إن علينا واجبات عامة، سواء أ كان ذلك بصفتنا دولة وحكومة أو على المستوى الفردي بصفتنا أشخاصاً مسلمين، ولكن هذه الواجبات لها أساس فكري وتتمتع بخصوصية الفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية والدينية. فإذا ما ناقشنا قضايا من قبيل الحرية، والسلوك الاجتماعي المتحرر، والارادة الشعبية، أو سواها من السياسات العامة، فلابد وأن نعلم بأن لكل منها مبنى وأساساً؛ فلو سئلنا لماذا يحق للناس التصويت؟ فلابد وأن نأتي بدليل فكري ومنطقي ونوضح السبب. إن كل ما يدور في مجال التخطيط ويعطي للبرامج والمشاريع ملامحها الأساسية يتصل مباشرة برافد الفكر الإسلامي، ووجهة النظر الإسلامية، والانطباع الإسلامي، وكل ما يمثل ويجسّد إيماننا وعقيدتنا وديننا، فعلينا أن نوضح وظائفـنا وواجباتنا ونشخّصها طبقاً لهذا الانطباع ثم نقوم بأدائها. فما هو هذا المبنى الفكري؟ إن علينا أن نبدأ من هنا باختصار شديد؛ أي من الخطوط الحقيقية لانطباع الإسلام ووجهة نظره حول الكائنات، والعالم، والإنسان. ولعل هذا لا يقتصر على الإسلام فحسب، بل إنه ينسحب أيضاً على كافة الأديان ـ إذا لم تكن قد مُنيت بالتحريف ـ حيث لا تكاد تخرج جميعاً عن هذا في مبناها الصحيح وأصولها الحقيقية. إلا أن الإسلام مازال ديناً صحيحاً لم تنله يد التحريف ويستند إلى مصادر موثقة، بينما تخلو الأديان الأخرى من مثل هذه المميزات. إن هذه المنظومة المعرفية التي نستمد منها الخطوط الأصلية لمنهجنا وواجباتنا ـ أي النظرة الكونية والفكرية للإسلام ـ ذات فصول متعددة، لها جميعاً تأثيرات مختلفة في سلوك المرء فرداً كان أو حكومة، وسأكتفي هنا بعرض خمس من هذه النقاط المؤثرة والمهمة التي وقع عليها اختياري:
1 ـ التوحيد إحدى هذه النقاط هي التوحيد؛ والمقصود بالتوحيد هو الإيمان بأن هذا التركيب المعقد والعجيب والمدهش جداً والمحكم للكائنات وعالم الخلق، من مجرات وأفلاك وحفر سماوية عظيمة وكرات لا عدّ لها ولا حساب وملايين المنظومات الشمسية إلى خلايا البدن الصغيرة وذرات المواد الكيميائية ـ تلك التي تتميز بنظم دقيق في هذا التركيب العظيم والمتنوع والمعقد الذي استنبطت منه آلاف القوانين، حيث إن الأنظمة الثابتة يمكن أن تستنبط منها القوانين التكوينية والثابتة ـ كلّها من صنع وإبداع فكر واحد وتدبير واحد وقدرة واحدة، ولم تخلق بمحض الصدفة. وهذا الإيمان هو أمر يقبل به كل عقل سليم وكل إنسان عاقل ومفكر لا يتسم بالاهتزاز الفكري أو العجلة في اتخاذ القرار أو الحكم المسبق على الأشياء. والنقطة التالية هي أن هذا الفكر وهذا التدبير وهذه الحكمة والقدرة العظيمة اللامتناهية والتي لا توصف، تلك التي أبدعت هذا التركيب العجيب والمعقد، ليست صنماً من صنع الإنسان، ولا بشراً عاجزاً يدعي الألوهية، ولا شخصية رمزية أو أسطورية، وإنّما هي ذات الواحد الأحد المقتدر الأزلي الذي تسميه الأديان (إلهاً) وتستدل عليه بآثاره. إذاً فلابد من إثبات أن هذه القدرة والإرادة والدقة الموجودة وراء هذه الهندسة العظيمة والمعقدة، وإثبات أن ذلك المهندس المنقطع النظير والمستحيل على الوصف لا يشبه تلك الأشياء التافهة المستعملة التي يصنعها الإنسان بنفسه أو على صورته والتي تتسم بصفة الزوال كصانعها، بل {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عمّا يشركون}. إن كافة الأديان تشترك فيما بينها في هذه النظرة سواء الأديان القديمة، أو الإبراهيمية، أو ما قبل الإبراهيمية، وحتى تلك الأديان الإلحادية الهندوسية الموجودة حالياً. وإن الذي يقرأ (الفيدا). يجد فيها عرفاناً توحيدياً خالصاً تزخر به كلماتها، ممّا يدل على أن عقيدتهم كانت تنبع من مصدر شفاف وزلال. إذاً فالتوحيد يمثل الركن الأساس لفكر ونظرة ورؤية هذا الإسلام الذي نريد أن نقيم على دعائمه هذه الحكومة وهذا النظام.
2 ـ تكريم الإنسان وأمّا الركن الثاني فهو تكريم الإنسان، أو ما يمكن أن نسميه محورية الإنسان. ولا شك أن محورية الإنسان في الفكر الإسلامي يختلف تماماً عن محورية الإنسان في أوربا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، فهذا شيء وذلك شيء آخر؛ فذلك يسمى أيضاً بمحورية الإنسان، ولكن لا وجه للتشابه إلاّ في الاسم. إن محوري الإنسان في الإسلام لا يراد به محورية الإنسان في أوربا بتاتاً، فهو شيء آخر. {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض}؛ أي إن الذي يقرأ القرآن ونهج البلاغة والمصنفات الدينية سيشعر جيداً بهذا الانطباع الذي يوحي بأن كافة هذا الكون وهذا الوجود الواسع يقوم على محور الوجود الإنساني كما يرى الإسلام، فهذا هو محورية الإنسان. لقد ورد في آيات كثيرة أن الله تعالى سخر لكم الشمس، وسخر لكم القمر، وسخر لكم البحر، ولكن هناك آيتان في القرآن الكريم توضحان هذا التعبير الذي أسلفته؛ أي {سخر لكم ما في السموات وما في الأرض}. فما المراد بالتسخير؟ إنه يعني التسخير بالقوة لا بالفعل، حيث إنكم مسخرون بالفعل للسموات والأرض ولا تستطيعون التأثير عليهما كما ترون، وأمّا بالقوة فإنكم خلقتم بشكل وخلقت عوالم الوجود والكائنات بشكل آخر، بحيث تكون مسخرة لكم. فما معنى مسخرة؟ أي في قبضة يدكم وبإمكانكم استخدامها والانتفاع بها على الوجه الأفضل. وهذا يدل على أن هذا المخلوق الذي سخر الله له السموات والأرض والكواكب والشمس والقمر لابد وأن يكون عزيزاً ومكرماً جداً من حيث الإبداع الإلهي، وهو ما نجده في قوله تعالى {ولقد كرّمنا بني آدم}. فهذا التكريم الذي صرحت به الآية هو تكريم يشمل مرحلة التشريع كما يشمل مرحلة التكوين؛ بمعنى التكريم التكويني والتكريم التشريعي بتلك الأمور المميزة والمنصوص عليها للإنسان في الحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي؛ أي أن الأسس هي أسس إنسانية تماماً.
3 ـ حياة الآخرة وأمّا النقطة الثالثة من النقاط الأصلية والأساسية في الرؤية الإسلامية فهي مسألة استمرار الحياة وديمومتها بعد الموت؛ أي إن الحياة لا تنتهي بالموت. وهذا المعنى يعتبر من الأصول الفكرية في الإسلام ـ بل وفي كافة الأديان الإلهية ـ وله تأثير كبير. وكما قلت فإن كافة هذه الأصول الفكرية ذات أثر في تنظيم العلاقات الاجتماعية وترسيخ قواعد الحكومة الإسلامية وفي إدارة المجتمع والحياة والعالم. إننا سوف ندخل مرحلة جديدة بعد الموت لا أن يفنى الإنسان ويتعرض للإبادة التامة، ثم ينتقل من هذه المرحلة إلى مرحلة أخري، حيث تقوم القيامة ويأتي يوم الدين والحساب وما إلى ذلك من مشاهد البعث والنشور.
4ـ الطاقة الإنسانية اللامحدودة لبلوغ الكمال وأمّا النقطة الرابعة من النقاط الأساسية في هذا الفكر فهي عبارة عن تلك الطاقة اللامحدودة التي يتمتع بها الإنسان في توفير كل ما يلزمه من أجل الوصول إلى الكمال؛ فلدى الإنسان قابلية الوصول إلى ذروة كمال حياة الممكنات، وهو ما تفتقر إليه بقية المخلوقات الأخري. ومعنى {أحسن تقويم} في قوله تعالى في الآية الشريفة: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} ليس المراد به التناسق بين الرأس والقلب والعين والبدن مثلاً في خلقة الإنسان، فهذا ما لا يقتصر على الإنسان فحسب، بل إن الحيوانات الأخرى لتتميز به أيضاً، ولكن {أحسن تقويم} يعني أفضل وأحسن مقياس؛ أي ذلك المقياس الذي لا يقف عند حد أو نهاية في نموّه وتطوره، فهو يذهب في عالم الوجود إلى حيث ما لا يوجد ما هو أبعد من ذلك؛ أي يمكنه أن يرتقي ليصبح أعلى مرتبة من الملائكة وغيرها. وليس بمقدور الإنسان أن يطوي هذا المسير دون استخدام إمكانات عالم المادة، وهذا من المسلمات؛ ولهذا يقول تعالي: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً}. وعلى هذا الأساس فإن حركة التعالي والتكامل الإنساني ليست في فراغ، بل عن طريق استخدام الإمكانيات المادية؛ أي لا ينفك أحدهما عن الآخر، بل ينطلقان معاً؛ بمعنى أن ازدهار الإنسان يتوازى مع ازدهار عالم المادة وعالم الطبيعة، حيث يؤثر أحدهما في تألقّ الآخر وازدهاره، ممّا يؤدي إلى تحولات وتطورات مدهشة.
5ـ سير العالم نحو الحاكمية الحقة وأما النقطة الأخيرة في هذا المجال من الفكر الإسلامي فهي أن الإسلام يرى أن العالم يسير نحو الحاكمية الحقّة وصوب الصلاح لا محالة. وكما أشرت سابقاً، وهآنذا أشير الآن أيضاً مجرد إشارة لأن المقام لا يحتمل التفصيل، فإن كافة الأنبياء والأولياء قد جاؤوا ليقودوا الناس إلى هذا الطريق الرحب الذي لو وضعوا أقدامهم عليه لتفتحت طاقاتهم تلقائياً، وإن الأنبياء والأولياء قد أرشدوا الناس إلى هذا الطريق الأصلي بعد انقاذهم من سبل الضلال ودروبه ووديانه وصحاريه وغاباته، ولكن البشرية لم تخطُ الخطوة الأولى بعد على هذا الطريق المستقيم ولم تصل إلى نقطة البداية، فهذا ما سوف يحدث في زمن ولي العصر (أرواحنا فداه)، وإن كانت كافة هذه المساعي والجهود قد بنيت على أساس أن نهاية هذا العالم هي نهاية غلبة الصلاح، ولربما كان ذلك عاجلاً، أو آجلاً، ولكنه حادث لا محالة. وكما سيقهر الصلاح الفساد، فإن قوى الخير ستقهر قوى الشر. وهذه رؤية إسلامية لا ريب فيها.
الواجبات المترتبة على هذه الرؤية وعلى هذا الأساس، فإن ذلك يؤدي إلى وجود نتائج عملية وواجبات لابد وأن ينهض بعبئها الإنسان المؤمن بهذه التعاليم. ولا فرق في ذلك بين أن تكون الحكومة إسلامية ومقاليد الأمور في أيدي أهل الحق، أو أن تكون الحكومة غير إسلامية ـ كما في عهد الحكومة الطاغوتية البائدة مثلاً، أو كحال الإنسان الذي يعيش بين الكفار ـ فهذه الواجبات والمسؤوليات التي سوف أستعرضها تقع على كاهل كل إنسان في كلتا الحالتين. فما هي الواجبات التي تترتب على تلك الرؤية؟ لقد دونت بعضاً منها، ولسوف أستعرضها لكم فيما يلي:
1 ـ الإقرار بالعبودية والطاعة لله تعالي إن الواجب الأول من هذه الواجبات هو الإقرار بالعبودية والطاعة لله تعالي. ولأن العالم له مالك وخالق ومدبر، ولأننا نعتبر جزءاً من أجزاء هذا العالم، فلابد على الإنسان أن يتحلّى بالطاعة. وهذه الطاعة تعني تناسق الإنسان مع الحركة الكلية للوجود والعالم، لأنه {يسبّح له ما في السموات والأرض}، {قالتا أتينا طائعين}؛ فالسموات والأرض وكل ذرّة في العالم كلها تلبّي الدعوة والأمر الإلهي وتسير طبقاً للقوانين التي أحكمها الله تعالى وأجراها في الوجود. إن الإنسان إذا اتّبع القوانين والأحكام الشرعية والدينية ـ التي علّمه إيّاها الدين ـ فسيكون قد شقّ طريقه وتحرك على نسق هذه الحركة الوجودية، وسيكون تقدمه أكثر يسراً، واصطدامه بالعالم أقل، وسيكون أقرب إلى السعادة والصلاح والفلاح بالنسبة له ولسائر العالم أجمع. وبالطبع فإن المقصود بعبودية الله هو معناها الواسع والكامل، وذلك لأننا قلنا بأن التوحيد هو الإيمان بوجود الله، وهو أيضاً نفي الأضداد وإنكار تلك الألوهية والعظمة المزعومة للأصنام والأوثان المصنوعة والناس الذين يدعون لأنفسهم الألوهية وأولئك الذين لا يفصحون عن ذلك بألسنتهم ولكنهم يمارسونه بكل وضوح في أعمالهم وسلوكياتهم.
2 ـ نفي الأنداد فعمليّاً، هناك إذاً واجبان: الأول الاقرار بالطاعة لله تعالى والعبودية لخالق الوجود، والثاني الامتناع عن طاعة أنداد الله وعدم الانسياق لكل من يريد أن يفرض سلطانه على الإنسان في مواجهة سلطان الله. وإن ذهن الإنسان لينصرف حالاً إلى تلك القوى المادية والاستكبارية التي تمثل مصاديق ذلك، وإن كان المصداق الأبرز هو هوى النفس. إن شرط التوحيد هو معارضة هوى النفس حيث إن هوى النفس هو «أخوف ما أخاف». والواجب الثاني هو أن يسعى الإنسان لتحقيق التقدم والرقيّ لنفسه وللآخرين، سواء في المجال العلمي، أو الفكري، أو الروحي والأخلاقي، أو الاجتماعي والسياسي ـ أي على المستوى الاجتماعي ـ أو في المجال الاقتصادي؛ أي تحقيق الرفاهية المعيشية. إن على الجميع أن يسعوا لتحقيق هذه الأمور: تقدم العلم وتطوره بالنسبة للجميع، وانتشار الأفكار السليمة والصحيحة، والعمل على تحقيق الرقيّ الروحي والمعنوي والأخلاقي، والتخلّق بالخلق الكريم، والتحلّي بمكارم الأخلاق، وتحقيق التقدم الاجتماعي البشري؛ ولا يقتصر هذا على الأبعاد المعنوية والعلمية والأخلاقية للفرد فحسب، بل لابد أن ينسحب على المجتمع، وكذلك لابد من العمل على تقدم الشؤون الاقتصادية والرفاهية للإنسان، والذي يعتبر من الواجبات التي من شأنها حثّ الناس على التطلّع إلى توفير ما يمكن توفيره من وسائل الرفاهية وتفجير الطاقات الحياتية للبشرية. وهذا الواجب يعدّ من الواجبات العامة التي ينبغي أن يلتزم بها الجميع، ولا تقتصر على مرحلة بعينها أو تخص حكومة بذاتها، بل إنه من الواجبات التي لابد من العمل بها أيضاً حتى في عصر الحكومات غير الإلهية.
3 ـ تفضيل الفلاح الأخروي على المنافع الدنيوية وأمّا الواجب الثالث فهو تفضيل الفلاح الأخروي على المنافع الدنيوية فيما لو تعارض أحدهما مع الآخر؛ فهذا أيضاً من الواجبات العملية على كل من يؤمن بتلك الرؤية العالمية؛ فلو حدث ووجدنا أحياناً أن المنفعة الدنيوية تتقاطع مع الأهداف الأخروية، فإنه يجب على الإنسان أن يبذل قصارى جهده لجعل هذه المنفعة الدنيوية منسجمة مع الأهداف الأخروية. وأما إذا تساوى الأمران، فعلى المرء إمّا أن يغض الطرف عن إحدى المصالح ـ مادية كانت أو متعلقة بالسلطة والمنصب والشهرة وما إليها ـ أو أن يضطر لارتكاب أحد الآثام المؤدية إلى الوزر الأخروي. إلا أن الاعتقاد بتلك النظرة يحتم على الإنسان تفضيل الجانب الأخروي وترجيحه؛ أي أن يتغاضى عن تلك المصلحة وأن لا يرتكب ذلك الإثم. وهذا واجب على كل مسلم. كما أن عليه أن يبرمج نشاطاته وينظمها بالشكل الملائم لما ينبغي عليه بذله من جهود شاقة في الحياة الدنيا بلا منافاة مع الفلاح الأخروي والقيام بالواجبات التي يؤدي عدم أدائها إلى تعرض الإنسان للعذاب والوبال في الآخرة.
4 ـ ضرورة الجد والسعي والمثابرة وأمّا الواجب الرابع فهو ضرورة الجد والسعي والمثابرة؛ فالجد والكفاح هو أحد الواجبات الرئيسية على كل إنسان، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي متمثلاً في الحكومة أو السلطة، فيجب عليه أن يسعى ويجد على الدوام، وألاّ يكون نهباً للكسل والبطالة واللامبالاة. وقد يكون المرء منشغلاً بأحد الأعمال أو متقلداً لإحدى الوظائف، ولكنه لا يشعر بالمسؤولية إزاء واجباته الأساسية، ويقول: لا علينا! فهذه هي الانحرافات الناتجة عن الهوى والهوس، والتي لا ينبغي الركون إليها أو الخضوع لها، بل لابد من مقاومة الكسل وحبّ البطالة، وأن يزيل من طريقه الأخطار ويتحمل الصعاب والمشاقّ، فهذا واجب من الواجبات. ولاشك أن يكون هذا الجدّ والجهاد جهاداً في سبيل الله، وهو ما سوف أعرضه في النقطة التالية.
5ـ الثقة بالنصر في كل الظروف والأحوال وأما الواجب الخامس والأخير، فهو الثقة بالنصر في كل الظروف والأحوال، ولكن بشرط أن يكون هذا الكدح جهاداً في سبيل الله؛ أي أنه لا يحقّ لمن يعكف على الكدح والجهاد أن يتسلّل اليأس إلى نفسه، وذلك لأن النصر بانتظاره بالتأكيد. وأمّا تلك الحالات التي لم يكن النصر حليفه فيها، فلأن الجهاد لم يكن في سبيل الله، أو لربما لم يكن ثمة جهاد في الأصل. فما هو شرط الجهاد في سبيل الله؟ هو أن يكون الإنسان مؤمناً بسبيل الله وعلى علم به حتى يستطيع الجهاد فيه. إن هذه الواجبات تقع على عاتق الإنسان بصفته فرداً، وعلى كاهل الجماعة بصفتها حكومة. وكما أسلفت فإن ذلك لا يتعلق فقط بمرحلة السلطة والحكومة التي يمسك بزمامها الآن جماعة من المؤمنين بالله والإسلام، بل إنها واجباتنا دائماً، وحتى عندما كانت مقاليد الأمور بيد الأعداء، والطاغوت، والمفسدين في الأرض، فقد كان البعض يقوم بها والبعض الآخر يهملها مع اختلاف درجات ومستويات الأداء. وأمّا الآن فهذه الواجبات تقع على عاتق المسلمين كافة مع التفاوت في تحمل المسؤوليات بالطبع. لقد كان الواجب الأساس على كافة الأنبياء والأئمة والأولياء هو أن يبينوا للناس هذه الواجبات، ويستوي الأمر في ذلك بين المراحل التي يتقلدون فيها الحكم أو التي يعجزون فيها عن ذلك؛ فعند استتباب الأمور كانوا يأمرون الناس بالمجاهدة والجهاد وإقرار الحكم واستخدام الأساليب الإدارية الملائمة، ولقد جاهد الجميع وقاوموا {وكأيّن من نبيّ قاتل معه رِبّيون كثير}. إن الجهاد والنضال السياسي ومواجهة الأعداء لم يشرّع في الإسلام لأول مرة في التاريخ، بل كان في شرائع الأنبياء السابقين أيضاً ـ الأنبياء العظام الإلهيين منذ زمن إبراهيم وفيما بعد ـ ولربما كان مشروعاً قبل إبراهيم (ع) كذلك، وهو ما لا أدريه. وعلى هذا فإن هذه الواجبات هي الواجبات التي يدعونا إليها الأنبياء.
كلمة سماحته عند لقائه كبار مسؤولي النظام الإسلامي، 5/9/1421
كانت ثورتنا نهضة جماهيرية كبرى ضد حكومة اتصفت تقريباً بكل ما قد تتصف به حكومة سيّئة من سلبيات؛ اذ كانت فاسدة، وعميلة، وفرضت على الشعب بانقلاب عسكري، وكان ينقصها التدبير والكفاءة. وسأقدّم في ما يلي شرحاً لكل واحدة من الخصائص الأربعة التي ذكرتها آنفاً. كانت الحكومة السابقة فاسدة مالياً وأخلاقياً، ويكفي من فسادها المالي ان الشاه نفسه وأسرته كانت لهم يد في أغلب الصفقات الاقتصادية الضخمة للبلد، وكان هو وإخوته وأخواته من الذين جمعوا اكثر الثروات، وكان رضا خان قد جمع خلال فترة حكمه البغيض الذي امتد على مدى ستّ أو سبع عشرة سنة اموالاً طائلة. ولا بأس ان تعلموا ان بعض مدن البلاد ـ كما تشير الوثائق والمستندات ـ كان ملكاً صرفاً لرضا خان؛ فمدينة فريمان على سبيل المثال كانت برّمتها ملكاً خاصاً لرضا خان! وكانت أفضل الأملاك وأخصب الاراضي في هذا البلد ملكاً له؛ حيث كان له ولع شديد بمثل هذه الاملاك وبالمجوهرات. في حين كان لأولاده مشارب أكثر شمولاً؛ إذ كانوا يرغبون في اية ثروة كانت ويستحوذون على كل ما تطاله أيديهم، وأوضح دليل على ذلك انهم حينما خرجوا من البلد كانت ثرواتهم في المصارف الاجنبية تقدر بمليارات الدولارات. ولعلكم تعلمون اننا حاولنا من بعد الثورة استرجاع اموال الشاه، ولكن كان من الطبيعي جداً ان لا يُلبى طلبنا. كان مجموع اموال هذه الأسرة يقدر حينذاك بعشرات المليارات من الدولارات. واتجه كل واحد من اعضاء تلك الاسرة نحو دولة معيّنة وصاروا من كبار الاغنياء هناك. ومن الطبيعي انهم لم يحصلوا على تلك الاموال بكدّهم ولا بعرق جبينهم، وانما استحوذوا عليها بأساليب غير مشروعة. فكيف كانت اذن طبيعة نظام غارق في مثل هذا الفساد المالي وكيف كان يتعامل مع ابناء الشعب. اما فسادهم الأخلاقي فقد كان معروفاً من خلال عصابات التهريب التي كانت تمارس نشاطها بإمرة إخوة الشاه وأخواته، وكانت هناك فضائح أخلاقية وجنسية يندى لذكرها الجبين. وقد نشر في ما بعد بعض أفراد الحاشية والمقربون من تلك الاسرة شيئاً من تلك الفضائح في ما كتبوه من مذكّرات. كان الفساد الاداري مستشرياً في كل الارجاء؛ ولم تكن الكفاءة تراعى عند اختيار المدراء والمسؤولين، وكل ما كان يؤخذ بنظر الاعتبار في مثل هذه الشؤون هو علاقاتهم الشخصية وتوجهات الاجهزة الجاسوسية والأمنية الأجنبية. لاحظوا اذن مدى سوء الحكومة التي كانت تأخذ الرشاوى، وتكتنز الثروات، وتتعامل بالتهريب وتخون الشعب. ولو شاء المرء تدوين كل هذه الامور بأدلّتها وشواهدها لاستلزم ذلك مجلدات ضخمة. وكانت القطيعة بينهم وبين أبناء الشعب سبباً لعمالتهم للأجانب واستنادهم اليهم للحفاظ على سلطتهم؛ فمن الحقائق التاريخية المسلّم بها هي ان الانجليز هم الذين جاؤوا برضا خان الى السلطة، وهم الذين ثبتوا محمد رضا على رأس الحكم. ومن بعد عهد مصدق خطف الامريكيون زمام الامور من الانجليز ودبّروا تلك المؤامرة وتسلطوا على شؤون البلاد وأصبح هنالك عشرات الآلاف من المستشارين الامريكيين في اهم المراكز العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، ويشغلون مواقع حساسة ويحصلون على اموال طائلة؛ وكانوا في الحقيقة هم الذين يسيّرون شؤون البلاد ويوجهونها حسب ما يشاؤون. وكان الامريكيون والاسرائيليون هم الذين أسسوا الجهاز الأمني في إيران. وعلى الصعيد السياسي كانت الحكومة خاضعة لتوجيهات الانجليز، في حين خضعت في الآونة الاخيرة لتوجيهات الامريكيين. وكانت سياستها على الصعيد الاقليمي والعالمي، بل وحتى في المجالات الاقتصادية ـ من قبيل اسعار النفط وكيفية بيعه، والكيفية التي يجب ان تكون عليها اوضاع شركات النفط الاجنبية في إيران ـ قائمة على تنفيذ ما يُملى عليها. وكانت طبعاً تأخذ مصالحها الخاصة بنظر الاعتبار. ولم تكن تلك التضحيات من اجل الأجانب أنفسهم، وإنما لغرض الحفاظ على حكومتهم. ولهذا فسحوا المجال للأجانب وبسطوا أيديهم تماماً للتطاول على البلد وعلى الشعب، واعتمدوا عليهم في كل شيء. هذا فضلاً عن ان تلك الحكومة جاءت بواسطة انقلاب عسكري وفرضت على الشعب فرضاً؛ فقد جاء كل من رضا خان، ومحمد رضا الى السلطة عبر انقلاب عسكري. ومن الواضح ان الحكومة التي تفرض على الشعب من خلال انقلاب عسكري لا تحترم آراء الشعب ولا معتقداته ولا إرادته، ولم تكن ثّمة صلة حميمة بين الحكومة والشعب؛ بل كانت العلاقة عدائية، علاقة أسياد وعبيد؛ لأن النظام كان ملكياً، وهذا هو معنى الملكية؛ أي انها كانت حكومة مطلقة لا تقيّد بشيء أمام الشعب. وهكذا حكمت الأسرة البهلوية بلدنا على مدى خمسين سنة. وأخيراً كانت تلك الحكومة لا تملك الكفاءة؛ فكل مواطن في هذا الدولة يعلم تماماً ـ وخاصة انتم الشباب ـ اننا يجب ان نبذل جهوداً لسنوات طويلة حتّى نتمكن من بلوغ المكانة اللائقة بنا في الحقول العلمية والصناعية والتقنية، والتقدم في ميادين البحوث والدراسات. وهذا التخلف الذي نعيشه ناجم عن حكم استمر خمسين سنة لنظام غير كفوء لم يستثمر طاقات هذا الشعب، ولا الامكانات الهائلة في هذا البلد. وأنتم اليوم تلاحظون الطاقات العلمية المتفجرة لدى شبابنا في المسابقات العلمية العالمية، بينما لم يكن يُعتنى بهذه الطاقات ولم تستثمر في تلك الآونة، وانما تُستعمل في اطار رغباتهم ومآربهم الخاصّة، ولهذا هاجر الكثير من اصحاب الطاقات والكفاءات، بينما بقي الكثير منهم، ولكن بدون ان تزدهر طاقاتهم وكفاءاتهم أو ان ينتفع منها في عمل ما. لقد تركوا وراءهم بلداً مدمّراً تماماً. وفي مرحلة ما بعد الحرب كان اكبر همّنا يتركّز على بناء ما دمّرته الحرب، ولكننا وجدنا الدمار الذي خلّفته الحرب يقل كثيراً عمّا خلّفته الأسرة البهلوية من دمار طوال سنوات حكمها على هذا الشعب. وفي عام 1341 [1962م] عندما ارتفعت صيحة الامام اخذت حيّزها في القلوب وتفجّر غضب الجماهير؛ اذ كان البعض قد ألف الاوضاع حينذاك، بينما اثارت سخط الكثيرين من أبناء الشعب. واعلموا ان الامام حينما رفع صوته لم يكن حينها مرجع تقليد معروفاً؛ فعلى الرغم مما كان له من وجاهة وشهرة ومكانة مرموقة في قم بين العلماء والاكابر والفضلاء وطلبة الحوزة العلمية، إلا انه لم يكن معروفاً لدى عموم أبناء الشعب، ولكن بما ان تلك الصيحة كانت صيحة حق وكانت منطلقة من إرادة الجماهير وقائمة على أسس الدين، فقد دوّت أصداؤها في كل الأرجاء تلقائياً وتداولتها الألسن وتناقلتها الأيدي وانتشرت في كل مكان وغرست حب الامام في القلوب. فالإمام الخميني الذي لم يكن يتمتع بتلك الشهرة في عام 1341 [1962م]، أضحت له مكانه في القلوب في خرداد عام 1342 [حزيران 1963م] الى درجة دفعت بالشعب الى النهوض ضد الحكومة في الحادثة المعروفة بحادثة الخامس عشر من خرداد، التي أسفر عنها مقتل الآلاف من الاشخاص في سبيل الامام. وقد جاء هذا كله اثر أحقية تلك الصيحة. لقد بين الامام للشعب تعاليم الإسلام ومعنى الحكومة ومعنى الشخصية الإنسانية، وشرح له طبيعة ما يجري عليه وكيف ينبغي ان تكون حياته؛ وهي حقائق لم يكن الآخرون يجرؤون على التصريح بها، إلا انه صرّح بها جهاراً لا همساً ولا على شكل منشورات ولا بأساليب سرية وخلايا تنظيمية كما تفعل الاحزاب عند طرح الامور لكوادرها، لقد اتبع الامام الخميني اسلوب الجرأة والصراحة في بيان الحقائق للناس، ولهذا لبّى أبناء الشعب نداءه. لقد مرّت خمس عشرة سنة عصيبة منذ ان بدأ الامام نهضته الى حين انتصار الثورة؛ وخلال تلك الفترة فهم تلاميذ الامام وأنصاره وأصدقاؤه وعموم أبناء الشعب عمق ومضمون رسالة الامام، فتداولوها ونشروها بين مختلف الاوساط والشرائح الاجتماعية. وأدى تداولها وتدارسها والثبات عليها الى خلق مشاكل جمّة لأولئك الناس؛ فاستشهد الآلاف منهم، وطال التعذيب أضعاف ذلك العدد. لقد كان عهداً عصيباً حّقاً، حتى ان البعض لم يشعر بالطمأنينة والراحة في بيته حتّى ليلة واحدة، ولم يخرج من بيته يوماً وهو آمن من أنه لن يصيبه في ذلك اليوم مكروه. وكان الامام يقود تلك المسيرة بعزم وحكمة وشجاعة طوال تلك المدّة، الى ان تعاظمت في السنة الاخيرة الامواج الجماهيرية الهادرة؛وحيثما نزل أبناء الشعب الى الساحة بدوافع إلهية ودينية وبعيداً عن المطامع المادية، لا يمكن لأية قوّة ان تقف بوجههم، أو كما قال الامام انهم لم يستطيعوا بكل ما لديهم من معدّات وتجهيزات الوقوف بوجه شعبنا الاعزل. وهكذا وقعت هذه الثورة وانتصرت.
كلمة سماحته عند لقائه نخبة من الشباب الإيراني، 17/10/1419
تكلّموا في الثورة آلاف الساعات ابتداءً من إمامنا العظيم (رض) الّذي كان الفاتح لهذا الطريق والمتقدّم الأوّل في هذا الصراط المستقيم وانتهاءً بكلّ الّذين تحرّكوا في هذا الطريق وعملوا شيئاً في هذا السبيل وكسبوا معرفة وتحدّثوا بحديث، طبعاً تحدّثوا في هذه الأحاديث عمّا هو مؤثّر ومفيد جدّاً. وهنا اُريد ذكر هذه الجملة الاعتراضيّة، وهي: نحن أبناء الشعب الإيراني بالرغم من انّنا الّذين لمسنا الثورة بكلّ وجودنا، إلاّ أنّنا قليلاً ماقمنا بتحليلها وتقييمها، خلافاً للأجانب الّذين ارتبطوا بهذه الثورة من بعيد أو قريب والّذين كان ومازال من بينهم ممّن دخل هذا الميدان بأهداف سيّئة. والآن فإنّهم ينفقون الأموال الّتي لو قلنا انّها تبلغ المليارات لم نبالغ في ذلك، وكلّ ذلك من أجل أن يوصلوا صوتهم إلى أبناء الشعب ويثبتوا أمراً ـ ولو من خلال تحاليلهم الكاذبة ـ قد نفته الثورة، أي أنّنا يجب أن نعترف أنّ تحليل الثورة هو أمر يبذل فيه الأعداء اليوم جهوداً أكثر ممّا نبذل فيه نحن، وهم يقومون بهذا العمل بهدف قلب نداء الثورة وإظهار الحقيقة خلافاً لما هي عليه؛ تلك الحقيقة الّتي وقعت أمام أنظار الشعب الإيراني وعلى يد أبنائه. وعلى هذا يجب جمع الأحاديث الّتي تحدّث بها أبناء الثورة عن ثورتهم وتبويبها وأن ينجز عليها عمل ثقافي صحيح، والّذي لم ينجز من قبل أو أن ما اُنجز كان قليلاً جدّاً، وأن لا يكون ذلك مانعاً أمام شبابناً ليفهموا الحقائق. فاستمعوا للأحاديث الّتي تحدّثت بها شخصيّات الثورة والناطقين باسمها الثلاثة عشر عاماً وتأملوا فيها جيّداً. وإنّني اليوم أودّ التحدّث شيئاً ما عن جوانب من هذه الثورة. فإحدى النقاط الّتي قليلاً ما تمّ التعرّض لها في باب هذه الثورة هي أنّ ثورتنا العظيمة كانت ثورةً استثنائيّة في نوعيّة الانتصار الّذي حقّقته، يعني أنّ ثورةً شعبيّة بهذه الأبعاد الشعبيّة العظيمة انتصرت من خلال تواجد أبناء الشعب في الشوارع وفي المدن والقرى وممارسة الجهاد ضدّ النظام الحاكم. فمثل هذه الثورة لم يكن لها نظير ولا سابق في الثورات المعاصرة على أقلّ تقدير. فجميع الثورات الاُخرى الّتي وقعت في العالم حتّى ذلك التاريخ (تاريخ انتصار الثورة الإسلاميّة) ومنها الثورات اليساريّة والماركسيّة في أمريكا اللاّتينيّة وأفريقيا وآسيا والمناطق الاُخرى من العالم كانت من نوع آخر. فهذه الثورة لم تنتصر بواسطة مجموعة ثوريّة مسلّحة، طبعاً كان يوجد في إيران بعض الأحزاب الّتي كانت تقوم بالأعمال المسلّحة إلاّ أنّ تلك المجموعات والأحزاب كانت قد شُلّت عن العمل تماماً حوالي عامي (1354 ـ 1355هـ. ش)، وبإمكانكم أن تسألوا اُولئك الّذين كان لهم تواجد فعّال في مجال الثورة في تلك الأيّام فقد شاهدنا ذلك باُمّ أعيننا. وعلى الشباب الّذين لا يملكون معلومات مباشرة عن الأوضاع والظروف في تلك الفترة أن يسألوا الّذين كانوا يعيشون في قلب الأحداث في تلك الأيّام. ففي الأعوام 1354 ، 1355 وحتّى 1356 هـ. ش خرجت المجموعات الّتي كانت تقوم بالنشاطات المسلّحة من ساحة المواجهة تماماً؛ سواء اُولئك الّذين كانت لهم أفكار ماركسيّة، أو الّذين كانوا يحملون أفكاراً التقاطيّة، وقد تحوّل نشاطهم إلى أن يفجّروا قنبلة في زاوية ما من هذه البلاد أو القيام باغتيال شخص في مكان ما، وكلّ تلك الأعمال والنشاطات بالقياس إلى ما يقع اليوم في دولة كالدول العربيّة (ولا نريد ذكر أسماء). فأنتم تسمعون أنّ الإسلاميين في تلك الدول العربيّة يقومون ببعض الأعمال المسلّحة ولديهم مواجهات مع السلطات الأمنية هناك وما كان يقع في إيران في تلك الفترة لا يساوي عُشر ما يقع هذه الأيّام في تلك البلدان العربيّة، فلاحظوا كم أنّ هؤلاء الإسلاميين قريبون من الانتصار، عند ذلك يكون بإمكاننا أن ندرك كم كان من الممكن أن تنتصر تلك المجموعات المسلّحة في إيران، وأساساً كان تصوّر انتصار حركة مسلّحة في إيران تصوّراً مستحيلاً ولم تكن توجد إمكانية لوجوده. وإضافة إلى ذلك فإنّ الانقلاب العسكري لم يكن ممكن الوقوع أيضاً، فبعض هذه الثورات أو ما يسمّى بالثورات تبدأ بالانقلاب العسكري، بينما كان العسكريون في إيران يعيشون في إطار محدود تماماً حُدّد لهم من قبل الأمريكان في إيران. فكثير من العسكريين كانوا ناقمين على النظام الشاهنشاهي الظالم ولا سيما الشباب والمراتب الأصغر إلاّ أنّ أحداً لم يكن يجرأوا على التفكير في مواجهة النظام. ولو أردنا أنّ نقيس وضع الجيش في إيران افترضوا أنّه كان يعيش في ظروف مماثلة لما يعيشه الجيش العراقي اليوم فهو أسير تماماً في قبضة النظام الحاكم في العراق، طبعاً كان العسكريون في إيران أشدّ أسراً منهم في العراق اليوم؛ لأنّ الرقابة عليهم لم تكن من قبل سلطة عليا فحسب بل كان للأمريكان تواجد وإشراف مباشر في داخل الجيش، وكان يتواجد آلاف الأمريكيون في أكثر المعسكرات ولا سيما المعسكرات المهمة والحسّاسة وفي بعض القوّات أيضاً. على هذا لم يكن متصوّر أن يقع انقلاب عسكري في إيران، كما أنّ الأحزاب السياسيّة الّتي كانت توجد في إيران كانت عاجزة عن التحرّك تماماً. فالأحزاب الوطنيّة الّتي تشاهدونها اليوم وهي تستغل الحرية والكرامة الموجودة لدى الجمهوريّة الإسلامية، وهؤلاء (السادة) الّذين يتحدّثون ضدّ الجمهورية الإسلاميّة وتُجرى معهم المقابلات ويوزّعون المنشورات ويتّهمون الجمهوريّة الإسلاميّة بمصادرة الحرّيات، هؤلاء السادة كانوا موجودين في تلك الفترة أيضاً، ولم يصدر منهم في ذلك التاريخ أي تحرّك ـ يمكن أن يسمّى تحرّك ـ في سبيل تحرير إيران. فقسم منهم كانت تربطه علاقات صداقة مع رجال البلاط وكانوا مشغولين مع بعضهم في اللّذات والشهوات، وبعضهم كان قد انشغل بأعماله المعيشيّة، وبعضهم كانوا مهندسين وأخصّائيين، وقد كانوا يأخذون الأموال من أجهزة البلاط ويحصلون على لقمة العيش عن هذا الطريق. وقد مرّت تلك الفترة على هؤلاء إلى أن قامت الجمهورية الإسلاميّة ـ والحمد لله ـ ووجد جوّ سياسي مفتوح وأصبح جميع أبناء الشعب سياسيين. والآن فقد انطلقت ألسنة هؤلاء. إنّ الشعب الإيراني لا يثق بهذه الأحزاب السياسيّة وبما أنّه لا يثق بها ولا يتّجه نحوها فإنّها تحاول صبّ حقدها ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة، فالشعب هو الّذي لا يثق بهم وبأحزابهم وليس ذلك من تقصير أحد، فهل منع أحد الناس من أ يثقوا بتلك الأحزاب؟ وأفضل تلك الأحزاب في تلك الفترة هي الأحزاب الّتي كان يوجد فيها شخصان أو ثلاثة يمتلكون شيئاً من الشجاعة، فكانوا يصدرون بياناً في قضية ما، وطبعاً هذا البيان لم يكن يوزّع على مستوى واسع بل كان يتداوله مؤيّدوهم فقط. مثلاً كانوا يعترضون على مسألة ما في بيانهم، ثمّ كانت تأتي السلطات وتعتقلهم وتلقيهم في السجون وبعد ذلك تطلق سراحهم، أو أنّها كانت تطلق سراحهم بعد إجراء مقابلة معهم، أو أن تنتهي فترة سجنهم فيُطلق سراحهم، فكان أمثال هؤلاء من أفضل تلك الأحزاب. ومن ناحية اُخرى لم يكن عمل هذه الاحزاب يثير تحرّكاً شعبياً في أوساط الشعب الإيراني؛ لأنّ الشعب الإيراني شعب متديّن ويؤمن بالعلماء. وهذه هي النقطة الّتي أدّت فيما بعد إلى الانفجار العظيم للشعب ضدّ النظام الشاهنشاهي الفاسد. ثمّ دخل الساحة مرجع تقليد يتّفق الجميع على صلاحه، عالم دين ذو شأن عظيم كلّ من عرفه عرفه بالصلاح؛ حتّى أنّ أعداءه كانوا يعترفون بأنّه إنسان صالح، كلّ ما في الأمر أنّهم كانوا ينسبون إليه بعض العيوب، مثلاً يقولون: إنّه لم يعير لنا أهمّية في المسألة الفلانيّة، أو إنّه يؤمن بالنظريّة الفلسفيّة الفلانيّة، إلاّ أنّه إنسان صالح ومتّق على مستوى عال وله مكانة علميّة رفيعة. والأهمّ من كلّ ذلك أنّه دخل ساحة المواجهة مسدداً بالتسديد الإلهي. وعلى طول خمسة عشر عام استطاع أن يحرّك معه عدداً من تلاميذه وزملائه على مستوى مراجع الدّين الآخرين. وحينما شاهد الناس أنّ العلماء هم المحرّكون للثورة بدأوا يدخلون ساحة المواجهة شيئاً فشيئاً في بداية الأمر ثمّ أخذوا يدخلون بأعداد كبيرة، وفي نهاية المطاف دخل عامة أبناء الشعب إلى ساحة المواجهة. ففي عام 1356 هـ.ش قامت السلطات الشاهنشاهيّة بإبعادي إلى مدن مختلفة من البلاد، وحينما عدت من المنفى في أواسط أو أواخر عام 1357هـ.ش ذهبت إلى مشهد المقدّسة وما شاهدته في مشهد لم أكاد اُصدِّقه، وعلى الرغم من سماعنا للأخبار حينما كنّا في المنفى، إلاّ أنّ الحقيقة على الأرض كانت حقيقة عظيمة، فقد كانت التظاهرات متواصلة في مشهد ليل ونهار، وأنّ الناس هناك كانوا قد اعتادوا على الخروج في التظاهرات، وفي كلّ مكان كان الأمر كذلك. فطهران كانت هي المحور ومن ثمّ المدن الكبيرة والصغيرة وحتّى القرى والأرياف كانت تقام فيها التظاهرات والمسيرات. افترضوا أنّ الدعوة كانت تُعلن إلى القيام بتظاهرة من قبل الإمام ـ الّذي كان في باريس تلك الأيّام ـ أو من قبل العلماء الكبار في طهران أو المدن الاُخرى فكان الناس يخرجون على أثر ذلك إلى الشوارع كالسيل العارم، ومن ثمّ أخذت دوائر الدولة تلتحق بالشعب تدريجيّاً والتحق الموظّفون. ثمّ أخذ منتسبوا الجيش باللّحوق في ركب الثورة، وحتّى المسؤولين في النظام السابق أخذوا يلتحقون بصفوف الثورة أيضاً. وهذا هو معنى انهيار نظام من الأنظمة، فقد انهار النظام الشاهنشاهي. ففي اليوم الّذي هرب فيه الشاه من إيران كان النظام منهاراً ومنتهياً، وقد رأى (الشاه) بأنّه لا فائدة من البقاء في إيران، فصنعت القوى الاستعماريّة من إنسان مسكين وسيىء الصيت (شاهبور بختيار) صنماً، وكان مخططاً أن يبقوه في السلطة عدّة أيام، وقد بقى في تلك السلطة أربعين يوماً فقط. وحينما عاد الإمام إلى البلاد إنتهى كلّ شيء بإشارة صغيرة منه. فبسبب تواجد الشعب في ساحة المواجهة كان النظام قد انهار وتمزّق من الداخل. فلماذا دخل الناس إلى ساحة المواجهة بهذه الصورة؟ لقد كان دخول الشعب من أجل الدين، من أجل أنّ الشعار كان شعاراً إسلاميّاً، من أجل تواجد العلماء في الساحة ومن ثقة الشعب بهم. ففي أوساط الشعب كان يوجد عدد كبير ممّن يقدّم العون والمشورة للعلماء؛ حتّى أنّهم في بعض المدن كانوا يرشدون العلماء. إلاّ أنّ عامّة الناس شاركوا في الثورة؛ لأنّهم كانوا يرون العلماء في المقدّمة، وفي القمّة كان يقف الإمام الّذي كان مرجعاً للتقليد وعلى مستوى ديني رفيع، كما كانوا يشاهدون في كلّ مدينة العلماء المحترمين وهم يتقدّمون صفوف الثورة، وهكذا وقعت هذه الثورة العملاقة. حسناً، كانت هذه الثورة ثورة استثنائيّة، ثورة قامت نتيجة لتواجد أبناء الشعب وتضحياتهم، وهذا التواجد كان ناشئاً من العقائد الدينيّة لأبناء الشعب، حتّى إنّ نفس السياسيين الّذين كانت لهم معنا اجتماعات في تلك الأيّام، وحتّى تلك المجموعات المسلّحة واليساريين والشيوعيين الّذين كانوا جميعاً تربطهم معنا علاقات وصداقات؛ سواء كان ذلك في داخل السجون أو خارج السجون كلّ هؤلاء كانوا يعترفون بأنّه لم يكن من الممكن أن يقع في إيران ما وقع إلاّ بقيادة شخص كالإمام، وطرح هذه الشعارات الدينيّة. هذه حقيقة وقعت إمام أعين الجميع. وكلّ من له مستوى علمي لا يمكنه أن يقول غير هذا. وفي الأيّام الاُولى لانتصار الثورة لم يقل أحد غير هذا باستثناء بعض الزمر الوقحة الّذين أخرجتهم الثورة. وتواجد الشعب في ساحة الثورة من السجون الّتي كانوا قابعين فيها لسنوات طويلة (4 أو 5 سنوات). وبمجرّد خروجهم من السجن قاموا برفع أعلامهم أمام الجماهير فقامت الجماهير بتمزيق تلك الأعلام ورميها بعيداً، ومن ذلك الحين أضمروا العداوة لأبناء الشعب وابتعدوا عنهم وأخذوا يفجّرون القنابل في بيوت الناس ومحلاّتهم التجاريّة وفي الساحات العامّة في طهران والمدن الاُخرى. فباستثناء هؤلاء المعاندين الّذين لم يكونوا على استعداد لقبول الحقّ فقد كان أيّ إنسان ينظر بعين الإنصاف إلى هذه الثورة كان يرى تلك الحقائق واضحة أمامه. طبعاً إلى جانب هذا أقول: إنّ هناك عوامل وأسباب كثيرة ساعدت على انتصار الثورة، فكلّ من تكلّم بكلمة فقد ساعدت كلمته بمقدار كلمة في انتصار الثورة، ولكن مساعدة الثورة بكلمة واحدة ومائة كلمة وكتاب شيء وتحريك أمواج الثورة شيء آخر. وأساساً لايمكن القياس بين الاثنين فلا يكن هؤلاء كذاك الرجل الذي ألقى رِجل جرادة في قِدر طعام مائة نفر ثم قال أنا صاحب الطعام” فيعتبروا أنفسهم من المحركين للثورة ومن قادتها. طبعاً جميع أبناء الشعب كانوا هم أصحاب الثورة، اولئك الذين وضعوا أرواحهم في مواجهة العدو، فهل يوجد شيء أكبر من هذا؟ إفترض أنني ألقيت ألف محاضرة وخطاب، فهل لهذه المحاضرات والخُطب قيمة بقدر نفس إنسان؟ هذا الإنسان الذي تقدّم وقدّم نفسه وسبقنا، فلو أردنا أن نتحدث بإنصاف، ويجب أن نتحدث هكذا وبهذه الصورة.
أمّا المسألة الاُخرى التي تأتي عقب هذه المسألة في: أن مثل هذه الثورة العظيمة إنتصرت إذن بقوة الشعب وإرادته وبقادة أو قيادة اعتمدت بشكل كامل على عواطف الشعب، والشعب كان يحبّها ويعشقها. فماذا كان يجب أن تقوم به هذه الثورة؟
إنّ أول عمل هذه الثورة هي إلغاء الامتيازات الظالمة التي حصل عليها الاجانب طوال هذه السنوات في هذه البلاد، وهذا شيء طبيعي، فكل محبّ لوطنه كان ناقماً من ان يرى بريطانيا (مثلاً) جاءت وسيطرت على النفط الإيراني، وكل محبّ لوطنه كان يصيبه الحزن حينما يعلم بذلك. فكثير من رجال الدولة في الفترات السابقة وأعضاء مجلس الشورى الوطني في دوراته الثلاث الأولى ـ قبل أن يسيطر رضا شاه ـ الذين كانوا ممثلين حقيقين ومنتخبين من قبل الشعب، كانوا معارضين لمنح الامتيازات للدول الأجنبية، وحتى أن كثيراً من الشخصيات الوطنية الحقيقية لم يكونوا على استعداد لمنح الامتيازات للأجنبي، إلاّ أنّهم لم يكونوا يجرأون على إبراز ذلك؛ لأن الشعب لم يكن يساندهم بسبب عدم وجود مكانة شعبية لهم بين أوساط الشعب. فحينما كان رئيس الوزراء يتفوّه بكلمة يُشمّ منها رائحة معارضة المصالح الأجنبية، كان يعزل من منصبه مباشرة، وعندما كان رجل دولة يتكلم بكلام تُشمّ منه رائحة الاعتراض على الامتيازات الأجنبية كانوا يبادرون إلى عزله فوراً. فلو كان هذا الشخص كالمرحوم السيد المدرّس (رض) مقاوماً وصامداً بالرغم من الاعتداء عليه ونفيه ومن ثم قتله وهو صائم على يد شقي مثل رضا شاه، إلاّ أنّ هؤلاء لم تكن لهم شجاعة مدرّس وإيمانه، فحينما كانوا يتفوّهون بكلمة وينظر إليهم الأجنبي بعين الغضب كانوا يبادرون إلى السكوت فوراً، ولهذا فقد ازدادت الامتيازات الأجنبية في إيران يوماً بعد يوم. أيّها الاُخوة والأخوات في جميع أرجاء البلاد! لقد اكتُشف في هذه البلاد مصدر للثروة باسم النفط، وكان هذا المصدر كالكنز الذي عثر عليه الشعب، وبمجرد اكتشاف هذا الكنز في هذه البلاد توافد الأجانب على إيران ولا سيما الانكليز ـ وتبعية هذا الأمر تقع على عاتق الانكليز ـ وسيطروا على هذا الكنز واستخرجوه ونهبوه لسنوات طويلة من دون أن يفكروا أنّه مغتصب وأنّه ملك للشعب الإيراني. فهل هذا الأمر لا يحزّ في النفس؟ إن مسألة النفط هي إحدى المسائل المؤلمة جداً بالنسبة للشعب الإيراني، وهي مسألة لم توضّح لحد الآن بصورة كاملة، فقد جاء المستعمرون وأبرموا اتفاقية مع رجال الدولة الخائنين في العهد القاجاري لمدة ستين عاماً، وهي إتفاقية دارسي الأولى، أي أنّه أصبح لهم الحق ـ ولمدة ستين عاماً ـ بأن يأخذوا النفط الثمين الذي كانت تحتاج إلى المال، والمال كان يحصل من خلال عمل المصانع وعجلة تلك المصانع كانت تتحرك بالنفط. ولهذا فقد كان النفط الإيراني أثمن شيء بالنسبة لبريطانيا، فجاءت إلى إيران وأخذت النفط بقيمة زهيدة جداً بحيث لو أنّها كانت تأخذ برميل من الماء لكلّفها أكثر من قيمة برميل من ذلك النفط، وكما قلنا فقد أبرموا إتفاقية لمدة ستين عام في هذا المجال. وبعد ذلك جاءوا برضا شاه إلى الحكم لأنّهم ـ الإنجليز ـ كانوا يبحثون عن شخص يتمكن من القضاء على الخارجين والمتمردين على الحكومة المركزية والذين كانوا قد تمرّدوا في مختلف أنحاء إيران في زمن الحكومة القاجارية، وكان كل واحد منهم يتخذ لنفسه مسلكاً معيناً بحيث أصبح من الممكن أن يشكّلوا ـ في السنوات الأخيرة من عهد تلك الحكومة ـ خطراً على المصالح البريطانية في إيران. فلذا كانت بريطانيا تريد شخصاً يضع حداً لتصرفات هؤلاء، ويُجلس كل واحد منهم في مكانه، وكانت تريد ان يكون ذلك الشخص استبدادياً لايعرف سوى منطق القوة ويكون في الوقت ذاته عميلاً وتابعاً لهم، فوقع اختيارهم على رضا خان واعدّوه الإعداد الذي يريدون وأوصلوه إلى المكانة التي كان يجب أن يصل إليها ومن ثم جعلوه حاكماً مطلقاً على إيران. فأصبح قائداً للجيش في أول الأمر ثم رئيساً للوزراء وأخيراً نصبّوه ملكاً على إيران. وبعد مرور عدة سنوات فكّر رضا شاه أن يأخذ من بريطانيا مبالغ أكبر من المال ـ إذا أمكنه ذلك ـ ثمناً للنفط الذي كانت تأخذه من إيران، طبعاً عمالته كانت محفوظة في محلها، ولكن قد يفكر العميل في بعض الأحيان ان يأخذ من أسياده أكثر مما منحوه، وبما أن طبيعة رضا شاه كانت طبيعة استبدادية، فقد تعامل مع هذه القضية بنفس المنطق، فطرح المسألة أولاً في مجلس الوزراء ثم قام بإلغاء ملف اتفاقية دارسي في المدفأة واحرقه. فكم كان متبقياً من مدة تلك الاتفاقية؟ لقد كان متبقياً منها ثلاثين عام، فقال رضا شاه إن هده الاتفاقية غير عادلة ويجب على بريطانيا ان تمنحنا أكثر من هذا. ومن كان ممثلاً للحكومة الإيرانية في تلك الاتفاقية؟ كان الطرف هو احدى الشركات البريطانية، وبمجرد أن قام رضا شاه بهذه الخطوة، تدخلت الحكومة البريطانية وأثارت ضجة ضده ومرّغت أنفه بالتراب بحيث جعلته يقوم بتمديد العمل بتلك الاتفاقية ـ التي بقي على نهاية العمل بها ثلاثين عاماً ـ ستين عاماً اُخرى. هذا ما قامت به بريطانيا في مسألة النفط، واستمر تصرفها هذا حتى زمن النهضة الوطنية ومجيء الدكتور مصدق إلى الحكم حيث نُقضت هذه الاتفاقية. وبعد ذلك جاءت حكومة الانقلاب العسكري [الذي أطاح بالدكتور مصدق]، فعاد الانكليز ولكن بالاشتراك مع أمريكا هذه المرة ودخل الأمريكان هذه اللعبة أيضاً منذ سنة 1332 ش. وهنا اُريد أن أقول: إنّ الشعب الإيراني لو لم يمح عن قلبه الحقد والبغض ضد الحكومة البريطانية، فإنّ الحق معه بنظر كل إنسان عاقل. فهذه الحكومة الظالمة والمعتدية وهؤلاء الذين يقبعون اليوم في زاوية من العالم ويتحدثون بأحاديثهم المغرضة والفارغة ضد الحكومة والشعب الإيراني، وقد نسوا ما ارتكبوه بحق هذا الشعب، طبعاً إنّ الله سبحانه وتعالى قد أذلّهم وسلب منهم تلك القوة والقدرة بحيث لم يبق لبريطانيا في الوقت الحاضر احترام أو قوة تذكر في العالم. وبمجرد ما شعر الأمريكان بأن الساحة مفتوحة أمامهم وأنّ الإنكليز لا يستطيعون السيطرة عليها وحدهم، بادروا إلى دخول تلك الساحة أيضاً، ومنذ عام 1332 ش وحتى انتصار الثورة الإسلامية سيطرت أمريكا وبريطانيا على آبار النفط الإيراني وقاموا بنهب هذه الثروة بكل ما وسعته قدرتهم وإمكانياتهم، فهل تريدون من الشعب الإيراني أن يصفّي قلبه مع هؤلاء؟ إذن كان النظام البهلوي عميلاً لهذه الدول ومحمد رضا بهلوي كان يتصرف وكأنه شرطياً لأمريكا في إيران، فكانوا يأمروه بتعيين رئيس الوزراء الفلاني وعزل رئيس الوزراء الفلاني. وهو ينفّذ كل ما يطلبون منه، ولو كان يريد في بعض الأحيان أن يعزل رئيس الوزراء إلاّ أنّ الأمريكان لم يكونوا موافقين على ذلك، كان يذهب إلى أمريكا ويلتقي بهذا وذاك ويتباحث مع هذا وذاك حتى يسمحوا له بعزل رئيس الوزراء الفلاني. هذه هي الحالة التي كانت سائدة في البلاد، والسفير الأمريكي والبريطاني في طهران هما اللذان كانا يحددان الخطوط الأساسية لسياسة البلاد. فهل تدركون الآن لماذا يغضب الأمريكان؟ وهل تدركون لماذا يقوم المسؤولون الأمريكان بجولات في العالم ـ ولا سيما وزير خارجيتهم القبيح والكريه ـ ويصرّحون بأننا نريد الضغط على الحكومة الإيرانية حتى تغير من سياساتها، فما هي السياسات التي يريد هؤلاء ان تتغير؟ ففي يوم من الايام كان حاكم هذه البلاد ـ ذلك الشخص الذي كان موجوداً في إيران ـ باسم شاه إيران، ذلك المسكين المسود الوجه الذي كان يمتثل الأوامر التي كانت تصدر إليه من سفير أمريكا وبريطانيا، وينفذ كل ما يقولون له في المسائل الاساسية للبلاد. بينما هم يواجهون اليوم نظاماً لا يعير أهمية لأهداف أمريكا في أي عامل من عوامل سياساته الأساسية، يواجهون نظاماً كانت أول خطوة قام بها هي إلغاء الامتيازات التي حصلوا عليها في إيران، وهذه حقيقة لا شك فيها في باب الثورة الإسلامية.
أمّا المسألة الثانية فهي: بما أن الثورة أوجدت نظاماً شعبياً، وبما أن هذه الثورة كانت تعتمد على الشعب، وبما أن قائد هذه الثورة كان محبوب الشعب والشعب يقف خلفه، فلذا لم تنتظر (هذه الثورة) مرور الوقت لإلغاء الامتيازات الأجنبية، بل قامت بإلغاء تلك الامتيازات بعد انتصارها مباشرة. طبعاً إننا لم نقطع علاقاتنا مع أميركا في بداية الثورة بل بقت هذه العلاقة وإلى عدة أشهر بعد انتصار الثورة قائمة مع أمريكا، وإنّما اُلغيت الامتيازات الأمريكية فقط. إلاّ أنّهم كانوا يريدون نهب النفط الإيراني، فقلنا لهم لا يمكن ذلك، كانوا يريدون الاستفادة من عوائد الاستثمارات الظالمة التي كانت موجودة في إيران والتي كانت مستثمرة من قبل نفس الحكومة الإيرانية، فقلنا لهم لا يمكن ذلك، كانوا يريدون ان يكون لهم وجود في الجيش ولا سيما في القوة الجوية، فقلنا لهم لا يمكن ذلك. كانوا يريدون أن تكون قاعدتهم التجسسية ـ السفارة الأمريكية السابقة ـ فعّالة ونشطة، فقلنا لهم لا يمكن ذلك. فبقيت سفارتهم بعد انتصار الثورة مفتوحة لعدة أشهر وكان لهم سفير ومسؤولون وموظفون في تلك السفارة. وبعد ذلك ذهب طلبة الجامعة وسيطروا عليها، فوجدوا أن تلك السفارة كانت مركزاً للارتباط مع العناصر المعادية للثورة ولنظام الجمهورية الإسلامية، كانت وسيلة للأخذ والعطاء السياسي، وسيلة لدعم هذا الشخص وربطه بذاك، وهي نفس المهمة التي كانت تقوم بها السفارة البريطانية قبل الثامن والعشرين من مرداد [1332 ش وهو يوم وقوع الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة الدكتور مصدق] فقد كانت تتصل بهذا وذاك وتربط هذا بذاك وتعطي الأموال لفلان وتسلّم السلاح لآخر وترسم الخطط لفلان. كل ذلك من أجل ان يقع شيء ضد الجمهورية الإسلامية. ولذا فقد أطلق الشعب الإيراني اسم وكر التجسس على تلك السفاره، ولم يكن الواقع غير ذلك، فذلك المكان كان حقاً وكراً للجاسوسية. إذن المسألة الثانية هي قيام الجمهورية الإسلامية بإلغاء المصالح الأمريكية والبريطانية في إيران، وان أغلب الذين اُلغيت مصالحهم غير الشرعية في إيران كانوا من هاتين الدولتين. طبعاً اننا احتفظنا بعلاقاتنا مع دول العالم، وإلى الآن لنا علاقات سياسية مع بريطانيا، إلاّ أنّ هذه العلاقة برأيي من نوع العلاقات المتزعزعة، والسبب في ذلك هو ان البريطانيين لا يستطيعون الامتناع عن إبراز عدائهم للثورة الإسلامية، وبين الحين والحين يقومون بلدغنا، وتصرفات الحكومة البريطانية هي هكذا دوماً. وبرأيي فإنّ الافضل للحكومة البريطانية ان تكون حذرة أكثر في تعاملها مع إيران؛ لأنّ ماضيها في إيران ماض أسود وسيء للغاية. وبما أن الشعب والحكومة الإيرانية احتفظت بعلاقة سياسية مع تلك الدولة، فعلى البريطانيين أن يتصرفوا بحذر كبير. فلا يتحدثوا بشيء يشعر من خلاله الشعب الإيراني بأنّهم ما زالوا يحتفظون بنفس أهدافهم الخبيثة التي عملوا وفقها عشرات السنين، وإن كانت بريطانيا ليست بريطانيا تلك الايام، لأنّ بريطانيا تلك الأيام قد انتهت.
المسألة الاُخرى التي أود التعرض لها في مسألة الثورة أيضاً ـ طبعاً لقد أطلت عليكم في الكلام وأنا ملتزم ان تكون الخطبتين قصيرتين، ولكن بما أنّنا في شهر رمضان، فلا مانع من استغلال هذه الفرصة بشكل أكبر ـ : وهي أنّ من الميزات المهمة لهذه الثورة هي منحها العزة للإسلام والمسلمين على المستوى العالمي، وهذا أمر واقع ولا يرقى إليه الشك. فالمسلمون في أي مكان من العالم سواء كانوا مجتمعات إسلامية أو دول إسلامية أو شخصيات إسلامية كان ينتابهم الشعور بالانفعال من الظروف التي كانت تمر بهم، ولم يكونوا يعيرون أهمية لوجودهم ورسالتهم، وكانت هناك مجموعة من المفكّرين المسلمين المخلصين تدافع عن الإسلام؛ ولكن لم يكن دفاعهم قائماً على أساس الشعور بالعزة والاقتدار، بل كان قائماً على أساس الحب والتحرق على الإسلام فقط، لأن الإسلام كان يعيش الغربة. وفي كل هذا العدد من البلدان الإسلامية في أفريقيا وآسيا وفي الشرق الأوسط كم من الأنظمة جاءت إلى الحكم وكم من الأنظمة إنهارت، وفي جميع هذه البلدان كان الإسلاميون يعيشون العزلة والانزواء. افترضوا بلداً كالعراق (مثلاً) كان يحكم فيه نظام ملكي ثم سقط ذلك النظام وجاءت جماعة اُخرى إلى الحكم، ثم ذهب هؤلاء وجاء آخرون إلى الحكم و.... إلى أن وصل الأمر إلى البعثيين، ففي جميع هذه الأحادث والتحولات لم يكن للإسلاميين أي دور. وبالرغم من وجود هذا العدد من المسلمين ـ لأنّ الغالبية العظمى من الشعب العراقي هم من المسلمين ـ، إلاّ أنّه لم يكن لهم أي دور في جميع هذه التحولات. أو في مصر ـ وإن كان يوجد فيها الاخوان المسلمين ـ حدث هناك تغيير حيث سقط النظام الملكي وقام النظام الجمهوري الثوري وكان عبد الناصر موجوداً أيضاً، وبعد ذلك توفي عبد الناصر وجاء شخص آخر، ثم ذهب ذاك الشخص وجاء شخص ثلاث. ففي هذه الفترة ـ قبل انتصار الثورة الإسلامية ـ كانت جميع هذه الأحداث تقع بمنأى عن الخط الإسلامي والعناصر الإسلامية، ولم تكن للعناصر الإسلامية أية مكانة فيها. فنفس الثورة المصرية كان للعناصر الإسلامية دور فعّال فيها، ولكن بمجرد قيام الحكومة لجديدة أبعدت تلك العناصر عن الساحة فسجنت بعضهم وأعدمت البعض الآخر وأخرجت الآخرين عن الساحة، فلم يكن للإسلام وجود. ولكن حينما إنتصرت الثورة الإسلامية: أولاً شعر كل مسلم واع إينما كان في العالم بأنّه أصبح يتمتع بالعزة والاقتدار. فكثير من الشخصيات الإسلامية البارزة كانوا يقولون لنا في السنوات الاُولى لإنتصار الثورة: إننا وبمجرد سماعنا لصوت الإمام من الإذاعات وهو يعلن قائلاً: “إنني ساُقيم حكومة أو جمهورية على أساس الإسلام” شعرنا وفي أي مكان كنا بأننا قد إنتصرنا، وكل مسلم وإينما كان شعر بأنّه قد انتصر وحصل على العزة والكرامة. وصحيح بأنّ قادة المسلمين والشخصيات الإسلامية من المفكرين الإسلاميين والشعراء والفنانين والسياسيين وعلماء دين في السنوات الثلاث أو الاربع الأولى من إنتصار الثورة الإسلامية حينما كانوا يأتون إلى إيران ـ وما زالت الحالة كذلك كل ما في الأمر حدثت أنّه في الوقت الحاضر أمور جديدة نتيجة لمرور الوقت، وسأتعرّض لذلك فيما بعد ـ وبمجرد ما كانت تقع أعينهم على الإمام أو على تلك الحسينية ـ حسينية جمران ـ أو تقع أعينهم علينا أو على المسؤولين في البلاد أو على مراسم صلاة الجمعة كانوا يشرعون بالبكاء، وكانوا يقولون ماذا فعلتم بالعالم الإسلامي. فكانوا يشعرون بالعزة من إنتصار الثورة، ونفس هذا الشعور بالعزة والكرامة هو الذي أدى فيما بعد إلى أحداث تبعث على الحماس في آسيا وافريقيا، تلك الأحاديث التي أصبحت الشغل الشاغل للأمريكيين والمستكبرين في العالم في الوقت الحاضر. وهم حينما يقولون إنّ الجمهورية الإسلامية تهدد مصالحنا، وإنّ إيران تشكّل خطراً علينا، كل ذلك بسبب القلق الذي ينتابهم من هذه الثورة. فانظروا إلى الجزائر هناك وإلى مصر، وانظروا إلى فلسطين المحتلة حيث كانوا يتصورون أن كل شيء قد انتهى هناك، بينما تشاهدون الآن الحماس الذي عليه المسلمون هناك والكفاح العظيم الذي يخوضونه ضد العدو. وانظروا إلى قلب أوروبا وما يجري في البوسنة والهرسك وكيف أن جمعاً من المسلمين وبدوافع إسلامية ـ بالرغم من أنّهم لايعرفون الشيء الكثير عن الإسلام إلاّ أن الدوافع إسلامية والشعور إسلامي، وهو نفس الشعور الذي منحتهم ايّاه الثورة الإسلامية ـ كيف أنّهم وقفوا ضد أعدائهم. حتى إنني حينما دخلت إلى شوارع سراييفو وسمع الأهالي بمجي رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران إلى هناك ـ لأننا كنا ضيوفهم وقد قامت الإذاعة والتلفزيون والصحف في سراييفو بنشر صور وتفصيلات زيارتنا لبلغراد وبعد ذلك طلبت زيارة البوسنة والهرسك ـ فملأوا الشوارع في سراييفو، فكان الرجال والنساء يبكون ويصفقون؛ بسبب الشوق الإسلامي والروح الإسلامية التي كانوا يمتلكونها. فهذه العزة الإسلامية والاعتزاز بالإسلام والتفاخر والمباهات بالإسلام قد اُحيبت لدى المسلمين من جديد وأصبح الإسلام عزيزاً، وشعر المسلم بأنّ الإسلام سبب للعزّة. وهذه كانت من بركات الثورة الإسلامية وتمثّل أحد أبعاد هذه الثورة المباركة وكما يقال فإنّ هذه النقطة تمثّل العمق الاستراتيجي لثورتنا والذي يريد المستكبرون ان يسلبوه منا. فلو كانت لدى الإنسان خيمة ـ مثلاً ـ ولديها عشرات الحبال المرتبطة بأوتاد قوية وثابتة في عشرات الأماكن، فكيف تكون هذه الخيمة من القوة والاستحكام بحيث لا يستطيع أي إعصار أن يحركها. وعندما تلاحظون بأن الشعوب الإسلامية في أوروبا وآسيا وأفريقيا تتكلّم لصالح الثورة وتدعم فتوى الإمام بهذه الصورة وتستقبل آخر جمعة من شهر رمضان [يوم القدس] والاُمور الاُخرى بهذا الشكل الرائع وتطلق الشعارات الإسلامية، كل ذلك يُمثّل عمقاً استراتيجياً للجمهورية الإسلامية، هذا العمق الذي لا يتحمّل الأعداء مشاهدته. هذه كانت نقاط ثلاث.
أمّا النقطة الرابعة وهي مترتبة على هذه النقاط الثلاث فهي: خلق الشائعات. فإحدى أهم الظواهر وأكثرها أساسيةً فيما يرتبط بالثورة الإسلامية ـ ومن المحتمل أنّها نادراً ما كانت موجودة بالنسبة لظاهرة اُخرى في العالم بهذه الصورة ـ هي مسألة الحملات الإعلامية وبثّ الدعايات الكاذبة والمعادية للجمهورية الإسلامية. أيّها الاُخوة والأخوات! إنّ القوى المعادية للثورة الإسلامية وللإسلام كالحكومة الأمريكية والحكومة البريطانية والصهاينة ـ الصهانية ودولة (إسرائيل) الغاصبة هما آلة بيد أمريكا، وأساساً أنّهم اقاموا هذه الدولة في هذه البقعة لكي تنفّذ مخططاتهم ـ ووكالات الأنباء والمحطات التلفزيونية التابعة لهم قامت ومنذ اليوم الأول لإنتصار الثورة الإسلامية وإلى اليوم بتوجيه الإعلام المعادي ضد الجمهورية الإسلامية بصورة كبيرة وبنوعية عالية، وأشاعوا كلما ورد على ألسنتهم من أكاذيب، ففي مسألة حقوق الإنسان ـ مثلاً ـ حيث من الممكن أن يكون بعض الناس في العالم ممن يصدّقون بذلك، ولكن هذه المسألة هي من أكاذيب هؤلاء أيضاً. فهم يقولون بأنّ حقوق الإنسان تنتهك في إيران وحينما نسألهم أن يؤتونا بما يثبت ذلك، فإنّهم يقدّمون لنا قائمة بأسماء مجموعة من الأشخاص ويقولون إنّكم أعدمتم هؤلاء الأشخاص، فمن هم هؤلاء؟ إنّهم مهرّبوا المخدرات، مهرّبوا الهيروئين والمورفين والذين لو أمكن أن يعدموا أكثر من مرة لكانوا مستحقين لذلك. فهل هذا انتهاك لحقوق الإنسان؟ يتّهموننا بالإرهاب، فما هو دليلكم على أن إيران دولة إرهابية؟ وتقوم بتصدير الإرهاب؟ فيقولون لاحظوا ماذا يفعل الناس في لبنان وفلسطين. حسناً فما هي علاقة ذلك بإيران؟ في فلسطين هناك مجموعة عرفت مسؤولياتها. نعم لاشك في أنّها استلهمت تلك الروح من الثورة الإسلامية. وفي لبنان هناك اُناس تيقّظوا ويقولون لكم لماذا أتيتم بـ(إسرائيل) الغاصبة والصهاينة الذين ليس لهم وطن وسلّطتموهم على فلسطين ولبنان؟ فما علاقة هذه المسألة بإيران. هناك مجموعة تدافع عن بلادها فهل هذا إرهاب؟ وحينما يقوم هؤلاء بهذه الأعمال فهل هذا يعني بأنّ إيران قامت بتصدير الإرهاب؟ انظروا كم أنّ هذا الكلام مضحك وتافه. وهم يبثون الشائعات في الاُمم المتحدة ويطرحونها في لجنة حقوق الإنسان، وبعد ذلك تقوم الصحف بنشر ذلك ،ومن ثَمّ تبادر صحف اُخرى للتصدي لهذا الأمر، ثم تطرح هذه المسألة في الإذاعات ومحطات التلفزيون، وبعد فترة يصيبهم الإرهاق فيسكتوا، وبعد شهر أو شهرين يعيدون الكرّة من جديد ويقومون بتكرار نفس المسائل، وهم يعملون على هذا المنوال منذ اليوم الأول لانتصار للثورة. طبعاً هناك بعض السذج الذين يصّدقون تلك الشائعات. ولكن ما هو الهدف من هذا الإعلام؟ ومن خلق وبثّ كل هذه الشائعات الكاذبة؟ الهدف هو القضاء على المكانة العظيمة التي تحتلها ثورتنا في أوساط المسلمين وغير المسلمين. فكلما تسمعون من أخبار كاذبة في وكالات الأنباء ووسائل الإعلام منشؤها هؤلاء. إنّهم يحالون الانتقام منا، وأنّ النظام الأمريكي والمستكبر والنظام البريطاني اللذين كانت لهما مصالح كبيرة في إيران، وقد قامت هذه الثورة وهذا الشعب بإلغاء هذه المصالح، يعطيان لأنفسهما الحق في الانتقام من هذا الشعب، لأنّهم أعداء، ثم يأتي ممن يدعي التعقّل ويطالبنا بأن نفكّر تكفيراً عقلائياً. إنّ هؤلاء موتورون من هذه الثورة، ولن يرضوا إلا بسقوط الثورة، ويقال لهم تفضّلوا ايّها السادة اللصوص وسيّطروا على إيران مرة اُخرى، إنّهم لا يرضون إلاّ بهذا ولا يرضيهم أقل منه. وأمّا الصهاينة فلهم الحق في معادتنا أيضاً، إنّنا نقول يجب اقتلاع جذور الصهيونية من منطقة الشرق الأوسط. الصهيونية التي قالت عنها الجمهورية الإسلامية كراراً بشكل رسمي وقاطع، وستبقى تقول بأنّها يجب أن تُمحى من الوجود. فهل تريدون منها أن لا تكنّ العداء للثورة الإسلامية. هذه هي حقيقة القضية. فهم يختلقون الشائعات ويبتدعون الأكاذيب، طبعاً إنّ إعلامهم أقوى من إعلامنا ـ. فليس لدينا كل هذه الوسائل والأجهزة المتطورة، كما أن لديهم تواجداً إعلامياً في كل مكان وينفقون الأموال الطائلة في هذا المجال ولهم إذاعات كثيرة، وهم يهدفون من إعلامهم المكثّف هذا، التسلل إلى الداخل. وفي الخارج يريدون تجهيز أعدائنا ويعزلون أصدقائنا عن الثورة. صحيح أنّهم يقومون بكل هذه النشاطات الإعلامية الواسعة، ولكن أعلموا أيضاً أنّه يوجد بعض المسؤولين في تلك الدول ممن يمتلك ضميراً حياً ويرون الواقع ويشاهدون بأنّ هذا الواقع هو غير ما ينعكس في وسائلهم الإعلامية، إلاّ أنّ العداء الجنوني الموجود لدى هذه الأنظمة يبلغ حداً بحيث يمنع هؤلاء من التحدّث، وإن تحدّثوا فإنهم سيسحبون كلامهم فيما بعد. فمن بين الأمريكان والبريطانيين يوجد من يملك ضميراً حياً ويدرك الحقيقة ويعترض على هذه الأنظمة لمعاداتها للجمهورية الإسلامية بهذا الشكل السافر. ولاعتبارها الجمهورية الإسامية عدواً لها واختلافها لهذه الشائعات والأكاذيب ضد الجمهورية الإسلامية والتي لا أساس لها من الصحة، إلاّ أنّ الهيجان الجنوني للأعداء من الحدة والكثافة بحيث أنّه يؤدّي إلى ضياع تلك الكلمات وسط الصيحات الجنونية التي تطلقها وسائل الإعلام هناك. وأنّا اُريد أن اُؤكّد هنا شيئاً واقعياً لأبناء الشعب وهو أنّ كل هذا العداء وكل هذا الإعلام المعادي وكل هذا الحقد هو أصغر بكثير من قوة واقتدار والحقيقة المتأصّلة لثورتنا وأدنى منها بكثير. إنّ الثورة أعظم وأكبر بكثير من كل هذه الاُمور. فلاحظوا أنّهم عملوا خلال الـ (15 أو 16) عام بكل ما استطاعوا وكل ما بلغه جهدهم. بينما نحن اليوم أقوى ـ بفضل الله ـ مما كنا عليه قبل خمسة اعوام، وقبل خمسة أعوام كنا أقوى من قبل عشرة أعوام، وقبل عشرة أعوام كنا أقوى من قبل خمسة عشر عام وأوائل الثورة. فيوماً بعد يوم يزداد ـ بفضل الله ـ هذا النظام وهذا الشعب قوة ولا يوجد شك في أنّ العدو عاجز أمام هذه الثورة. وهذا نفسه يعدّ شاهداً على أنّهم بذلوا كل جهودهم وإمكانياتهم من أجل توجيه ضربة لهذه الثورة وفيما بعد سيكون الأمر كذلك أيضاً.
اقتدينا في الثورة بالإسلام إن الثورة تعدّ بمثابة تحول أساسي قائم على سلسلة من القيم فضلاً عن كونها حركة تقدّمية؛ فالذي حدث في بلدنا هو ثورة إسلامية، وتحوّل عظيم في الأركان السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمع، وحركة للأمام، وخطوة نحو تقدّم البلاد والجماهير. إننا لم نحذُ حذو الشرق أو الغرب في هذا النظام المنبثق عن الثورة، وهذه ملاحظة بالغة الأهمية؛ فلم يكن لنا أن نتأسى بهؤلاء وما لديهم من أنظمة نعدّها خاطئة ومخالفة لمصالح البشرية، ولم يكن الأمر متعلقًا بتعصّب مذهبي أو ديني أو جغرافي، بل كان منطلقاً من أن الأسس التي تقوم عليها الأنظمة الشرقية الشيوعية ـ والتي لم يعد لها وجود اليوم ـ وكذلك الأنظمة الغربية، هي أسس خاطئة، ولهذا فلم نستطع ولم نقبل بمحاكاتها، حيث إن لدينا قيماً أخرى أشرت إلى بعضها. وأمّا السبب في عدم اقتدائنا بهذين النظامين العالميين ـ الشرقي الشيوعي، والغربي الرأسمالي ـ فهو أنهما نظامان باطلان؛ لقد كانت الأنظمة الشيوعية أنظمة مستبدة ترفع شعار الحكومات الشعبية بينما هي ملكية في الواقع! ومع أنها كانت تدّعي معارضة الملكية، فإنها لم تكن سوى ملكية من الناحية العملية، فلقد كانت في غاية الاستبداد، وكانت الحكومة تسيطر تماماً على الاقتصاد والثقافة والسياسة والنشاطات الاجتماعية المختلفة وسوى ذلك ممّا يبدو للعيان. وكانت الشعوب لا تملك من أمر نفسها شيئاً في ظل الأنظمة الشرقية. وإنني شاهدت ذلك عن قرب لدى زيارتي لتلك البلدان وهي في طريقها للاضمحلال. ومع أنه كانت توجد بعض الحكومات التي تُسمّى بالعمّالية في بعض البلدان المختلفة والفقيرة، إلاّ أنها كانت حكومات ملكية في حقيقة الأمر تكرر نفس ما كانت تقوم به البلاطات الملكية البائدة من أخطاء! فلم تكن ثمّة انتخابات في تلك البلدان، ولم يكن هناك صوت للشعب والجماهير، ولكنهم كانوا يسمّون أنفسهم بالديمقراطيين ويدّعون الشعبيّة! إن الشعوب كانت غائبة تماماً؛ حيث كانت تابعة للحكومات بصفة مطلقة من الناحية الاقتصادية وكذلك من الناحية الثقافية! وقد كان واضحاً أن مثل تلك الأنظمة محكومة بالزوال. ومع أنها استطاعت أن تجذب إليها بعض جموع الشباب في العالم وأن تقيم بعض الحكومات بسبب ما كانت ترفعه من شعارات برّاقة وجذابة، إلاّ أنها لم يُقدّر لها الدوام والاستمرار، حيث شاهدنا ما آلت إليه من مصير وحُكم عليها بالزوال بعد عدة عقود من الزمن. وكان من الطبيعي بالنسبة لنا ألاّ نقتدي بتلك الأنظمة؛ فعندما انتصرت ثورتنا ـ قبل واحد وعشرين عاماً ـ لم تكن هناك ثورة في العالم إلاّ وقد وضعت تلك الحكومات الشرقية نُصب أعينها، سواء كانت تلك الحكومات تسمّى بالماركسية أو بالاشتراكية في أحسن أحوالها؛ لكن الإسلام والشعب الإيراني وقائده قد رفضوا تلك الأنظمة ووضعوها جانباً. والأمر كذلك بالنسبة للغرب، حيث لم نرغب ولا يمكن أن نرى فيه أسوة لنا؛ فقد كانت لدى الغرب أشياء، ولكنها كانت على حساب أشياء أخرى تفوقها أهمية. إن الغرب كان لديه العلم، ولم تكن لديه الأخلاق، وكانت لديه الثروة دون العدالة، وكانت لديه التكنولوجيا الصناعية، ولكنها كانت تسير بموازاة تخريب الطبيعة وأسر وعبودية الإنسان، وكان يتشدّق بالديمقراطية والشعبية، ولكنه كان رأسماليّاً في الواقع ولا يمتّ للشعبية بشيء، ومازال الأمر كذلك. وإنني لا أزعم ذلك ولا أدّعيه، ولا أقوله نقلاً عن كاتب مسلم متعصّب، بل أقوله نقلاً عن الغربيين أنفسهم، فما يحدث الآن في الغرب، وفي أمريكا نفسها، مما يسمّى بالديمقراطية والانتخابات في الظاهر ليس سوى حكم الرأسمالية في الباطن. وإنني لا أرغب في التصريح بأسماء كتّابهم أو كتبهم، ولكنّ الكتّاب الأمريكيين ومَن هناك من المحللين السياسيين يقولون بأن انتخابات البلديات ومجلس النواب ورئاسة الجمهورية ليست سوى مظاهر مصطنعة. إن الذي يلقي نظرة على ذلك الواقع سيجد أن صوت الشعب ليس له أدنى دور تقريباً، وأن الذي يقول الكلمة الأخيرة هو المال ورؤوس الاموال ووسائل الدعاية الحديثة جنباً إلى جنب الخداع واستلاب مشاعر البسطاء من جماهير الشعب! فلا يوجد من الديمقراطية سوى اسمها دون رسمها. لقد كان الغرب يتمتع بالتقدم التقني والعلمي، ولكنه لم يعد سوى وسيلة لاستثمار الشعوب الأخرى. فبمجرد تحقيق الغربيين لأيّ تقدم علمي فإنهم لا يلبثون إلاّ ويحولونه إلى سيطرة سياسية واقتصادية فينتشرون شرقاً وغرباً بحثاً عن السيطرة على ما يمكنهم من البلدان واستثمارها. لقد فعلوا ذلك بلا هوادة، باستثناء ما عجزوا عن إخضاعه لسيطرتهم! كما أنه كانت ثمّة حرية في الغرب، لكنها كانت مصحوبة بالظلم والتسيّب والانحلال. إن الصحف هناك تتحدث بحرية عن كل شيء، لكن إلى من تنتمي؟ هل تنتمي إلى الشعب؟! طبعاً لا.. فليذهب كل من يريد ليشاهد الحقيقة.. واذكروا لي اسم صحيفة واحدة في كل أوربا وأمريكا لا تتعلّق بالرأسماليين! إن حرية الصحافة عندهم تعني حرية أصحاب رؤوس الأموال لقول ما يريدون وتخريب ما يرغبون وفرض أنفسهم كما يطمحون وتوجيه الرأي العام حسب ما يرسمون! وهذه ليست حرية؛ فلو برز من يتحدث ضد الصهيونية ـ كالكاتب الفرنسي الذي ألفّ عدة كتب ضد الصهيونية وفنّد مزاعمهم حول أفران الغاز وحرق اليهود فيها ـ فإنهم يعاملونه بأسلوب آخر! ولو كان ثمّة من لا يرتبط بأصحاب رؤوس الأموال ولا ينتمي لمراكز السلطة الرأسمالية، فإنه لن يجد مجالاً للكلام، ولن يصل ما يقوله إلى الأسماع، ولن تتوفّر له حرية الرأس والتعبير! نعم، فالرأسماليون لديهم الحرية في قول ما يريدون عن طريق ما يمتلكونه من صحف وإذاعات وتلفزة! وهذه حرية لا قيمة لها، لأنها ضد القيم؛ فالحرية لديهم تعني جرّ الجماهير نحو الانحلال وعدم الإيمان، وتعني إشعال فتيل الحروب حيثما يشاؤون، وفرض السلام أينما يرغبون، وتسويق الأسلحة كما يتطّلعون، وهذه هي الحرية! لقد كان من الطبيعي لشعب ضحّى بدمه من أجل الثورة التي قام بها بقيادة عالم رباني ينوب عن الأنبياء أن يتحاشى الاقتداء بالأنظمة الغربية. إذاً فنحن لم ننهج نهج الأنظمة الشرقية ولا الغربية، بل اقتدينا بالإسلام واختار شعبنا النظام الإسلامي طبقاً لما يعرفه عن الإسلام. إن شعبنا كان على دراية بالكتب والروايات الإسلامية وعلى علم بالقرآن ووعي بما يُقال من على المنابر. وإن المثقفين المتدينين أنجزوا الكثير خلال العقود الأخيرة، سواء كانوا من علماء الدين أو من خريجي الجامعات، وكان الشعب قد اعتاد على سلسلة من القيم التي واصل الالتزام بها، وهي قيم لم يكن لها أثر خلال عهد النظام البائد، وكانت الثورة أداة لتحقيق هذه القيم. فما هي هذه القيم؟
القيم التي حققتها الثورة سأذكر الآن عدداً منها؛ فلو أردتم جمعها في كلمة واحدة فإنني سأقول: «الإسلام» ولكنه لفظ مجمل ومن الممكن تفصيله على وجوه شتى. فشعبنا كان يتطلع إلى قيم جمعتها كلمة الإسلام، ولسوف أشير إلى بعض منها: الأولى: الإيمان؛ فلقد كان الاستياء يعمّ الناس جرّاء الانحطاط الأخلاقي والتسيّب وضعف الإيمان، فكانت قلوبهم توّاقة إلى الإيمان. والقيمة التالية هي العدالة؛ حيث إن الناس كانوا يعانون من الظلم المخيّم على المجتمع، فكانوا غارقين في الظلم من الرأس إلى أخمص القدمين، حتى إن بعضهم كان يظلم البعض الآخر. وكذلك داخل النظام الطاغوتي نفسه، حيث كان الظلم سائداً بين عناصره إضافة إلى ممارسة الظلم والجور على الجماهير الشعبية. كما أن الظلم كان ملموساً في القضاء، وفي تقسيم الثروات وتوزيعها، وفي محيط العمل، وكانوا يمارسون الظلم على المدن النائية، وعلى الضعفاء، فكان الظلم شائعاً في كل مكان ولصيقاً بأفراد الشعب، يشعرون به حيثما حلّوا. ولهذا كان الشعب يبحث عن العدالة ورفع الفوارق بين الطبقات والتغلّب على الفقر، وهذه قيمة أخرى غير العدل كانت الجماهير تتطلّع إليها. لقد كان بعض الأفراد أو الطبقات في قمة الثراء والغنى، بينما كان البعض الآخر محروماً حتى من ضروريات الحياة، وهذا ما كان يشمئزّ منه الجميع ويرفضونه. إن الجماهير كانت تحلم بإزالة الفوارق بين الطبقات أو تضييق فواصلها وإننا لم نكن مثل الشيوعيين في ادّعائهم بأن على الحكومة أن تمنح لقمة العيش ورغيف الخبز للشعب، أو أن يكون الناس متساويين في رواتبهم الشهرية. كلاّ، لكن الفوارق بين الطبقات كانت بصورة مذهلة بحيث لا يرضى بها الشعب والثوار المسلمون وقائد الثورة. إن النظام الطاغوتي والأنظمة التي سادت قبله في إيران لم تكن أنظمة شعبية، ولم يكن للشعب أدنى دور في الحياة السياسية؛ فذات يوم جاء البريطانيون بأحد الأشخاص على رأس انقلاب دبّروه في طهران، ثم توّج نفسه ملكاً. وعندما أراد مغادرة إيران ـ أي عندما أرادوا منه مغادرة إيران بسبب كبر سنه وعدم جدواه لهم ـ فإنه نصّب ابنه ملكاً من بعده! فمن كان هذا الابن وما شأنه؟! وما موقف الشعب ودوره؟! هذا ما لم تكن له أهمية! وكان القاجاريون قبل هؤلاء؛ فكان يموت حاكم فاسد ليحلّ محلّه فاسد آخر، ولم يكن للشعب دور في انتخاب حكومته! وكان الشعب يرفض كل ذلك ويتطلع لأن تكون الحكومة جزءاً منه ومنبثقة عنه وأن يكون للجماهير تأثير في انتخاب الحكومات. وأما القيمة الأخرى فهي التديّن؛ فكان الناس يحبون أن يصبحوا متدينين. ولكن النظام البائد كان يسعى في كل مكان ـ في الحياة الاجتماعية وفي الجيش والجامعة والمدرسة ـ إلى جرّ الناس نحو اللاّدينية. وكان الناس يستنكرون ذلك لأنهم كانوا متدينين وكشفوا عن أن الإيمان بالدين والإسلام متغلغل في أعماق حياتهم. ومن تلك القيم أيضاً الابتعاد عن الإسراف والكماليات في أوساط الطبقة الحاكمة. إن الإسراف والكماليات أمر مرفوض في كل مجال، ولكن الذي كان يجعل الناس يشعرون بالحساسية المفرطة هو ظاهرة الاسراف والتبذير والحصول على كافة الكماليات من أموال الشعب في أوساط الطبقة الحاكمة، وهو ما كان يرفضه الناس. ولهذا جاء النظام الإسلامي ليقضي على تلك الظاهرة تأسيساً على هذه القيمة. كما أن من تلك القيم أن يتصف الحكام بسلامة الدين والأخلاق؛ فلم يكن الشعب يرضى بأن يكون حكامه فاسدين أو غير متدينين أو تعوزهم الأخلاق الحسنة والمعاملة الطيبة هم ومن حولهم من عناصر البلاط، كما كان سائداً في ذلك الزمان! ومن ذلك أيضاً انتشار الأخلاق الفاضلة؛ فكان الناس يرغبون في أن تسود المجتمع الأخلاق الطيبة والإسلامية وروح الأخوّة والمحبة والتعاون والصبر والتسامح والغفران ومدّ يد العون للضعفاء ومؤازرتهم، وأن ينتشر قول الحق بين الناس. وحرية الفكر والتعبير واحدة من تلك القيم أيضاً، وهي من القيم الثورية؛ حيث كان الناس يرغبون في أن يفكروا بحرية بعد أن حُرموا حرية الفكر وحرية التعبير وحرية اتخاذ القرار في تلك الأيام، وهو ما كان يقلقهم، فكانوا يسعون لاسترجاع هذه الحريات. ومن تلك القيم أيضاً الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي؛ فكان الناس مستائين من أن تكون بلادهم واقعة تحت السيطرة السياسية للأنظمة الأوربية أو الأمريكية، أو خاضعة للسيطرة الاقتصادية للشركات العالمية التي تتلاعب بمصير البلاد كما تشاء.. ومن حيث الثقافة، فإن الثقافة الإيرانية ثقافة عميقة وغنية، فينبغي أن لا تكون تابعة للثقافات الأجنبية وتمشي على خطاها معصوبة العينين. فالقيم التي ننادي بها هي: الدين والإيمان والاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي والاستقلال الثقافي وحرية الفكر وإشاعة الأخلاق الفاضلة وأن تكون الحكومة شعبية وصالحة وأن يتمتع الحكام بالدين والتقوى.. فماذا كانت الوسيلة لتحقيق هذه القيم؟ إنّها روح الإيمان والجهاد والتضحية والإيثار التي ترفرف بين جنبي هذا الشعب المؤمن. وما الذي استطاع رفع عماد هذا الصرح العظيم والبناء الإسلامي الشامخ بعد قرون في هذا البلد؟ إنها تلك القيم التي أسلفنا الحديث عنها، والتي تقرر أن تكون أساساً للنظام الجديد والحياة لجديدة في هذه المنطقة من العالم. ولهذا فقد ضحى الناس بأنفسهم وأبنائهم واستشهد الكثيرون منهم في سبيل الله عملاً على تحقيق هذه القيم. إن الشعب كان يعرف ماذا يريد وكان يسعى لتحقيقه؛ ولسوف أبيّن فيما بعد أن كل تلك القيم يمكن توفيرها جميعاً في المجتمع، وأن ما حققه النظام الإسلامي منها حتى الآن هو ما لم يكن يحلم به ولا يتصوره أحد. إننا نبدو متخلّفين اليوم لأننا نقارن بين وضعنا الحالي والوضع النموذجي، ولكن إذا ما قارنا بينه، وبين وضعنا في الزمن الماضي وبينه وبين الأوضاع الراهنة في بلدان أخرى، لوجدنا أن هذا النظام كان ناجحاً جدّاً بما حققه من إنجازات في هذا المضمار، وأن هذه الثورة استطاعت حقيقةً أن تفعل الكثير، وهو ما كان يتطلع إليه الشعب. ومع ذلك فإن البعض يحلو لهم القول بأن الشعب لم يكن يدري ماذا يريد! كلاّ، لقد كان الشعب يدري جيداً ماذا يريد، وإنه كان يريد الإسلام. إن الإسلام ليس هو مجرد الصلاة والسجود ـ فهذا جزء من الإسلام ـ وإنّما يعني إقامة نظام اجتماعي وتأسيس حياة عامّة للجماهير قائمة على قواعد راسخة توفر لهم سعادة الدنيا والآخرة وتضمن لهم الاستفادة من العلم والتطور والصناعة والثروة والرفاهية والعزة الوطنية وما سواها، وهو ما كان يتطلّع إليه شعبنا. إن الذين لم يكونوا على دراية بالإسلام، ولم يكونوا يريدونه من أعماق قلوبهم، كان يجدر بهم على الأقل ألاّ يتجرأوا ويتّكئوا على الأنظمة الغربية الطاغوتية أو أن يديروا ظهورهم لهذا النظام. ولكنهم يجلسون هاهنا ويبثّون الإثارات يميناً وشمالاً قائلين بأن الشعب لم يكن يدري ماذا يريد لدى استفتائه حول الجمهورية الإسلامية! كيف لم يكن الشعب يدري ماذا يريد؟! وإذا لم يكن يدري فكيف بذل كل هذه التضحيات وتحمل ثماني سنوات من الحرب المفروضة؟! لقد كان الشعب ومازال يدري جيداً ماذا يريد.
إن هذه القيم السائدة الآن في المجتمع والتي تمثل القاعدة للنظام الإسلامي ينبغي علينا أن نقبل بها جميعاً، إذ لو قبلنا ببعضها ورفضنا البعض الآخر لكان الأمر ناقصاً، ولو أعطينا لبعضها أهمية وتجاهلنا البعض الآخر لما تحّقق الهدف. هذا أولاً. وثانياً فإن الثورة نفسها حركة وتحوّل وتقدّم نحو الأمام، فيجب علينا إصلاح الأساليب الخاطئة يوماً بعد آخر واتخاذ خطوة جديدة بغية تحقيق النتائج المتوخّاة. القيم أساس تحرّكنا أعزائي! إن الثورة ليست أمراً دفعيّاً، بل تدريجي. ولا يوجد في الثورة سوى مرحلة واحدة دفعية وهي مرحلة تغيير النظام السياسي، وأمّا الثورة فلا تتحقق إلاّ بمرور الزمان. فكيف يتسنّى ذلك؟ إن هذا التحقّق يتم عن طريق التحرك نحو الأمام بالمجالات المتخلفة والبحث عن طرق جديدة وأعمال جديدة وأفكار جديدة وأساليب جديدة لتطبيقها في المجتمع يوماً بعد يوم في نطاق وعلى أساس هذه القيم، كي يستطيع هذا الشعب أن يشقّ طريقه للأمام بهمّة ونشاط نحو أهدافه المرسومة. إن التراجع خطأ، والتخلّف خسارة، وحتى التوقّف فهو خطأ أيضاً، فلابد من التحرك والانطلاق نحو الأمام. فأين يكون هذا التقدم الآن؟ وأين ينبغي أن يكون هذا التحول الذي نتحدث عنه، وأين يجب أن تكون هذه الحركة إلى الأمام؟ إنها في كافة مجالات الحياة الاجتماعية؛ فلابد من تطوير القوانين وتوجيهها نحو الأفضل والأكمل يوماً بعد يوم. وكذلك في المجالات الثقافية وعلى نطاق الأخلاق العامة للجماهير، فيجب العمل على تطويرها يوماً فيوماً وتحقيق التقدم. والأمر كذلك أيضاً على النطاق العملي والتربوي وفي مجال التعليم والنشاطات الاقتصادية والفنون وشؤون الحكومة وإدارة البلاد وحتى في الحوزات العلمية، حيث ينبغي على الطاقات الفكرية والشجاعة والمتنوّرة أن تبتدع كل يوم أساليب جديدة وأعمالاً جديدة وأفكاراً جديدة وآمالاً جديدة والانطلاق بها نحو الأمام. وأساس كل هذا ليس سوى هذه القيم. فيجب التحرك في نطاقها والسير على أساسها، وحينئذٍ تتكامل الثورة وتتجسد ملامحها بالتدريج وهو أمر لا نهاية له. كما أن التكامل أيضاً لا حدود له، ولكن إذا ألقى الإنسان نظرة على البلاد كل عشر سنوات أو عشرين سنة فسيجد ثمّة تقدماً ورقيّاً في المجالات المختلفة. إذاً.. فلابدّ هنا من توفر عناصر ثلاثة. وبودّي أن يهتم الشباب بذلك في الدرجة الأولى ولاسيّما تلك العناصر المؤثرة في مجال النشاطات السياسية؛ فعليهم بالانصات لما أقول. هناك عناصر ثلاثة أساسية: أولها الاهتمام بالقيم التي قامت الثورة على أساسها والحفاظ عليها. وثانيها أن ننظر إلى هذه القيم التي قامت ككل لا يتجزأ، فلا يهتم أحدنا بالاستقلال السياسي والثقافي والاقتصادي دون التدين، أو يهتم بالتدين دون الاهتمام بالحرية الفكرية، أو يهتم بحرية الفكر والتعبير دون الاهتمام بالحفاظ على الدين والإيمان لدى الجماهير، إذ لو كان الأمر كذلك لكان ناقصاً. فلابد من الاهتمام بالقيم جميعاً كوحدة كلّية.. وإن الأجهزة الحكومية هي التي يجب عليها أن ترعى هذه القيم وتقوم بالحفاظ عليها وحراستها. وأمّا العنصر الثالث فهو الحركة إلى الأمام؛ فالركود والسكون والصمت يبعث على الجمود والتحجّر والركون إلى القديم، فتف قد القيم فعاليتها وروحها. وإن الإبقاء على كل ما هو قديم يؤدي إلى الدمار، ولا من سبيل للتغلّب على ذلك سوى التقدم والانطلاق للأمام، وهذه الحركة والانطلاق إلى الأمام هو ما عبّرت عنه يوم تاسوعاء «بالاصلاحات الثورية»؛ فلو لم تقم الاصلاحات والتقدم والتجديد على أساس القيم الثورية لأصيب المجتمع بالفشل. فهذه هي الأصول الأساسية، أي الاهتمام بالقيم، وألاّ نفرق بينها، وأن نواصل التحول والحركة نحو الأمام بجدّية في إطار القيم. وفي الحقيقة فإن بيننا في المجتمع من يهتم ببعض هذه الأركان دون بعضها الآخر؛ فثمّة من يهتم بالقيم دون التطور والتحول، وبالعكس فثمة من يهتم بالتحول والتطور، ويتحدث عن التغيير والتجديد، دون أن يعير الأهمية اللازمة للقيم. ولا يعني هذا أنه لا يقبل بها، كلا، بل إنه يقبل بها، إلاّ أن همّه الأول هو التقدم والتغيير والتحول وليس القيم. وثمّة أيضاً من هم على العكس من ذلك، أي أنهم يؤمنون بالتطور ولكن قضيتهم الأولى هي الحفاظ على القيم. وأما بالنسبة للقيم، فهناك من يهتم أكثر بتدين وإيمان الجماهير، وهناك من يهتم بأمر استقلال البلاد من نير تسلّط القوى الكبرى، وهناك من يهتم بموضوع الحرية، ومن يهتم بقضية الأخلاق أكثر من غيرها من الأمور والقضايا الأخرى. وهذا في الحقيقة شيء طبيعي، ولا غبار عليه، ولكن من الأفضل أن يهتم الكل بكل هذه العناصر، وإذا اهتم البعض بعدد من القضايا واهتم البعض الآخر بعدد آخر، فهذا أمر حسن جيد حيث بوسع أحدهما أن يكمل الآخر؛ فالذين يهتمون بالقيم يكملون سواهم من الذين يهتمون بالتحول والتطور، والذين يهتمون بالتحول والتقدم يكملون أولئك الذين يهتمون بالقيم. وإنه من الممكن أن ينشأ خلاف. ولكن هذا الخلاف لا أهمية له؛ فمن الممكن أن يتّهم الذين يهتمون بالقيم أكثر أولئك الذين يهتمون بالتحول بأنهم معرضون عن القيم. وبالعكس، إذ من الممكن أن يتّهم دعاة التطور سواهم من دعاة القيم بأنهم لا يؤمنون بالتقدم والرقي والحركة إلى الأمام وينادون بالجمود والتوقف. فهذه ظاهرة يمكن أن تكون موجودة أو ستوجد في المجتمع، ولكن لا إشكال في ذلك ولا أهمية له، فينبغي على كل فئة أن تتحمل الأخرى وألاّ ترفضها. وعندما يقبل الجميع بالقاعدة الأساسية ـ أي القيم والتحرك في إطار القيم ـ بشكل عام، فلا أهمية حينئذٍ أن يولي البعض أهمية لقسم منها ويولي البعض الآخر أهميتهم للقسم الآخر، ولا داعي لنشوب الصراع. إن الحد الفاصل بين هؤلاء وهؤلاء ليس حدّاً واقعيّاً ولا مصيريّاً، وبوسع الجميع أن يحققوا وحدة عامّة فيما بينهم وأن يجسّدوا الهوية الكلّية للمجتمع الإسلامي والثوري وأن يعملوا كجناحين في الحقيقة، أي جناحين لطائر واحد؛ فلو تحرك الجناحان جيداً لحلّق الطائر وارتفع في الفضاء. إن الذائبين في القيم ـ بشرط ألاّ يديروا ظهورهم للتطور ـ وكذلك الذائبون في التحول والتقدم والحركة للأمام والتغيير والتبديل ـ بشرط عدم التنكّر للقيم ـ سيعودون جميعاً بالنفع على المجتمع كما جناحين مرفرفين، وسيكملون الثورة في الحقيقة، وسيحققون التقدم في ظل القيم، وسيكونون على ما يرام.
الفقيه العادل هو الذي يحقق التطور الشامل وإن الذي يأخذ بالاعتبار كل هذه القيم ويحقق التطور الشامل على شتى الأصعدة هو ذلك الشيء المقترح في دستورنا وفقهنا، وهو وجود الفقيه العادل والعارف بأمور زمانه في المجتمع حتى يكون مناراً وعنصر هداية يأخذ بزمام الأمور إلى الأمام. فلماذا يجب أن يكون فقيهاً؟ حتى يكون عالماً بالقيم الدينية والمُثل الإسلامية؛ فمن الممكن أن يكون البعض جيدين ولكنهم يجهلون أمور الدين ولا يدركون جيداً مضامين القرآن والسنة والحديث والمفاهيم الدينية، وحينئذ من الممكن أن يخطئوا غير عامدين ولا مغرضين. إذاً.. فلابدّ أن يكون فقيهاً. ولماذا يجب أن يكون عادلاً؟ لأنه لو تخلّف عن واجبه فلن يكون هناك ضمان للتنفيذ. ولو كان لا يفكر إلاّ في نفسه ودنياه وسعادته والحفاظ على منصبه فلن يبقى الضمان الضروري لسلامة هذا النظام. إذاً، لو كان عارياً عن العدالة لكان معزولاّ بذاته دون أن يعزله أحد آخر. ولماذا يجب أن يكون عارفاً بأمور زمانه؟ لأنه لو لم يكن كذلك لوقع فريسة للخداع؛ فلابد أن يكون عارفاً بأمور زمانه حتى يعرف الأعداء ويكتشف الحيل والمؤامرات ويتّخذ بشأنها الإجراءات اللازمة حسبما يقتضيه واجبه. وقد راعى الدستور كل ذلك، وهو المطلوب.
الأخطار التي تهدّد الجناحين وهاهنا تكمن المخاطر، والمهم هو أن نحذر الأخطار. إن الخطر يهدد كلا الطرفين، فخطر التحجّر يهدد من يهتمون بالقيم دون الاهتمام بالتطور والتغيير والتقدم، فليكونوا على حذر. كما أن خطر الانحراف يهدد أولئك الذين يهتمون بالتطور والتغيير أكثر من اهتمامهم بالقيم، فليكونوا هم أيضاً على حذر. فليأخذ كل واحد منهما حذره، كي لا يصاب الجناح الأول بالجمود والتحجر، ولا يصاب الجناح الثاني بالانحراف والتمهيد للأعداء والمعارضين لمبدأ القيم. وإن هذين الجناحين لو أخذ كل منهما حذره لاستطاع المجتمع أن يشقّ سبيله نحو التكامل والرفعة التي أرادها الإسلام له في ظل الوحدة المطلوبة. فأحد الأخطار ـ إذاً ـ هو الذي يهدد هذين الجناحين جرّاء الغفلة، ولكن هناك خطراً أعظم من ذلك، فما هو؟ إنه خطر النفوذ، فمن الممكن أن يكون الجناحان وسيلة للنفوذ والتغلغل! وأحياناً يكون بوسع الأعداء أن يتغلغلوا من خلال كلا الطرفين؛ فمن الطرف الأول بذريعة كونه أصوليّاً ولا يرضى بالتطور، ويرفض سبل التقدم ويريد أن يعود بالثورة القهقرى. والأخطر من ذلك هو الطرف الثاني، أي معارضة مبدأ القيم وأصل الإسلام وأساس التدين وقاعدة العدالة الاجتماعية بذريعة التغيير والتقدم والتطور، فيقع نهباً للرأسمالية الغربية، ولا يكون همّه سوى الكسب المادي، ويصبح معارضاً لإزالة الفوارق بين الطبقات، ومخالفاً لاسم الدين، حتى لو لم يصرح بذلك! إنه من الممكن أن يصل هؤلاء إلى الحكم ويدخلوا الساحة باسم التطور والتغيير والتقدم والإصلاح، ومن الممكن أن يتغلغلوا في الهيكل الاقتصادي للمجتمع.. ولو نفذ أمثال هؤلاء الأجانب والغرباء إلى الهيكل الاقتصادي للمجتمع لشكّلوا خطراً عظيماً، لأنه من الضروري أن تتحكم يد أمينة في اقتصاد وأموال وثروات المجتمع. ولكنّ الأخطر من ذلك هو أن يتغلغل هؤلاء في المراكز الثقافية وينفذوا إلى عقول الجماهير وإيمانهم ومعتقداتهم وخط سيرهم الصحيح، فيقبضوا على زمامها ويتحكموا فيها ويحدث ما هو واقع الآن في مجالات الصحافة والإذاعة والتلفزيون في عالم الغرب، أي تتحقق الرأسمالية. وكما أن الإذاعات والتلفزة الدولية والامبراطورية الخبرية العالمية يتحكم فيها الرأسماليون، فإن هؤلاء يدخلون إلى بلادنا ويسيطرون على مؤسساتنا الثقافية ويطمحون إلى طبع بصماتهم في حياتنا عن طريق الثقافة، وهو ما شاهدتُ دلائله قبل عدة سنوات هنا وهناك وأطلقتُ عليه اسم «الغزو الثقافي»، فقبل بذلك البعض ورفضه آخرون من الأساس قائلين إنه لا وجود البتة لهذا الغزو الثقافي! فلو جاء البعض ونادوا بالتطور دون الإيمان بأصل القيم، فواضح أي تطور هذا الذي يريدونه!.. إنه تحويل النظام الإسلامي إلى نظام غير إسلامي. وإن التطور في نظرهم يعني إزالة اسم الإسلام وحذف حقيقة الإسلام والتخلي عن الفقه الإسلامي! وبالطبع فإننا نعرف بعض هؤلاء؛ فبعضهم من مخّلفات النظام البائد الذين أكلوا واتخموا على حساب ذلك النظام ثم لم يستطيعوا أن يجدوا لهم مكاناً بين الجماهير، فجاؤوا اليوم ليجرّوا أنفاسهم ويشمخوا برؤوسهم ويدّعوا الحرية وحبّ الجماهير ويتشدّقوا بالديمقراطية، وهم الذين كانوا عملاء ظلم وجور للبلاط الذي كان يتحكم في رقاب هذا الشعب منذ خمسين عاماً مضت، دون إعادة أدنى اهتمام للشعب طوال تلك المدة! ثم برزوا اليوم ليرفعوا شعار الاصلاحات، وهم الذين عملوا بكل كيانهم في خدمة ذلك النظام! فما معنى هذه الاصلاحات؟! إن هذه الاصلاحات هي الاصلاحات الأمريكية! أي أنكم يا أبناء الشعب الإيراني الذين قطعتم يد أمريكا تعودون لإصلاح أسلوبكم هذا وتأذنون للسادة الأمريكيين بالتفضل لدخول بلادكم ليأخذوا من جديد بزمام الاقتصاد والثقافة وإدارة شؤون هذه البلاد! وأمّا البعض الآخر فلا ينتمون للنظام الغابر، ولكنهم منذ بداية الثورة، وحتى قبل الثورة، أظهروا أنهم لا يرغبون تماماً في إدارة البلاد طبقاً للشريعة الإسلامية! إنهم يريدون اسم الإسلام ويحبون اسم الإسلام، وليسوا أعداءً للإسلام بهذا المعنى، ولكنهم لا يؤمنون أبداً بالفقه الإسلامي والأحكام الإسلامية وحاكمية الإسلام، بل يؤمنون بالأساليب الفردية؛ وقد استطاع بعضهم السيطرة على الأمور والأخذ بزمامها في بداية الثورة.. ولو لم يكن الإمام قد وضع الثورة نصب عينيه لأعادوا الثورة برمّتها وهذا البلد للهيمنة الأمريكية من جديد! إن هؤلاء ينادون أيضاً بالإصلاح، وينادون أحياناً بالإسلام أيضاً، ولكنهم ينضمون لمن يرفعون الشعار صراحة ضد الإسلام ويعربون عن تضامنهم معهم! إنهم ينادون بالإسلام أحياناً ولكنهم يعملون مع أولئك الذين يرفعون شعار معارضة الحكومة الإسلامية وشعار العلمانية وشعار الفصل بين الدين والحكومة وشعار الحكومة اللادينية والحكومة المضادّة للدين وشعار المادية! ومن الواضح أن هؤلاء وصوليون ونفوذيون، وليسوا ممّن يقبلون بالقيم ولا ممّن يؤمنون بالتطور؛ كلا، إنهم فقط وصوليون وأجانب وغرباء.. لقد تحدثتُ قبل عدة شهور من هنا ولكن البعض رفع عقيرته بالاستنكار لهذا المصطلح! نعم، إنهم ليسوا منّا، وإنهم يرفضون الثورة والإسلام والقيم، فلتكن الأجنحة التي هي منّا على حذر من هؤلاء.