضرب الأرض بيديه ورجليه وإنما الأسوأ من ذلك أنه أحياناً لا يستطيع أن يفهم ما يجري. لا أعلم هل قُدّر لكم أن تشاهدوا الأسماك التي تقع في شباك الصيادين في البحار؟ إذ يحدث أحياناً أن تقع آلاف الأسماك في شبكة واحدة ويبدأ الصيادون بسحبها من وسط البحر إلى الساحل، ولكن من غير أن تحس أي سمكة بما يجري والى أي اتجاه تتحرك بل انها تحس أنها تتحرك باختيارها نحو مقصد معين، ولكن الواقع أنها تتحرك من غير اختيارها فإن مقصدها هو المقصد الذي حدده الصياد صاحب الشبكة، وكذلك تفعل شبكة النظام الجاهلي غير المرئية، فهي تسحب الإنسان إلى جهة تحددها هي.
      ويحب الإنسان أن يتحرك نحو دار السعادة والفلاح وهو غافل عن أنه يتحرك نحو جهنم {جهنم يصلونها وبئس القرار}. هذه هي ولاية الطاغوت وولاية الشيطان والتي تشكل الفقرة الأولى من سؤالنا المتقدم عن إمكانية أن يحيا المسلم تحت ظل ولاية الطاغوت ويخضع له محافظاً على إسلامه.
      وهكذا عرفنا بشكل إجمالي ماذا تعني الحياة تحت ظل الولاء للطاغوت، وإذا أردتم تفسير ذلك تستطيعون الرجوع إلى التاريخ لتروا أن العالم الإسلامي في عصر بني أمية وبني العباس قد شهد حركة قوية، فإن الموج المتلاطم من المعلومات والمعرفة في ذلك العصر كان قد شمل المجتمع الإسلامي، وكم قد ظهر من الأطباء البارعين الكبار ومن المترجمين الأذكياء الذين قاموا بترجمة الآثار المهمة للثقافات القديمة إلى اللغة العربية في وقت لم يشهد أي تطور لغوي أو معرفة باللغات المختلفة.
      لقد كانت عظمة المسلمين واضحة في مجالات علم الطب والنجوم والفنون الجميلة وغير ذلك، وقد اعترف غوستاف لوبون الفرنسي وغيره من الباحثين والمستشرقين عند ملاحظتهم هذه الظواهر البارزة في حياة المسلمين في القرن الثاني والثالث والرابع الهجري، اعترفوا أن هذه العصور هي العصور الذهبية للحضارة الإسلامية.
      وقد كتب غوستاف لوبون كتاباً عن ذلك بعنوان (تاريخ التمدن الإسلامي في القرن الرابع الهجري).
      وبصورة عامة نقول أن المستشرق الأوربي عندما يطالع مسيرة تلك القرون الثلاثة يصاب بالذهول والدهشة ذلك لأن الطاقات والنشاطات الفعالة قد برزت في تلك الفترة، ولكني أوجه إليكم هذا السؤال: هل كانت هذه النشاطات الفعالة في صالح المجتمع الإسلامي وفي نفع الإنسانية؟ وقد مرّ على تلك الفترة عشرة قرون، وليس لنا أي نظرة متعصبة تجاه تلك القرون، ونستطيع أن نقول للعالم غير الإسلامي أن العالم الإسلامي هو الذي أنشأ الجامعات وأوجد الدراسات الفلسفية، وهو الذي برع في مجالات الطب والدراسات الطبيعية، ولكن حين ننظر إلى المسألة فيما بيننا نظرة موضوعية محايدة، هل نستطيع أن نقول ان تلك الطاقات قد وظفت في موقعها المناسب ومن أجل الإنسانية وفي صالح المجتمع الإسلامي؟
      ما الذي يملكه المجتمع الإسلامي بعد عشرة قرون من ذلك التراث؟
      ولماذا لا يملك منه شيئاً؟ لماذا لم تبق لنا كل تلك الثروات العلمية والثقافية؟ ولماذا لا يضيء مجتمعنا الإسلامي من بين المجتمعات وهو الذي كان يشع ضياءً قبل عشرة قرون؟ هل أن ذلك يعود إلى حاكمية الطاغوت على تلك الأنشطة والفعاليات الكبيرة؟
      نعم، إن قادة السوء هم الذين كانوا يلعبون بمقدرات المجتمع الإسلامي من أجل أن ترفع اسمها عالياً؛ مثلاً في زمان أحد الخلفاء العباسيين برزت ظاهرة الترجمة، وعوضاً عن هذه الفعاليات في مجالات الطبيعة والرياضيات والنجوم والأدب والفقه لو كانوا قد مهدوا لمجيء الحكومة الإسلامية بقيادة أئمة أهل البيت؛ فلو كان القائد أو الحاكم هو الإمام الصادق (ع) وكانت القوى والطاقات الإنسانية تحت تصرفه فسوف تكون قيادته في صالح الإنسانية وسبباً إلى نضجها، حتى لو فرضنا المحال وقلنا أن الإمام الصادق لا يوظف تلك الطاقات في المجالات العلمية والأدبية والتي هي موضع فخر واعتزاز للعالم المعاصر، وحتى لو تأخرت البشرية في تلك المجالات مائة عام. نعم ستكون النتيجة في صالح البشرية وسوف تتفتح أزاهير الإسلام وتصرف الطاقات والاستعدادات في سبيلها الصحيح، ولا يقتصر الأمر على ترجمة الكتب والتقدم العلمي والبراعة في الطب من غير أن ينمو الجانب الخلقي والاجتماعي، مما يؤدي ـ وقد أدى فعلاً ـ إلى ظهور الطبقية بشكل عنيف.
      ويعد الاختلاف الطبقي المتفشي في ذلك العصر من أساطير التاريخ، تماماً كالتمدن القذر والهابط الذي يسود عصرنا اليوم؛ فإن القوى العالمية العظمى تسود في العالم اليوم لأنها وصلت إلى مستوى علمي رفيع بسبب الاكتشافات والاختراعات المدهشة، فهم بين فترة وأخرى يعلنون عن اكتشافات واختراعات جديدة في مجالات الطب والتكنولوجيا وغيرها ولكنهم في الجوانب الإنسانية والأخلاقية لا زالوا في المراحل التاريخية السائدة قبل آلاف السنين. ولا زال إلى جنب الثراء العظيم، المجاعات وحالات الفقر الاسطورية، وهؤلاء يتباهون بالتقدم العلمي.
      هذه صورة مطابقة لما كان عليه الوضع في القرن الثاني والثالث والرابع الهجري، وهذا ما حدث في التمدن الإسلامي العظيم في تلك القرون، فهناك تقدم علمي هائل لكن الحياة مترفة لاهية عابثة وفارغة عن الفضيلة. وهناك أسماء نذكرها بكل فخر واعتزاز ضمن قائمة المناهضين بشدة لتلك المدينة الخاوية، كالمعلى بن خنيس فقد صلب في السوق، وكذلك يحيى بن أم طويل الذي قطعت يده ورجله ولسانه، ومحمد بن أبي عمير الذي ضرب أربعمائة جلدة، وكذلك يحيى بن زيد الذي قتل في سن الثامنة عشر في جبال خراسان، وزيد بن علي الذي ظلت جثته معلقة على الخشبة التي صُلب عليها مدة أربع سنوات.
      هؤلاء رجال يفتخر بهم العالم، ولم يكن لهؤلاء أي علاقة إيجابية مع التمدن الهائل الوضاء الذي يشير إليه غوستاف لوبون ويكتب عنه، بل كانت لهم علاقة سلبية مع ذلك التمدن وكانت لهم معه مواجهة مسلحة. لهذا ندرك أن ولاية الطاغوت والشيطان على المجتمع توظف الطاقات الاجتماعية الخاضعة لها بالشكل الذي نشاهده في المدنية الحديثة وشاهدناه قبل عشر قرون في العالم الإسلامي، وأما الشكل الذي ينسجم مع القيم الأصيلة والمعايير المنطقية فليس له أي قيمة في السوق السوداء.
      هذه هي ولاية الطاغوت، فهل يمكن أن يحافظ المسلم على إسلامه مع اندماجه بها وعيشه في كنفها وتقلبه في أوضاعها وأخلاقها؟! ونحن نسأل عن معنى أن يعيش الإنسان مسلماً إن هذا يعني وضع كل الطاقات والإمكانات والفنون والقدرات والقابليات تحت إرادة الله سبحانه، فالمال والنفس والمعرفة والفكر وكل ما نملك تحت إرادة الله، ولدينا نموذجان لما عرضناه، نموذج يعود إلى المجتمع والحياة الاجتماعية المتمدنة، ونموذج يرجع إلى المجموعات الخارجة على الأنظمة التي يحكمها الطاغوت والمهاجرة إلى الله.
      النموذج الأول: مجتمع المدينة في زمن الرسول (ص) الذي كان خاضعاً لله سبحانه؛ فكل حركة يتحركها لله، وكل خطوة يخطوها في سبيل الله، وكان اليهود والنصارى يعيشون في كنف الولاية الإسلامية، ومع أنهم لم يسلموا لكنهم يحيون الحياة الإسلامية لأن هؤلاء يعيشون في ذمة الإسلام؛ ومعنى ذلك أنهم يتحركون من ناحية عملية في الطريق الإسلامي؛ فاليهودي الذي لم يسلم عندما يعيش ضمن الولاء للإسلام قد يكون أكثر نفعاً للإسلام من المسلم الذي يخضع للنظام الجاهلي. كانت الأموال والثورة تنفق في سبيل الله في زمن الرسول وكذا السيف والسلاح والفكر والمعرفة، وكل ما يصدر من فعل من المسلمين فهو لله وفي سبيله، والعواطف والأحاسيس والبغض كانت لله وفي الله. وفي زمان أمير المؤمنين (ع) كان الوضع بهذا الشكل تقريباً حيث أن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لا يختلف عن النبي (ص) بلحاظ كونه حاكماً وولياً لكنه كان قد ورث مجتمعاً ضعيفاً سئ الأوضاع كثير النواقص، ولو كان النبي (ص) نفسه مكان أمير المؤمنين فإنه سيواجه نفس المشكلات الاجتماعية التي واجهها أمير المؤمنين.
      والنموذج الثاني: هو نموذج المجموعات الشيعية المرتبطة بالأئمة على مر التاريخ، ونحن نأسف لانتهاء شهر رمضان ولم نبحث بعد تفاصيل مسألة الإمامة، فإن المفروض أن أبحث مسألة الإمامة بعد مسألة الولاية لأبين لكم هناك أن الشيعة في زمان الأئمة كانوا كياناً واحداً منسجماً ومتفاعلاً، وأُبرز لكم نوع ومناشئ العلاقات بين الإمام وبين الشيعة والعلاقة بين الشيعة وبين المجتمع آنذاك.
      وأنا مضطر لعرض المسألة بشكل إجمالي. كان ظاهر الشيعة أنهم يعيشون في كنف النظام الذي يحكمه الطاغوت، ولكنهم في الواقع كانوا يتحركون ضد هذا النظام تماماً. وكمثال لذلك نذكر تلك المجموعة المحدودة العدد التي خرجت مع الحسين بن علي (صلوات الله وسلامه عليه)؛ فهؤلاء شقوا السيل العارم وساروا خلافاً للجهة التي يدفعهم السيل للسير فيها، وهذا أحد النماذج التاريخية للهجرة ولحركة المجموعات المجاهدة.
      نريد أن نقول أن الفرد العادي وبصورة كلية الفرد أياً كان، لا يستطيع أن يعيش في ظل مجتمع يحكمه الطاغوت وهو مع ذلك يحافظ على إسلامه بأن يكون وجوده وإمكاناته وطاقاته وكل قواه تحت إرادة الله وحاكميته ورسالته، فالمسلم الذي يعيش في محيط وبيئة يتسلط عليها الطاغوت سوف يصرف شيئاً من طاقاته في طريق الطاغوت ولا يمكنه أن يكون عبداً خالصاً مخلصاً لله بصورة كاملة. وفي كتاب الكافي ـ وهو من أهم المصادر الموثوقة والقديمة للشيعة ـ ورد حديث بعبارات متعددة أقرأ عليكم إحدى هذه العبارات ويمكنكم الرجوع إلى الكتاب(45). قال الإمام الصادق (ع):
      "إن الله لا يستحي أن يعذب أمة دانت بإمام ليس من الله وإن كانت في أعمالها برة تقية، وإنّ الله ليستحي أن يعذب أمة دانت بإمام من الله وإن كانت في أعمالها ظالمة مسيئة".
      وهذا الحديث يثير العجب والدهشة؛ فهو يؤكد أن المجتمع الذي يعيش حالة الولاء لله مجتمع صالح ومؤهل للنجاة وإن كان يرتكب بعض المعاصي في جزئيات سلوكه أحياناً، وأما أولئك الذين يعيشون تحت ولاية الشيطان والطاغوت فهم من أهل العذاب وإن كانت جزئيات سلوكهم وأعمالهم صالحة وحسنة.
      وأنا أشبّه مفاد هذا الحديث بمن يصعد في سيارة قاصداً نيشابور؛ فإذا تحركت نحو هذه المدينة فهو سيصل حتماً إلى هدفه، بخلاف ما إذا تحركت نحو طبس أو قوجان فمن المسلّم به أنه لن يصل إلى هدفه. ولنفترض أنها تحركت نحو نيشابور وهي الهدف المقصود فسوف يصل المسافرون إلى هدفهم على كلتا حالتين: حالة ظهور الآداب والأخلاق الحسنة بين المسافرين وهي الحالة الفضلى، وحالة سوء الخلق. والسيارة سوف تصل الهدف وإن كان قد حدث ما لا ينبغي حدوثه أثناء المسير، وطبيعي أن للخلق السئ دوافع وله آثار ونتائج ولكن على المسافرين أن يتحملوا كل هذا للوصول إلى هدفهم، خلافاً لحركة تلك السيارة التي ينبغي أن توصلك إلى نيشابور لكنها اتجهت نحو مسير آخر فلن تصل هذه السيارة بمسافريها إلى هدفهم وإن كانت الأخلاقية العالية تسودهم، لأن طلاقة الوجه والابتسامة والتعامل الأدبي الرزين والاحترام الوافر لن يغير من اتجاه حركة السيارة، إنما الذي يغير مسيرها ووجهتها هو قيام هؤلاء بوجه قائدها، فهؤلاء مؤدبون رحماء فيما بينهم لكنهم لن يصلوا إلى الهدف. في المثال الأول كان القائد أميناً مخلصاً إماماً من الله، لهذا فهو يوصلهم إلى أهدافهم وإن كانت بعض أعمالهم سيئة، وامام المجموعة الثانية لا يهتدي إلى طريق وليس خبيراً بمسيره وعابد لهواه ورأيه قد ضيع الطريق لعدم وعيه قدم هدفه على أهداف الآخرين، ولهذا فأتباعه لن يصلوا إلى هدفهم وإن كانوا فيما بينهم رحماء مؤدبون، وإن كانت في أعمالها برة تقية، فهم في النتيجة معذبون ولن يصلوا إلى الهدف الذي خلقوا من أجله. وعلى كل حال، فإن المجتمع الذي تحكمه ولاية الطاغوت كالسيارة التي يقودها سائق غير أمين، لن يصل هذا المجتمع إلى هدفه، لهذا لن يكون المجتمع مسلماً خالص الإسلام وهو يعيش في كنف ولاية الطاغوت، ولهذا يرد هذا التساؤل: ما الذي يلزم المسلمين فعله في مثل هذا الوضع؟
      وتجيب الآية القرآنية:
      {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}.
      والآن أحلل أجزاء هذه الآية:
      {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}، هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ومستقبلهم وكل طاقاتهم تخاطبهم الملائكة كما يخاطب الطبيب أو الجراح مريضه الذي لا أمل في شفائه: أين كنت وفي أي وضع أنت، مما يدل على أن الوضع الذي وصلوا إليه سئ غاية في السوء. وأنا أشعر أن الملائكة عجبوا من الوضع الهابط الذي وصل إليه هؤلاء ومن حالتهم النفسية المنهارة ومن العذاب الذي ينتظرهم، ولهذا قالوا لهم أين كنتم تعيشون وأي ظلم ألحقتموه بأنفسكم في دنياكم؟! قالوا كنا مستضعفين في الأرض لا نملك إرادتنا. والمستضعفون في المجتمع هم الذين سحقت إرادتهم وشلت فليس لهم إرادة في الخط الاجتماعي المرسوم ولا في المسير في هذا الخط ولا في الوقوف فيه ولا في تصحيح مسارهم، وليس لهم اختيار في أفعالهم فهم يسيرون وفق الخط الذي يرسمه واضعوه ومن غير معرفة بالوجهة التي يتحركون نحوها.
      افرضوا طفلاً صغيراً من طلاب المدرسة الابتدائية وليس له من العمر سبع سنوات، فإن عيون أبناء السبع هذه الأيام وآذانهم واعية تتلقى بصورة جيدة ولا يضلون الطريق، بل افرضوه ابن الأربع أو الخمس سنوات كالطفل الذي كان يوضع في الكتاتيب ليتعلم قراءة القرآن. ولا زلت أتذكر أنه عندما نخرج من المكتب على شكل مجموعة لم نكن نعلم أو نفهم إلى أين نذهب، ولكن ثمة مراقب معنا أكبر منّا سناً ويحمل بيده العصا هو الذي يحدد لنا الطريق، فيقول: سيروا في هذا الاتجاه أو ذاك، ونحن لا نعلم إلى أين ينتهي سيرنا، ولكن بعد ذلك نجد أنفسنا في بيوتنا بشكل يشبه المفاجأة. لو أراد المراقب أن يطوف بأولئك الصغار في الشوارع، فلا أحد منهم يشعر بما يجري، وسيكون له ما يريد.
      ومستضعفو الأرض هم أولئك الذي ليس لهم أي تأثير أو رأي في التيارات الاجتماعية وفي المناهج التي تسيّرها، كما أنهم لا يملكون إرادة في حركتهم الاجتماعية، لا يعلمون ماذا يجري، ولماذا يجري، وأين يجري، لا يعلمون أين هم والى أين يسيرون، لا يعلمون نقطة الشروع في حركتهم ولا نقطة الانتهاء، ولا يعرفون من هو الذي يقودهم في هذا التحرك ولا يعرفون كيف يقفون، ولو توقفوا فهم لا يعلمون ماذا يفعلون بعد هذا التوقف، لا يعرفون هذا أساساً ولا يلتفتون إليه ولا يثير انتباههم..
      ومن غير أن نشبههم تشبيهاً حقيقياً، نقول أنهم كالحصان الذي شدت عيناه فهو يحسب أنه يمشي في طريق طويل بينما هو يدور ويدور حول نقطة معينة، فلو قدر لهذا الحيوان أن يفهم لأوحى لنفسه أنه قريب من باريس، ولكن عندما يقرب وقت الغروب تفتح العصابة من عينيه ليرى نفسه في ذات المكان الذي كان فيه أول الصبح، فهو لا يدري أين ذهب، ولا يعلم إلى أين يتحرك. وطبيعي أن هذا مثال للمجتمع الذي لا يحكمه نظام عادل، بل يديره نظام لا يؤمن بأي قيمة للإنسان وإرادته وكرامته. لا يأتي هذا الكلام في مجتمع يقوده النبي (ص) حيث يخاطبه القرآن {وشاورهم في الأمر}، فمع أنه نبي ومعصوم لا يحتاج إلى مشورة الناس يأتيه الأمر بأن يشاور المسلمين ليشعرهم بعزتهم وكرامتهم وقيمتهم وشخصيتهم، مثل هذا المجتمع ليس فيه من لا يعي ولا يفهم ما يجري خلافاً للمجتمعات التي يتسلط فيها نظام فردي أو نظام استبدادي ظالم أو نظام جاهلي فإن أكثر أفرادها مستضعفون، وهؤلاء يقولون كنا مستضعفين في الأرض، نُقادُ ولا ندري إلى أين، كانوا يأخذوننا هنا وهناك، لقد جعلونا نرتكب السوء ونفعل القبيح ونحن لا نعلم. هذا هو تبرير المستضعفين، لكن الملائكة يجيبون {قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} هل ضاقت الأرض عليكم فليس فيها مساحة تسعكم غير البقعة التي كنتم فيها؟! وهل كان كل الناس يسكنون في تلك النقطة التي كنتم تستضعفون فيها؟! ألم تكن أرض الله واسعة حتى تخرجوا من ذلك السجن أحراراً طليقين؟! ألم تكن في هذه الارض الفسيحة نقطة حرة من سلطة الجبارين تذهبون إليها لتعبدوا الله فيها وتصرفوا طاقاتكم بالطريقة الصحيحة وفي المسير الصحيح؟! ألم تكن ثمة نقطة لا يسودها الاستضعاف في كل أنحاء الأرض الواسعة؟! وإجابة الملائكة هذه تنسجم تماماً مع المنطق العقلاني المقبول، وهذا ما يدركه عقل الإنسان، ومن الطبيعي أنه ليس لأولئك إجابة مقبولة، ولهذا يعقب القرآن {فأولئك مأواهم جهنم} بما وهبوا للطاغوت من الطاقات {وساءت مصيرا}. وهناك استثناء من إطلاق الأمر بالهجرة وعمومه حيث لا يمكن للجميع أن يهاجروا وينقذوا أنفسهم من قيود النظام الجاهلي، فهناك العاجزون والطاعنون في السن والأطفال والنساء اللواتي لا يمكنهن القيام بهذا العمل، ولهذا فهذه الطوائف مستثناة.
      {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا} ولا يعرفون نقطة مضيئة يحكمها الإسلام وتسودها عبودية الله {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم}. لاحظوا جملة التمني وأداتها "عسى" {وكان الله عفواً غفوراً}.
      وبعد أن أُلقيت الحجة على المستضعفين بوجوب الهجرة، يدفع القرآن تصور من يتخيل أن الهجرة تسبب الشقاء والحرمان والضرر، ويتسائل في كل حين عن عواقب الهجرة وعن إمكان هذه الهجرة، وعن احتمال وجود منطقة لا يحكمها الطاغوت. من أجل دفع كل هذه التخيلات والتصورات، يقول القرآن الكريم:
      {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة}. انظروا كيف يحلق الإنسان في آفاق الأرض وكيف يطوي من مساحات وكيف تنفتح أمامه الآفاق، ونفس هذا الإنسان كان يطمح تحت حاكمية النظام الجاهلي إذا اراد أن يطمع بفكره نحو أعلى وأوسع الآفاق فهو يفكر في سطح السقف الذي يظله، سطح القفص الذي سجنه وحبسه، أما الآن فإن الآفاق الوسيعة الشاسعة منفتحة أمام ناظريه.
      ويوم كان المسلم يعيش في مكة في أيام الإسلام الأولى كان أقصى ما يطمح إليه وأوسع الآفاق التي يحلم بها أن يدخل المسجد الحرام ويصلي فيه ركعيتن وهو يواجه حدة قريش وشدتها، وما أن ينتهي من صلاته حتى يتلقى الضربات والصفعات..
      أما بعد الهجرة إلى الأفق الوسيع والأرض غير المستضعفة، إلى المجتمع الإسلامي الذي يعيش الولاء لله ورسوله فسيرى المهاجر عجباً؛ فالمسلمون {يسارعون في الخيرات}، والآية تحدد ميزان التفاضل بين أفراد المجتمع الإسلامي؛ فالذي يتحرك في سبيل الله أكثر ويتعبد له ويكدح في سبيله ويجاهد لإعلاء كلمته وينفق على عباده في سبيله هو الأكثر عزة وفضلاً وإيماناً، وفي مجتمع الأمس في مكة كان جزاء إنفاق درهم واحد في سبيل الله، الكي بالنار والتعذيب بالإحراق، ولكن المسلم يجد مراغماً كثيراً وفرصاً عظيمة للعمل الصالح وآفاقاً واسعة يحلق فيها بعد الهجرة في سبيل الله وإليه والوصول إلى المدينة المنورة.
      {ومن يهاجر في سبيل الله} ويتوجه نحو المجتمع الإسلامي {يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة}، ومن يخرج مهاجراً من دار الكفر إلى دار الإسلام متخذاً سبيل الله سبيلاً ومنهجه منهجاً ويمت وهو في دار الهجرة، فماذا يكون مصيره؟
      والإجابة القرآنية أن أجره على الله لأنه أدى وظيفته ووفى، حيث كانت الحركة والهجرة مسؤوليته وقد أداها، وقدم ما في وسعه من جهد، وهذا ما يريده الإسلام، أن يتحرك الإنسان لله وفي سبيله بمقدار استطاعته وقدرته. {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً}.
      وهذا المبحث لم يتم بعد وبقي على النصف، وهذه المقالة هي آخر بحث الولاية، ولكننا نشير إلى هذه الملاحظة وهي أنه في حالة عدم وجود دار للهجرة، فماذا يعمل الإنسان تجاه مسؤوليته بالانتقال من دار الكفر، والهجرة عن ولاية الطاغوت والشيطان إلى دار ولاية الله والنبي والإمام أو الولي الإلهي؟
      وثمة احتمالات: أن يبقى في دار الكفر، أو أن يكفر في تأسيس وبناء دار للهجرة.
      وهناك هجرات يبتدأها بعض الناس وتكون نقطة انطلاق لهجرات موسعة، وتصير أساساً لبناء المجتمع الإسلامي، وعندها تبنى دار الهجرة وتبدأ أفواج المؤمنين بالمهاجرة إليها. هذا ما يعود إلى بحث الهجرة.
       
      خلاصة المقالة السادسة
      ولاية الطاغوت والشيطان في النظام الجاهلي والطاغوتي تربط المؤمن وتقيده بآلاف القيود والعلاقات بمركز القدرة الطاغوتية وتحاصره في شبكة النظام الجاهلي غير المرئية، فتسلبه حريته وتدفعه من غير اختياره نحو النهاية التي تنتظر ذلك النظام وتمنعه من توظيف طاقاته في سبيل الله، وعلى ضوء المنهج الذي رسمه الإسلام وهذا الواقع الذي لا يقبل التخلف أو الاستثناء يطرح أمامنا مسألة الهجرة. والهجرة هي الفرار من قيود النظام الجاهلي والوصول إلى المحيط الإسلامي الحر الطليق، حيث تقترب كل الدوافع الإنسانية من الأهداف التي يحبها الله، وحيث تسير الحركة الطبيعية للمجتمع نحو التكامل والسمو الفكري والروحي والمادي.
      وهناك حيث تنفتح الطرق المشرقة الصالحة، وتنغلق أبواب الشر والسوء، هناك حيث المجتمع الإسلامي، إذن يترتب على أصل الولاية وجوب الهجرة، وتكون الهجرة من المسؤوليات الفورية والضرورية للمؤمنين، وعندها يضع المؤمنون خطاهم في أرض تحكمها ولاية الله.
      {ودٌوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء} في الكفر{فلا تتخذوا منهم أولياء}
      {حتى يهاجروا في سبيل الله} فيخرجون من مساندة الشرك والطاغوت {فإن تولوا} بقوا على تلك المساندة {فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم}
      {ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً}(46).
      {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله}
      {والذين آووا ونصروا}
      {أولئك بعضهم أولياء بعض} تسودهم المحبة والتعاون
      {والذين آمنوا ولم يهاجروا}
      {ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا}
      {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} لأنهم تحركوا من أجل دينكم
      {إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق}
      {والله بما تعملون بصير}
      {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض}
      {ألا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}
      {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله}
      {والذين آووا ونصروا}
      {أولئك هم المؤمنون حقاً}
      {لهم مغفرة ورزق كريم}(47).
      {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}
      {قالوا فيم كنتم}
      {قالوا كنا مستضعفين في الأرض}
      {قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}
      {فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً} لأنهم ذلوا أنفسهم وفقدوا عزتهم ولم يهاجروا
      {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان}
      {لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً}
      {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم}
      {وكان الله عفواً غفوراً}
      {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة}
      {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله}
      {ثم يدركه الموت}
      {فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً}(48).
       
      أسئلة المقالة السادسة
      1 ـ ماذا تعني الهجرة، وأي علاقة لها ببحثنا، وبأي مسألة ترتبط؟
      2 ـ لماذا يلزم الإنسان بالفرار من الطاغوت والشيطان؟
      3 ـ هل يمكن أن يعيش المسلم محافظاً على إسلامه في كنف الطاغوت؟
      4 ـ ما هي أهم المميزات البارزة لولاية الله، وما الذي تمنحه للمجتمع؟
      5 ـ هل تكمن سمة الولاية الإلهية في تحريك الفرد والمجتمع وتوجيه طاقاتهما في المنهج الإسلامي؟
      6 ـ من هم المستضعفون؟
      7 ـ هل أن الهجرة ضرورية مع وجود دار للهجرة وأخرى للإيمان، وهل أن المؤمنين مكلفون بإيجاد دار للإيمان لو لم تكن ثمة دار للإيمان؟
      8 ـ احفظ الآيات 97 ـ 100 من سورة النساء، واشرح خلاصة المقالة السادسة على هدي هذه الآيات.
      والحمد لله رب العالمين


        42 ـ سورة المائدة، الآية: 55.
         43 ـ سورة القصص، الآية: 41.
         44 ـ سورة إبراهيم، الآية: 28.
         45 ـ أصول الكافي ج 1 ، ص 36. كتاب الحجة، باب من دان الله عز وجل بغير إمام من الله جل جلاله.
         46 ـ سورة النساء، الآيتان: 88 ـ 89.
         47 ـ سورة الأنفال، الآيات: 72 ـ 74.
         48 ـ سورة النساء، الآيتان: 99 ـ 100.

  • المواعظ الحسنة
  • حقوق الإنسان في الإسلام
  • قيادة الإمام الصادق (عليه السلام)
700 /