حياة النبي الأكرم (ص) رغم أن اليوم يصادف ذكرى ميلاد موسى بن جعفر (عليه الصلاة والسلام) وكان من المناسب أن نعبّر في الخطبة الأولى عن حبّنا ووفائنا لهذه الشخصية العظيمة، إلا أننا وجدنا أننا لم نوفِّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حقه المفروض في خطبنا وأحاديثنا وأن الوجه المنير لدرة تاج الخليقة وجوهر وحدانية عالم الوجود لم يتضح للكثيرين كما ينبغي سوى ما يخص سيرته وحياته أو خُلقه وسلوكه وسياسته، فأردت أن أعرض في خطبةٍ جوانب من شخصيته العظيمة بقدر ما يتيحه الوقت، ولاسيّما ونحن في شهر صفر، ولكنني خشيت ضياع الفرصة وعدم التمكّن من التعبير عن الاخلاص اللازم نظراً لما تنطوي عليه هذه الشخصية السامية من أبعاد واسعة، فقررت أن أتحدث اليوم وفي هذه الخطبة حول حياة وملامح هذه الشخصية المقدسة. إن نبي الإسلام المكرّم، وفضلاً عن مناقبه المعنوية وخصاله النورانية واتّصاله بعالم الغيب وما يتميز به من درجات ومراتب يعجز أمثالي عن إدراكها، فإنه كبشر وكإنسان يعتبر شخصية ممتازة من الطراز الأول لاندّ لها ولا نظير. لقد سمعتم الكثير حول أمير المؤمنين، وهذا يكفي للقول بأن أبرز شيء في شخصيته أنه كان تلميذاً وتابعاً للرسول (ص). إن نبينا الأكرم (ص) يتصدّر قائمة الأنبياء والأولياء بشخصيته العظيمة وحلمه اللامتناهي وخُلقه الفريد، ممّا يوجب علينا نحن المسلمين الاقتداء به امتثالاً لقوله تعالى: {لكم في رسول الله أسوة حسنة} ليس فيما نؤديه من صلوات معدودة فحسب، بل في سلوكنا أيضاً وأقوالنا وحسن عشرتنا ومعاملتنا، وهو ما يستدعي منّا حقّ المعرفة له.
مرحلة الصبا لقد ربّى المولى سبحانه وتعالى نبيّه الأكرم (ص) وأدّبه روحيّاً وأخلاقيّاً بما يجعله قادراً على حمل تلك الأمانة الكبرى. وما علينا سوى إلقاء نظرة عامة على حياة النبي الأكرم (ص) في طفولته؛ لقد رحل والده عن الدنيا قبل ميلاده طبقاً لإحدى الروايات، أو بعد ميلاده ببضعة أشهر طبقاً لرواية أخرى، فلم يره. وكان من تقاليد العوائل النبيلة والأصيلة في الحجاز آنذاك أن تتخيّر لأبنائها من السيدات العفيفات والأصيلات والشريفات من ترضعه وتقوم بتربيته في أوساط القبائل العربية في البادية. فكان هذا الوليد العزيز من نصيب سيدة أصيلة وشريفة من قبيلة بني سعد تسمى “حليمة السعدية”، فأخذته حيث تعيش قبيلتها، وظلت نحو ستة أعوام ترضعه وتربّيه، حتى نشأ النبي (ص) وشبّ عن الطوق في البادية. وكانت حليمة تأخذه أحياناً إلى أمّه ـ السيدة آمنة ـ لتراه، ثم ما تلبث أن تعود به إلى حيث كانت تعيش. وبعد ستة أعوام، ولما صار هذا الصبي في حالة ممتازة من النمو الجسمي والروحي، وبات قوي البنية، جميلاً، ونشيطاً، ونبيهاً، وبرزت فيه صفات الصلابة والصبر وحسن الخلق والسلوك وسعة الأفق، والتي هي من لوازم الحياة في تلك الظروف، فإن السيدة حليمة أعادته إلى أمّه وقبيلته. وعندئذ أخذته أمّه إلى يثرب لزيارة قبر أبيه عبدالله الذي مات ودفن هناك. حتى إن النبي (ص) لمّا جاء إلى المدينة المنورة بعد ذلك قال لدى مروره بذلك المكان: هاهنا قبر والدي، ومازلت أتذكر أنني كنت قد قدمت مع أمي إلى هنا، غير أن أمّه توفيت أيضاً في طريق عودتهما من يثرب في مكان يدعى “الأبواء” فغدا هذا الصبي يتيم الأب والأم. وبهذا أخذت روح الصبي في النضج والنمو يوماً بعد آخر وهو الذي سيصبح عليه أن يربّى البشرية على صفاته وخصاله الأخلاقية ويأخذ بيدها نحو التقدم في غد الأيام. وفي تلك الأثناء عادت به أم أيمن إلى مكة وسلّمته إلى جده عبد المطلب الذي ظل يسبغ عليه من عطفه ورعايته حتى إنه لَيقول في شعر له ما معناه أنه له بمنزلة الأم من الولد. ولقد كان هذا الشيخ العجوز البالغ من العمر نحو مائة عام ـ والذي كان رئيساً لقريش مع ما له من شرف وعزة ـ يحنو على هذا الصبي بكل ما لديه من عطف ومحبة فشبّ سويّاً دون أن يشعر بمرارة اليتم وافتقاد حب الوالدين. والمدهش في الأمر أن هذا الصبي شب يتيماً وتحمل متاعب فقدان الوالدين حتى تتكامل شخصيته وتنمو كفاءاته دون الشعور بأدنى قدر من النقص الذي يمكن أن يصاب به بعض الأبناء في مثل هذه الأحوال. لقد كان عبد المطلب شديد الحب له والتقدير ممّا أثار دهشة الجميع. وتروي كتب التاريخ والحديث أن عبد المطلب كان يُبسط له فراش وتوضع له وسادة بجوار الكعبة فيجتمع حوله أبناء وشباب بني هاشم في تبجيل واحترام. وعندما كان عبد المطلب يغادر المكان أو يدخل إلى الكعبة فإن ذلك الصبي كان يجلس على الفراش متّّكئاً على الوسادة. وما إن يعود عبد المطلب حتى يطلب شباب بني هاشم من الصبي فسح المجال للأب الشيخ، ولكن عبد المطلب كان يقول لهم: دعوه، فإن هذا مكانه الذي ينبغي له الجلوس فيه، فكان يجلس بجواره دون أن ينحّيه عن مجلسه وهو يوليه المزيد من العزة والشرف والتبجيل. ولكن عبد المطلب توفي هو الآخر بينما كان الصبي مازال في الثامنة من عمره. وجاء في الروايات أن عبد المطلب أخذ العهد من ابنه أبي طالب ـ وهو من أعز أبنائه وأرفعهم درجة لديه ـ وأوصاه خيراً بالصبي قبيل وفاته، طالباً منه أن يعامله كما كان يعامله ويحميه كما كان يحميه، فقبل أبوطالب ذلك وعاد به إلى منزله وهو يحنو عليه كفلذة كبده ويرعاه بكل وجوده. وظل أبو طالب وزوجته ـ فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين ـ يوليان هذه الشخصية الرفيعة الكثير من الحماية والعون كما والديه طوال نحو أربعين عاماً. وفي مثل هذه الظروف أمضى النبي الأكرم (ص) فترة صباه وشبابه. إن كل الخصال الأخلاقية المتعالية والشخصية الإنسانية الكريمة والصبر والتحمل الشديد والاندكاك بالآلام والشدائد التي يمكن أن تلمّ بالإنسان في طفولته مهدت لتشكيل الشخصية السوية العظيمة والعميقة في هذا الطفل؛ لقد اختار النبي (ص) أن يرعى غنم أبي طالب في عهد صباه، فكان هذا من العناصر التي كوّنت شخصيته. كما اختار هو بنفسه في تلك السن أن يرافق عمّه أبا طالب في تجارته خارج مكة، وقد تعددت أسفاره في التجارة حتى بلغ سن الشباب والزواج بالسيدة خديجة والوصول إلى سنّ الأربعين عندما نزل عليه الوحي.
أخلاق النبي الأكرم (ص) لقد اجتمعت فيه كافة صفات الإنسان الكامل، ولسوف أتحدث عن جانب من مميزاته الأخلاقية باختصار إلاّ أن المرء يحتاج إلى ساعات وساعات ليدخل إلى العالم الأخلاقي الذي تفرد به الرسول (ص). ولهذا فإنني سوف أقتصر الدقائق التالية على الحديث في هذا الموضوع بغية التعبير عن إخلاصي، وحتى أكون قد عرضت على الخطباء والكتّاب بشكل عملي ضرورة بذل المزيد من الجهود لمحاولة الإحاطة بأبعاد شخصية النبي (ص) والتي تمثل بحراً عميقاً. إن العديد من الكتب والمؤلفات تزخر بالقدر الوافر من الحديث حول أخلاق النبي الأكرمپپپپ(ص)؛ والذي سأورده هنا اقتباس من مقالة لأحد العلماء المعاصرين ـ وهو المرحوم آية الله الحاج السيد أبو الفضل الموسوي الزنجاني ـ بصورة مختصرة ومفيدة. دعونا نقسّم أخلاق النبي باختصار إلى “أخلاق شخصية” و”أخلاق حكومية”، أي أخلاقه كإنسان وأخلاقه ومميزاته وسلوكه كحاكم. وهذا بالطبع غيض من فيض، لأن شخصيته تشتمل على الكثير من المميزات البارزة والجميلة والتي ليس بوسعي الآن إلاّ الاقتصار على بعضها.
الأخلاق الشخصية لقد كان النبي (ص) رجلاً أميناً وصادقاً وصبوراً وحليماً، كما كان شهماً وحامياً للمظلومين على الدوام؛ فمن حيث الصدق كان سلوكه مع الناس قائماً على الصدق والإخلاص والوفاء. كما كان طيّب القول، وكان يتجنب الإساءة والتجريح. وكان عفيفاً ومعروفاً لدى الجميع بالعفّة والحياء والنجابة في ذلك الجوّ الأخلاقي الفاسد الذي كان يخيم على الحجاز قبل الإسلام، فلم يقترب الخبائث في مرحلة شبابه. ثم إنه كان من المتميزين بنظافة الظاهر، حيث كان نظيف الملبس والرأس والوجه، وامتاز بحسن السلوك. كما كان النبي (ص) شجاعاً لا تفتّ من عضده كثرة العدو، وكان صريحاً لا يقول إلاّ الصدق، وكان زاهداً وحكيماً في حياته، كما كان رؤوفاً متسامحاً كريماً يتجنب الثأر والانتقام، وكان من صفاته الرحمة والمداراة، كما كان ذا أدب جمّ لا يمدّ رجله أبداً في محضر الآخرين ولا يسخر منهم. كما كان الحياء صفته، فكان يستحي من ملامة الناس ويطأطئ رأسه خجلاً وحياءً، ومواقفه في ذلك تشرق بها صفحات التاريخ. وكان رحيماً وغايةً في التسامح والعبادة. وكانت كل هذه الخصال متجسّدة في شخصية الرسول الأكرم (ص) في شتى مراحل حياته منذ صباه وحتى وفاته في الثالثة والستين من عمره. وسأبسط الحديث في بعض هذه الخصال. لقد كان شديد الأمانة حتى لقّبه الناس في الجاهلية بلقب “الأمين” فكانوا يودعون لديه أماناتهم المهمة وهم على ثقة بردّها إليهم دون إصابتها بسوء. لدرجة أنهم كانوا يحفظون أماناتهم عنده حتى بعد بداية الدعوة الإسلامية وتأجج نار العداء والبغضاء مع قريش، وهم أعداؤه! ولهذا فإنكم سمعتم بأن الرسول (ص) ترك أمير المؤمنين في مكة عند هجرته إلى المدينة لكي يؤدّي للناس أماناتهم. ومن المعروف أن بعض الكفار والذين ناصبوه العداء كانوا قد استأمنوه على أموالهم حينذاك مع أنهم لم يُسلموا..! لقد كان النبي (ص) شديد التحمل لدرجة أن الآخرين كانوا يغضبون عند سماع ذلك، وهو الذي لا تنال منه الشدائد ولا تستفزّ غضبه. وكان الأعداء يؤذونه في مكة لدرجة أن أبا طالب استشاط غضباً منهم وجرّد سيفه ذات مرة وتوجّه إليهم مع أحد مواليه وفعل بهم ما فعلوه مع رسول الله (ص) وتهدّد كلّ من يعترض سبيله بضرب عنقه، بينما كان النبي (ص) قد تحمل كل ذلك بحلم وأناة. وذات يوم آخر وجّه إليهپأبو جهل إهانة شديدة إثر نقاش حادّ بينهما، فقابلها الرسول (ص) بالحلم والسكوت. وعندما أخبر أحدهم حمزة قائلاً بأن أبا جهل أساء إلى ابن أخيك فإنه تميّز غيظاً وقصد أبا جهل فضربه بالقوس على رأسه حتى شجّ رأسه، ثم أسلم حمزة بعد ذلك جرّاء هذا الحادث. وأمّا بعد الإسلام فقد كان بعض المسلمين يوجّه إلى الرسول (ص) أحياناً كلمات تؤذيه غفلةً أو جهلاً فيما يخص بعض الأمور، لدرجة أن إحدى أزواجه ـ وهي زينب بنت جحش التي كانت من أمّهات المؤمنين ـ خاطبته بالقول: إنك نبي ولكنك لا تعدل! فابتسم النبي (ص) دون أن يعقّب.. فقد كانت تنتظر منه أمراً في الحياة الزوجية دون أن يجيبها إليه، وهو ما يمكن أن أشير إليه فيما بعد. كما كان البعض يأتون أحياناً إلى المسجد فيمدّون أرجلهم قائلين للرسول (ص): قلّم لنا أظفارنا! ـ حيث جاء الحث على تقليم الأظافر ـ ولكن الرسول (ص) كان يتحمل كل هذا التجاسر وسوء الأدب بحلم تام. وأمّا نبله وشهامته فقد وصلت إلى الحد الذي يعفو فيه عن أعدائه. كما كان لا يرى مظلوماً إلا وهبّ للدفاع عنه حتى يستردّ حقّه. ففي الجاهلية كان النبي (ص) شريكاً في حلف يُدعى “حلف الفضول” وهو غير ما كان بين أهل مكة من تحالفات أخرى كثيرة؛ إذ جاء رجل غريب وباع تجارته في مكة لرجل منپأهلها يسمّى “عاص بن وائل” الذي كان من أشراف مكة المتغطرسين دون أن يعطيه ثمن ما اشتراه. وكلّما قصد الرجل واحداً من أهل مكة عجز عن مساعدته في أخذ حقّه. فوقف على جبل “أبي قبيس” وصاح قائلاً: يا أبناء فهر، لقد ظُلمت! فلمّا سمع الرسول (ص) هو وعمه الزبير بن عبدالمطلب استغاثة المظلوم انضمّا إلى الجمع الذي قرر نصرته والدفاع عنه كي يستعيد حقّه، فذهبوا إلى “عاص بن وائل” وطالبوه بمال الرجل، فخشي بطشهم وأعطى للرجل ماله. وظلّ هذا الحلف قائماً، إذ قرر أعضاؤه نصرة كل غريب يعتدي عليه أهل مكة ـ الذين كانوا غالباً ما يظلمون الغرباء من غير أهل مكة ـ والدفاع عنه حتى أخذ حقّه. وحتى بعد مجيء الإسلام بسنوات طويلة كان الرسول (ص) يقول إنني مازلت أعتبر نفسي ملتزماً بذلك الحلف. وكم كان يعامل أعداءه المقهورين بسلوك لم يكونوا قادرين على فهمه وإدراكه؛ ففي السنة الثامنة للهجرة، وعندما دخل النبي (ص) مكة فاتحاً بكل عظمة واقتدار فإنه قال: “اليوم يوم المرحمة” ولم يثأر من أهلها. وهذه هي شهامته صلى الله عليه وآله وسلم. كما كان الرسول (ص) معتمداً حيث كان يعمل بالتجارة في الجاهلية ـ كما ذكرنا ـ وكان يسافر إلى الشام واليمن ويسهم في قوافل التجارة ويشارك الآخرين. ويقول أحد الذين شاركوه في زمن الجاهلية لقد كان أفضل شريك لي، فلم يكن يعاند ولا يجادل ولا يلقي بعبئه على كاهل الآخرين، ولا يتعامل مع الزبائن بسوء، ولا يبيع لهم بثمن باهظ، ولا يكذب عليهم؛ فقد كان صادقاً أميناً. ولهذا أعجبت به السيدة خديجة وهي السيدة الأولى في مكة وكانت شخصية بارزة في الحسب والنسب والثراء. كما كان نظيفاً في طفولته على عكس الكثيرين من أطفال مكة والقبائل العربية، فقد كان نظيفاً حسن الهندام منذ طفولته. كان يمشط شعره أثناء فتوته وكذلك في شبابه كان يمشط شعره ولحيته، وحتى بعد الإسلام. عندما جاوز مرحلة الشباب وبلغ الخمسين أو الستين من عمره فإنه ظلّ ملتزماً بنظافته حتى إنه كان دائماً ما يسوّي لحيته وشاربه وشعره كلّما طال ويحافظ عليه نظيفاً ومعطّراً. وقد قرأت في إحدى الروايات أنه كان لديه إناء في ماء في بيته، حيث لم تكن المرآة واسعة الانتشار آنذاك، وأنه “كان يسوّي عمامته ولحيته إذا أراد أن يخرج إلى أصحابه”. ودائماً ما كان معطّراً، حتى في أسفاره، فمع أنه كان زاهداً في حياته ـ كما سأبيّن فيما بعد ـ إلاّ أنه كان يحمل معه العطر والكحل حتى يكحل عينيه على ما كان سائداً بين الرجال في ذلك الزمان. كما كان يستخدم السواك مرات عديدة كل يوم، ويدعو الناس إليه. ويحثهم على النظافة وحسن الظاهر. إن البعض يخطئون عندما يظنون بأن المظهر الحسن لابدّ وأن يكون مقترناً بالفخامة والإسراف. كلاّ، فبوسع المرء أن يرتدي لباساً مرقّعاً مع الحفاظ على الهندام الحسن والنظافة. لقد كانت ملابس رسول الله (ص) مرقّعة وقديمة ولكنها كانت نظيفة كرأسه ووجه ولحيته. وإن لمثل هذه الأمور تأثيراً كبيراً في العشرة والسلوك والشكل الظاهري والحالة الصحية. وإنها أمور تبدو وكأنها صغيرة في ظاهرها ولكنها كبيرة في معناها ومضمونها وباطنها. وكان يعامل الناس معاملة حسنة؛ فقد كان دائماً طلق الوجه أمام الناس، ولم يكن يبدي لهم ما يعتمل صدره من هموم وأحزان. كما كان يسلّم على الجميع، وعندما كان يؤذيه أحد، فإنه لم يكن يشتكي مع ظهور آثار ذلك الأذى على ملامحه. وكان لا يسمح لأحد أن يسبّ الآخرين في مجلسه، ولم يكن هو نفسه يسبّ أحداً أو يتحدث بما يسيء الآخرين. وكان يداعب الأطفال، ويعطف على النساء، ويحنو على الضعفاء، ويمازح أصحابه ويجاريهم في سباق الخيل. وكان فراشه ووسادته جلداً محشوّاً بألياف النخيل. وكان أغلب طعامه خبز الشعير أو التمر. ولقد كتبوا بأنه لم يُشبع بطنه أبداً من خبز القمح ـ الأطعمة المنوّعة على مختلف ألوانها ـ. وتقول عائشة أم المؤمنين: ربما كان يمرّ الشهر ولا يرتفع لنا دخان. وكان النبي (ص) يركب الدابة بلا سرج ولا ركاب، وفي زمن كان القوم يتفاخرون بالخيل المطهمة ذات الأثمان الغالية كان يمتطي الفرس العادي، وكان متواضعاً، حيث كان يصلح نعله بيده ويرقعه بنفسه. وهذا ما كان يفعله تلميذه البارز أمير المؤمنين (عليه السلام) كما نُقل عنه كثيراً في الروايات. ومع أنه كان لا يرى غضاضة في كسب المال عن طريق الحلال وكان يقول: “نعم العون على تقوى الله الغنى” إلا أنه كان يتصدق على الفقراء بكل ما يصل إليه من مال، وكان قدوة في العبادة لدرجة أن قدميه كانتا تتورمان من طول الوقوف في محراب العبادة. وكان يقضي القسم الأكبر من الليل في العبادة والتضرع والبكاء والاستغفار والدعاء ومناجاة الله تعالى. وكان يصوم شهري رجب وشعبان فضلاً عن شهر رمضان في ذلك الحرّ القائظ، إضافة إلى الكثير من أيام السنة كما سمعنا. وعندما كان أصحابه يقولون له: يا رسول الله، لماذا كل هذا الدعاء والاستغفار والعبادة وقد غفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟! فإنه كان يجيب “أفلا أكون عبداً شكوراً”؟! وكانت استقامته (ص) بلا نظير في تاريخ البشرية، وهو ما جعله قادراً على ترسيخ هذا الكيان الإلهي الخالد والعظيم. وهل كان ذلك ممكناً بلا استقامة؟! فباستقامته بات واقعاً ملموساً؛ لقد ربّى أصحابه الكبار وأعدّهم باستقامته. ورفع عماد فسطاط المدينة الإنسانية الخالدة وسط صحراء الحجاز المقفرة {فلذلك فادع واستقم كما أُمرت}. فهذه أخلاقيات الرسول (ص) الشخصية.
الأخلاق الحكومية وأما خُلُقه كحاكم، فقد كان عادلاً ومدبّراً؛ فالذي يقرأ تاريخ هجرته إلى المدينة، وتلك الحروب الشعواء بين القبائل، وتلك الغزوات الوحشية القبلية، وإخراج العدو من مكة إلى الفيافي، وتلك الضربات المتوالية، وذلك الصراع مع العدو المعاند، فإنه سيلاحظ مدى ما كان يتّصف به من تدبير شديد وحكيم وشامل بما يبعث على الدهشة، ممّا لا مجال لديّ الآن للاسهاب فيه. كان (ص) شديد الرعاية والحفاظ على القانون، ولم يكن يدع أحداً ينقض أحكام الشريعة أو يفرّط بالقانون، فضلاً عن نفسه، وكان يعتبر نفسه خاضعاً للقانون كما ينصّ القرآن على ذلك، فكان يطبق القانون على نفسه كما يطبقه على من هم سواه بلا أدنى تجاوز. وعندما غزا المسلمون بني قريظة فأسروا رجالهم وقتلوا خائنيهم وغنموا أموالهم ومتاعهم، فإن بعض أمّهات المؤمنين ومنهن زينب بنت جحش، وعائشة، وحفصة، قلن للنبي (ص): يا رسول الله، لقد غنمنا كل هذه الأموال من اليهود فاجعل لنا نصيباً فيها، إلاّ أنه لم يذعن لقولهن مع حبه واحترامه لهن، ومع أن أحداً من المسلمين لم يكن ليعترض عليه. فلمّا زاد إلحاحهنّ فإنه (ص) اعتزلهنّ شهراً كاملاً على غير ما يُتوقع منه. ثم لم يلبث أن نزلت آيات سورة الأحزاب الشريفة {يا نساء النبي لستنّ كأحد من النساء}. {يا أيّها النبيّ قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكنّ وأسرحكنّ سراحاً جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعدّ للمحسنات منكن أجراً عظيماً}. فدعاهنّ الرسول (ص) إلى الزهد واحترام القانون. ومن خلقه أيضاً كحاكم (ص)، انه كان يرعى العهود، ولم ينقض عهداً له أبداً. وعندما نقضت قريش عهده فإنه ظل راعياً له، وكذلك كان الحال مع اليهود الذين نقضوا عهده غير مرة. كما كان (ص) حافظاً للسر؛ فعندما خرج لفتح مكة فإنه لم يُعلِم أحداً بوجهته، فعبّأ الجيش بأجمعه ثم أمرهم بالخروج. وعندما سألوه: إلى أين؟ فإنه أجابهم: سيتضح ذلك فيما بعد. فلم يُخبر أحداً بأنه قاصد مكة، لدرجة أن أهل مكة لم يعلموا بقدومه حتى اقترابه منها! ومن أهم مميزات سيرة النبي (ص) أنه لم يكن ينظر إلى أعدائه نظرة واحدة؛ فالبعض كانوا له أعداءً ألدّاء، لكنه كان لا يمسّهم بسوء إذا لم يجد منهم خطراً. وأمّا الذين كان يلمس خطراً فيهم فإنه كان يراقبهم ويقف منهم على حذر كعبد الله بن أُبيّ. فلقد كان عبد الله بن أبيّ منافقاً من الطراز الأول، وكان يتآمر على الرسول (ص)، لكنّ الرسول (ص) اكتفى بوضعه تحت الرقابة حتى آخر حياته. وقد مات ابن أبيّ قبل وفاة النبي (ص) بفترة وجيزة، لكنه (ص) تحمله حتى النهاية. لقد كان أولئك من الذين لا يشكلون خطراً شديداً على النظام والحكومة والمجتمع الإسلامي، ولكنه (ص) كان شديداً على من يشكلون خطراً جسيماً. إن ذلك الرجل الرحيم المتسامح هو الذي أمر بقتل الخائنين من بني قريظة ـ وكانوا عدة مئات ـ في يوم واحد، وهو الذي أخرج بني النضير وبني قينقاع وفتح خيبر، وذلك لما كانوا يمثلونه من خطر. لقد عاملهم الرسولپپپ(ص) برفق لدى قدومه إلى المدينة، لكنهم خانوه وطعنوه من الخلف وتآمروا عليه وهدّدوه. إن الرسول (ص) تحمل عبد الله بن أبيّ، وتحمل يهود المدينة، وفتح صدره لمن استجار به ومن لم يؤذِه من قريش، كما عفا عن أهل مكة عند الفتح وفيهم أبو سفيان وأمثاله من كبار رجال مكة، حتى إنه أعطى بعضهم شيئاً من الامتيازات لأنهم لم يعودوا يشكلون خطراً. ولكنه مع ذلك تعقّب فلول الأعداء الألدّاء الذين لمح فيهم الغدر والخطر والخيانة وقمعهم بشدّة. وقد كان هذا خلقه (ص) كحاكم وقائد؛ فكان شديداً على الكفار رحيماً بالمؤمنين، وخاضعاً ومطيعاً لأمر الله وعبداً له بمعنى الكلمة، وكان حريصاً على مصالح المسلمين.. ولم يكن ما تقدّم سوى خلاصة من أخلاقه (ص). اللهم إنّا نسألك وندعوك أن تجعلنا من أمّة محمد (ص). اللهم وأحينا وأمتنا على محبته، وأرنا وجهه الشريف والمنير يوم القيامة، وارزقنا العمل بوصاياه والتشبّه بخُلقه، واجعلنا من أتباعه المخلصين والعارفين الحقيقيين لقدره ومنزلته.