سائر الكتب
- الفكر الأصيل
- حول الحكومة الإسلامية
حول الحكومة الإسلامية
إن "الحكومة الإسلامية" تعتبر من أهم القضايا الراهنة للعالم الإسلامي، بل وحتى للعالم غير الإسلامي، فهي أدق المسائل وأكثرها إثارة.
وعندما يكون اسم الإسلام مقروناً بالحكومة والنظام السياسي وتشكيل مجتمع ما، فإنه يكون مثيراً بالنسبة للمسلمين، وفي نفس الوقت مرعباً ومخيفاً لأعداء الإسلام.
ومنذ أن بدأت النهضة الإسلامية (أي منذ بداية القرن التاسع عشر الميلادي)، فإن العالم غير الإسلامي والقوى السياسية العظمى في العالم، التي كانت ـ آنئذ ـ في بداية تكوينها، أحسّت جميعها بالخطر، خاصة وأن استعادة الإسلام لحياته؛ أو بتعبير أدق الإسلام الذي يدّعي الحكومة والنظام الاجتماعي، ظهر أول ما ظهر في المناطق التي كان الاستعمار باسطاً سلطته عليها، والتي كانت تواجه مطامع السياسات السلطوية العالمية.
إن الفكر الإسلامي الثوري الذي يدعو الى الاستقلال وحاكمية الإسلام ظهر خلال القرن الأخير في الهند، ثم في بعض دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط التي كانت تعاني من الظلم والإضطهاد، ومن هنا بدأ الاستعمار يحسب حساباً لتلك المناطق.
إن الاستعمار البريطاني العجوز ـ وللمحافظة على شبه القارة الهندية ـ ارتكب في تلك المنطقة جرائم لم يكن لها مثيل. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن مبادرة بريطانيا لإقامة سلطة لها في بعض مناطق أفريقيا والشرق الأوسط، جاءت لحفظ سلطتها على الهند.
وتزامناً مع الاهتمام الذي كان يوليه الاستعمار البريطاني للهند، سُمِعَت في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي صيحات بعض القادة الدينيين لتلك المنطقة الذين كانوا يدعون الى الجهاد والشهادة، فأدخلت الرعب في نفوس الإنجليز. ولذلك وحتى بعد مرور 50 عاماً على الانطفاء المؤقت للشعلة التي أوقدها كبار علماء الهند في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، مثل السيد أحمد عرفان والشاه عبد العزيز دهلوي، كان عملاء الإنجليز يحاولون تشويه صورة تلك الشخصيات أمام الشعب الهندي وإثارة الناس ضدهم، كما أوجدوا ديناً مأجوراً ليتحدى الدين الإسلامي. لذلك ليس من العجب أن نرى أنه عندما يحمل السيد جمال الدين راية الإسلام في إيران والهند ومصر وأوروبا وتركيا، ويدعو الناس الى الإسلام، فإن ردود فعل المستعمرين في ذلك الوقت، تشكل في الحقيقة جزءاً من أكبر ردود الفعل التي تواجه أي حركة ثورية. وإلا فهل كان السيد جمال يعمل شيئاً آخر في مصر وبقية الدول الأخرى عدا دعوته الناس الى الإسلام؟!
سحق الانتفاضات الإسلامية
وخلال مئة عام، أي منذ بدء النهضة الإسلامية الحديثة، كان الاستكبار العالمي والذي كان ـ آنئذ ـ متمثلاً بالاستعمار الإنجليزي يقضي على كل حركة من جانب العلماء المسلمين، تحمل اسم الإسلام ولها دوافع إسلامية، وكمثال على ذلك سحق الحركات الإسلامية في الهند ومصر وبقية الدول الإسلامية.
هذه المسائل إنما تبين مدى تخوّف العالم الاستكباري والسلطات العالمية من اسم الإسلام الذي يدعو الى الحاكمية وإدارة حياة أتباعه.
وبديهي أن هناك قانوناً عاماً، وهو أن أهل الحق لو صمدوا في دعوتهم لانتظروا وانسحب العدو، وهذا ما حصل بالفعل. لذا فإن أول نموذج لمثل هذا التراجع نراه في مقابل "نهضة التنباك" في إيران التي قادها الميرزا الشيرازي والذي كان يناضل ضد السلطة الاقتصادية لبريطانيا.
فالمرحوم الشيرازي حرك بخطوته تلك الشعب الإيراني، معتمداً على الإيمان الديني لأفراد الشعب، بحيث استطاع في نهاية الأمر أن يهزم العدو.
وبعد أعوام على تلك النهضة، انطلقت "الثورة الدستورية"، حيث تحرك الناس في ذلك الوقت بفتوى وقيادة المراجع الدينيين وعلماء الإسلام، وأجبروا السلطة الاستبدادية على التراجع، كما أفشلوا السياسات العالمية التي كانت تدعم الاستبداد، واستطاعوا أن يشكلوا حكومة تستند الى أحكام الإسلام؛ لكن تلك الثورة فشلت بعد انتصارها، وذلك بسبب أحابيل الاستعمار.
وبعد عدة سنين حدثت في إيران مجدداً انتفاضة مسلحة باسم "انتفاضة الغابة" يقودها أحد علماء الدين المسلمين وبعض المسلمين المجاهدين، يدعمها أكثر علماء الدين.
وفي نفس الوقت، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بدأت في العراق أكبر ثورة لعلماء الدين ضد الاستعمار البريطاني.
وكانت تلك الثورة تعكس ـ في الحقيقة ـ المقاومة العظيمة للحوزة العلمية في النجف الأشرف أمام سلطة بريطانيا على العراق.
وخلال تلك الانتفاضات، حقق المسلمون بعض الانتصارات، وتلقَّوا في نفس الوقت بعض الضربات.
والتجربة التي مر بها المسلمون وغير المسلمين طوال هذه المدة، أثبتت الحقيقة التالية وهي أن الإسلام إذا ما تحرك في نقطة من العالم بهدف إقامة نظام إسلامي، فستكون له القدرة على تعبئة وتشكيل القوى وتحدي القوى الاستعمارية. وقد مررنا نحن بهذه التجربة وخرجنا بهذه النتيجة وهي أنه أينما ظهرت حركة إسلامية شعر الاستكبار العالمي بالرعب منها وحاول التصدي لها.
بديهي أننا نعتقد أن الحق يخرج نتصراً في كل صراع يخوضه ضد الباطل، بالضبط كما يعد القرآن الكريم بذلك {أم يقولون نحن جميعٌ منتصرٌ. سيهزم الجمع ويولون الدبر} (القمر، 44 ـ 45).
وعلى أي حال فإن البحث حول "الحكومة الإسلامية" بحث مهم للغاية بنظر المسلمين، كما هو باعتقادنا أهم بحث يلزم ـ اليوم ـ طرحه في العالم الإسلامي.
وهنا أريد أن أُلفت انتباه الإخوة الأعزة المشاركين في هذا المؤتمر (مؤتمر الفكر الإسلامي) والذين يتدارسون المسائل المتعلقة بالحكومة الإسلامية، الى بعض الأمور:
مسؤولية المفكرين الإسلاميين
منها أن بعض الأشخاص من بين المجتمعات الإسلامية، ومن بين المؤمنين بالإسلام ـ وبتأثير من الدعايات الثقافية المغرضة للأعداء ـ حصلت لهم هذه القناعة وهي أن الإسلام يفتقر الى نظام سياسي وحكومي، وفي نفس الوقت ساق هؤلاء الجماهير المسلمة نحو مثل هذا الاعتقاد.
وإن أهم وظيفة ملقاة على عاتق المفكرين الإسلاميين هي إزالة هذه التصورات الباطلة من الأذهان.
إن الاعتقاد بالتوحيد ووجود الله يعني الاعتقاد بالحياة النوعية الاجتماعية للإنسان، فأصل الاعتقاد بالله وبالأنبياء يقتضي أن ينتخب الإنسان شكل حياته الخاصة بإرشاد من الأنبياء.
والقرآن الكريم يشير الى هذه المسألة في عدة آيات منها {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط...} (الحديد، 25).
ونفهم من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل وأنزل معهم الكتاب ليقيموا القسط، وليقيم الناس بدورهم القسط في المجتمع.
إذاً، فالسؤال هو: ما هي القواعد التي يجب أن تقام الحكومة على أساس منها؟ هذا سؤال مهم.
إن الحكومة تشكل العمود الفقري لحياة المجتمع. إذاً فبواسطة أي شخص، وعلى أساس أي قاعدة مبادئ، وبأي صورة يجب أن تشكّل؟ وهذا سؤال أساسي آخر.
إن جميع المذاهب تجيب عن هذا السؤال، فهل يمكن أن نتصور الأنبياء يتركونه بلا جواب؟
{وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولَّوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون ومَن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} (المائدة، 49 ـ 50).
هذا هو جواب الأنبياء، وهذه الإجابة لا تقتصر على الإسلام فقط، إذ أن جميع الأنبياء جاؤوا ليجيبوا عن السؤال المذكور.
والنظام الذي يظهر على أساس من الاعتقاد الإلهي، له بُعد سياسي يتمثل بالحكومة، كما أن بُعده الاقتصادي قائم على إقامة القسط في المجتمع، كما وله أيضاً بُعد أخلاقي، ونظام سياسي ألا وهو نظام الحاكمية والتشريع وإدارة البلاد، والذي يسمى بـ "الحكومة الإسلامية".
إذاً علينا أن نعمل للقضاء على الأفكار التي تقول إن الإسلام لا يدعو المسلمين لإقامة حكومة إسلامية، لأن كل شعب يؤمن بالإسلام عليه أن يطالب بحكومة إسلامية؛ ولا يمكننا أن نتصور أناساً يؤمنون بالإسلام دون أن يؤمنوا بالحكومة الإسلامية.
إن عدم الاعتقاد بالحكومة الإسلامية، مصيبة كبرى قائمة في العالم الإسلامي.
والمسألة الأخرى هي أن العادة قد جرت بتشكيل حكومات مزيفة بدلاً من الحكومة الإسلامية الحقيقية. فكثير من الذين حكموا باسم الإسلام لحد اليوم، إنما كان وجودهم بمثابة تهمة موجهة الى الإسلام.
فعلى العالم الإسلامي ـ اليوم ـ أن يعرف ما هي الحكومة الإسلامية؟ وما لم يعرف ذلك، فمن المحتمل أن تترك الإدعاءات الباطلة لأعداء الإسلام تأثيرها في هذا المجال.
عندما تكون هناك في زاوية من العالم دولة غنية مثل إيران، تسلَّط عليها الاستكبار العالمي وخاصة أميركا لفترة طويلة، وكان يعتبرها معقلاً قوياً لحفظ مصالحه، وتحدث فيها ثورة على أساس الإسلام، وترحب الجماهير بالحكومة الإسلامية، وتحكّم القرآن في جميع أمورها، فإن هذا الأمر يشكل خطراً على الاستكبار العالمي. ثم إن الاستكبار العالمي لن يتمكن ـ والحال هذه ـ من أن يدّعي بأن الدين هو أفيون الشعوب.
لقد كان هذا الإدعاء قائماً لعشرات السنين، حتى أن البعض قد آمن به. ولكن أي شخص يستطيع ـ اليوم ـ أن يعتقد بأن الدين هو أفيون الشعوب؟ وعندما تقوم أكثر الأفكار الاستكبارية والرأسمالية رجعية بمهاجمة الجمهورية الإسلامية بأحدث الأسلحة، فكيف يمكن اتهام نظامنا بالرجعية؟ وهل يمكن للنظام الذي يدعو الناس الى الاستقلال والحرية، أن يكون رجعياً؟ وهل يمكن للنظام الذي يدعو الناس الى الاستقلال والحرية أن يكون رجعياً؟ وهل يمكن لأعدائنا أن يدّعوا بأن نظام الجمهورية الإسلامية الذي يقف على رأسه إنسان زاهد، إنسان متّقٍ، يجسد حياة الأنبياء، نظام طاغوتي وملكي؟ وهل يمكن لمثل هذا النظام أن يتبع الأهواء والشهوات الدنيوية؟
كيف يريد أعداء الإسلام أن يتحدَّوا نظاماً يدعمه الشعب بكل ما يملكه من طاقات؟
قد يستطيع هؤلاء ـ عبر أحابيلهم ـ أن يوجدوا أنظمة مشابهة، ولكنها تظل مزيفة.
إن خطر تشكيل أنظمة إسلامية مزيفة في العالم الإسلامي اليوم بات كبيراً، وعلى المسلمين أن يأخذوا هذا الأمر بنظر الاعتبار. ومن هنا فإننا نعتقد بوجوب تحديد مفهوم الحاكمية في الدين.
حاكمية الدين
ترى ما معنى حاكمية الدين؟ هل أن الحاكمية تعني السلطة المطلقة لشخص أو فئة معينة على الناس، أم تعني تحمل مسؤوليات كبيرة من قبل بعض الأشخاص الذين يتساوَون مع الآخرين من حيث الحقوق؟ ما هو منشأ هذه الحاكمية؟ وإذا ما تقرر أن يكون هناك شخص أو عدة أشخاص على رأس الحكومة الإسلامية، فبأي المقاييس يمكن لهؤلاء أن يحددوا المسؤوليات لأنفسهم؟
إن الإسلام قد أعطى أجوبة لمثل هذه الأسئلة، فهناك مقاييس فيما يتعلق بمسؤولي الحكومة الإسلامية كي لا يتمكن الأشخاص الذين يفتقرون الى تلك الخصائص من ترشيح أنفسهم للمناصب. فالإسلام لا يسمح بأن يشغل الفاسدون والمستبدون والأوغاد مناصب لهم عبر الحصول على آراء الناس.
إن رأي الناس أمر لا بد منه، إلا أن الشخص الذي له المؤهلات المطلوبة، عليه في نفس الوقت أن يكون تقياً عادلاً وعارفاً بالإسلام. فالشخص الذي يريد إدارة المجتمع، يجب أن يعرف الإسلام معرفة كاملة {أفمَن يهدي الى الحق أحق أن يُتّبع أمّن لا يهدِّي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون} (يونس، 35).
نعم، من الضروري أن يكون الحاكم الإسلامي عارفاً بالدين وواعياً، ومَن يملك هذه الشروط ويتميز بالتقوى وضبط النفس يستطيع أن يرشح نفسه. ثم يصل الدور الى الناس ليبدوا رأيهم فيه، فإذا لم يوافقوا عليه، فلن يكون حكمه شرعياً، إذ أن الإسلام لا يقبل بفرض أية حكومة على الناس.
إن حكومة الله في النظام الإسلامي ممزوجة بحكومة الناس، ولذلك فعندما نقول "جمهورية إسلامية" فهذا يعني أن حفظ القوانين والأحكام الإسلامية لا يتناقض ونظام الجمهورية وانتخاب الناس.
والسؤال المطروح هو: كيف يجب أن تكون أخلاق الحاكم، ونوع الحكومة؟
إن التقرب الى الناس والتحدث معهم والعيش مثلهم، هي من المقاييس الأخرى لمسؤولي الحكومة الإسلامية. وأينما سُمِع اسم للحكومة الإسلامية فيجب البحث عن هذه المقاييس، وكلما روعيت هذه المقاييس اقتربت تلك الحكومة من الإسلام.
ومتى ما اقترنت حاكمية الكفر والفسق وسلطة المستكبرين العالميين وحفظ المصالح النفطية وغير النفطية لناهبي الشعوب، باسم الإسلام، فإن اسم الإسلام ـ آنئذ ـ لن يتعدى التزوير.
نحن لا نقبل بأي شكل من الأشكال أن تكون هناك حكومة إسلامية في ظل حاكمية أميركا والإتحاد السوفياتي وبقية القوى العظمى. لذلك فإن الحكومة الإسلامية (أي القسم الأساسي من الكيان السياسي للعالم السياسي) والتي تراعى فيها كافة السياسات الإسلامية الأخرى ومن بينها {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (النساء، 141).
ومن جملة السياسات الأخرى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم...} فهذه السياسات يجب أن تكون قائمة، لنتأكد من أن الحاكمية هي حاكمية إسلامية.
ومن الأساليب الأخرى، التي يلجأ إليها أعداء الإسلام والمتسلطون على العالم كسلاح ضد حاكمية الإسلام، هو تجريد الإسلام والفكر الإسلامي من الإخلاص والنزاهة والأصالة الإسلامية، فمتى ما ظهرت حركة إسلامية حقيقية قائمة على الإيمان والفكر الإسلامي، وضع الى جانبها تيار إسلامي آخر، ولكن بأفكار التقاطية؛ ومن هنا كان على المسلمين أن يأخذوا هذه المسألة بنظر الاعتبار.
ولو راجعنا تاريخ الحركات الإسلامية منذ القرن التاسع عشر والى اليوم، لرأينا أن مثل هذه التيارات كانت موجودة. على سبيل المثال إن الإنجليز أسسوا مدرسة إسلامية ذات اتجاهات غربية، مقابل مدرسة دار العلوم في الهند التي كانت مبلِّغة حقيقية للإسلام. ومثل هذه الأمور حدثت في بلادنا أيضاً، فمثلاً نجد الذين أنهَوا دراساتهم في الغرب، مزجوا الإيمان الإسلامي بالثقافة والإيديولوجية الغربية، وهذا ما خدم النظام الحاكم آنذاك والذي كان يخاف الإسلام الأصيل.
إن التيار الإسلامي في بلادنا والذي يستند الى الكتاب والسنّة، يتعرض اليوم لهجوم القوى العالمية. ولو لم يكن ملتزماً بالكتاب والسنّة لما كان يواجه مثل هذا الهجوم من قبل الأعداء.
لقد بذلنا منذ انتصار الثورة الإسلامية، جهوداً كثيراً لحفظ الإسلام المستنبط من الكتاب والسنّة، وصونه من التيارات الالتقاطية (الشرقية منها والغربية). فلن نقبل الإسلام الممزوج بثقافة الأجانب، ونعتقد أن مثل هذه الأفكار لن تشكل خطراً على الاستكبار.
وعلى أي حال، فمن الأجدر بالعالم الإسلامي ـ اليوم ـ بنفوسه البالغة ما يقارب مليار شخص، أن يفكر بالحكومة الإسلامية على أنها فكر عملي وجدي.
الجمهورية الإسلامية تحقيق عملي للإسلام
أيها الإخوة الأعزاء، إذا كان الأمل للمفكرين الإسلاميين قبل 50 عاماً متمثلاً بتأسيس عدد من الجامعات الإسلامية، وإذا كان هدف المفكرين الإسلاميين في يوم ما المشاركة في المؤتمرات العالمية بغية طرح الأفكار الإسلامية، فإن الوضع يتباين اليوم بدرجة كبيرة.
فاليوم تقوم في نقطة حساسة من العالم، حكومة على ضوء الكتاب والسنّة، وإن أمل تشكيل الحكومة الإسلامية لم يعد أملاً بعيداً. لذا فإن الشعوب الإسلامية لو دُعيت لتشكيل حكومة إسلامية، لما كان لها الحق في التزام السكوت وإظهار العجز.
إن الشعراء والخطباء والعلماء والكتّاب والفنانين الذين لهم دوافع إسلامية في قلوبهم، لا يحق لهم ـ اليوم ـ أن يلجأوا الى مكان آخر غير الإسلام، ويرووا عطشهم وعطش مخاطبيهم من ينبوع آخر غير ينبوع الإسلام، ذلك أن تحقق الإسلام أمر عملي، وإن الجمهورية الإسلامية في إيران هي نموذج لذلك.
نحن لا ندّعي تشكيلنا حكومة أشبه بحكومة الرسول الأكرم (ص)، ولكننا ندّعي بأننا نمضي الى الأمام نحو حكومة الرسول الأكرم (ص).
إن عالمنا الراهن هو عالم المجاميع، حيث أن القوى العظمى والدول الصغيرة في أجزاء متعددة من العالم تجتمع معاً لتحقيق أغراضها وأهدافها. وعلى هذا الأساس توجد في العالم اتحادات ومجالس ومعاهدات وأحلاف كثيرة، وإن أكثر تلك المجاميع ضعفاً هي منظمة المؤتمر الإسلامي.
ماهية منظمة المؤتمر الإسلامي
إنني وباعتباري رئيساً لدولة عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي أصرح من هنا بأن هذه المنظمة هي أكثر المنظمات العالمية ضعفاً وهزالاً وأكثرها فقداناً للتأثير الدولي، لها لا تدافع عن حق المسلمين، ولا تفكر في إيجاد الحلول لمشاكل العالم الإسلامي، كما ولا تتخذ أي مواقف تجاه أعداء الإسلام، ولا تبلّغ للإسلام.
إن الدولة الوحيدة التي ترفض الدستور والموازين العرفية في حالة تناقضها مع الفقه الإسلامي، تتمثل اليوم بالجمهورية الإسلامية، وإن النظام الوحيد الذي يستند في أحكامه وقوانينه الى الكتاب والسنّة هو نظامنا.
إن مجلس الشورى الإسلامي لن يصادق على أي قانون لا يتفق والفقه الإسلامي، على أنه حتى لو تمت المصادقة عليه، فإن مجلس صيانة الدستور يرفضه.
ترى ما هو الدعم الذي قدّمته منظمة المؤتمر الإسلامي (التي تضم مجموعة من الدول الإسلامية) الى الجمهورية الإسلامية التي تعمل لتطبيق الأحكام الإسلامية؟! وإذا كانت هذه المنظمة تدافع عن الإسلام حقاً، أليس من الأفضل لها أن تدافع عن بلاد يقوم نظامها على الأحكام الإسلامية؟! ولماذا لا ترد هذه المنظمة على الأجهزة الإعلامية العالمية التابعة للصهاينة والتي تتآمر على الثورة الإسلامية في إيران؟!
إن ما يقارب الـ 90 % من مجموعة أجهزة الإعلام العالمية المعروفة، هي ـ اليوم ـ في قبضة الصهاينة، وتتآمر على الجمهورية الإسلامية، وتتمثل إحدى وظائفها الأساسية مقابل المبالغ التي تتسلمها، بترويج الدعايات السيئة حول الثورة الإسلامية.
استمعوا الى إذاعات العالم لتعلموا كيف أنها تبث سمومها ضد الثورة الإسلامية، وكيف أنها تشوه الحقائق.
وإذا كانت الدول الإسلامية صادقة في ادعائها بأن منظمة المؤتمر الإسلامي جاءت للدفاع عن الإسلام، فلمَ لا تتصدى هذه المنظمة للدعايات المغرضة التي تقوم بها الصهيونية ضد الجمهورية الإسلامية؟
حسناً إننا لا نطلب من المنظمة أن ترد على هذه الدعايات، ولكن لماذا تحالفت وسائل إعلام أكثر الدول الإسلامية مع أعداء الإسلام، وراحت تطلق الدعايات ضد الثورة الإسلامية؟!
إن جميع المسلمين الحريصين على الإسلام والمؤمنين بالجمهورية الإسلامية، ملزمون بالتصدي لمثل هذه المؤامرات التي تحاك في العالم الإسلامي.
وأنتم أيها المفكرون والعلماء الإسلاميون، طالبوا بالتصدي لجميع المؤامرات التي تحاك في الدول الإسلامية ضد الجمهورية الإسلامية في إيران.
إننا على حق، وإذا كان من الممكن أن تقضي هذه المؤامرات على الجمهورية الإسلامية، لكننا قد متنا ـ الى اليوم ـ سبع مرات.
هذا ونحن في كل يوم يمر على عمر هذا النظام نحقق مكسباً جديداً، ونعلم بأن هذه المنجزات إنما تتحقق بفضل الله وعونه وتضحيات هذا الشعب الشجاع.
وعلى هذا الأساس فإن الاعتقاد بحاكمية الإسلام يجب أن يكون متزامناً مع الدفاع عن الجمهورية الإسلامية.
إنني آمل أن يتوصل الإخوة الأعزاء المشاركون في هذا المؤتمر الى نتائج جيدة بعونه تعالى.
إن هذا المؤتمر لهو ساحة جيدة للتدارس حول الحكومة الإسلامية. وإننا رغم تشكيلنا للحكومة الإسلامية، ما زلنا بحاجة لمثل هذه البحوث.
نسأل الله أن تتحقق الحكومة الإسلامية في الدول الإسلامية الأخرى. نحن أول تجربة في هذا المجال، ونأمل أن تغنينا التجارب القادمة. - الحكومة الإسلامية في ظل ولاية الفقيه
الحكومة الإسلامية في ظل ولاية الفقيه
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله مالك الملك، خالق الخلق، باسط الرزق، فالق الإصباح، ديّان الدين، رب العالمين، والحمد لله على حلمه بعد علمه، وعلى طول أناته في غضبه وهو قادر على ما يريد. والصلاة والسلام على نبي الرحمة ورسول الهدى والسلام، وبشير رحمة الله ونذير نقمته، سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه المنتجبين.
قال الله الحكيم في كتابه {بسم الله الرحمن الرحيم يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتّبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد...} (ص،26).
أبدأ بالترحيب بضيوف "عشرة الفجر" وبالفضلاء والعلماء المشارين في هذا المؤتمر القيّم، وكذلك بجميع الإخوة المحترمين والأخوات المحترمات، أرحب بكم جميعاً أيها الأعزاء..
يُعقد هذا المؤتمر في ظروف يمر العالم فيها بواحدة من أكبر أزماته التاريخية التي تؤدي عادة الى ظهور تطورات ضخمة، وهي أزمة تشتد تفاقماً يوماً بعد يوم.
لقد شهدت النظم الاجتماعية والأمم على امتداد التاريخ وفي فترات متباعدة حالات من هذا القبيل، وهي حالات ترى فيها الأمم الذكية وشخصياتها التي لها ما يكفي من الذكاء والفطنة بشائر ببزوغ يوم أفضل وحالة فضلى.
وعلى الرغم من أن الأزمة الحاضرة ـ بما فيها من مشقة وحرارة وثقل وظلام وصعوبة ـ لا تصيب عادة إلا الشعوب الضعيفة، وعلى الرغم من أن هذه الشعوب الضعيفة هي التي تتحمل التضحيات في خضم هذا التناحر العالمي العنيف والمتزايد، فإن موطن هذه الأزمة ومسقط رأسها في مكان آخر، إن بؤرة هذه الأزمة تقع في قلب النظم القائمة على المدنية المادية. إن أفضل المرض هناك، وأولئك هم المرضى الحقيقيون، وإن الخطر الحقيقي في نهاية المطاف يتهددهم هم.
في الواقع إن أخطار هذه الأزمة التي أشرت إليها إنما تهدد الأنظمة القائمة على الصناعة والمدنية المادية، وتلك الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية المبنية على الحضارة المادية والإيديولوجية المادية (شرقية كانت أم غربية). إن الزلزلة ستقع هناك، على الرغم من أننا نشهد آثارها ومشاكلها وأزماتها وأمراضها، كما قلت، في أفريقيا وفي الشرق الأوسط وفي آسيا وفي بلدان أميركا الوسطى وأميركا اللاتينية. غير أن المرضى الحقيقيين هم أولئك، وأعراض المرض بادية عليهم، إنها إخفاق المدنية الصناعية المادية في إدارة أمور الإنسان، إنها الأمراض المستعصية المنتشرة في أوروبا وأميركا، كالتضخم والبطالة والفساد الاجتماعي المستحكم، وضروب من الاختلالات النفسية التي تزرع اليأس في الجيل الشاب وتشيع الخمول بين قوى المجتمع النشطة، وتجعلهم يركضون وراء التافهات من الأمور والخاويات من الأفكار، ومن ثم التحول الى الجريمة. هذه دلائل سوء في المجتمع، وظهورها في أي مجتمع دليل على أن ذلك المجتمع قد أصيب بالشلل، ولم يعد قادراً على إدارة شؤونه، وخاصة إذا عرفنا أن تلك الأمراض ليست سريعة الزوال، بل إن تلك المشاكل والاختلالات خرجت من نطاقها الضيق الخاص بالمحللين والمختصين الى حيث المؤسسات العامة والناس، ففضلاً عن كونهم يلمسون تلك الأمارات والآثار بكل وجودهم فإنهم يحسون بها في أفكارهم وعقولهم أيضاً، بما ينطبق تماماً مع الآية الشريفة {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس...} (الروم،41).
هذه هي حصيلة ذلك الحطب الأخضر الذي باعه مؤسسو التمدن المادي، الغربيون والشرقيون، للناس والأجيال، إن دخانه اليوم يعمي عيونهم هم ويهددهم بالزوال والفناء.
غير أن الشعوب، من جهة أخرى، قد استيقظت، وهذا أمر مهم وجديد. إن هذه اليقظة تختلف عن يقظة الشعوب في أواسط النصف الأول وأواخره من القرن العشرين فيومئذ كان الناس يصحون، ويغادر المستعمرون البلاد المستعمرة، وتقام أنظمة أسمَوها بالأنظمة الوطنية أو الشعبية لتحل محل المستعمرين. إلا أن الخديعة التي ألبسوها على الناس، والمكر الذي مكروه بهم، قد زادا الناس خبرة وحنكة وشحذا ذكاءهم. إن يقظة المسلمين اليوم يقظة لا يقنعها غير القضاء جذرياً على المشكلات. إن اليقظة اليوم تتخذ وجهة واحدة، وهي الوقوف بوجه الظلم الذي ينزل بعض القوى الاستكبارية في العالم بالشعوب، وذلك هو جوهر القضية، وإن تكن الشعارات تختلف من حيث المكان واللسان.
إن شمال أفريقيا وجنوبها يغليان اليوم، ولكن بشعارات مختلفة ولغات متباينة، أما المطاليب فواحدة. في كلتا الجهتين يعلو الهتاف ضد النظم والحكومات، ضد التمييز العنصري في الجنوب وضد أمور أُخَر في الشمال.
إن أهالي مصر وأهالي أفريقيا الجنوبية يطالبون جميعاً بحكم عادل وباحترام الإنسان حيث يحتقر. إن الإنسان في مصر قد احتقر مثلما احتقر الإنسان في أفريقيا الجنوبية.
لقد هبّت الشعوب اليوم من نومتها، وقد رافقت يقظتها تجربة ناجحة بين شعوب العالم الثالث، تلك هي تجربة إيران الإسلامية.
إن من العوامل الرئيسية في يقظة الشعوب هو وجود نظام يستند الى حركة جماهيرية، ويعتمد مقاومة شجاعة لا تعرف الاستسلام للقوى العالمية. إنها جاذبية النظام الجمهوري الإسلامي التي تحيي الأمل في نفوس الشعوب، وكلما مضى يوم ونحن باقون، وهذا النظام باقٍ، والإسلام هو الحاكم الوحيد، ازداد هذا الأمل في الشعوب قوة ورسوخاً.
إن المحاباة لم يُقضَ عليها بعد، والمتشائمين لما تدخل الثقة في قلوبهم، إلا أن مرور الوقت كفيل بتحقيق ذلك، على أن يكون مرور الوقت هذا مصحوباً بحفظ المبادئ، إذ أننا إذا فقدنا مبادئنا نكون قد فقدنا هويتنا الثورية، وهو ما سوف يدعو الى زوال ثقة الشعوب التي تريد أن تجعل من إيران قدوة تقتدي بها.
هذه الظروف العجيبة تكشف عن عظم الكارثة التي تحيق بالقوى العظمى والناشئة عن ضعف أنظمتها القائمة على القوى العسكرية الغاشمة. أي أننا حتى لو افترضنا عدم وجود أي طرف معارض لتلك الأنظمة المتسلطة المادية في العالم، غربية وشرقية، فإنها لا بد لها من الإنهيار والسقوط بسبب بنيتها السقيمة والاختلال والنقص الموجودين في داخلها.
إن هذا النقص الذاتي والبناء المادي السريع العطب والسريع الزوال شبّهه الله تعالى بالكلمة الخبيثة بقوله {ومَثَلُ كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتُثّت من فوق الأرض ما لها من قرار} (إبراهيم، 26).
فهي أنظمة غير باقية، لأن تلك الكلمة الخبيثة تفتقر الى الإمكانية الذاتية على البقاء، خاصة وأن الشعوب المظلومة والمستضعفة قد سارعت الى إعلان معارضتها لتلك النظم المادية، كالذي نراه في أفريقيا والشرق الأوسط، في لبنان وفي جنوب آسيا وفي كل مكان في العالم حيث يوجد شعب مستضعف، وهي اليوم أشد من أي وقت مضى. إن ما يعتبر قدوة للشعوب هو النظام الجمهوري الإسلامي، وما من نظام آخر تتخذه الشعوب قدوة لها اليوم. في الماضي كانت هناك نظم لفتت أنظار الشعوب التي كانت تريد صنع نفسها ومستقبلها، أما اليوم فلا. إن البقعة النيّرة التي تتطلع إليها الشعوب وهي تناضل وتضحي وتخاطر بحياتها، هي نظام الجمهورية الإسلامية. والمسلمون من تلك الشعوب أقرب الى ذلك بطبيعة الحال. وذلك لأن المسلمين يرَون أن شخصيتهم الإسلامية المضطهدة المحتقرة قد برزت اليوم في صورة نظام شجاع، مهاجم، مقدام، تقدّمي، مجرِّب، ولذلك فإنهم يشعرون بالعزة والفخر.
ظلت الهوية الإسلامية عرضة للمهانة والتحقير سنوات طويلة. وقد أريدَ للمسلمين أن يتركوا هذه الهوية وينبذوها لأنها مجرد خرافة زائدة.
إن الذين استسلموا للضغط وهجروا هويتهم الإسلامية، يشعرون اليوم بالثورة في أعماقهم، وهم يرَون تلك القيم التي اعتبروها قيماً سلبية غدت اليوم قيماً إيجابية فعالة أثبتت وجودها النشط على الصعيد العالمي الواسع. إنهم يحسون بالحاجة الى العودة الى تلك القيم. وهذا هو السبب في ما نشهده اليوم من أن المتنورين، الذي تنكروا للإسلام، عادوا يزحفون نحو القرآن والإسلام الصحيح في كثير من دول العالم، فضلاً عن الشعوب والجماهير المستضعفة التي بقيت محافظة على هويتها الإسلامية والحيوية، وفعالة في إيجابيتها، وشجاعة في مواجهة القوى العظمى، وثابتة لا يعتريها الكلل، ونامية كالكوثر في العطاء، لا يعود يخامرهم الشك لحظة في أن هذه الهوية قيّمة، فيتجهون نحوها، مدركين أنها مصداق الآية {إنا أعطيناك الكوثر. فصلِّ لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر}. ذلكم هو الدليل على أن التاريخ يعيد نفسه، فاليوم ذلك التمدن نفسه يطعن القيم الإسلامية والإيمانية، إنه هو "الأبتر"، هو المنتهي الذي لا عقب له. إن الأمة الإسلامية تحس بهذا كله، ولكنه إحساس ليس مقتصراً على الأمة الإسلامية، فالأمم غير المسلمة تحس الإحساس نفسه، وهم كذلك يحبون النظام القوي المقتدر المقاوم لقد أتعبتهم السلطة، ولا فرق بين السلطات فالسلطة الظالمة سيئة بصرف النظر عن نوع النظام الذي تمثله. لذلك فإننا نشهد اليوم التوجه نحو الإسلام وإيران الإسلامية والجمهورية الإسلامية والثورة الإسلامية وشعارات هذه الثورة في بلدان هي تحت سيطرة الشرق والغرب. إننا نشهد هذا الميل فيهم بكل وضوح وثبات؛ ولا يختلف الأمر مع أولئك الذين نادَوا بالشعارات الاشتراكية في بلدانهم، فهم بعد أن أدركوا فراغ أنظمتهم وضعفها وهشاشتها لكونها بُنِيت على تلك الشعارات، التفتوا بميولهم نحو ذلك النظام المقتدر الصلب المقاوم؛ ذلك هو نظامكم، نظام الجمهورية الإسلامية.
إنكم وفي مثل هذه الظروف يدور بحثكم حول الحكومة الإسلامية، إنكم تحسبونه بحثاً جافاً، ولكنه ليس بحثاً عقلياً مجرداً. إن البحث في الحكومة من أكثر البحوث واقعية وعملية مما يمكن أن يجري بحثها في العالم.
الحكومة في النظام الإسلامي تعتبر العمود الفقري والدماغ والقلب ومقر قيادة الجسم ومصدر الأوامر للأعصاب، ذلك لأنها أحد العناصر الثلاثة المهمة التي يتألف منها النظام الاجتماعي في النظام الإسلامي. وهذه العناصر الثلاثة هي: الحاكم، والقانون والناس، فالحكومة تأتي على رأس هذه العناصر الثلاثة. ليس من الممكن أن نفكر بإقامة نظام إسلامي من دون أن نفكر في الحاكم وفي شكل نظامه.
إذا ما ادُّعيَ أنه نظام إسلامي، فإن خير محك لهذا الزعم هو أن ننظر الى حاكمه، وهذا أقرب محك الى متناول اليد. كيف يصح أن يكون الإسلام هو نظام الحياة في بلد ما ثم يكون أهم قسم من هذا النظام ورأسه، وهو الحكومة، بعيداً عن استلهام الأحكام الإسلامية، ولم يتشكل بالشكل الإسلامي؟ إننا إذا أردنا أن نبحث في الحاكم والحكومة علينا أن نبحث بكل دقة وإنعام نظر، ذلك لأن هذا الموضوع يقع اليوم هدفاً للهجوم. إن من المهم للأجيال القادمة ولسائر جماهير العالم أن تعرف أن الإسلام وتحقق نظامه على صعيد الواقع ليس هو وحده الذي يتعرض للتهجم وإخصام على يد القوى العظمى وأعدائه، إنهم يهاجمون حتى وجوده الذهني في الأفكار، إنهم يحاربونه في كل جبهة تظهر فيها حكومة إسلامية، وها هي أمامكم إيران الإسلامية كمثال على ذلك. إن قوى العالم بلا استثناء لم تترك وسيلة تؤذي بها هذا البلد وهذا الشعب وهذه الحكومة وهذا النظام إلا استعملتها، ولم تترك طريقاً لإظهار العداء لهذا البلد وهذه الأمة إلا سلكته، بما في ذلك حياكة المؤامرات، والحرب، والاعتداء العسكري، ونشر الشائعات والأراجيف، والمقاطعة الاقتصادية. هذه كلها كانت كافية لتطيح بأي نظام آخر. غير أن مناعة هذا النظام ناشئة من القرآن الذي حفظه من الإنحراف يساراً أو يميناً لاستمالة فريق من الناس.
هذه الهجمات قد وجهت الى وجود الحكومة الإسلامية العيني. إلا أن مهاجمتها في وجودها الفكري لا يقل عن ذلك عنفاً، ويتمثل هذا في تحريف مفهوم الحكم الإسلامي. وهو ليس بالأمر الجديد، فقد كان على امتداد التاريخ. فباسم الحكم الإسلامي وإمامة المسلمين، في عهد السلاطين العباسيين والأمويين، حدثت أمور ضد "أئمة العدل" كما يصفهم الشاعر الإسلامي المجاهد "الكميت الأسدي" في إحدى قصائده التي يقول فيها:
ساسة لا كمَن يرى رعية الـ ـنــاس سواء ورعية الأنعــام
من هذا يبدو أن الذين كانوا على رأس الحكم يومذاك، والذين يعرّض بهم الكميت، كانوا لا يميزون بين رعي الناس ورعي الأنعام، ومنذ ذلك اليوم أناس ارتكبوا مثل تلك الأعمال باسم حكم الإسلام والحكومة الإسلامية، واليوم ما يزال هذا التحريف في مفهوم حكم الإسلام باقياً في الأذهان بشكل أو بآخر.
لقد أثار عالم اليوم الكثير من اللغط حول تحريف مفهوم الحكومة الإسلامية. فمرة يشبّهونها بالحكم الكنسي في الفترة المظلمة من تاريخ أوروبا، ومرة يقولون إنها حكم رجعي ومتخلف لا يؤمن بالتطور ومرة ثالثة أنها ضد العلم، ورابعة أنها ضد المدنية، أو يسمونها بأنها تعارض حقوق المرأة التي تؤلف نصف سكان المعمورة، لو أنهم استطاعوا بكلمة واحدة أن يدخلوا في الأذهان أن النظام الإسلامي يعارض منح المرأة حقوقها، لتمكنوا من إثارة نصف سكان العالم ضد هذا النظام، وإذا ما صدّقت النسوة بهذا فمن البديهي أنهن لن يقفن الى جانبه.
كثيرة تلك الأساليب التي مارسوها والتهم التي ألصقوها بالنظام الإسلامي والحكومة الإسلامية لتحريف حقيقة الإسلام، ولهذا كان لا بد من القيام بعمل جاد في هذا السبيل. إن الآيات القرآنية كثيرة بهذا الشأن، وكذلك المصادر الإسلامية أيضاً، فعلى المفكرين الإسلاميين والعلماء المسلمين أن يشمّروا عن ساعد العمل، فلو أنهم تناولوا هذه المسألة وحدها بالشرح والتوضيح، لكان له أثر كبير في تهيئة عقول الأمم والشعوب لمعرفة الحق. وهذا ما حدث فعلاً في بلدنا، فخلال الخمس عشرة سنة من نضالنا الثقافي والسياسي كانت أشد ضربة أنزلناها بالتصورات التي أشاعها النظام الشاهنشاهي السابق هي بحث الحكومة الإسلامية وشرحها، سواء في الدروس التي كان يلقيها إمام الأمة في النجف الأشرف، أم في البحوث التي دارت حول هذه المسألة كمقدمة لها، فكانت هذه تدخل في أعماق مجتمعنا، يتناولونها بالدرس والفهم والاستيعاب. إن البحث في هذه القضية مهم وينبغي أن لا نستصغر شأنه. إننا في هذا النظام الجمهوري أقمنا الحكومة الإسلامية، وإن لم ندَّعِ أنها أقيمت بصورتها المتكاملة، ولكننا ندّعي بأننا نتخذ الاحتياطات التامة للتقيد بتطبيق أحكام القرآن، وإننا ندرك أن الحركة نحو تكميل هذا النظام حركة تدريجية، وإننا سائرون على الدرب نحوه، إذ أن هناك الكثير من المسائل لم نحلها بعد.
إن أول مسألة برزت أمامنا في باب الحكومة في نظام جمهوري إسلامي، وارتسمت في أذهاننا جميعاً باعتبارها شعاراً إسلامياً وعَلَماً من أعلام الحكم الإسلامي، هي القول بأن الإنسان قد ولد بطبيعته حراً، وليس هناك تحت الشمس إنسان يحق له أن يحكم إنساناً آخر. وكان هذا في نظرنا جزءاً من البديهيات والمسلّمات الإسلامية. والأمر كذلك أيضاً في النصوص الإسلامية، فقد جاء في الآية الكريمة {وتلك نعمةٌ تمنّها عليّ أن عبَّدت بني إسرائيل} (الشعراء، 22)، وكذلك ورد عن أمير المؤمنين علي (ع) قوله "لا تكن عبدَ غيرك وقد جعلك الله حراً".
وهذا هو مضمون آيات قرآنية متوافرة ومتواترة. وفي هذه الآية التي ترد على لسان موسى (ع) مخاطباً فرعون، القصد من تعبيد بني إسرائيل هو التسلط عليهم وحكمهم واضطهادهم دون اهتمام بمشاعرهم. إن الإسلام يمنع كل أنواع التسلط المعنوي والمادي على الناس، ما دامت هذه السلطة غير منتهية الى الله. يقول الله سبحانه {إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} (التوبة، 31).
أي أن سلطة الأحبار والرهبان الفكرية والروحية تعتبر ربوبية، فهي ممنوعة. كذلك سلطة فرعون المادية سلطة ربوبية ممنوعة.
إن الحكم على الناس لله وحده سبحانه، كما جاء في الآية الثانية على لسان يوسف (ع) {... إنِ الحكم إلا لله أمَرَ ألاّ تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيِّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون} (يوسف، 40).
ولعل السبب في أن أكثر الناس لا يعلمون هو أنهم قد اعتادوا على غير ذلك، إنهم اعتادوا على أن يحكمهم أفراد من البشر فليس بمقدورهم أن يتصوروا أن أياً من البشر، مهما تكن قدرته وثروته، ومهما يكن شرف قبيلته ونبل نسبه، لا يمكن أن يتسلط على جمع من البشر ويحكمهم {ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}.
وفي الآية التي أوردتها في صدر كلامي، يخاطب الله سبحانه وتعالى داود (ع) قائلاً {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} أي لولا "الإرادة" الإلهية في "جعل" داود خليفة، لما كان لداود الحق في هذا على الرغم من كل فضائله ومقامه.
وفيما يتعلق بالأنبياء جاء في سورة البقرة {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه...} (البقرة، 213). ههنا تعيّن أن النبي يحكم بين الناس لا بحسب ما يهوى ويشتهي بل وفق الكتاب، فهو الحاكم وهو ميزان الحكم. إن هيكل النظام العام يقرره كتاب الله، والنبي قد "جعله" الله القائم بتنفيذ ما جاء في الكتاب. وهذا هو المبدأ الثاني من مبادئنا المقبولة عندنا.
أي أننا بعد أن قبلنا بأن أفراد البشر لا حق لهم في أن يحكم بعضهم بعضاً وأن كل حكم من هذا القبيل لا ينتهي الى الله يكون حكماً غاصباً وغير منطقي، نعود لنبحث عما يجب أن يعتمده الحاكم الإلهي عند الحكم، وهو كتاب الله، وهذا هو "القانون" الذي يعتبر العنصر الثاني من العناصر الثلاثة في الحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي. فالحكم يجب أن يكون على وفق ما جاء في كتاب الله.
والحاكمون هم الأنبياء الذين نصّبهم الله، أو الأوصياء الذين ينصّبهم النبي. أما عندما لا يكون هناك حاكم نصّبه رسول الله (ص)، كزماننا هذا، فلا موجب للاختلاف حول إمام منصوب بين القائلين بنصب خليفة بعد رسول الله (ص) والقائلين بعدم نصب خليفة بعده. لم يعد اليوم معنى في وجود ذلك الاختلاف حول العثور على الحاكم الإسلامي، لأننا سواء أقلنا بالتنصيب أم لم نقل، فإن الإمام الحاكم المنصوب لا وجود له، فعلينا أن نبحث عن المعيار.
ترى ما هي تلك المعايير التي إذا توفرت في فرد حقَّ له أن يحكم من قبل الله. إن مثل هذا الفرد يجب أن يحكم بكتاب الله، ويجب أن يكون عالماً بالكتاب إذ لا يمكن أن يحكم بكتاب الله مَن لم يكن عالماً به، ولـمّـا كان عليه أن يربي الناس ويهذبهم ـ وهذا من شؤون الأنبياء، وعلى الحاكم الإسلامي أن يكون كذلك أيضاً ـ فلا بد أن يكون هو نفسه قد تربى وتهذب، ولهذا تجب مراعاة العلم والعدالة في الحاكم الإسلامي. إن الإمام أو القائد ـ وهو تعبير دقيق وكامل عن الحاكم الإسلامي ـ لا بد وأن يكون عالماً بكتاب الله، أي يجب أن يكون متفقهاً في الدين، ولا بد وأن يكون عادلاً، لا يتّبع هوى نفسه، ذلك لأن الله تعالى أمر نبيه داود (وسائر الأنبياء) قائلاً به {ولا تتّبع الهوى فيُضلَّك عن سبيل الله} لأن اتّباع الهوى هو أصل الفساد في المجتمعات، وبناءاً على ذلك فلا بد للحاكم الإسلامي من أن يتجنب الوقوع تحت تأثير هوى نفسه، وهذا لا يكون إلا بالعدالة، فتكون نفسه مصونة عن الميل الى الدنيا، فلا تجذبها المطامح الدنيوية.
هذه الشروط والمؤهلات لم ترد بصورة تفصيلية في النصوص الإسلامية ولا في الكتاب والسنّة، إنما هي: حكومة الفقيه وولاية الفقيه التي اخترناها محوراً وقاعدة لبناء نظامنا الجمهوري وأعلنّا عنها. حكومة الفقيه هي حكومة العالم بعلم الكتاب، العالم بالدين، ولكن لا كل فقيه، فالعالم الذي يقع تحت تأثير هوى نفسه لا يمكن أن يدير شؤون البلاد، وبالإضافة الى العلم والتهذيب، أو العلم والعدالة، لا بد وأن تكون له القابلية على الإدارة، وهذا شرط عقلي، كما جاء في القرآن الكريم في حكاية طالوت {... إن الله قد بعث لكم طالوت مَلِكاً قالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤتَ سَعةً من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم...} (البقرة، 247)، وبديهي أن البسطة في الجسم لا تعني القوة الجسمية والبنية السليمة فحسب بل لعلها تعني أيضاً العقل السليم والقدرة على الإضطلاع بأعمال الإدارة، وحتى لو لم تعنِ ذلك فإنها شرط لا بد منه.
هذه أمور نرى لزوم توفرها في الحاكم وعلى أساسها تم اختيار الحاكم، فالولي الفقيه أو ولاية الفقيه مبنية على هذا الأساس، وبموجبه اختير الولي.
وهكذا نكون قد وجدنا الحل لقضية الحاكم والقانون، فالحاكم هو ذلك الإنسان الذي اختير على وفق المعايير والموازين، وهي موجودة في القرآن. والقانون هو ما أشير إليه في القرآن وما وجب حتى على الأنبياء اتّباعه دون أن يصدروا حكماً من عندهم؛ فالكتاب فيه قوانين الدين والوحي الإلهي.
العنصر الثالث هو الناس، أترانا في النظام الإسلامي قد أهملنا الناس؟ كلاً أبداً، فالناس عنصر رئيسي في النظام، هم الذين ينتخبون، وهم الذين يعيّنون، وهم الذين يرجع إليهم في التشاور وفي اتخاذ القرارات. إن الناس في الواقع هم أصحاب الاختيار والاختيار حقيقة موجودة.
إن في انتخاباتنا اختلافاً مبدئياً عن الانتخابات الديمقراطية الغربية ـ وإن كانت التسمية تُطلق عليهما كليهما ـ وهي تختلف عن الديمقراطية الشرقية اختلافاً رئيسياً أيضاً، على الرغم من أنها في ظاهرها انتخابات ديمقراطية.
في الديمقراطية الغربية يحق لجميع الناس أن يشتركوا في الانتخابات وأن ينتخبوا مَن شاؤوا، أي لا وجود لشروط خاصة في المنتخَب؛ فإذا استطاع شخص فاسد أو فاسق أو ضعيف أن يعلن عن نفسه، بالمال أو بالإغراء، فيحرز أصوات بعض الناس، فإن النظام لا اعتراض له على ذلك. أما في النظام الإسلامي فالأمر ليس كذلك، فثمة شروط لا بد وأن تتوفر في المنتخبين، والناس ينتخبون ممن تتوفر فيهم تلك الشروط أو الموازين، ومَن لا تنطبق عليه تلك الموازين لا يرشح للانتخاب.
أما في الديمقراطية الشرقية فالأمر أسوأ، إذ أن الانتخابات لا تجري بين الناس جميعاً، فحق الانتخاب مقصور على أعضاء الحزب. بل يمكن القول في كثير من الحالات إنه حتى أعضاء الحزب لا يحق لهم الانتخاب، بل إنه مقصور على كبار النخبة من الأعضاء فقط.
أما في نظام الجمهورية الإسلامية فالانتخاب حق للجميع، أو للأكثرية القريبة من الإجماع، فيما يتعلق بانتخاب القائد، على شرط أن يكون فقيهاً عادلاً وحائزاً على الشروط الأخَر، كالقدرة والإدارة والتدبير والإيمان بخط الثورة الإسلامية وغير ذلك مما هو مدوَّن في دستور الجمهورية الإسلامية المعمول به حتى الآن، فالناس ينتخبون واحداً من بين هؤلاء، ومَن يفز بأكثرية أصوات الناخبين المطلقة يكن هو القائد للأمة.
أما بالنسبة للحكم فللناس دورهم في انتخاب مجموعة لنظام كامل، كما أن للقيم دورها، وللأحكام الإلهية دورها أيضاً. وهذا هو النظام النبوي. ذلك أننا عندما ندرس تاريخ الأنبياء نجد أن أهم عمل قاموا به هو التعليم والتزكية وإدارة شؤون المجتمع. هذه هي الأعمال الثلاثة التي كان الأنبياء يضطلعون بها: تعليم الناس المعارف الإلهية، والمنظور الإسلامي، والأحكام الإلهية، وتربيتهم، وتزكيتهم، ورعاية مواهبهم، وإعداد الناس لكي يديروا شؤونهم بأنفسهم، ومن ثم إدارة شؤون المجتمع الذي تكون إدارته من شؤون الأنبياء، ما دام فيهم نبي، بحسب الحكم الإلهي.
إن لدينا اليوم هذا النموذج، ولكن كما قلت هنالك بون بين هذا النموذج وما يمكن أن يكونه النموذج الثالث، إلا أن هذا البون ينبغي أن يتضاءل يوماً بعد يوم، وأن تردم الهوة التي تفصل بينهما حتى يتطابقا معاً.
لقد كنا نعلم بالطبع أن مجرد وجود نظام كهذا سيؤلب علينا القوى العظمى والسلطات الاستكبارية، وكنا ننتظر حملاتها، وما زلنا ننتظرها حتى الآن. لم يخطر لنا ببال أن القوى العظمى في العالم سوف ترفع أيديها الأثيمة بسرعة عن هذا النموذج الإسلامي الحي، ولا نحن نتوقع ذلك منها، بل الذي نتوقعه هو استمرارها في التهجم والهجوم، بمثلما كان الحال في صدر الإسلام كما جاء في القرآن الكريم {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصَدَق الله ورسوله..} (الأحزاب، 22).
فهم لم يستغربوا حشود الأحزاب لأنهم كانوا يتوقعونها. ونحن اليوم كذلك، فكلما ازدادت حساسية الاستكبار الشرقي والغربي من جهتنا وازداد تكالبه علينا، زاد إيماننا بحقانيتنا وبأننا خطر حقيقي على الاستكبار العالمي، ولذلك راح يلقي بثقله ضدنا.
واليوم وبعد أن وصل تكالب الاستكبار علينا الى أقصى درجاته، فقد وصل إيماننا ـ بفضل الله ـ الى أقصى درجاته أيضاً.
ها أنتم اليوم أمام هذا النموذج العيني القائم لنظام حكومة إسلامية يمكن تحليلها، وها هي مسألة مهمة يمكن فيها للإخوة والأخوات المشاركين والمشاركات في هذا المحفل، والعلماء الأجلاء المحترمين في الجلسة، أن تتظافر مساعيهم لتحليل هذه المسألة على أحسن وجه، ففي ذلك عون لنا على إيصال نظامنا الى الكمال، وستكون حصيلة هذه التحليلات موضع التطبيق عندنا، كما أن فيه أيضاً تنويراً لسائر الأمم.
إنني أطلب وأرجو من العلماء المحترمين والخطباء والمتنورين في الدول الإسلامية في العالم أن يتناولوا موضوع الحكومة الإسلامية بالشرح والتوضيح للناس، فهذا من أهم المواضيع التي يجب أن تُدرس وتُبلّغ لعموم الناس. عليهم أن يبيّنوا للناس مدى المسافة التي تفصل واقع الحياة حولهم عن الحقيقة التي يريدها الإسلام ويريدها الله.
إن هذا هو الذي يحدو بنا الى أن نقدّر هذا الاجتماع الجليل القيّم وأن نجلّه، سائلين الله تعالى أن يوفقكم، أيها الإخوة وأيتها الأخوات، آملين أن تعرض في جلساته العامة وفي لجانه في أيام انعقاده بحوث نافعة تعمل على تحسين المعرفة بالقضايا الخاصة بالحكومة الإسلامية.
مرة أخرى أرحب بضيوفنا الأعزاء، وعلى الأخص ضيوفنا الأجانب من الدول الإسلامية وغيرها ممن تفضلوا بقبول دعوتنا للمشاركة في هذا المؤتمر، وكذلك أرحب بضيوف عشرة الفجر، سائلاً الله تعالى التوفيق لكم جميعاً أيها الأعزة، وكذلك للقائمين على أمر هذا المؤتمر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. - حقوق الإنسان في الإسلام
حقوق الإنسان في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهرين المنتجبين وصحبه المهتدين..
إن مسألة حقوق الإنسان هي إحدى المسائل الأساسية المهمة، كما أنها من أكثر قضايا الإنسان حساسية، فقد اتخذت في العقود الأخيرة أبعاداً سياسية فضلاً عن أبعادها الأخلاقية والحقوقية. ومع أن تدخل الأهداف السياسية والتكتلات والمواقف السياسية قد وضع عقبات ومشاكل عديدة أمام الطرح الصحيح لهذه المسألة، إلا أن كل ذلك يجب أن لا يثني المفكرين والمهتمين بالأمر عن مواصلة دراسة حقوق الإنسان وحل مشكلاتها.
وفي الغرب هذه المسألة قد تم إحياؤها من قبل المفكرين، فهي ومنذ نحو مئتي عام تتصدر قائمة المسائل السياسية والاجتماعية للعالم الغربي، حتى أضحت مسألة مهمة نجد بصماتها على الكثير من الانقلابات والتغييرات السياسية والاجتماعية.
وقد بلغ هذا الاهتمام الغربي ذروته خلال العقود الأخيرة، فكان صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتأسيس منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية مصداقاً عينياً للاهتمام بقضية حقوق الإنسان في العالم، ويمكننا اتخاذ هذا المصداق مقياساً نستند إليه في تحليلنا وحكمنا على ما سمعناه من شعارات وضجيج عن حقوق الإنسان خلال المئتي عام الأخيرة، وخاصة خلال العقود الأخيرة.
وطبيعي أننا نحن المسلمين نعلم جيداً أنه إذا كان الغرب قد أولى هذه المسألة اهتماماً كبيراً خلال العقود الماضية، فإن الإسلام كان قد اهتم بها وبأبعادها الواسعة والشاملة منذ قرون عديدة. فقد عالجها بشكل أساسي وجذري، وهذا ما نلاحظه في الكتب والآثار الإسلامية الموجودة والتي لسنا بحاجة الى تفصيلها الآن ما دمنا نتحدث الى جمع من المسلمين.
إن الآيات القرآنية والأحاديث الواردة عن الرسول الأكرم والأئمة (عليهم السلام) أكدت جميع حقوق الإنسان التي تنبّه إليها العالم واهتم بها خلال العهود الأخيرة، وهي تحظى دوماً باهتمام المسلمين والعلماء، وهم ليسوا بحاجة الى التذكير بها وتكرارها. وفي ختام حديثي، سأذكّر بأن على المجتمع الإسلامي اليوم مسؤولية تعريف العالم بهذه الحقيقة الإسلامية الوضّاءة لكي لا يدع هذه الأصالة الإسلامية تضيع وسط أعاصير الضجيج والأجواء السياسية المفتعلة على الصعيد العالمي.
هنا تطرح عدة أسئلة نفسها، وتشكل الإجابة عنها، هدفنا من هذا البحث. من المؤكد، أيها المفكرون والباحثون، أنكم ستقدمون خلال هذا المؤتمر بحوثاً عميقة ونافعة حول الجوانب والأبعاد المختلفة لحقوق الإنسان، وهذا بحد ذاته سيكون ذخراً للعالم الإسلامي يمكّنه من الإطلاع على الموضوع من منظار إسلامي.
السؤال الأول هو: هل كانت المحاولات التي جرت خلال القرنين الماضيين، وخاصة خلال نصف القرن الأخير، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن وتحت اسم حقوق الإنسان، موفقة أم لا؟ وهل استطاعت كل هذه التصريحات والاجتماعات والمؤتمرات من جانب هيئة الأمم المتحدة والإذاعات حول حقوق الإنسان أن توصل البشر الى حقوقهم الحقة؟ أو في الأقل هل استطاعت إعطاء الإنسان الجزء الأكبر من حقوقه؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست صعبة، فمجرد الإطلاع على حقائق عالمنا اليوم، يكفي لإثبات إخفاق كل ما بذل في هذا المجال لحد الآن، ونظرة عابرة لوضع المجتمعات المتخلفة التي تشكل النسبة الأكبر من سكان العالم ستثبت لنا أن أكثر البشر لم يحصلوا خلال نصف القرن الأخير على حقوقهم، وليس هذا فحسب بل إن أساليب سلب حقوق الإنسان والشعوب المحرومة قد تطورت وتعقدت وأصبح من الصعب علاجها. نحن لا يمكننا تقبّل ادعاءات منظمات حقوق الإنسان ولا ادعاءات هؤلاء الذين يدّعون مناصرة حقوق الإنسان، بينما نحن نشاهد الواقع المر لشعوب أفريقيا وآسيا، وجوع ملايين البشر، وحرمان العديد من الشعوب من أبسط حقوقها الاجتماعية. إن هؤلاء الذين رفعوا عقيرتهم خلال الأربعين عاماً الماضية دفاعاً عن حقوق الإنسان إنما هم أنفسهم قد سلبوا ولا زالوا يسلبون حقوق الشعوب المحرومة في العالم الثالث، واليوم نشاهد حكومات وأنظمة تسلّمت السلطة في العالم الثالث تستند الى تلك القوى نفسها وتنتهج طريقها نفسه في انتهاك حقوق الإنسان في بلدانها.
إن الحكام الجبابرة الذين كثر عددهم خلال نصف القرن الأخير في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، لا يستطيعون انتهاج الدكتاتورية دون الاعتماد على القوى الكبرى في العالم، والقوى الكبرى هي نفسها التي ترفع عقيرتها دوماً بشعارات الدفاع عن حقوق الإنسان، وهي التي أسست الأمم المتحدة التي لا زالت حتى اليوم خاضعة لسيطرتها.
إن تفشي الفقر والجوع والموت في العديد من دول العالم، إنما هو نتيجة التدخل والظلم والإغتصاب الذي تقوم به هذه القوى. فمَن الذي أوصل أفريقيا المليئة بالخيرات الى ما هي عليه اليوم؟ ومَن الذي استغل شعبي بنغلادش والهند لسنوات طوال وأوصلهما الى هذا الوضع بحيث يتفشى فيهما الجوع والموت بينما تملكان من الخيرات والبركات ما شاء الله؟
ومَن الذي ينهب ثروات دول العالم الثالث ويطوّر تكنولوجيته وصناعته ويجمع الأموال الطائلة على حساب الفقراء والجياع في هذه الدول؟
إن الذين أسسوا منظمة الأمم المتحدة، وأصدروا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذين يواصلون اليوم وبكل صلافة الإدعاء بالدفاع عن هذه الحقوق، هم أنفسهم سبب معاناة الشعوب وتعاستها، وإلا فلماذا تبقى أفريقيا الغنية بالثروات والموارد الطبيعية، وأميركا اللاتينية المليئة بالثروات الطبيعية، والهند الكبيرة الواسعة، ودول العالم الثالث التي تمتلك كل هذه الطاقات البشرية والثروات الطبيعية، لماذا تبقى كل هذه المناطق متخلفة عن مواكبة ركب التطور والتقدم؟
إن الذي يحكم العالم اليوم، هم أصحاب المال والقدرة الذين وضعوا بأنفسهم أسس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وها نحن نرى الوضع المأسوي الذي تعاني منه الشعوب وهي ترزح تحت نير تسلّط هذه القوى ونهبها لها.
منظمة الأمم المتحدة التي تعتبر ثمرة كل الجهود الرامية الى حفظ حقوق الإنسان، ما الذي عملته للشعوب، وماذا تفعل اليوم؟ وفي أية قضية سياسية أو كارثة كبرى أصابت الشعوب استطاعت هذه المنظمة أن تلعب دوراً فعالاً وإيجابياً؟ ومتى نهضت هذه المنظمة لدعم المظلوم؟ ومتى استطاعت هذه المنظمة منع القوى الكبرى من مواصلة سياساتها الظالمة؟ إن هذه المنظمة أكثر تخلفاً من الكثير من الدول والشعوب. فعلى الرغم من كل هذه الإدعاءات، فإنكم تشاهدون في أفريقيا اليوم نظاماً عنصرياً، بل إنكم تشاهدون التمييز العنصري داخل الدول المتقدمة نفسها. إذاً فمنظمة الأمم المتحدة لم تفعل شيئاً من أجل حقوق الإنسان، إذ قُصر دورها في المشاكل العالمية على التوصيات والإرشادات فقط كما تفعل أية كنيسة.
وفي منظمة الأمم المتحدة، يوجد مجلس الأمن الدولي الذي يعتبر النواة المركزية للمنظمة ومركز القرار، وفيه تمتلك الدول الكبرى حق النقض (الفيتو) فتستطيع الدول الكبرى نقض أي قرار يتخذه المجلس ضد المتسببين في إضعاف الشعوب وإبقائها متخلفة. إن منظمة الأمم المتحدة وكل المنظمات التابعة لها، سواء أكانت ثقافية أم اقتصادية أم فنية أم غيرها.. خاضعة لتأثير القوى الكبرى. وقد شاهدتم الضغوط التي مارستها أميركا ضد منظمة اليونسكو الثقافية بسبب مجيء رجل مسلم الى رئاسة المنظمة يسعى الى إبقائها مستقلة؛ فقد شاهدتم خلال السنتين الماضيتين حجم الضغوط التي مارستها أميركا ضد هذه المنظمة ورئيسها.
إذاً فالأمم المتحدة، باعتبارها ثمرة كل الجهود التي بذلت من أجل حقوق الإنسان، تراها اليوم عقيمة لا فائدة منها، بل إنها تتصرف أحياناً وكأنها ملك للقوى الكبرى. ومع ذلك فإننا لا نرفض وجود الأمم المتحدة أساساً، بل نعتقد أنها يجب أن تبقى، ولكن يجب أن يجري إصلاحها، فنحن أيضاً عضو فيها. والذي أريد قوله هو إنه بعد كل تلك الجهود والضجيج والإدعاءات، وبعد كل تلك الآمال التي عُقدت على هذه المنظمة، نشاهد اليوم مدى عجز هذه المنظمة عن تأمين حقوق الإنسان، وهكذا فقط اتضحت الإجابة عن السؤال الأول، إذ يمكننا القول: إن الجهود التي بُذلت من أجل حقوق الإنسان خلال القرون الأخيرة قد باءت جميعها بالإخفاق.
السؤال الثاني هو: هل كانت كل هذه الجهود صادقة ومخلصة؟
من الواضح أن هذا سؤال تاريخي قد لا تكون له آثاره العملية، ولهذا فلن نطيل البحث والتفصيل فيه، ونكتفي بالقول إن أغلب هذه الجهود لم تكن مخلصة. صحيح أنه كان من بين المتصدين لهذا الأمر مفكرون وفلاسفة ومصلحون، إلا أن السياسيين كانوا يتحكمون بكل شيء حتى أن جهود بعض المصلحين أصبحت بالنتيجة تصب في مصلحة تجار السياسة. ففي الماضي، كان الذين يطلقون نداءات الدفاع عن حقوق الإنسان هم الأنبياء والحكماء وأمثالهم، أما اليوم فنشاهد هذه النداءات تصدر عن السياسيين، ولهذا فمن حقنا أن نشك في صدقها وإخلاصها. أنظروا مَن الذي ينادي بحقوق الإنسان اليوم، فالرئيس الأميركي السابق إتخذ من ضمان حقوق الإنسان شعاراً ليصل بواسطته الى الرئاسة، وفي أيام رئاسته الأولى كان يظهر من أحاديثه وتصريحاته أنه يريد العمل بجد بهذا الخصوص، إلا أنه وقف في النهاية الى جانب أظلم الحكام المعارضين لحقوق الإنسان وأقساهم وأشرسهم في المنطقة، فقد وقف الى جانب الشاه والصهاينة المتسلطين على فلسطين وسائر المستبدين المعروفين في هذا العصر.
إن الحكام ورجال السياسة الذين يرفعون عقيرتهم اليوم بالدفاع عن حقوق الإنسان في المؤتمرات والمحافل الدولية، ليسوا بأفضل ممن سبقوهم إذ أننا لا نشاهد الصدق والإخلاص في تحركاتهم. فالذين وضعوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى رأسهم أميركا، كانوا يسعَون الى فرض سلطتهم وهيمنتهم على العالم. إن هؤلاء هم أنفسهم الذين قتلوا عشرات الآلاف من البشر بالقنبلة الذرية، وهم أنفسهم الذين زجّوا بأبناء الهند والجزائر وأفريقيا في جيوش تخوض حروباً لا علاقة لها بهذه الدول من قريب ولا من بعيد. نعم إننا لا يمكن أن نصدّق أبداً أن روزفلت وتشرشل وستالين وأمثالهم قد فكروا يوماً بحقوق الإنسان الحقيقية، أو أنهم كانوا صادقين ومخلصين في تأسيسهم منظمة الأمم المتحدة وإصدارهم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إذاً، فقد اتضح الجواب عن السؤال الثاني، وهو أننا نعتقد أن تحركات السياسيين ومساعيهم وأغلب النداءات والصرخات الداعية الى إعطاء الإنسان حقوقه لم تكن صادقة أبداً.
أما السؤال الثالث، وهو السؤال الأساسي فهو: ما هي أسباب كل هذا العجز والإخفاق في هذه المساعي؟ إن هذه النقطة يجب أن تحظى بقدر أكبر من اهتمامكم، وسأتناولها أنا هنا باختصار. فنحن نعتقد أن ما يطرح اليوم باسم حقوق الإنسان إنما يطرح في إطار نظام معْوَجّ وخاطئ، ألا وهو نظام الهيمنة، نظام الظلم، وهو ما يؤمن به أولئك الذين أوجدوا الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذين يرفعون اليوم عقيرتهم ويملأون الدنيا شعارات دفاعاً عن هذه الحقوق، كما يؤمن به أيضاً ـ مع الأسف ـ أغلب الحكام والسياسيين في العالم، ويتلخص معنى هذا النظام في أن هناك مجموعة من الناس تهيمن على الباقين ويجب أن تبقى مهيمنة. هذا النظام تتبعه ثقافة الهيمنة. فالعالم اليوم مقسّم الى قطبين أو مجموعتين: مجموعة المهيمنين، ومجموعة الخاضعين لهذه الهيمنة، فالمجموعة الأولى تعتقد بأن نظام الهيمنة يجب أن يسود، والثانية رضيت بهذا النظام وخضعت للهيمنة. وهذا هو الخلل الكبير في الوضع العالمي اليوم. فالذين يرفضون هذا النظام والذين يتمردون على الوضع الاجتماعي والسياسي السائد في العالم، هم أولئك الثوار التحرريون أو دول قليلة جداً، وهؤلاء يتعرضون لضغوط مستمرة، والجمهورية الإسلامية خير مثال على ذلك، فقد رفضت نظام الهيمنة بكل أشكاله، ورفضت هيمنة أية جهة أو دولة أو مجموعة، سواء أكانت شرقية أم غربية. وقد شاهد الجميع ما واجهته الثورة الإسلامية خلال سنيّ عمرها الثماني من ضغوط سياسية وعسكرية واقتصادية وإعلامية بسبب اتخاذها الموقف الصادق والجاد والمستقل من نظام الهيمنة.
فإن كانت هناك بعض التقدمية تقف بوجه الهيمنة الغربية والأميركية، فسنلاحظ أنها تميل الى المعسكر الشرقي بنسب متفاوتة، فبعضها يرتمي بشكل كامل في أحضان المعسكر الشرقي وروسيا، وبعضها الآخر يميل الى هذا المعسكر مع وضوح الاستقلالية في الكثير من مواقفه وسياساته.
إن الدولة الوحيدة التي رفضت الرضوخ لضغوط أية قوة، هي الجمهورية الإسلامية بشعبها وكل قواها، فقد رفضت نظام الهيمنة جملة وتفصيلاً. فنحن نعلن موقفنا الصريح والواضح وبدون أي تحفظ من أية حالة هيمنة تمارسها قوة أو فئة ضد شعب من شعوب العالم.
إن أكثر العالم رضي بنظام الهيمنة، فأنتم تلاحظون أنه حتى الحكومات الخاضعة للهيمنة، تملك الجرأة على الوقوف بوجه القوى الكبرى ومواجهتها، بينما نحن نعتقد أن هذا الأمر ممكن ويسير.
نحن نعتقد أن الدول الفقيرة، والدول التي رضخت للهيمنة والدول التي أُجبرت على الرضوخ للهيمنة رغم امتلاكها القدرات والثروات، بإمكانها الوقوف بوجه القوى الكبرى إن أرادت ذلك، وهذا الأمر يسير لا يحتاج الى معجزة، إذ يكفي حكومات هذه الدول أن تعتمد على شعوبها.
إن ضعف نفوس وإرادة بعض الحكام، وخيانة بعضهم الآخر أدّيا الى خضوع هؤلاء لنظام الهيمنة، فهذا النظام هو الذي يسيّر الاقتصاد والثقافة والعلاقات والحقوق الدولية، وطبيعي أن تكون مسألة حقوق الإنسان قد انطلقت من هذه النظرة، ووجدت وتنامت في إطار هذا النظام. فالذين ينادون بحقوق الإنسان في الغرب ويسعَون الى إعطاء مواطنيهم بعض الحرية الشكلية والإمكانات الرفاهية، يقومون هم أنفسهم بقتل آلاف البشر من الدول الأخرى، فما الذي يعنيه ذلك غير سيطرة ثفافة الهيمنة على عقول هؤلاء؟ إنهم يقسمون الإنسان في العالم الى نوعين: الأول/ إنسان يجب الدفاع عن حقوقه، والثاني/ إنسان بلا حقوق، يجوز قتله واستعباده واغتصاب ثرواته. هذه هي ثقافة الهيمنة المسيطرة على العالم، وحقوق الإنسان المطروحة اليوم، إنما هي وليدة هذه الثقافة.
هذا هو إطار حقوق الإنسان في عالمنا اليوم، والذي تعمل القوى الكبرى بواسطته على تعميق الهوة بينها وبين الدول الضعيفة، وتزيد من ضغوطها عليها، لتسرع هي في تطورها وتقدمها العلمي والتكنولوجي.
إن الأقمار الصناعية تدور اليوم حول الأرض لتجمع الأسرار والمعلومات الخاصة بالدول والشعوب، فبأي حق يتم كل هذا؟ إن جميع المحادثات واللقاءات بين الناس على سطح هذه الأرض تخضع للإنصات من قبل أولئك الذين يملكون التفوق التكنولوجي ولتجسسهم، فبأي حق يتم هذا؟ هل سأل أحد عن ذلك؟ هل مَن يعترض على ذلك؟ بما أن أميركا تملك أقماراً صناعية إذاً فمن حقها استخدام هذه المعلومات المستحصلة، والجميع يرضخ لذلك! ترى أليس التجسس على أحاديث الآخرين وأسرارهم اعتداءاً على حقوقهم؟ وهل قام أحد بطرح هذا السؤال على أميركا وروسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا؟ ونحن نسأل: هل يمكن طرح مثل هذا السؤال؟ ويأتي الجواب بالنفي، لأن الجميع سيقولون إن هذه الدول تملك القوة والقدرة ويجب أن تقوم بذلك.
إن مسألة القنبلة النووية واستخدام السلاح النووي تُطرح اليوم على الصعيد العالمي، تطرحها الدول الكبرى نفسها لأن كلاً منها تخاف الأخرى، فتقوم بافتعال الضجيج واللجوء الى كل وسيلة لخداع الأخرى ودفعها الى التقليل من تسليحاتها النووية، بينما تقوم هي بزيادة تسليحها. ترى هل فكرت الدول الصغيرة بأن تعلن للدول المنتجة للأسلحة النووية بأنها ستقطع علاقاتها معها وستقطع عنها مواردها وتسهيلاتها وإمكاناتها ما دامت تواصل انتاج هذا السلاح الذي يحمل خطراً كبيراً يهدد البشرية بالفناء في أية لحظة؟ هل فكرت دول عدم الإنحياز وسائر الدول بأن تشكل محوراً معارضاً لانتاج الأسلحة النووية؟ بالطبع لا. ولو أنكم عرضتم عليهم هذه الفكرة لقالوا إن هذه الدول تملك تكنولوجيا متطورة وباستطاعتها انتاج هذه الأسلحة. إن هؤلاء قد استسلموا واقتنعوا بنظام الهيمنة الذي بات مقبولاً من كلا الجانبين: المهيمنين والخاضعين للهيمنة في وقت واحد.
نحن نشاهد في المحافل الدولية أن ممثلي الدول تدهشهم إدانتنا للشرق والغرب ويعتبرون ذلك تهوراً من جانبنا بينما هو موقف طبيعي من شعب مستقل، وعلى الشعوب جميعاً سلوك نفس هذا النهج، كما أن على الحكومات أيضاً أن تتخذ هذا الموقف الذي تتركه وللأسف.
نخلص الى القول بأن ثقافة الهيمنة، تعتبر اليوم أكبر آفة وخطر يهدد العالم كله، خاصة الشعوب المستضعفة.
إن القوى الكبرى، وفقاً لثقافة الهيمنة تسمح لنفسها بنقض حقوق الإنسان حيثما شاءت، فهي تهاجم غرينادا وتساند الصهاينة الذي يقتلون الأبرياء في لبنان، وتساند ـ مع بعض الدول الأوروبية ـ النظام العنصري في جنوب أفريقيا في ظلمه واضطهاده لأصحاب البلد الأصليين، أما لو نهض شخص في إحدى بقاع العالم وتمـرّد على هذا الوضع غير المتوازن، فقام بتفجير قنبلة أو عملية ثورية، او قاد حركة ضد هذه المعادلة غير المتوازنة، لتعرَّض للإدانة، ولأُلصقت به صفة الإرهاب، بينما الإغارة على ليبيا وقصف منزل رئيس دولة والاعتداء على أراضي دولة أخرى لا تتعرض لأية إدانة.
عندما يتحدث هؤلاء عن الإرهاب يطرحون عمليات أفراد مظلومين نهضوا غاضبين، من فلسطين ولبنان ودول أفريقيا وأميركا اللاتينية، ويبعدون الأذهان عن الاعتداءات والانتهاكات والإرهاب الذي تمارسه أميركا وبريطانيا وسائر القوى الكبرى. إن هذه هي ثقافة الهيمنة التي تسيطر، مع الأسف، على أذهان البشر.
في ثقافة الهيمنة، تعطي المصطلحات معاني تتلاءم مع نظام الهيمنة، فمثلاً يطرح معنى الإرهاب بشكل بحيث لا تعتبر الإغارة على ليبيا وتهديد نيكاراغوا والهجوم على غرينادا، مصاديق له، هذا هو الخطأ الكبير في عالمنا اليوم.
إذاً، فسبب عدم نجاح كل المحاولات والمساعي المبذولة باسم حقوق الإنسان من قبل المخلصين الصادقين والحريصين على هذه الحقوق، يكمن في أنهم يطرحون هذه الحقوق في إطار نظام الهيمنة وثقافتها، وفي هذا الإطار يريدون وضع حقوق الإنسان، وهذا أمر مستحيل. إذ يجب تحطيم هذا الإطار، أولاً تجب إدانة نظام الهيمنة ورفضه جملة وتفصيلاً حتى يمكن فهم مسألة حقوق الإنسان، والسعي من أجل ضمانها بالشكل الصحيح.
وهنا نصل الى السؤال الرابع والأخير وهو: ما العلاج؟
برأينا يكمن العلاج في جملة واحدة هي: العودة الى الإسلام والوحي الإلهي. إنها الوصفة الطبية النافعة للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء. إن على المجتمعات الإسلامية أن لا تفكر بغير هذا، عليها أن تحيي القرآن والفكر الإسلامي وتستنبط القوانين والأحكام من المصادر الإسلامية (القرآن والسنّة) فذلك كفيل بتحديد معالم حقوق الإنسان ومصاديقها، ومساعدتنا في ضمان هذه الحقوق. ولأجل إعطاء الإنسان حقوقه علينا ترك التوصيات والنصائح، فهي عديمة الفائدة، {خذوا ما آتيناكم بقوة} فلقد أعطى الله هذه الحقوق للإنسان وعليه أخذها بكل قوة. على الشعوب أن تعتمد على الفكر الإسلامي في مواجهة الهيمنة والضغوط، وهذا الكلام لا يصدر من إنسان يجلس في زاوية المدرسة يفكر بالمسائل والنظريات الإسلامية، بل إنه صادر عن ثورة خاضت تجربة ناجحة ولمست حقائق عديدة، فثورتنا تجربة تقدم نفسها لكل الشعوب. أنا لا أقول إننا استطعنا حل كل مشاكلنا، فبسبب الثورة واتجاهنا نحو الإسلام اختلقوا لنا مشاكل عديدة، إلا أننا استطعنا إنهاء مشكلة الهيمنة، وشعبنا اليوم مستقل عن جميع القوى، ويمكنه اتخاذ أي قرار يريده بكل حرية واستقلالية. وطبيعي أن أمام شعب يريد التحرر من كل أنواع التبعية طريقاً طويلاً وشاقاً، لكن التبعية التي لا تقترن بالهيمنة هي أمر طبيعي يمكن تحمله، وواضح أن ثورتنا وجمهوريتنا الإسلامية قد ورثتا مجتمعاً مدمراً واقتصاداً منهاراً وثقافة منحطة، لقد ورثت ثورتنا. إيران كانت خلال الستين عاماً الأخيرة معرضة للغزو من كل صوب وعلى الأصعدة كافة، ولا يتوقع أحد أن الثورة ستستطيع التعويض عما فات إيران على الصعيد الثقافي والأخلاقي والاقتصادي والعلمي والصناعي في فترة وجيزة، ونحن أيضاً لا ندّعي ذلك.
إننا نعتقد أنه إذا استطاع شعبنا الوصول الى مستوى مادي عالٍ، فيجب أن يتم ذلك في ظل الاستقلال والاعتماد على النفس واستخدام جميع إمكاناته المادية والبشرية.
إن الذي يمكن أن ندّعيه بكل ثقة، هو أن الجمهورية الإسلامية لم تعد تخضع لأية هيمنة أو ضغوط سياسية من جانب أية قوة، وليس بإمكان الضغوط السياسية التي تمارس ضدها تغيير نهجها وخطها، ولا التعديل من مواقفها أو إجبارها على الاتجاه نحو إحدى القوى الكبرى، إننا حررنا أنفسنا من سلطة القوى الكبرى وهيمنتها، وهذا بحد ذاته تجربة غنية.
نحن نعتقد أن أفضل النماذج لحقوق الإنسان في الإسلام هو حق الحياة، وحق الحرية، وحق التمتع بالعدالة، وحق التمتع بالرفاهية، وسائر الحقوق الأساسية التي أعطاها الإسلام للإنسان قبل أن ينتبه لها المفكرون الغربيون.
إن علينا أن نعود الى الإسلام، وعلى المفكرين الإسلاميين الإضطلاع بمسؤولية البحث والدراسة في مجال حقوق الإنسان خاصة، والنظام الحقوقي بشكل عام، وهذا ما أخذه هذا المؤتمر على عاتقه والذي سيكون خطوة على هذا الطريق، وستستمر هذه الجهود إن شاء الله على مستوى عالٍ لتتمكن الشعوب من التمتع بهذه الحقوق، وطبيعي أن بإمكان الحكومات مساعدة شعوبها في هذا الأمر بشرط أن لا تراعي رغبات القوى الكبرى، وهذا ما لا نشاهده الآن بكل أسف، فأغلب الأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية تقع تحت تأثير القوى الكبرى، وأغلبها تحت تأثير الغرب وأميركا، ولهذا فإن جميع مواقفها وقوانينها لا تتماشى مع الموازين والأحكام الإسلامية وإرادة شعوبها، وهذا المؤتمر الذي عقد في الكويت مثال بارز على ذلك، فقد رأيتم كيف أنه لم يبحث القضايا الأساسية والمصيرية للمسلمين، بل ذهب الى طرح قضية وإصدار البيان الختامي بشأنها وهي لا تتفق والإسلام، فبدلاً من أن يدينوا العراق ويطردوه من المؤتمر بسبب اعتدائه على إيران ووقوفه بوجه بلد مسلم، وبدلاً من كشف دور القوى الكبرى في تأجيج هذه الحرب، فإنهم أبدَوا رضاهم عن العراق باعتباره ـ حسب قولهم ـ يلبي نداء السلام؛ متجاهلين بذلك واقع هذه القضية وحقيقتها، ومتناسين أن دفاع شعب عن حقوقه أحق أن يُشاد به، وامتثال نظام معين لرغبات الاستكبار العالمي في الوقوف بوجه ثورة شعبية إسلامية أحق أن يدان.
إن هذه البيانات والقرارات ووجهات النظر خاوية لا تستند الى المبادئ والقيم الإسلامية، كما أنها تفقد أية أهمية، فليس هناك شعب ينتظر ما ستتخذه قمة الكويت من قرارات لكي يفرح أو يحزن لها، أي أن هذه المؤتمرات وهذه القرارات بعيدة عن الواقع والأصالة الإسلامية وطموحات الشعوب لدرجة أنها تواجه بعدم اكتراث من قبل الشعوب، فليس هناك من شعب متعطش لما سيصدر عن القمة الإسلامية، ليحدد واجبه على غرارها. لماذا يصل تجمع يضم ستاً وأربعين دولة، على مستوى القمة، الى هذه الدرجة من الخواء والضعف؟ إن السبب يكمن في أن أغلب هؤلاء الرؤساء يقعون تحت تأثير القوى الكبرى، وما دام رعب هيمنة هذه القوى يسيطر على قلوبهم فلن تصلح حال المسلمين، ولو أردنا إصلاح هذه الحال التي نمر بها اليوم، لكان علينا أولاً طرد ما في القلوب من رعب من القوى الكبرى، وكما قال الباري عز وجل {فلا تخشَوا الناس واخشونِ}، وإذا ما حدث ذلك فسينصلح حال الشعوب الإسلامية.
هنا أصل الى نهاية حديثي، وآمل أن يتمكن هذا المؤتمر من قطع خطوات مؤثرة في طريق معرفة الحقائق الإسلامية في مجال حقوق الإنسان، كما آمل أن يؤدي التقاء الإخوة المؤتمرين الى توضيح تجارب الثورة الإسلامية للإخوة غير الإيرانيين ليتسنى لهم دراستها والاستفادة منها ولشعوبها، الإطلاع على ثورة إخوانهم في إيران باعتبارها قدوة ونهجاً يمكن اتباعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. - حقوق الإنسان لن يوفّرها إلاّ الإسلام
حقوق الإنسان لن يوفّرها إلا الدين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد (ص) وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين وصحبه المنتجبين المكرمين.
قال الله الحكيم في كتابه:
بسم الله الرحمن الرحيم
{قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مدداً * قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً}.
لابد أولاً وأن أرحب بالضيوف الأعزة، وعلى الأخص الضيوف الذين قدموا إلى هذا الوطن الإسلامي من دول أخرى، وأن أشكرهم على مشاركتهم إيانا في احتفال الجمهورية الإسلامية الكبير بعيدها، بل أكبر أعيادها التاريخية في الواقع. اليوم هو يوم 12 بهمن وبداية "عشرة الفجر"، يوم ورود إمامنا العزيز الجليل إلى البلد الإسلامي، ويوم تصاعد ثورتنا العظيمة. وإني لأرجو أن تكون المواضيع التي تطرح في هذا المؤتمر، والتي طرحت وشرحت في المؤتمرات السابقة، بشأن القضايا الإسلامية الرئيسية ـ وهي في الحقيقة كنز فكري ثمين لنا نحن المسلمين ـ منطلقاً للفكر والتأمل والتدبر، كما أرجو أن تلهم جميع المجتمعات الإسلامية السعي والعمل.
موضوع هذه السنة أيضاً هو قضية حقوق الإنسان، وهي بالطبع قضية مهمة، تتسع لكثير من البحوث الأصلية والكلية والمتفرعة عنها والتي بحث جانب منها في العام الماضي، وسوف يجري البحث هذا العام في جوانب أخر منها.
إنني اليوم إذ أبدأ هذه البحوث، سأتطرق إلى قضية مبدئية على صعيد حقوق الإنسان.
لقد طرحت قضية حقوق الإنسان ـ كما يعلم الإخوة ـ منذ القرن الثامن عشر في أوربا والعالم الغربي كمسألة يدور حولها الكثير من اللغط والكلام والجدل. لقد برزت قضية حقوق الإنسان، قبل الثورة الفرنسية الكبرى، في بعض البحوث الثانوية في كثير من الكتب والمحاضرات والمؤتمرات، ومازالت حتى اليوم من القضايا التي يوليها الغرب الكثير من اهتمامه، وطبيعي أن تبرز من خلال ذلك وجهات نظر جيدة ومفيدة وعميقة.
إننا ـ بالطبع ـ لا نرفض كل ما قاله الغرب بشأن حقوق الإنسان، كما إننا لا نتقبله كله، إذ إن هناك في البحوث الموجودة نقصاً مبدئياً موجوداً في جميع المساعي المبذولة في أرجاء العالم بخصوص حقوق الإنسان، وهو ما سأتناوله بالبحث اليوم. فعلى الرغم من كل الجهود المبذولة، ما زلنا نرى أن قضية حقوق الإنسان من القضايا التي لا حل لها في عالمنا اليوم. أقصد أن حقوق الإنسان ما زالت غير متوفرة حتى الآن.
إنك حيثما تلتفت بنظرك في العالم تجد المحاباة، والقيود، والفقر المفروض، وانعدام الثقافة الاجباري، بل تجد أن حقوق الإنسان تداس بالأقدام في بعض نقاط من العالم على الرغم من المساعي الكثيرة التي بذلت وتبذل في سبيل هذه القضية. فأين الخلل؟ وهذا سؤال مهم.
إنني عندما أشير إلى الغرب ونقص الثقافة الغربية، لا أعني أن الثقافات الأخرى الشائعة في العالم هي خير من تلك، بل أريد القول إن الثقافة الغربية هي ـ في الحقيقة ـ أم الثقافات الشائعة في العالم اليوم، بما فيها الثقافات الماركسية والاشتراكية في العالم الثالث.
من المؤسف أن نلاحظ أن ما يخطط له في الدول المتخلفة بهذا الخصوص يدور حول محور ما يقوله، ويزوقه مفكرو الغرب. بل إن الشعراء والمفكرين والفلاسفة والمصلحين في هذه الدول واقعون تحت تأثير أقوال أولئك المفكرين الغربيين وتزويقاتهم. وثقافة الكتلة الشرقية والفكر الماركسي أيضاً ـ كما قلنا ـ من منتجات الثقافة الغربية، ولذلك فهي واقعة أيضاً ـ وبشكل خاص ـ تحت تأثير تلك الثقافة نفسها. وحتى إذا ما ارتفعت فيها نغمة مضادة تماماً لما يرتفع في الغرب من نغمات، فإن الغرب هو الذي رفعها. كان لينين يقول:
"الحرية تعني ديكتاتورية البرجوازيين. إذن، في قبال تلك الديكتاتورية يجب أن يرتفع علم ديكتاتورية البروليتاريا" الديكتاتورية مرة أخرى. وهكذا ترون أن فكرة ديكتاتورية البروليتاريا لم تكن سوى انعكاس وتأثر بما كان يدور في ذهنه من الثقافة الغربية. وما جذور الثقافة الماركسية إلا نتائج الثقافة الغربية، وهذا أمر واضح لا لبس فيه.
إننا ـ إذن ـ عندما نشير إلى الغرب، فإنما نفعل ذلك بصفته نموذجاً بارزاً نستند إليه. على كل حال، هناك عيب أساس واحد يوجد في جميع ما يعرض اليوم في العالم باسم حقوق الإنسان، سواء أكان ذلك في المساعي العملية، كنشاط المؤسسات التي تبذل جهودها في هذا السبيل، أم في المساعي الفكرية، كالآراء التي يعرضها المفكرون على هذا الصعيد.
وعلى الرغم من الجهود الواسعة التي يبذلها عالم اليوم من أجل حقوق الإنسان ـ وبعض تلك الجهود مدفوع بدافع الإخلاص حقاً ـ فإنها تنطبق عليها الآية الكريمة التالية:
{قل هل ننبئكم بالأخسيرن أعمالاً * الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}.
هذا ـ في الحقيقة ـ يجسد المساعي التي تبذل في العالم من أجل حقوق الإنسان، وقد قلنا إن بعضاً منها مدفوع بدافع الإخلاص. إن المشكلة الرئيسية في نظرنا هي أن أهم حق من حقوق الإنسان قد أغفلته تلك المساعي. إنهم تجاهلوا الأصل وتمسكوا بالفروع. ذلك الأصل هو حق حرية الإنسان في عدم العبودية لغير الله، كالعبودية للقوة، والعبودية للذهب والفضة، والعبودية لمختلف النظم غير الإلهية، هذا هو أكبر حق من حقوق الإنسان، ولكنهم تجاهلوه.
والتوحيد هو ما لا يعثر عليه في كل هذه الجهود. تلك هي المنقصة الكبرى. لا نقصد بالتوحيد مجرد الذهنية المحضة فقط، بل التوحيد بصفته فكراً اجتماعياً، أو مشروعاً لبناء العالم وبناء المجتمعات البشرية.
أما التوحيد بمعنى أن الحكم لله على جميع شؤون حياة الإنسان، فهذا ما نجد مكانه خالياً في العالم. وحيثما لا يكون الحكم لله، يكون الحكم لغير الله. وحيثما لا يكون الإنسان عبداً لله، يكون عبداً لغير الله. وهذا تضييع لأكبر حق من حقوق الإنسان. إن المفكرين والفلاسفة والسياسيين، الصادقين في أقوالهم وفي أعمالهم ـ لا الكاذبين ـ الذين يريدون اليوم أن يضمنوا حقوق الإنسان، فيسعون للحصول على حقوق الأسرة، أو حقوق المرأة، أو حق التقاعد، البطالة، أو التأمين، ولكنهم لا يتجهون لضمان حق الإنسان الأصلي، أي حقه في الحرية الحقيقة. تلك هي عقدة المسألة. ولهذا فإننا نسيء الظن بالجهود التي بذلت منذ السابق وحتى الآن من أجل حقوق الإنسان. إننا لا ننكر وجود جهود مخلصة، بل ونكرر قولنا هذا، فنحن لا نشك في وجود مثل هذه المساعي، ولا يمكن أن نخطئ الذين كتبوا كتابات جيدة، وأبدوا آراء طيبة، وعرضوا مُثُلاً قبولة.
نعم، لا نشك في أن هناك جهوداً مخلصة، ولكننا نسيء الظن بقيادات الحركات الكبرى التي تجري في العالم باسم حقوق الإنسان. إننا نلحظ وجود أيدٍ غير مخلصة، طامعة في حياة الإنسان وراء تلك الحركات، ولهذا تجاهلت هذا الحق الأساس للإنسان ونبذته جانباً. وإلاّ. لو كانوا مخلصين حقاً في نظرتهم، لرأوا هذا الحق الأصلي للإنسان أمام أعينهم.
في القرن التاسع عشر كانت المبادرة بشأن الحرية الفردية في أيدي الانجليز، فهم الذين حملوا لواء تلك النهضة، ومن ذلك مكافحتهم الرق في العالم. كانوا يأتون إلى الأقطار الواقعة تحت سيطرتهم فيجبرونها على التوقيع على إلغاء الرق. ترى ماذا كان هدف بريطانيا ـ في القرن التاسع عشر ـ من مواصلة تتبع هذه المسألة؟ لقد كان الهدف هو السيطرة على الممرات المائية الحساسة في العالم وعلى المناطق المحيطة بتلك الممرات، إذ كانت بريطانيا، بقوتها البحرية المتميزة، قادرة على السيطرة عليها باسم ضبط الرقابة على السفن التي تمر من تلك الممرات المائية، وهي تحمل الرقيق.
وهكذا فرضت سيطرتها على التجارة في جميع المناطق التي تهمها، ومنها منطقة الخليج الفارسي، جاءوا إلى بلدان سواحل الخليج الفارسي، ومنها بلدنا الذي كان يومذاك تحت حكم ملوك ضعفاء فاسدين، فأجبروهم على التوقيع على أن يكون للانجليز الحق في مراقبة جميع السفن التي تعبر في الخليج الفارسي وبحر عمان وفي مياه المنطقة كلها، للتأكد من أنها لا تحمل عبيداً أرقّاء. وبهذا الاسلوب أمسكوا بزمام التجارة في أيديهم، يمنعون السلع التي لم يكونوا يرغبون في خروجها، وأحياناً كانوا يضغطون على بعض السفن الراغبة في التجارة مع إيران، عند اقترابها من الموانئ الإيرانية فيوجهونها إلى موانئ الهند، وكانوا يشددون الضغط عليهم حتى يحملوهم على هجر التجارة مطلقاً، أو القبول برفع العلم البريطاني على سفنهم. وكان هذا الضغط يتكرر في مناطق أخرى من العالم، وفي البوسفور والدردنيل كانوا يضغطون على الامبراطورية العثمانية لتكرار القضية نفسها. ولعل لواء حرية الفرد الذي كان الانجليز يحملونه كان وسيلتهم في مناطق أخرى من العالم لتوسيع رقعة نفوذهم السياسي. أما لواء الحرية السياسية فقد كان في الغرب بيد الدول الغربية في أوربا وأمريكا.
كان هؤلاء يدافعون عن الديمقراطية والحرية الفردية، وكانوا يفخرون بذلك، ولطالما نعتوا دنياهم في قبال دنيا أعدائهم بأنها دنيا الحرية. ولكن هل هناك في عالم اليوم من لا يعلم أن الديمقراطية والحرية السياسية التي يحمل لواءها الغربيون والدول الغربية، لم تكن إلا مجرد ذريعة وواسطة لتسليط الشركات التجارية ـ التي بيدها وسائل الأعلام ـ على جميع الشؤون السياسية في الدول الأخرى؟ فيأتون بالحكومة التي يريدونها، ويشنون حملاتهم الاعلامية في الوقت المناسب، وينصبون رؤساء الجمهوريات الذين يرغبون فيهم، ويعزلون رؤساء الجمهوريات الذين لا يرغبون فيهم، ويفرضون عليهم سياساتهم، ويدخلون أتباعهم نواباً في المجالس النيابية، ويمررون القوانين طبقاً لمصالحهم، وفي الجو الذي يحس فيه الناس بالديمقراطية بصورتها المزيفة، يفرضون ديكتاتورية فظة وخطرة وظالمة على الناس.
وهذا هو ما يجري اليوم في أمريكا والدول الديمقراطية الغربية، حيث إن الحاكم الحقيقي المهيمن على سائر مصائر الناس هو ـ في الواقع ـ تلك الشركات التي تقبض بيدها على وسائل الإعلام، وتبذل الأموال، وعن طريق بذل المال، والإعلام الواسع الذي لا حدود له، يشكّلون الحكومات، ويمرر القوانين في المجالس النيابية، وهم آمنون على أنفسهم من غضب الناس وثوراتهم الناجمة عن غضبهم، وتسمى بلدانهم بالبلدان المستقرة. إن استقرار الدول الغربية يعني أنه لم يعد هناك في تلك الدول من يثور من أجل الحرية والديمقراطية، لأنهم جميعاً واقعون تحت إحساس كاذب بالديمقراطية، دون أن يكون للديمقراطية أو للحرية وجود، لأن لواء الحرية السياسية والديمقراطية كان بيد هذه الدول.
لاحظوا مقدار التزوير الكامن في هذا! وفي هذه الأيام ترفع أمريكا لواء حقوق الإنسان، وعلى الرغم من كل شيء، فما يزال الأمريكيون يظنون أنهم المدافعون عن حقوق الإنسان. وعندما كان الديمقراطيون في الحكم كانوا أكثر من الجمهوريين تبجّحاً بدفاعهم عن حقوق الإنسان، ومن هم هؤلاء؟ هؤلاء هم الذين تجد لهم أصبعاً ملطخاً بالدماء في كل زاوية من زوايا العالم المتخلف. فها هو الخليج الفارسي، وتلك هي فلسطين المحتلة، وأفريقيا، وجنوب أفريقيا، ودول أمريكا اللاتينية، وفي كل مكان آخر في العالم كان هؤلاء هم الذين يحملون لواء حقوق الإنسان على امتداد سنوات طوال خلال القرنين الماضيين. بديهي أن هؤلاء، ليسوا على استعداد لضمان حق الإنسان الأصلي، أي التحرر من غير الله. إن التحرر من غير الله يعني التحرر من هذه القوى نفسها، يعني التحرر من شرور هذه الأنظمة ذاتها.
إنك لتجد اليوم أن أشد الأنظمة رجعية، وفساداً، وظلماً، في العالم تحظى بحماية الذين يدعون الدفاع عن حقوق الإنسان، أي نظام ترونه أنتم من أحطّ الأنظمة وأكثرها ظلماً وعنفاً؟ إسرائيل؟ حسناً، لو لم تسند أمريكا إسرائيل وتحميها لما كانت هذه قادرة على البقاء وإدامة الحياة. إنني أدعي مؤكداً بأنه لو أزيل إسناد أمريكا ودعم الدول الكبرى لإسرائيل، لاستطعنا نحن الدول الإسلامية ـ بكل تأكيد ـ أن نزيل إسرائيل وأن نمحو هذا الاغتصاب والظلم الكبير.
كذلك حكام الدول الإسلامية والعربية الذين يرتبطون بإسرائيل، إنما هم يفعلون ذلك استناداً إلى دعم أمريكا لهم وجلباً لمرضاتها.
هل تعتبرون أفريقيا الجنوبية نظاماً فظاً وظالما؟ انظروا كيف أن أمريكا وبعض الدول الغربية ليست مستعدة للتوقيع على فرض حظر على أفريقيا الجنوبية هذه ذات النظام العنصري، بل إن الذين يملكون حق النقض ليسوا مستعدين للتخلي عن ممارسته في قرارات مجلس الأمن بهذا الخصوص.
هذه الأنظمة الرجعية المنتشرة في أرجاء العالم، عسكرية كانت أم غير عسكرية، هل تعتبرونها أنظمة عنيفة؟ إن يد امريكا وراءها في الأعم الأغلب.
هؤلاء يطالبون بحقوق الإنسان وحريته. ولكننا حيثما نظرنا على امتداد التاريخ هذه الشعلة وجدنا أن زمام الأمر في أيدٍ مشكوك فيها وذات نيات فاسدة. والذين تكلموا وفكروا أثناء ذلك لم يخرجوا عن إطارهم الفكري، ولم يعنوا بحرية الإنسان؛ حريته الحقيقة من نير القوى التي لا تعرف الله. وهكذا هي ـ مع الأسف ـ حال المؤسسات غير الحكومية في العالم.
أرى من اللازم أن اخاطب مرة أخرى هذه المؤسسات والمنظمات غير الحكومية التي تقوم بنشاطاتها باسم حقوق الإنسان، فتنذر أحياناً حكومة، أو بلداً، أو مجتمعاً، أو تتهمه، أو تقدم له الوصايا، فأقول لها: إنها بأسلوبها هذا الذي تتبعه، تقطع أمل الجماهير في جميع هذه المؤسسات التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان، ويزداد يأسها منها. ولو كانت هذه المؤسسات تريد مخلصة أن تعمل لكان عليها أن لا تتجاهل حق شعب فلسطين المظلوم. قضية فلسطين ليست من القضايا التي يمكن أن نتجاوزها بسهولة. إنها اليوم أكبر قضايا دنيا الإسلام. إنها قضية شعب مظلوم في عقر داره، وغريب في قلب وطنه. انظروا اليوم، بعد أن نهض الفلسطينيون باسم الإسلام في الأرض المحتلة، كيف يعاملونهم بقسوة وبوحشية. ولكن المؤسسات التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان لا تقوم ـ مع الأسف ـ بواجبها ودورها، وهذا مما يدعو إلى الأسف الشديد. إنني أطلب منكم ـ أيها الإخوة وايتها الأخوات ـ ومن جميع الذين يستطيعون في بلدانهم أن يوصلوا أصواتهم إلى الآذان، أن تعلنوا هذه الحقيقة على الملأ وتبيّنوا أن منظمات حقوق الإنسان، والجمعيات التي تنشأ بهذا الاسم، لم تقم بأي عمل جاد لحماية أكبر حق من حقوق الإنسان من الضياع، وهو حق الشعب الفلسطيني، وهذا دليل على أن تلك السياسات مازالت تسير هذه المنظمات.
إن العلاج وطريق الحل الرئيسي هو العودة إلى الدين الخالص، أي التوحيد. إن ما يستطيع ضمان حقوق الإنسان هو العبودية لله. ففي ظل العبودية لله وحده يمكن دفع مفاسد العبودية للمال والقوة والأهواء النفسية والتحريف. إن على العالم أن يفكر مرة أخرى في الدين الخالص والتوحيد. ولئن أرادت المجتمعات البشرية أن تنجو من ضغوط القوى العظمى، فعليها أن تلجأ إلى قوة الله. إن الإيمان بالله وبالتوحيد الخالص يهب الإنسان ـ فرداً ومجتمعاً ـ من القوة ما لا تستطيع معها أية قوة مادية إخضاع ذلك الفرد الإنسان أو المجتمع الإنساني ولا تحطيمه. وهذا هو السر الكبير في انتصار ثورتنا. فقبل تسع سنوات، وفي مثل هذا اليوم الذي عاد فيه الإمام إلى البلاد بعد (15) سنة من البعد عن الوطن قام شعبنا ـ من دون أن يحمل أي سلاح، أو أن يتمتع بأي قوة ظاهرة ـ بمقارعة واحدة من أقوى السلطات الحكومية والعسكرية في المنطقة، في الوقت الذي كانت فيه أمريكا تحمي تلك السلطة؛ إذ الحماية التي تقدمها الآن أيضاً أمريكا لأنظمة مثل إسرائيل، كانت تقدمها لنظام الشاه وتجهّزه بالإمكانات وتشجعه على استعمال العنف والشدة. والناس ـ في قبال هذا الجبل من القوة الظاهرية سياسياً وعسكرياً ـ لم يكونوا يملكون شيئاً سوى الإيمان وسوى الاعتقاد بالتوحيد الذي كان نافذاً إلى أعماق شعبنا. كان الشعب يؤمن بأن عليه أن يتقبل العبودية لله، وأن يخرج من تحت نير العبودية لذاك النظام الفاسد، وهكذا قرر ونجح.
في تلك الأيام دخل نضالنا مرحلة جديدة ـ بالطبع ـ ولكنه لم ينته. إننا اليوم مازلنا في حالة نضال، فالقوى العظمى التي كانت تدعم نظام الشاه ما كانت لترفع يدها عنا بسهولة، ولا ترفعها الآن. وما الحرب التي فرضتها علينا بواسطة العراق إلاّ استمرار لتلك الضغوط نفسها. إن ما يجري علينا اليوم في العالم وفي السياسات المخالفة للإسلام إنما هو تابع لتلك الضغوط والمعارضات. إن دنيا القوة والمال ـ دنيا الاستكبار ـ قد استولى عليها الغضب من رؤية الإسلام ينال مثل هذا الانتصار العظيم. إن الاستكبار مرتبك ويسعى لجعل انتصارنا ناقصاً لا يصل إلى أهدافه، وكل هذه الضغوط التي يتحملها اليوم شعبنا ناجمة عن ذلك. ولكننا بالاعتماد على الله مازلنا صامدين، وهذه القوة جاءتنا من التوحيد ومن الإيمان بالله.
هنالك عوائل بين الناس قدمت عدة شهداء في سبيل الله، ولمعرفتهم بأن ذلك في سبيل الله؛ لم ولن يعتورهم التعب. هذه هي القوة العظيمة التي ينالها الإنسان بخروجه من عبودية غير الله. فإذا ما تحقق هذا؛ تحقق أيضاً سائر الحقوق الأخرى، وعندئذ سوف تحس الشعوب بالحرية، ويومها تذوق المجتمعات طعم حقوق الإنسان.
إن المجتمع الإسلامي يتكفل توفير جميع الحريات وجميع الحقوق الحقة للإنسان. إن المجتمع الإنساني، المجتمع المسلم؛ يكفل الحرية والرفاه، والعدالة وحقوق الأسرة، والحقوق الفردية والجماعية. المجتمع الإسلامي لا يضيع فيه حتى أتفه الحقوق، والأمثلة على ذلك يجب أن نبحث عنها في صدر الإسلام.
بل إن في مجتمعنا أمثلة غير متكاملة على ذلك، إذ اننا مازلنا في منتصف الطريق إلى المجتمع الإسلامي المتكامل، ولكننا نسير في ذلك الاتجاه. علينا أن نشاهد الصورة الكاملة والدفاع الجميل عن حقوق الإنسان، جميع حقوق الإنسان، في صدر الإسلام، في حياة الرسول الكريم، في أدوار الحكم الحقيقي للإسلام والقرآن على المجتمع. إنه لم يغفل عن أي حق ـ مهما صغر ـ فجميع حقوق أفراد المجتمع مضمونة. إن علينا أن نواصل السعي للوصول إلى ذلك اليوم. إن على مجتمعنا أن يستمر في النضال حتى يبلغ تلك النقطة، والطريق أمامه صعب. كذلك على المجتمعات الإسلامية الأخرى أن تسعى من أجل الحكم الحقيقي للإسلام، وعلى المجتمعات البشرية أيضاً أن تسعى من أجل التحكيم الحقيقي ـ للدين الخالص ـ على أنظمتها، وهذا هو وحده طريق ضمان حقوق الإنسان، فبغير هذا يكون كل شيء ناقصاً.
إن الإخوة الأعزاء والأخوات العزيزات سيسعون خلال أيام انعقاد هذا المؤتمر؛ مؤتمر الفكر الإسلامي. لأن يدرسوا ـ إن شاء الله ـ مختلف جوانب الموضوع. ولكن الذي أرجوه هو أن يولوا هذا الحق الأساسي من حقوق الإنسان مزيداً من العناية، وأن تتناول البحوث حاجات هذا المبدأ والركن الأساسي.
في ختام كلمتي أرحب مرة أخرى بجميع الإخوة الأعزة الذين شاركوا في هذا المؤتمر، وعلى الأخص أولئك الإخوة والأخوات الذين شرفونا بالقدوم من الدول الأخرى، وأشكر لهم حضورهم.
أرجو أن يتمكنوا في هذا الاجتماع من بذل جهودهم المناسبة، وأن يكون هذا المؤتمر ـ إن شاء الله ـ كنزاً جديداً وثميناً آخر من الأفكار الإسلامية للمجتمعات الإسلامية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته - التبليغ والإعلام في الإسلام
التبليغ والإعلام في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد (ص) وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين..
قال الله الحكيم في كتابه الكريم {بسم الله الرحمن الرحيم: الذين يبلّغون رسالات الله ويخشَونه ولا يخشَون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً}.
إنني لمسرور جداً لانعقاد هذا المؤتمر المبارك، مرة أخرى، بمشاركة العلماء الإيرانيين وغير الإيرانيين، الذين قَدِموا من أنحاء العالم، وإنني لأبارك لإخوتنا الأعزاء في منظمة الإعلام الإسلامي وأهنئهم على تمكنهم ـ هذه المرة أيضاً، كما هو شأنهم في كل عام ـ من اختيار موضوع مهم وملفت للنظر لطرحه على مائدة الدراسة والبحث في هذا التجمع الكبير.
موضوع البحث في هذه الجلسة هو الإعلام والتبليغ، وهو من المواضيع المهمة والحيوية جداً بالنسبة للعالم الإسلامي. وإنني على يقين من أن الإخوة والأخوات المشاركين في هذا الاجتماع قد قاموا بإعداد بحوث ودراسات مهمة وآنية نافعة، لغرض تقديمها الى هذا المؤتمر، وسوف تُطرح تلك البحوث خلال أيام المؤتمر، وإنني سأطرح على مسامعكم اليوم الخطوط العريضة والنقاط التي أعتقد أن الانتباه إليها في هذا الاجتماع يعتبر أمراً على جانب كبير من الأهمية، وسأقوم بعرضها بشكل موجز.
أولاً ينبغي أن يكون واضحاً للعالم الإسلامي ولكل شعوب العالم، أننا حين نتحدث عن الإعلام والتبليغ ونخطط لهما فليس قصدنا من التبليغ هو ذلك المفهوم الشائع في العالم المادي اليوم والمتداول في جميع المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها..
إن التبليغ الإسلامي ـ من وجهة نظرنا ـ يعني إيصال كلمة الإسلام، ويعني إيصال رسالته الى القلوب، وبأي وسيلة أمكننا ذلك من الوسائل الشريفة والمتناسبة مع المضمون والمحتوى المقدس لهذا التبليغ، أي التوحيد والإسلام.. سواء كانت هذه الوسيلة عبارة عن القول أو العمل، وسواء تم ذلك عبر السكوت أو غيره من الوسائل.
مهما تكن وسيلة الإيصال فإن غرضنا من التبليغ والإعلام هو هذا الأمر، وليس مفهوم الـ (Propaganda) الشائع والمتداول في العالم الغربي، وفي جميع العالم المادي القائم على الخداع وإظهار غير الواقع الحقيقي للآخرين.
التبليغ والإعلام عبارة عن امتلاك القلوب واحتلالها لا العيون والآذان والجوارح، على العكس مما هو شائع في العالم البعيد كل البعد عن المعنويات، إذ أنهم يعتقدون أن الإعلام ـ في الحقيقية ـ هو شيء من قبيل احتلال العيون والآذان والجوارح، وإيجاد جو بجعل الإنسان لا يستطيع أن يدرك الحقيقة بفكره وقلبه ويلمسها.
إننا لا نعتبر هذا إعلاماً وتبليغاً بل نعتبره خداعاً ومكراً، أما إعلامنا فإنه يتم عبر الحكمة والموعظة الحسنة والأساليب الإلهية والإنسانية.
والأمر الآخر هو أن الإعلام ـ بهذا المعنى الذي قلناه ـ قد أصبحت له أهمية استثنائية في العالم المعاصر، إذ رغم أن مواجهة دعوة الحق والتصدي لها كانا قائمين على مر التاريخ وطوال دعوات الأنبياء، وبنفس الطرق والأساليب الموجودة هذا اليوم، إلا أن الوسائل والأدوات المستخدمة في مواجهة دعوة الحق هذا اليوم أصبحت في مستوى من القوة والهيمنة على حياة الناس بحيث أن الوسائل والأساليب التي كانت تؤثر على الإنسان ـ في ذلك الحين ـ بشكل محدود، وفي منطقة محدودة، أصبحت اليوم تملأ كافة أنحاء الحياة البشرية وفي كل مجالاتها وتغطيها، إذ أننا نجد اليوم أن نفس الأساليب التي استُخدمت في التاريخ لمواجهة دعوات الأنبياء (عليهم السلام) وفي مواجهة نبي الإسلام المكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، كل تلك الأساليب تشاهد في هذا اليوم كذلك.
في ذلك الحين، كان الكفار ـ كما ينقل القرآن الكريم ـ يطلقون الأصوات العالية ويحدثون الضجيج ليحولوا دون وصول آيات القرآن، وهي رسالة الحق، الى أسماع الناس المتعطشين لها، وتمثل صيحاتهم المرتفعة وصرخاتهم العالية وأصواتهم المتصاعدة ضجة إعلامية هدفها التغطية على صوت الحق والحيلولة دون وصوله الى أسماع الناس.
يقول الله عز وجل {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تَغلبون} (فصّلت،26).
من أجل التغطية والتمويه على كلام رسول الله (ص) والحيلولة دون سماعه كان بعض الأشخاص يحدثون ضجة غوغائية مفتعلة، واليوم يتكرر الأمر ويحصل نفس ذلك الشيء الذي حصل آنذاك، ففي تلك الأيام كانوا يتهمون الدعاة الى الحق وينسبون إليهم أهدافاً وغايات باطلة وزائفة وهم منها براء.. كانوا يتهمونهم بالكذب والسحر وبالخداع والمكر وما شاكل ذلك..
واليوم أيضاً يحدث ما يشبه ذلك في العالم... كانوا يحرّضون الناس ضد الدعاة الى الحق آنذاك، ويجعلونهما وجهاً لوجه، ويتظاهرون بالدفاع عن الناس وحمايتهم.
وفي هذا اليوم يقوم الاستكبار العالمي بالعمل نفسه، وأنتم تشهدون هذه الأساليب الاستكبارية المعاصرة.
في ذلك الزمن كان فرعون يقول لشعبه، كما جاء في القرآن الكريم {قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم. يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون} يقصد بذلك موسى (ع) فيتظاهر بالاحتماء بموقع الدفاع عن حقوق الشعب ويحارب داعية الحق، ويزعم ـ كذباً ـ أنه ليس لديه من هدف أو غاية سوى خدمة ذلك الشعب.
وهكذا الأمر، في هذا الزمن، يحدث الأمر ذاته، وتمارس مؤسسات الإعلام الاستكبارية التصرفات الخبيثة والأعمال المؤذية نفسها، وبشكل واسع النطاق، في مواجهة الإسلام، وبشكل خاص في مواجهة الإسلام الثوري وفي مواجهة الجمهورية الإسلامية، وسألقي على مسامعكم ـ فيما بعد ـ إيضاحات في هذا الصدد.
ومن أجل أن تدركوا ضخامة الدعاية والإعلام المعادي الذي يمارسه عدو الإسلام ـ يعني الاستكبار العالمي بنوعَيه الشرقي والغربي ـ فسوف أشير إشارة عابرة فقط الى مسألة أن الفكر الإسلامي يواجه اليوم ـ باعتباره الإيديولوجية الثالثة، وباعتباره عقيدة ثورية في مقابل الشرق والغرب ـ حملة إعلامية كبرى وعظمى.
هذه الحملة الإعلامية الدعائية تنبعث عبر شتى الوسائل والقنوات، من قبيل محطات الإذاعة وشبكات التلفزة ووكالات الأنباء المختلفة، صباحاً ومساءاً، وفي كل أسبوع تنتشر بشكل شامل وواسع النطاق في كل أنحاء العالم.. الإسلام يواجه مثل هذا الكم العظيم من الدعاية المعادية.
لقد استصحبت إحصائية موجزة وقصيرة لأعرضها عليكم، وهناك ـ بالطبع ـ الكثير من أمثال هذه الإحصائيات على شتى الأصعدة وفي شتى مجالات الإعلام، ولكن هذه الإحصائية ليست سوى نموذج رأيت أن من المناسب ـ في الحقيقة ـ أن أعرضه عليكم.
يبلغ حجم الإعلام في العالم الغربي 7100 ساعة في كل أسبوع، وهي تشمل الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا الغربية وبريطانيا واليابان، وهي ذات الحصص الأكبر بالنسبة للحجم الكلي، إذ تبلغ حصة أميركا 2100 ساعة في كل أسبوع وبحوالى 60 لغة من اللغات العالمية، وحصة ألمانيا الغربية 950 ساعة في الأسبوع، أما بريطانيا فتبلغ ساعات إعلامها 850 ساعة وبحوالى 60 لغة من اللغات العالمية. ويبلغ المجموع الكلي ـ كما ذكرت ـ 7100 في الأسبوع.
أما العالم الشيوعي فيضم الإتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية والصين وألبانيا وبعض الدول الشرقية الأخرى.
ومن باب المصادفة أن يساوي حجم هذا الإعلام، حجم الإعلام في العالم الغربي ـ أي 7100 ساعة ـ في كل أسبوع، إذ تبلغ حصة الإتحاد السوفياتي منها 2300 ساعة من خلال حوالى 80 لغة من اللغات العالمية شائعة الاستعمال وكثيرة الانتشار في العالم واللغات المحلية، أما ألمانيا الشرقية فيبلغ عدد ساعات إعلامها 1600 ساعة، والصين 1500 ساعة... الى آخره..
هذه هي المجموعة الإعلامية التي يشهدها العالم كل أسبوع، والعالم الإسلامي يواجه مثل هذا الحجم العظيم من الإعلام، وبعضها مخصص لمواجهة الإسلام، وهي تتضمن: الخبر، والتحليل السياسي، والتقرير الخبري وشتى المضامين والمواضيع الإعلامية، التي يتم حشو أذهان الشعوب بها بشكل عام، والشعوب الإسلامية بالخصوص.
وبالطبع فإن هذا لا يشمل وسائل الإعلام المقروءة ـ أي المطبوعات ـ ولا الأفلام السينمائية ولا الكتب، وهي ـ في الواقع ـ مهمة جداً، وهو لا يتضمن بقية وسائل الدعاية والإعلام المستعملة في الوقت الحاضر؛ إنها ليست سوى صنف واحد من صنوف الدعاية والإعلام وهي نموذج سلبي واحد.
إن ميدان الإعلام في العالم أصبح ـ حقاً ـ بمثابة ميدان الحرب، ويشبه المعارك العسكرية، فلقد صار للمعارك السياسية منظّروها الاستراتيجيون الماهرون والحاذقون، ولها الخبراء المتخصصون ذوو الفاعلية والتأثير، ولها غرف العمليات الخاصة بها، وفيها تجري أشكال وصنوف كثيرة من التعاون والتظافر، وتنفق في هذه المجالات أموال طائلة ومخصصات هائلة.
إن العالم الإسلامي يواجه كل هذا الكم الهائل والكيف من الأمواج المتلاطمة من الإعلام وكل هذه الوسائل والأدوات الإعلامية المتنوعة الكثيرة، باعتباره حاملاً لنظرية إيديولوجية معارضة لكلتا النظريتين القائمتين في الزمن المعاصر ومناقضة لهما.
ومن المناسب ـ حقاً ـ أن ينتبه علماء العالم الإسلامي ومفكروه لهذا الأمر، ويهتموا بهذا المجال وينهمكوا في العمل فيه، والتفكير ـ معاً ـ للارتقاء به، وحشد كل ما لديهم من الإمكانيات والطاقات وتسخيرها في هذا الصدد.
إن رأي الإسلام في موضوع الإعلام رأي صريح وواضح أيضاً، فالإسلام يعتبر أن التبليغ واجب وضروري، كما قال الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم {ومَن أحسن قولاً ممن دعا الى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين}. وقوله عز وجل {أُدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}. وقوله تبارك وتعالى {فلذلك فادع واستقم كما أُمرت ولا تتّبع أهواءهم}.
صحيح أن هذا الخطاب موجه للرسول الكريم (ص) لكنه موجه ـ في الحقيقة ـ الى كل المسلمين والمسلمات. وهناك آيات كثيرة في القرآن بهذا الشأن غير تلك التي تُليت عليكم الآن.
وفي الآية التي بدأت بها الحديث {الذين يبلّغون رسالات الله ويخشَونه ولا يخشَون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً} تندرج أيضاً في سياق الآيات القرآنية الكريمة التي تتطرق الى هذا الموضوع.
كل هذه الآيات هي دروس لنا وتفتح أمامنا سبلاً واضحة وطرقاً محددة من أجل التمكن من تحقيق هذا الواجب الكبير.
وهناك حديث مشهور عن رسول الله محمد (ص) جاء فيه: "لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت" وهو يوضح وظيفة المرء والواجب الملقى على عاتقه، إذ يعتبر هذا الحديث الشريف هداية إنسان ما أفضل وأسمى من كل الأعمال، وأن هداية إنسان واحد هي أفضل من كل ما تشرق عليه الشمس وتغرب.
وبناء على ذلك، فإن واجب الإنسان واضح ومعروف من وجهة نظر الإسلام، إذ أننا مكلفون بتبليغ الإسلام والحقيقة، ولا نستطيع أن نترك تبليغ الحق والدعوة الى الله تبارك وتعالى بأي حال من الأحوال وبأي عذر.
المسلمون مكلفون، فرداً فرداً، وفي جميع البلدان الإسلامية، وفي ظل كل الأوضاع والظروف وفي جميع الأحوال، بمهمة التبليغ..، ومن الطبيعي أن للعلماء والمفكرين والمثقفين والشخصيات البارزة في المجتمع وظائفهم وواجباتهم الخاصة في هذا المضمار، لكن هذا لا يعني أن أفراد الأمة الإسلامية ليسوا مكلفين بواجب التبليغ.
علينا إبلاغ هذا الأمر للمسلمين، فرداً فرداً، وينبغي إفهامهم بأن كل شخص مكلف بواجب يتحتم عليه أداؤه، وهو التبليغ للحق والدعوة الى الإسلام بالقدر الذي يطيقه ويمكنه القيام به.
النقطة الأخرى التي ينبغي أن أشير إليها هي أننا نواجه اليوم ـ على صعيد تبليغ الإسلام ـ العديد من الآفاق والمجالات، ويجب أن يتم تحديد أنواع التبليغ الإسلامي مع أهداف هذا التبليغ فمن أجل أي شيء نمارس التبليغ للإسلام؟ وما هي الغاية؟
هناك العديد من الأهداف المفترضة والمتصورة في هذا المضمار، وسوف أشير الى بعض منها، وكل تلك الأهداف ضرورية في حد ذاتها، وحسب الظروف القائمة، وأي واحد منها لا يمكنه أن يحل محل الآخر، رغم أنها ليست على حد سواء من حيث الأهمية.
أحد أهداف التبليغ يمكن أن يكون عبارة عن نشر الإسلام في قارات العالم، وبسط نفوذه وتوسيعه في دول العالم المختلفة، في مقابل الأديان الأخرى. كما هو الحال ـ اليوم ـ بالنسبة لبعض الأديان وخصوصاً المسيحية.
فالمسيحيون يقومون بذلك بإنفاق أموال ضخمة، وبذل جهود كبيرة، وعبر تنظيمات ومؤسسات واسعة النطاق.
إن الكثير من البلدان لديها الاستعداد الكامل لتقبل الإسلام، وشعبها جاهز لاعتناق الإسلام، وهذا الأمر يمكن اعتباره أحد أهداف عملية التبليغ الإسلامي، وهو ـ بالطبع ـ ذو مكانة خاصة، ويتطلب توفر ظروف معينة، ويحتاج الى تهيئة مقدمات خاصة.
والهدف الأخر للتبليغ الإسلامي هو عبارة عن نهوضنا بمهمة حراسة الإسلام وصيانته، في مقابل الإيديولوجيات المهاجمة التي بدأت بالزحف على الحياة الإنسانية، وملء شتى مجالات الحياة البشرية، والتسلل الى عقول أفراد البشر..؛ يجب علينا الدفاع عن الإسلام، أو أن يكون لنا موقف هجومي تجاه الإيديولوجيات والنظريات الجديدة؛ وهذا الهدف هو الآخر ذو مكانة خاصة، ويتطلب ظروفاً مختلفة، ويتضمن مواجهة الماركسية والشيوعية والأُومانية وباقي النظريات الأجنبية ذات المواصفات الجذابة والقوالب المختلفة، والتي دخلت عبرها الى ميدان الفكر البشري، والتي يجري العمل على نشرها والتبليغ لصالحها بشدة في العالم الإسلامي.
وثالثاً: إننا حين نريد التبليغ للإسلام ينبغي أن يكون تبليغنا بهذا الهدف وهو: أن نقدم الإسلام كنظرية وكمدرسة لتحرير الإنسان في مقابل الإلحاد والاستكبار والاستبداد والحكومات الظالمة. علينا أن نمارس التبليغ للإسلام بهذا العنوان.
وهذا الجانب ليس مأخوذاً بنظر الاعتبار إلا بشكل قليل في العصور الأخيرة.. بلى كان هذا الأمر ملحوظاً في مرحلة صدر الإسلام، وكان الاهتمام ينصب عليه بهذا العنوان، وهو أنه مبدأ ودين جاء لتحرير الإنسان، ويتم التبليغ له بهذه الصفة. وفي العصور الأخيرة كانت الصفة الغالبة على التبليغ للإسلام هي الصفة الدفاعية خلال القرون الأخيرة.
أما بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران فقد أصبح التبليغ المطروح للإسلام ـ من جديد ـ هو ذلك النوع الذي كان مطروحاً في عصر صدر الإسلام.. صار التبليغ للإسلام يتم على أنه النظرية التي يمكنها إنقاذ البشرية والقضاء على هيمنة القوى الظالمة والغاصبة على الشعوب، وأن بإمكانه تعبئة الجنود من بين جماهير الشعب، وباستطاعته إقرار العدالة الاجتماعية ونشرها في صفوف الشعوب والمجاميع التي ترزح تحت نير الظلم والتمييز العنصري.. بهذا العنوان، وبهذه السمة أصبح الإسلام اليوم مطروحاً في العالم.
وطبعاً فإن التبليغ للإسلام بهذه الصفة وبهذا المنظار يستلزم ظروفه الخاصة ووسائله المحددة، ويتطلب وجود الأشخاص المناسبين وكذلك الأرضية اللازمة والظروف المساعدة للقيام بذلك.
لقد أصبح الفكر الإسلامي ـ بعد انتصار الثورة الإسلامية ـ هو النقطة التي تتمركز فيها الآمال الفكرية والمعنوية للشباب المناضلين المؤمنين والمخلصين والمضحين، أينما التفّوا حول بعضهم وأينما اجتمعوا وكلما أرادوا البدء بتحرك نضالي تحرري، وكانت نقطة الأمل تلك في الماضي هي الأفكار الإلحادية والمادية للنظرية الماركسية.
رابعاً: التبليغ للإسلام بهدف نشر الإسلام النقي الصافي الخالي من الشوائب، في مقابل الإسلام المزيف وغير الخالص والذي دست فيه الأفكار المتباينة والأذواق المتنوعة والتعصبات والجهالات والآراء المتحجرة والخرافات.
هذا ـ أيضاً ـ هدف من الأهداف السامية جداً للتبليغ للإسلام. إذ أن الإسلام ـ وكما نعلم ـ قد خرج عن صفائه وتألقه ونقائه الأول، عبر القرون المختلفة التي مرت عليه والتي كانت مليئة بأصناف الأذواق وأنواع الظروف الاجتماعية وبمختلف أشكال التدخلات وممارسة القوى الكبرى فرض هيمنتها ونفوذها، وبشتى أصناف النظرات الضيقة أو الأفكار الأجنبية الدخيلة المختلفة.
ولا شك في أن الإسلام النقي والصافي هو اليوم في متناول أيدينا، لأن القرآن بين ظهرانينا، ولأن السنّة المطهرة والنقية هي الآن في متناول أيدينا.
أما تلك الفئات والشخصيات وأولئك المفكرون، وخصوصاً الجماهير، الذين لم يحاولوا أن يعيدوا الإسلام الى مصادره الأصلية ويقارنوه بما هو موجود في القرآن الكريم والسنّة النبوية، ويفرزوا الغث من السمين، فإنهم قد ابتُلوا بأنواع الإنحرافات في مجال العقيدة والعمل بالإسلام.. وهذه حقيقة قائمة في هذا الزمن.
وقد ورد في حديث نبوي شريف عن رسول الله (ص) "لبس الإسلام (أو يلبس) لبس الفرو مقلوباً" صحيح أن الفرو الملبوس مقلوباً هو فرو أيضاً ولكنه عديم الجدوى وقبيح كذلك، أما الفرو الذي يلبسه الإنسان بشكل صحيح وليس مقلوباً فإنه جميل المنظر إضافة الى كونه يعطي الدفء في الوقت نفسه.
ولقد حدث هذا الأمر في المجتمعات الإسلامية، إذ ظهرت ـ مع الأسف ـ الأفكار المتحجرة والجامدة، والآراء ذات النظرة الضيقة والقصيرة المدى من ناحية، كما ظهرت في الجهة المقابلة بوادر أفكار القوى الأجنبية. وفي العقود الأخيرة حصل الخلط بين الإسلام والأفكار المادية الجديدة، أي أنه حين بدأ الفكر الماركسي أو الأُوماني يظهر في المجتمع، وجد له عدداً من الأنصار والمؤيدين، وحظي برضى عدد من الناس، فانبرى بعض المحبين للإسلام والمتحمسين له ليقدموا ـ حسب ظنهم ـ خدمة للإسلام، وبادروا الى مطابقة الأفكار الإسلامية مع تلك الأفكار المادية والخارجة عن الجو والمضمار الديني... هذه أيضاً حقيقة قائمة هذا اليوم.
إذاً، فإن أحد أهداف التبليغ والدعوة الى الإسلام هو عرض الإسلام النقي الخالص والمصفّى من الشوائب والمنزّه عن هذه الأخلاط والأشياء الغريبة عنه والإضافات المدسوسة فيه.
وكل واحدة من هذه المهام لها متطلباتها ومستلزماتها، وإننا إذا شئنا أن نبلّغ للإسلام فينبغي أن لا ننظر الى الأمور من زاوية واحدة، أو بمنظار واحد.
بعض الناس يتصورون أن التبليغ للإسلام يمكن أن يتم عبر الذهاب الى الشعوب التي لم تطّلع على الإسلام بعد، وأن القضية لا تتعدى أن يقوموا بعرض الإسلام على تلك الشعوب وإطلاعهم على ما فيه، أو دعوتهم الى النطق بالشهادتين.
بلى، هذا هو الآخر تبليغ للإسلام، لكنه ليس الجانب الأهم فيه، إنما الجانب الأهم والجزء الأهم في التبليغ للإسلام هو ذلك التبليغ الذي يتم داخل المجتمعات الإسلامية بهدف تقديم الإسلام لهم نقياً صافياً، أو بهدف عرض الأفكار المحاربة للاستكبار، والمناوئة للاستبداد والمضادة للاستضعاف.
وبالطبع فإنني مع فكرة أن يتم التبليغ للإسلام لتحقيق الهدف الثاني ذاته، وبالهدف الأول كذلك، إلا أنه ينبغي أن لا تُنسى الأهداف الأخرى أيضاً.
بعض المبلّغين يُرسَلون من قبل بعض البلدان الإسلامية الى أنحاء العالم كأفريقيا وأقاصي آسيا والى مناطق أخرى، في سبيل أن يجعلوا الناس يؤمنون بـ "لا إله إلا الله"، هذا في الوقت الذي نرى أن كلمة "لا إله إلا الله" غير مطبّقة في تلك الدول ذاتها كما قال الشاعر: "طبيب يداوي الناس وهو عليل".
يجب عليهم أن يعودوا ليشرحوا لشعوبهم معنى الإسلام، وليصفّوا الإسلام لتلك الشعوب، ويوضحوا مفاهيمه وقيمه وأبعاده، وليفهموهم ماذا تعني كلمة "لا إله إلا الله".
ورد في الحديث المروي عن الإمام الصادق (ع) ما مضمونه: "إن بني أمية أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا لهم تعليم الشرك ـ أو تعليم الكفر ـ حتى إذا حملوهم عليه لم يعرفوه" فهم يعلمون أنهم إذا علّموهم معنى الشرك وفحواه فإن الناس سيعرفون أن الوليد بن عبد الملك أو يزيد بن عبد الملك أو الوليد بن يزيد هو نفسه الطاغوت وهو الوثن والصنم، الذي تجب عليهم محاربته ومواجهته. ومثل هذا يحدث في بعض البلدان الإسلامية في الوقت الحاضر.
وحينما نريد ممارسة التبليغ للإسلام فإن هناك ـ أيها الإخوة وأيتها الأخوات ـ مواصفات للتبليغ ومواصفات للمبلّغ، وهذا ما سيتم بحثه ـ عادة ـ في مثل هذا الاجتماع، وآمل أن يتم بحثه في مؤتمركم هذا، فما هي صفات التبليغ الجيد؟ وما هي المميزات التي ينبغي أن يتوفر عليها التبليغ الناجح؟ ومَن هو المبلّغ الجيد؟
إذا ما أردنا أن نبحث موضوع المبلّغ الجيد فذلك لا يعني أن مَن لا تتوفر فيهم هذه المميزات ينبغي أن لا يقوموا بأي عمل في مجال التبليغ.. ليس المراد هذا، فالتبليغ واجب ينبغي القيام به، وإنما المقصود هو أن على جميع الذين يشعرون بواجبهم في مضمار التبليغ، ويؤمنون أن عليهم أداء هذا التكليف الإلهي، السعي الى إيجاد تلك الميزات والخصائص فيهم.
إن أهم هذه المميزات والخصائص هي ذات الأمور الوارد ذكرها في الآيات القرآنية الكريمة، ومن بينها الآية القرآنية التي تُليت مراراً {الذين يبلّغون رسالات الله ويخشَونه ولا يخشَون أحداً إلا الله..} هذه هي الميزة الأولى في المبلّغ للإسلام، وهي الخشية من الله تبارك وتعالى وعدم الخوف ممن سواه. وهذه الخشية تتمخض عنها نتيجة محددة تطرقت إليها آية أخرى، وهي قوله جل وعلا {ومَن أحسن قولاً ممن دعا الى الله وعمل صالحاً..} (فصلت، 41).
إن العمل الصالح ناتج عن نفس تلك الخشية من الله سبحانه. فشرط الدعوة هو العمل الصالح، والخشية هي شرط العمل الصالح وملازمة له..
ثم تقول الآية المباركة {ولا يخشَون أحداً إلا الله} وإلا فإن المجاملات والاحتياطات والمخاوف والمداهنات أو المساومات، سوف تشكل عقبات وموانع في طريق بيان الإسلام الصافي النقي.
وإننا اليوم ـ على الصعيد العالمي ـ نواجه عين هذه المخاوف والاحتياطات والمجاملات والمساومات والخشية من غير الله. فالكثير من العلماء والمفكرين والمثقفين يعلمون الحقائق المتعلقة بالإسلام، ويدركون ملابسات القضايا الراهنة في العالم الإسلامي، لكنهم يكتمونها، بينما يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيِّنُنّه للناس ولا تكتمونه} (آل عمران، 187).
في الكثير من الأقطار الإسلامية لا يجري العمل بهذه الآية في الوقت الحاضر... فمسؤولو هذه البلدان لا يصرحون بما يعلمون ويكتمون الحقائق.
إذاً، فأحد الشروط الأصلية للدعوة والتبليغ ـ بل الشرط الأصلي لهما ـ هو عدم الخشية مما سوى الله.
أما الشرط الآخر من شروط التبليغ والمبلّغ فهو تناسب المقال مع مقتضى الحال؛ وسوف أقوم بتسليط الضوء على هذه النقطة بعض الشيء.
لقد تعلّمنا في دراستنا للأدب العربي واللغة العربية أن البلاغة هي انسجام المقال مع مقتضى الحال ومطابقته، فإذا لم يتحلَّ الكلام بهذه الصفة فقد خرج عن البلاغة، ولا يعتبر بليغاً ولا مبيّناً، ولا يَنفذ الى قلب المستمع أو يتغلغل في فكره وعقله.. هذا هو سبب تفسيرهم البلاغة بمطابقة مقتضى الحال، وإلا فإن البلاغة هي البلاغة وحسب، وهي من البلاغ والبلوغ، إن المطابقة مع مقتضى الحال هي ـ في الحقيقة ـ الميزة الرئيسية للكلام البليغ وشرطه الأساسي، الذي بفقدانه تنعدم صفة البلاغة عنه. إن المضمون الأساسي لحقيقة البلاغة والبلوغ ينبغي أن يكون المطابقة مع مقتضى الحال.
أريد أن أقول: إذا أردنا اليوم تحقيق المطابقة مع مقتضى الحال فماذا يجب أن نفعل؟ ماذا يوجد في العالم الآن كي ما نعمل طبقاً لمقتضاه؟
إذا شئنا أن نمارس التبليغ الجيد في العالم فينبغي أن ندرك ما هو القسم الذي يحتاج العالم بيانه من بين أقسام الإسلام؟! في بعض الأحيان تُطرح أمور الغرض منها التبليغ للإسلام على الصعيد العالمي، لكنها ليست إجابات كافية عن تساؤلات العالم. ينبغي أن نرى ما هي تساؤلات العالم منا حول الإسلام لنوضحها لهم. وهكذا الأمر على صعيد المجتمعات الإسلامية، فينبغي أولاً أن ننظر ما هي الأولويات؟ وما هي المتطلبات والاحتياجات؟ ومن أجل أن نعلم ما هي الاحتياجات الموجودة الآن ينبغي أن نعلم ما الذي يقال عن الإسلام في هذه الأيام؟!
إنني أوصي الإخوة العاملين في مجال الإعلام، وخصوصاً الإعلام على الصعيد العالمي، وحتى في ميدان الإعلام الداخلي المحلي، والمشرفين على شؤون الإعلام، وأؤكد عليهم، بأن يجتمعوا ليحددوا المحاور الرئيسية لهجمات عالم الكفر والجاهلية وغير المسلمين، ضد الإسلام وليرَوا من أي الجوانب تُشن الهجمات ضد الإسلام وضد أي الجوانب من الإسلام تتركز تلك الهجمات، وما هي السموم التي يبثها أعداء الإسلام ضده، وما هي الأكاذيب التي يلفقونها لتشويه صورته؟!
علينا أن نعرف ذلك أولاً لنقوم بمعالجته، فما لم يتم تشخيص المرض فلن يتسنى وصف الدواء له ومعالجته؛ وفي ساحة المعركة ما لم تُعرف خطة العدو فإن الدفاع لن يتم بصورة صحيحة، وما لم نعرف من أين سيشن العدو هجومه لا يمكننا أن نشن الهجوم المضاد والمناسب.
وهكذا الأمر في مجال الإعلام، ينبغي أن ننظر من أين يريد العدو أن يهاجمنا؟!.. هذا أحد الموضوعات الضرورية جداً والتي ينبغي الاهتمام بها والعمل على طرحها ومعالجتها؛ وربما سيتم العمل ـ إن شاء الله ـ في هذا الاتجاه خلال أيام هذا المؤتمر، والمبادرة الى بحث هذا الموضوع.
على سبيل المثال، تُطرح في الوقت الحاضر إدعاءات ومزاعم تقول: إن الإسلام ضد العلم!! وإن الإسلام يحتّم القضاء والقدر!! أي القول بمذهب الجبر لا التفويض وأن الإسلام لا يهتم بحقوق المرأة!! ـ وخصوصاً قضية تعدد الزوجات ـ وأن الإسلام يسبب أو يخلق الفقر!! وأن الإسلام عاجز عن إدارة الدولة وإعمارها!! وتبذل الجهود وتركز المساعي من قبل أعداء الإسلام على إبراز هذه الإدعاءات والمزاعم وتضخيمها.
قبل عامين تقريباً، أقيم معرض تحت عنوان "معرض الإسلام" وهو يعرض من أوله الى آخره فقر العالم الإسلامي وفاقته، بهدف التركيز على أن الإسلام ليس قادراً على توفير الرفاه المادي لأتباعه والمؤمنين به، وهذا هو أحد الأهداف الاستعمارية ضد الإسلام.
ومن بين ادعاءاتهم ومزاعمهم الأخرى: أن الإسلام ذو منهج خرافي وبعيد عن المنطق!! وهذا ما يتم الترويج له والتركيز عليه أيضاً، وخصوصاً من قبل مروّجي النظرية الاشتراكية.
وفي أعياد رأس السنة الميلادية لعام 1988 بالذات، عرض التلفزيون السوفياتي في قناته الرئيسية برنامجاً تضمّن تمثيلية مستهجنة وقبيحة، توجه إساءة وطعناً للإسلام ومفاهيمه السامية، بزعم أنها تعكس نموذجاً من العالم الإسلامي ومن الأفكار الإسلامية.
إن علينا أن نبذل جهودنا ونوجه اهتمامنا لكي نوضح للشعوب أن الأمور ليست كما يصورها أعداء الإسلام. وفي الحقيقة إن هجمات أعداء الإسلام هي التي تحدد لنا اتجاه تحركنا لتفنيدها وكشف زيفها.
إنني أعتقد أن هذه هي أولويات التبليغ في العالم الإسلامي، وبالطبع فإنني لا أدّعي أن أولويات التبليغ تقتصر عليها وحسب، ولا أحصر نطاقها في هذه الجوانب التي عرضتها عليكم، لكنني أعتقد أنها الأهم في هذا المضمار، لأنني أرى أن هذه هي الأمور المطروحة في الوقت الراهن.
ولا يفوتني ـ طبعاً ـ أن أشير الى نقطة أخرى، وهي أننا حين نواجه هجمات الأعداء ينبغي أن لا نتصرف من موضع رد الفعل إزاء هجمات العدو، وقد مارسنا في الماضي القريب أمثال هذه المواقف الدفاعية والإنفعالية، وكمثال على هذه الحقيقة: مسألة الجهاد. فلقد حاول الأوروبيون والغربيون ـ ولقرون عديدة ـ أن يصوروا الإسلام بأنه دين السيف وسفك الدماء، ويرسموا لرسول الله (ص) صورة رجل قاسٍ عنيف ذي حاجبين معقوفين متداخلين مع بعضهما، وهو يحمل سيفاً يقطر دماً... هكذا كانوا يرسمون صورة الرسول الأكرم (ص).
وحين يقارن المرء هذه الصورة المزعومة للإسلام ورسوله بمزاعم المسيحية وتبليغها، المبنية في معظمها على مفاهيم الحب والسلام والمودة والرحمة بكل العالم والدعاء لكل المخلوقات والكائنات، بل وحتى للشيطان نفسه، وطلب الهداية، وحسن العاقبة حتى للأعداء، فإن نتيجة هذه المقارنة تكون عبارة عن ردود أفعال سيئة جداً في أذهان الرأي العام المسيحي.
فالمسيحية نفسها، لم تكن تصرح ـ علناً ـ بحقيقتها، وهي التي أشعلت نيران الحروب الصليبية، لمدة مئتي عام ضد الدول الإسلامية، وكم ارتكبت من الجرائم والمجازر في العالم الإسلامي ذاته.
هكذا إذاً هي الدعاية المسيحية، فالتبشير والإعلام الكنسي ـ وكما ذكرت قبل قليل ـ مبني على تلك المفاهيم والمزاعم، وهم لا يريدون أن يجهزوا بالحقائق ويصرحوا بها كما هي فعلاً.. إنهم يصورون النبي (ص) شخصية قاسية وعنيفة ومتعطشة للدماء!
وحين واجه المثقفون المسلمون الإعلام الأوروبي لأول مرة ـ وكان ذلك في بدايات القرن العشرين ونهاية القرن التاسع عشر ـ بعد عدة قرون من بدء ذلك الإعلام، فإنهم قد أصيبوا بالدهشة إذ أنهم حينما طالعوا الكتب الأوروبية، وتسنى لهم الاتصال بأوروبا، وحصل العديد من الزيارات، وبمجرد أن شاهدوا في مصر والهند وفي البلدان الإسلامية المتقدمة أن العدو قد شن هجومه ضد الإسلام عن هذا الطريق، وركز على موضوع القسوة والغلظة والشدة في الإسلام والسيوف الإسلامية، بادروا الى اتخاذ ردود فعل إنفعالية ودفاعية. وهكذا فإنهم ـ حسب اعتقادي ـ أنكروا مبدأ الجهاد في الإسلام من الأساس، ونفَوا أن يكون هناك تحرك مسلح في الإسلام، ووصل الأمر بهم الى مرحلة أن بعضهم قال: إن جميع الحروب التي خاضها رسول الله (ص) كانت حروباً دفاعية؛ إنني أُنكر ذلك.
لقد كان الرسول يخوض الحروب "ليُخرج الناس من الظلمات الى النور" وهو الهدف الذي حدده الإسلام للجهاد.. الإسلام يريد بواسطة الجهاد أن يخرج الناس من ظلم الأديان الأخرى (المحرَّفة طبعاً) الى عدل الإسلام، وليحطم القيود والسلاسل التي تكبل أرجل الناس، وهذا أمر لا يمكن تحقيقه بغير الجهاد ومواجهة ذوي القوة والهيمنة في العالم، وإزالة نفوذ مستكبري العالم وسيطرتهم. فهل يمكن تحقيق هذه الغاية بدون قوة السيف؟!
لقد كان الرسول الأكرم (ص) مضطراً لأن يخوض الحروب لأن طبيعة الدعوة تتطلب ذلك. مَن الذي يقول: إن معركة بدر كانت دفاعية؟! ومَن الذي يقول: إن الهجوم لفتح مكة كان دفاعياً؟! ومَن الذي يقول: إن معركة خيبر كانت دفاعية؟! ومَن الذي يقول: إن معركة حنين كانت دفاعية؟! لقد خطط الرسول الأكرم ونفذ ـ بمبادرة منه ـ أكثر من سبعين معركة وغزوة وسَرية وقادها بنفسه، فماذا يعني القول إنها دفاعية؟!
لقد أنكر المثقفون المسلمون الذي عاشوا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ـ وهم معروفون في العالم الإسلامي ـ الجهاد بشكل كامل، من موضع الإنفعال في مقابل الهجمة الغربية، بدلاً من أن يقوموا بإيضاح معنى الجهاد في الإسلام، وبدلاً من أن يبيّنوا للناس أن الجهاد في الإسلام يستهدف خدمة الجماهير المحرومة، وأنهلصالح الشعوب المظلومة، وهو حرب على الحكومات الظالمة والسلاطين الجائرين وليس ضد الشعوب، وأن الحرب في الإسلام ليست من أجل احتلال الأراضي، وإنما هي حرب من أجل إنقاذ الناس وتحرير البلدان من هيمنة الأعداء.
إنهم، بدلاً من أن يقوموا بإيضاح هذه الحقائق، قد أنكروا ـ من الأساس ـ مبدأ كون الجهاد الإسلامي ابتدائياً وهجومياً، وكان موقفهم هذا إنفعالياً، ونحن لا نقر هذا الموقف ولا نوافق عليه، ولا ينبغي أن يكون الدفاع هكذا في مقابل الأعداء.
وكمثال آخر في هذا السياق، فإن الغرب يهاجم مبدأ تعدد الزوجات في الإسلام، وهذا أمر موجود في الإسلام، وهو وارد في آيات القرآن الكريم بصراحة ولا يمكن المساس بهذا المبدأ.. لكن المثقفين المسلمين، وفي سبيل أن يكونوا بمنأى من هجمات الأعداء وليصونوا أنفسهم منها فإنهم أنكروا مبدأ تعدد الزوجات، في الوقت الذي كان بإمكانهم أن يوضحوا حقيقة هذا المبدأ وأبعاده، ويبيّنوا للناس ماذا يعني تعدد الزوجات؟ وأن الغرب الذي يعارض ـ في الظاهر ـ تعدد الزوجات فإنه هو الآخر يشهد تعدد الزوجات، وكل ما في الأمر أن الرجال الغربيين ينفذون ذلك على شكل علاقات غير مشروعة مع عدة نساء، من شتى الأشكال والأنواع، وقلما يوجد رجل في الغرب يبقى مصوناً من الوقوع في مثل هذه الخطايا والمزالق.
بينما الأمر يختلف في العالم الإسلامي، فإن الرجال والنساء فيه مصونون من التورط بمثل هذه الإنحرافات.
لا ينبغي التعامل بردود الفعل في مقابل هجوم الأعداء، يجب تشخيص العدو والتعرف على الثغرات التي يمكن أن يستغلها للتسلل ولشن الهجوم، وبالتالي ينبغي الوقوف بوجهه.
إننني أعتقد أن هذه أولويات التبليغ.. إنني أقول: إن علينا ـ أولاً ـ أن نرسم صورة شعبية للإسلام، الإسلام دين جاء لإنقاذ البشر، وهو دين بُعث نبيه من بين الطبقات الكادحة والمستضعفة، يجب أن لا نصوّر الإسلام للناس على أنه دين المترفين والطبقات المرفهة ودين السلاطين والزعماء والأقوياء.. الإسلام دين الناس المتعطشين والمتلهفين للعدالة.. هذه إحدى أولوياتنا الإعلامية.
إن الذين يتظاهرون بالإسلام ويتشدقون به وهم يرتدون الألبسة المذهّبة ويحيَون حياة التفرعن، ويدّعون أنهم ولاة أمر الإسلام وحماته يجب أن يعلموا أنهم يعملون للإضرار بالإسلام، وأنهم ـ بأعمالهم ـ يُسقطون الإسلام من أعين الجماهير؛ فالإسلام دين البساطة والود والمحبة والأخوّة، وهذه هي الأخرى من الأولويات الحيوية في التبليغ الإسلامي.
الأمر الثاني الذي يُعتبر من أولويات التبليغ الإسلامي هو أن نزيل عن صفحة الإسلام مسألة فصل الدين عن السياسة... فالإسلام هو ذلك الدين الذي عبادته ليست منفصلة عن سياسته، وكل مَن يقول بذلك فإنه إما أن يكون مغرضاً وخائناً وإما أنه جاهل لا يعلم شيئاً.. فالإسلام هو الدين الذي كان نبيُّه والمبلِّغ له حاكماً للناس، والإسلام هو الدين الذي وُضعت أحكامه من أجل إدارة حياة المجتمع. وليست السياسة إلا إدارة شؤون المجتمع، والإسلام هو الدين الذي تتركز معظم أحكامه في مجال حياة الناس وكيفية إدارة هذه الحياة.
كان بعض الأشخاص يريد أن يعزل الإسلام جانباً في المساجد، وهم الأشخاص الذين أرادوا أن يسيطروا على مجريات الحياة ومقاليد الأمور في البلدان الإسلامية، وفي سبيل أن يغتصبوا زمام الأمور لم يكن أمامهم سوى أن يطردوا الإسلام ويحصروه في زوايا المساجد ومحاريب المعابد ويمنعوه من الحضور الفعال في ميدان الحياة والمجتمع.
هؤلاء قاموا بفصل الدين عن السياسة، وقد راق ذلك لعدد من المسلمين وأعجبهم، وحين جربوا ذلك وجدوه جيداً، وكان ذلك يتضمن ربحاً مادياً لبعض الأشخاص، ويوفر الراحة لبعضهم الآخر.
إن فصل الدين عن السياسة تهمة كبيرة وجهت للإسلام، وإن من أهم الأولويات في مجال التبليغ الإسلامي هو وضع حد لفصل الدين عن السياسة وإنهاؤه بشكل كامل وحاسم.
ومن جملة أولويات التبليغ الإسلامي إيضاح الصورة الحقيقية لعظماء الإسلام بأساليب فعالة وبصيغ عملية، ولكننا ـ ومع الأسف ـ لم نعمل إلا القليل في هذا المضمار وتأخرنا كثيراً في البدء بهذا النهج.
إن من الضروري والمهم رسم ملامح الصورة الحقيقية لشخصية النبي (ص) وأهل البيت (عليهم السلام) وأصحاب رسول الله، والقديسين والصالحين والصديقين في الإسلام، وتقديم صورتهم الحقيقية للعالم، عن طريق استخدام الوسائل والأدوات والأساليب الفنية لا بتأليف الكتب وحسب... فالكتاب ـ بمفرده ـ لا يؤدي الغرض المراد هنا.
لقد قام كاتب فنان مسيحي بكتابة رواية أدبية عن القديس المسيحي المعروف "سان فرانسيس"، بهدف لفت أنظار العالم المسيحي الى المعارف المسيحية، وقد سلّط الضوء في تلك الرواية الأدبية على شخصية "سان فرانسيس" وشرح ملامحها وأبعادها... هذا ما قام به كاتب روائي يوناني شهير، فلماذا نحن غافلون عن هذا الجانب؟ إننا لم نقم بعرض ملامح شخصية نبينا الكريم (ص) وأهل بيته (عليهم السلام) وصحابته وعظماء الإسلام عبر الأعمال الفنية الأخرى التي تخاطب العواطف الإنسانية وتؤثر في الوجدان. نحن لم نقم بكل ذلك.
ما قمنا به هو أننا ألفنا الكتب، وكتبنا التاريخ، وكل فرقة من الفرق الإسلامية كتبت الأشياء التي ترغب بكتابتها، حتى لو كانت تتعارض مع كتابات باقي الفرق الإسلامية وتنفيها... هذه إحدى أولويات الإعلام والتبليغ الإسلامي التي ينبغي إيلاؤها الكثير من الاهتمام.
بل إن من واجب الفنانين الإسلاميين أن يخوضوا هذه التجربة ويلجوا هذا المضمار، لماذا يقوم المسيحيون بانتاج فيلم عن حياة نبينا (ص)؟ ـ لماذا لا يبادر المسلمون الى انتاج مثل هذا الفيلم؟! وأي فيلم؟! الفيلم الذي لا يتناول حياة الرسول ـ فهي أكبر من أن يتناولها فيلم واحد ـ وإنما الأحداث التاريخية التي شهدتها حياته الكريمة.
هناك الكثير من هذه الأحداث يمكن تناولها على شكل أفلام، من بينها مثلاً: معركة بدر، أو فتح مكة، أو صلح الحديبية، أو ليلة الهجرة النبوية المباركة من مكة الى المدينة، أو بيعة العقبة.. كل التاريخ الإسلامي يمكن إعداد أفلام عنه، وتسليط الضوء على تلك الأحداث وعرضها للناس، وهي تعكس وقائع الإسلام وملامحه ومعارفه، لأن حياة النبي الكريم تجسيد حي لمثل هذه الأمور.
لقد سئلت زوجة النبي عائشة عن خُلُق رسول الله (ص) فقالت: "كان خُلُقه القرآن". وكان رسول الله (ص) يجسّد قيم القرآن وآياته، فإذا ما سلّطنا الضوء على حياة النبي وقمنا بشرحها وإيضاح أبعادها فإننا نكون قد أوضحنا أبعاد القرآن وقيمه. هذه أيضاً إحدى أولويات الإعلام والتبليغ الإسلامي.
ثمة أمر آخر يعتبر من الأولويات الإعلامية والتبليغية، في الوقت الحاضر، وهو الدفاع عن الجمهورية الإسلامية؛ وإنني أتوجه بالحديث الى المثقفين والمفكرين المسلمين غير الإيرانيين، إن عليهم ألا ينظروا الى الجمهورية الإسلامية على أنها كيان قائم في مكان ما من العالم أو ثورة انتصرت بإمكانهم أن يحبوها أو يبغضوها تبعاً لميولهم وعواطفهم!!!
لا ينبغي أن يحملوا مثل هذه الفكرة، ولا يجب أن ينظروا الى الجمهورية الإسلامية من هذا المنظار، فإقامة الجمهورية الإسلامية حدث سعى الاستعمار للحيلولة دون حصوله طيلة مئتي عام، لكي يبرهن على أن زمن الإسلام قد ولّى، وأن الإسلام غير قادر على إدارة المجتمع وإقامة النظام السياسي.
لقد فنّدت الجمهورية الإسلامية بحركة واحدة مزاعم الاستعمار ودعاياته التي بقي يرددها طوال مئتي عام وأذهبتها أدراج الرياح... تلك المزاعم والدعايات التي شارك فيها آلاف المفكرين، وأُنفقت عليها المليارات من النقود، وكم حاولوا ـ جاهدين ـ نشر وترسيخ أفكارهم في العالم الإسلامي من أقصاه الى أقصاه.
ربما يكره بعض الفئات أو الأفراد هذه الجمهورية الإسلامية ولا يحبونها، أو أنهم لا يرتضون تصرف المسؤول الفلاني من مسؤولي الجمهورية الإسلامية، أو يكونوا مترددين في الرضى عنه، أو تكون لديهم تساؤلات وعلامات استفهام حوله؛ كل هذا يمكن أن يكون صحيحاً وفي محله ومنطقياً ويمكن أن يحدث، ولكن الذي لا يمكن أن يكون منطقياً ولا يمكن الدفاع عنه وتأييده هو أن يحمل الشخص تساؤلات وشكوكاً حول الجمهورية الإسلامية، أو لا يدافع عنها؛ هذا ما لا يمكن قبوله أو تبريره.
إن الجمهورية الإسلامية تعني حاكمية القرآن وحاكمية الإسلام، ومن واجب كل مسلم في أية بقعة من أرجاء العالم أن يدافع عن هذا الكيان، ليس لأنه يعود لنا أو متعلق بنا، وليس لأنه ملك لإيران.
نحن أنفسنا كنا نتصرف هكذا خلال فترة الجور والظلم الشاهنشاهي.. لم تكن آنذاك ثمة حكومة باسم الإسلام يصرح دستورها الرسمي أن أي حكم أو قانون لا يمكن أن يُطبَّق إلا أن يكون متطابقاً مع القرآن والإسلام... لم تكن قد قامت في تلك الفترة حكومة على رأسها فقيه وعارف وعالم بالإسلام ومفكر إسلامي كبير... لم تكن هناك حكومة في العالم تكون قيمها مبنية على المعروف، والأمور المخالفة للقيم بنظرها عبارة عن المنكرات، ولم يكن في ذلك الحين نظام تكافح فيه المنكرات والمعاصي والفجور والفحشاء وشتى أنواع الفساد التي يبثها أعداء الأمة وينشرونها في المجتمعات الإسلامية، ولم تحصل في أي نظام مكافحة تلك المفاسد والإنحرافات بجد ومثابرة ودأب حثيث... لم يكن هناك نظام في العالم قد اتحد الكفر والاستكبار كله لقمعه وضربه لا لشيء إلا لأنه إسلامي {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد}.
وفي نفس الوقت، كنا في فترة الظلم والجور الشاهنشاهي حين نشاهد تحركاً أو نهضة في مكان ما ينبض فيه عِرق إسلامي، فإننا نعتبر أنفسنا ملزمين بتأييده ودعمه، وهناك أمثلة على هذه الحقيقة.
إننا نعتقد أن الدفاع عن الجمهورية الإسلامية في الوقت الحاضر هو أحد أهم أولويات التبليغ للإسلام في العالم بل ويعد من أوائل تلك الأولويات.
ينبغي أن يقال لشعوب العالم: إن الإسلام يمكنه أن يجنّد الجماهير والشعوب، ويتم ـ من خلالهم وعلى أيديهم وبالاعتماد على إيمانهم ـ اكتساح حصون الاستكبار وقلاعه المنيعة، وإقامة نظام مبني على أساس الإسلام وعلى أساس القرآن، ويطبّق هذا النظام حاكمية الإسلام والقرآن ويرسي سيادتهما رسمياً. وهو نفس ذلك الشيء الذي كان يطمح إليه ويأمل في إقامته ـ سنين طويلة ـ الإسلاميون المثقفون الواعون، منذ زمن السيد جمال الدين ومحمد عبده وبقية المفكرين المسلمين، وظل يراودهم هذا الحلم كل تلك السنين، وظلوا يتحرقون شوقاً الى تحقيقه... هذا أيضاً إحدى أولويات التبليغ والإعلام الإسلامي. هذا ما يخص التبليغ في الدول الأجنبية غير الإسلامية، وهي ذات الأولويات التي ينبغي السعي لتحقيقها في بلداننا نحن، أي في داخل بلدان العالم الإسلامي.
أضف الى ذلك، أن قضية الوحدة ـ الوحدة الإسلامية ـ تعتبر اليوم إحدى أهم الأولويات الإعلامية والتبليغية في العالم الإسلامي.
فبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران نشطت الدولارات النفطية والقروض الأميركية وغير الأميركية بشدة، للقضاء على وحدة العالم الإسلامي، وكان التركيز يتم ـ بشكل خاص ورئيسي ـ على قضية السنّة والشيعة.
وبما أن شعب إيران هم من الشيعة، فإن الاستكبار بذل كل ما في وسعه للحيلولة دون تمكن الثورة ـ التي قام بها هذا الشعب ـ من مد الجسور وإقامة الاتصالات مع بقية أنحاء العالم الإسلامي وبلدانه الأُخر، وارتأَوا أن منع حصول ذلك يمكن أن يتم عبر رفع حدة الخلاف وتصعيده بين الشيعة والسنّة، لذلك قاموا بتأليف العديد من الكتب في هذا المضمار (وطباعتها ونشرها على نطاق واسع)... ويوجد لدي في مكتبتي الخاصة عدد كبير من الكتب التي ألفها المفكرون المتلبسون بزي رجال الدين وذوو الأقلام المأجورة، المنبثّون في العالم الإسلامي، مستهدفين تحريض الشعوب ضد الجمهورية الإسلامية وإيقاع العداوة والبغضاء بينهما، فوجدوا أن ذلك ممكن عن طريق تأجيج نيران الخلاف بين الشيعة والسنّة.
إنني حين أقرأ بعض تلك الكتب أتمتم مع نفسي: رباه! كم يخشى أعداء الإسلام والثورة على أنفسهم ومناصبهم من هذه الثورة ويتوجسون منها خيفة؟! وكم لهذه الثورة الإسلامية من العظمة والأهمية بحيث تجعلهم يتشبثون بكل الوسائل ويلجأون الى كل الأساليب لإيذائها؟ ويا عجباً من أن الذين كانوا ـ وما يزالون ـ يتحدثون باسم الدين ويتشدقون به وكذلك الذين يكتبون باسم الوعي والفكر ويتظاهرون بهما زيفاً، هؤلاء هم أيضاً لا يخجلون من أنفسهم وفي مقابل الحصول على الأموال والدولارات من أسيادهم يبذلون الجهود والمساعي الحثيثة من أجل تجريح الجسد الإسلامي. فالوحدة إذاً إحدى أولويات الإعلام والتبليغ اليوم.
أمر آخر يعتبر من أولويات التبليغ والإعلام في داخل المجتمعات الإسلامية، وهو الدعوة الى حكم الإسلام. إن الإسلام لا يقتصر على الأحوال الشخصية ـ بل وحتى هذا المجال أيضاً لم يبقَ بيد الإسلام وإنما تلاعب فيه حكام كثير من البلدان الإسلامية وأبعدوه عن متناول الإسلام ـ والإسلام ليس للعبادة وإحياء القلوب في زوايا المساجد والبيوت وحسب، وإنما جاء الإسلام في سبيل إدارة شؤون الحياة الإنسانية. الإسلام نظام للحياة ينبغي إيضاح هذا الأمر للشعوب كلها.
ومن ضمن الأولويات الإعلامية والتبليغية في العالم الإسلامي شرح وتوضيح الفرق بين الإسلام الأميركي والإسلام المحمدي الأصيل النقي. إن الإسلام الأميركي تعبير يرمز الى الإسلام الذي يخلو من المحتوى والمضمون ويقتصر على القالب والإطار... وهو الإسلام الذي "يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض" وهو أيضاً الإسلام الذي لا يوافق على أن {لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً}. إنه الإسلام الذي يرفض أن {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلَون إن كنتم مؤمنين} وهو الإسلام الذي لا يؤمن بـ {وما أرسلنا من نبي إلا ليُطاع بـإذن الله} والإسلام الذي يرفض حاكمية الإسلام، وبالتالي فهو الإسلام الذي يداهن أميركا وينسجم معها، ولكنه لا ينسجم مع الجمهورية الإسلامية ويوافق على أعمال أميركا وفساد الغرب وفسقه، إلا أنه يرفض الجمهورية الإسلامية وهي التي تملأ أجواءها الآيات الإلهية.
هذا هو الإسلام الأميركي... إنه الإسلام الخليط الهجين، وإسلام التكبر والزهوّ، وإسلام القوى الظالمة.
أما الإسلام النقي الخالص، فهو الإسلام الذي ينطق به القرآن وتصدع به آياته، وهو الإسلام الذي يحمل الخصائص والمميزات التي عرضتها أثناء حديثي.
ينبغي إيضاح هذه الحقائق لكي تتبين ما هي حقيقة الإسلام الذي ندعو إليه ودعا إليه رسول الله (ص) وينبغي ـ طبعاً ـ أن نقول: إنه وبالإضافة الى الإعلام والدعاية المعادية للإسلام من قبل الأعداء فإن من المؤسف أن تجري مساعدة أعداء الإسلام ودعمهم ـ في الوقت الحاضر ـ من داخل المسلمين ومن بين صفوفهم، وأن المندسين من عملاء العدو موجودون في صفوف المجتمع الإسلامي، إضافة الى أن الأذواق المنحرفة والنظرات الضيقة وذات الأفق المحدود هي الأخرى تساعد العدو وتمكنه من الإضرار بمصلحة الإسلام وإلحاق الأذى به.
هناك في العالم الإسلامي ـ كما أشرت قبل قليل ـ مَن يعمل ويبذل الأموال الطائلة والجهود الواسعة للإضرار بمصالح الجمهورية الإسلامية والتبليغ ضدها، بدلاً من إنفاق تلك الأموال وتوظيف الجهود للتبليغ ضد الصهيونية والإمبريالية والشيوعية.
وإذا سلّمنا بوجود مثل هؤلاء في العالم، فكم سيكون من المناسب والضروري أن يطّلع العالم الإسلامي على أعمالهم ويعرف مَن هم، ويفهم أبعاد هذه القضية.
وطبعاً من أجل ألا يكون للإعلام والتبليغ الإسلامي أثره وبريقه في العالم، فقد بادر أعداء الإسلام الى عمل آخر من أعمالهم الخبيثة، وهو دعم التيارات غير الإسلامية وتشجيعها على الانتشار في البلدان الإسلامية لكي تصبح نداً منافساً للإسلام، كالعصبيات القومية المختلفة.
إنهم يقومون بإذكاء نار الشعور القومي لدى القوميات المختلفة في البلاد بحيث تؤول الأمور الى وضع يولي فيه المواطن المسلم في البلد الفلاني مصالح قوميته الدرجة الأولى من الاهتمام، وبعد ذلك يأتي الإسلام. هذا أيضاً من ضمن الأساليب والممارسات المعادية التي تؤدى وتمارس بدعم من الأعداء.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، نحن في الجمهورية الإسلامية كنا طوال السنوات العشر الماضية هدفاً للإعلام المعادي والدعاية العالمية، وقلما حصل مثل هذا الحجم من الإعلام المعادي ضد شخص أو فئة مثلما كان نصيب الجمهورية الإسلامية من أعدائها لسنوات طويلة. لقد مارسوا التبليغ ضدنا بمستوى فريد من نوعه، حتى أن كل وكالات الأنباء الكبرى في العالم ـ أي الوكالات الأربع المعروفة التي تبث 90 % من الأخبار العالمية، والتي تدار معظمها من الصهاينة ـ وجميع الإذاعات العالمية المعروفة التي تتم تغذيتها من قبل الدول الغربية والشرقية، كانت معظم دعاياتها وإعلامها تتركز ـ خلال هذه السنوات الماضية ـ ضد الجمهورية الإسلامية، وبأساليب ووسائل حديثة جداً.
وإننا، نحن الذين استهدَفَنا ذلك الإعلام المعادي وكانت حراب عدائه وحقده مشرعة في وجوهنا، نبدي إعجابنا بهذه القدرات الإعلامية والتبليغية التي تمثلت في أساليب وصيغ شتى ضد الثورة الإسلامية. وإن الإنسان ليعجب ـ حقاً ـ وهو يرى كم من العقول وُظّفت، وكم من الأفكار طُرحت، وكم من الأوقات صُرفت في هذا الاتجاه، وكم كُرّست جهود أشخاص متخصصين ودارسين لإدارة مثل هذه الحملة الإعلامية والدعائية المعادية لنا وتنظيمها.
خلال السنوات العشر الماضية، لم نَخْطُ خطوة ولم نقم بعمل ما إلا وكان الإعلام العالمي لنا بالمرصاد، وليقوم بكتابة المقالات المختلفة وبشكل مستمر ضدنا، وأحد تلك المواضيع هو موضوع حقوق الإنسان.
كثيراً ما زعموا وتمشدقوا في الإعلام العالمي بأن حقوق الإنسان يجري انتهاكها وسحقها في الجمهورية الإسلامية.. ترى مَن الذين رددوا ذلك وزعموه؟! إن أكثر الأصوات علواً في هذا المجال هي أصوات الذين ينقضون أبسط حقوق الإنسان بشكل سافر وعلني. بل ويفتخرون بذلك أيضاً.. إنهم نفس أولئك الذين استخدموا القنبلة الذرية ـ ولأول مرة في العالم ـ ضد المدنيين العزّل وألقَوها على كل من هيروشيما وناكازاكي، وأزهقوا بذلك أرواح عدد كبير من الناس، صغاراً وكباراً، في لحظة واحدة، فيما بقي الألوف الآخرون معاقين ومقعدين حتى الموت.
إنهم نفس أولئك الذين شنوا على رؤوس الأشهاد، وفي وضح النهار، هجوماً سافراً ضد دولة أخرى (ليبيا) وبالتحديد على عاصمة تلك الدولة؛ وهم نفس أولئك الذين هاجموا وأسقطوا طائرة الركاب المدنية العائدة للجمهورية الإسلامية، وحاولوا في البداية أن ينكروا قيامهم بذلك، لكنهم رأَوا أن عملهم غير قابل للإنكار فاعترفوا بإسقاطهم تلك الطائرة التي كان على متنها ما يربو على الـ 300 من المسافرين الإيرانيين وغير الإيرانيين، صغاراً وكباراً، نساءاً ورجالاً وأطفالاً، لكنهم لم يعبأوا بكل ذلك فأطلقوا عليها صاروخاً من إحدى سفنهم وأسقطوها في البحر، مما أدى الى مصرع ركابها جميعاً.
هؤلاء الذين ينقضون حقوق الإنسان بكل تلك الوقاحة والصراحة هم أنفسهم الذين يدّعون كذباً ويزعمون أن حقوق الإنسان تُنقض في الجمهورية الإسلامية، ويركزون حملاتهم أكثر من الباقين على الجمهورية الإسلامية بالذات.
هؤلاء هم الذين يهاجمون البلدان الأُخر ويسقطون حكوماتها وهم الذين دبروا في بلدنا بالذات ـ ومنذ بداية انتصار الثورة الإسلامية ـ شتى أنواع المؤامرات والأعمال المعادية. وهؤلاء هم أنفسهم أسياد أعداء الثورة الإرهابيين الذين استُشهد على أيديهم في السنتين أو الثلاث الأولى من قيام الجمهورية الإسلامية الكثير من أبرز الشخصيات البارزة في الثورة، وكان من بين أولئك الشهداء العظام: رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ورئيس السلطة القضائية، وعدد من أعضاء مجلس الشورى الإسلامي وعدد من الوزراء، وكان عددهم يربو على 70 أو 80 شخصاً، وفي الأعم الأغلب قاموا باغتيال مثل هذه الشخصيات فضلاً عن أئمة الجمعة والعلماء الكبار.
هؤلاء القتلة الإرهابيون هربوا خارج البلاد، ولجأوا الى تلك البلدان التي تدّعي حكوماتها ـ اليوم ـ زيفاً وتتمشدق بحقوق الإنسان، وأصبحوا يتمتعون بحمايتهم.
ألا تسأل أميركا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وبقية الدول التي ترفع عقيرتها بالدفاع عن حقوق الإنسان كذباً، ألا تسأل أنفسها: أنه لو كنا حقاً دعاة حقوق الإنسان فكيف احتضنّا هؤلاء الإرهابيين المتوحشين القتلة الخبثاء القساة، وكيف نوفر لهم الحماية وندافع عنهم في نفس الوقت الذي ندّعي فيه الدفاع عن حقوق الإنسان؟!
إننا نعلن أنه لا يمكن رعاية حقوق الإنسان وتطبيقها إلا في ظل الإسلام والأحكام الإسلامية، وإننا نحن الذين نقوم الآن بتطبيق تلك الحقوق ورعايتها، وطبعاً فنحن لا ندّعي أننا تمكنا من تطبيق أحكام الإسلام بشكل كامل، ولكننا قد سرنا في هذا الطريق وخطَونا خطوات كبيرة في هذا المضمار، وما زلنا نسير فيه الى الأمام.
إن حقوق الإنسان تخصنا نحن أولاً، وهذه إحدى التهم والافتراءات التي وجهت إلينا. واتهموا الجمهورية الإسلامية كذلك بالإرهاب، في الوقت الذي يقومون فيه هم بتشجيع الإرهاب ورعايته، فهم الذين يسقطون طائرة الركاب المدنية والطائرات العسكرية ويهاجمون بيوت الناس الآمنين، ويقومون بغزو غرينادا، ويقدّمون الدعم والمساندة لأعداء الثورات التقدمية ومعارضي الحكومات الثورية ويساعدونهم، ويوفرون الدعم المادي والمعنوي للأشخاص المنحطين والخبثاء، وهم يمارسون أشد أنواع الظلم والجور وأكثرها فظاعة ضد الطبقات المحرومة في بلدانهم، وخصوصاً ضد الزنوج، ويستخدمون في كل حين كل وسيلة ممكنة ضد أعدائهم، ويقومون بتصفيتهم جسدياً، وهم ـ رغم كل ذلك ـ لا يعتبرون تلك الأعمال أعمالاً إرهابية.
أما حينما تقوم الجمهورية الإسلامية بالدفاع عن مسلمي لبنان المظلومين، فإنهم يطلقون على ذلك اسم حماية الإرهاب، وعندما ندافع عن ثوار فلسطين المظلومين والذين لا ناصر لهم، يتهموننا بالدفاع عن الإرهاب.. وحين ندافع عن أولئك الذين يعانون بشدة في عقر دارهم من ظلم عملاء أميركا وأذنابها، فإنهم يتهموننا بحماية الإرهاب.
لقد ذهبوا بعيداً في ممارسة الإعلام والدعاية ضدنا في العالم، بأن الجمهورية الإسلامية تؤيد الإرهاب وتدافع عنه، بحيث أنهم يكررون القول ويعيدونه مراراً حتى يصبح ذلك من الحقائق التي تصدقها كثير من الشعوب، ويظنون ـ فعلاً ـ أن هذه الإدعاءات صادقة وحقيقية.
وفيما يخص الحرب، ينبغي القول: إنه ما من خطوة كنا نخطوها في السنوات الثماني من الحرب التي فُرضت علينا إلا ويجعلونها مادة إعلامية ضدنا ويبثونها عبر وسائل إعلامهم.
وبعد أن وافقنا على قرار مجلس الأمن المرقم 598 فإنهم استمروا أيضاً في ممارسة الدعاية والتضليل وكتبوا المقالات المعادية لنا، وأذاعوها عبر كل الإذاعات، وبثوها من خلال وكالات الأنباء. إتهموا الجمهورية الإسلامية بأن لها علاقات مع "إسرائيل" وأميركا، ولديها ارتباط خفي معهما، وردَّدت هذه المزاعم نفس الإذاعات المرتبطة بأميركا وإسرائيل، ويكفيهم خزياً وصفاقة وقبحاً أنهم حين يريدون تشويه سمعة شعب أو حكومة ثورية فإنهم يتهمونها بأن لها علاقة مع الصهاينة وأميركا.
وحتى بالنسبة لحكومة جنوب أفريقيا العنصرية، كنا أولى الدول التي عملت بحزم في مواجهة ذلك النظام وقطعت حكومة الجمهورية الإسلامية كل العلاقات مع أفريقيا الجنوبية في اللحظات العنصرية القائمة هناك، وقطعنا تصدير نفطنا الذي كان النظام الشاهنشاهي المقبور يصدّره إليهم بكميات كبيرة.
وفي أحد المؤتمرات العالمية التي عقدت لمناقشة شؤون النفط ـ وكانت قد عقدت مؤتمرات لمناقشة التمييز العنصري ـ كانت الجمهورية الإسلامية مشاركة في ذلك المؤتمر، قام عملاء الحكومات العميلة لأميركا والاستكبار العالمي ـ الذين يقدّمون هم أنفسهم الدعم والإسناد لنظام جنوب أفريقيا ـ بإعداد قائمة بأسماء الدول التي باعت النفط لنظام جنوب أفريقيا، ومن بين الأسماء التي كتبت في تلك القائمة اسم الجمهورية الإسلامية! ووضعوا في القائمة رقماً لسفينة زعموا أنها قامت بنقل النفط الإيراني الى جنوب أفريقيا، وقد وُزّعت أعداد كبيرة من تلك القائمة في المؤتمر.
ولما أُحِطْت علماً بمثل هذا الأمر، كتبت الرقم المذكور وبرفقته كل المعلومات المذكورة عن السفينة، وكلفت مجموعة من الأشخاص بمتابعة هذه القضية وإبلاغي النتيجة؛ وكانت نتيجة البحث والاستقصاء هي أن ما ذكر في هذا الصدد كان كذباً محضاً ولا صحة له، ولم تذهب تلك السفينة مطلقاً الى منطقة أفريقيا عموماً وأفريقيا الجنوبية خصوصاً، وكان معروفاً من أين حـمِّلت بالنفط وأين بِيع ذلك النفط ولمن تم بيعه.
هكذا أوردوا ادعاءاً مختلفاً وعارياً عن الصحة بكل وقاحة وصلف وقاموا بنشره وبثه بشكل واسع، من أجل تشويه سمعة الجمهورية الإسلامية والمساس بها.
بل إن "إسرائيل" نفسها، بالإضافة الى حلفائها، يحاولون الإيحاء عبر شتى أساليبهم ووسائل إعلامهم ـ وبخبث واضح ـ بفكرة أن لدى الجمهورية الإسلامية علاقات وصفقات شراء أسلحة مع "إسرائيل". في الوقت الذي نعلم أن هذا ليس سوى مجرد افتراء وكذب 100 % وليست لدينا أية علاقة مع الصهاينة أعداء العالم الإسلامي، لا على صعيد صفقات الأسلحة ولا في مجالات السياسة أو الاقتصاد ولا في أي مجال آخر.
بل إن لإيران ديوناً مترتبة على "إسرائيل" كانت قد بقيت في ذمة الصهاينة منذ زمن الشاه المقبور، لم تقدم حكومة الجمهورية الإسلامية ولو طلباً واحداً بتسديدها، لأن ذلك يتطلب ـ بالتالي ـ ترتيب اتصالات وإجراءات معينة لتسليم وتسلّم هذه المبالغ من الكيان الصهيوني الغاصب، ولم تشأ الجمهورية الإسلامية أن يكون لديها حتى مثل هذه الدرجة من العلاقة أو الاتصال. بينما نعرف أن أشد الشعور عداءاً للصهاينة هو شعبنا، وأكثر الحكومات إعلاناً وتصريحاً بمعاداتها للصهاينة وأكثرها جدية في ذلك هي حكومة الجمهورية الإسلامية، ومع ذلك فإن الإعلام العالمي يوجه إليها مثل تلك التهم والافتراءات، وصوروا الأمر وكأن لدى إيران علاقات ما مع الصهاينة أو أميركا، بينما الواقع يشهد أن ذلك محض اختلاق وكذب ليس إلا.
هكذا يجري توجيه الإعلام ضدنا..
لقد أشاعوا أن الجمهورية الإسلامية قد تخلت عن أهدافها الأولية وتراجعت عنها، بعد عشر سنوات من قيامها، وربطوا بين هذا الزعم والإدعاء، ونهاية الحرب، بينما ـ في الحقيقة ـ كان هذا كذباً محضاً.
فالأصول والمبادئ الإسلامية هي النور الذي يضيء الطريق لنا، ونحن ما زلنا نواصل السير في ظل تلك المبادئ والأصول.. والأصول والمبادئ التي تؤمن بها وتطبقها الجمهورية الإسلامية هي: مبدأ الاستقلال الكامل ومبدأ "لا شرقية ولا غربية" وهو ما نطبقه في الوقت الحاضر بنفس القوة التي كنا نطبقه بها فيما مضى، ومبدأ الاستناد الى رأي الشعب، وهذا الأمر يوجد في إيران اليوم بصيغة من أفضل الصيغ الموجودة في العالم ـ ولا أقول إنها الأفضل في العالم كله ـ سواء من حيث كيفية ارتباط أفراد الشعب بالنظام والحكومة والوزارة، أو تأثير هذا الارتباط.
العلاقة بين أفراد الشعب والحكومة هنا تمثل إحدى أفضل صيغ تدخل الشعب في قضايا البلاد وأمورها وفي تقرير مصيرهم.
ومن بين مبادئ الجمهورية الإسلامية وأصولها مبدأ تطبيق الإسلام والتقيد بأحكامه، فهل من الممكن مس هذا الجانب بسوء؟! إن في دستور الدولة مبدأً ثابتاً ينص على أن أي قرار أو قانون يتم اتخاذه في الجمهورية الإسلامية يعتبر باطلاً وساقطاً عن الاعتبار بشكل كامل إذا كان مخالفاً للإسلام وغير منسجم والأحكام الإسلامية، وقد ذكر في سياق ذلك المبدأ أن هذا المبدأ يعتبر ساري المفعول ومقدماً على كل المبادئ والقوانين الأُخر الموجودة في الجمهورية الإسلامية فلو تعارض هذا المبدأ مع أي مبدأ أو قانون آخر ـ حتى لو كان ذلك المبدأ أحد مبادئ الدستور ـ فإن الأولوية والاعتبار سيكونان لهذا المبدأ الأساس.
فهل من الممكن أن تنفصل الجمهورية الإسلامية عن الإسلام أو تتخلى عنه ولو للحظة واحدة؟! إننا إذا أحسسنا يوماً ما أن طريق هذا النظام الجمهوري الإسلامي يحيد عن الإسلام وينفصل عنه ـ لا سمح الله ـ فإننا نحن أنفسنا سنرفض ذلك. إن مبرر وجودنا ووجود هذا النظام رهين بالإسلام، والإسلام هو كل شيء بالنسبة لنا وهو الهوية الحقيقية لهذا النظام وروح هذا النظام.
إنني أعتذر عن إطالة الحديث بعض الشيء، وكنت قد كتبت أموراً أُخر أحببت أن أطرحها في هذا المؤتمر ولكنني أعتقد أنني لو أردت أن أطرحها فسوف تطول هذه الجلسة كثيراً، ولقد أتعبكم حديثي، وآمل أن يكون هذا الاجتماع اجتماعاً مباركاً، وأن تقوموا ـ أيها الإخوة الأعزاء، الإيرانيون وغير الإيرانيين، المشاركون في هذا المؤتمر ـ ببحث القضايا المطروحة في جدول الأعمال بشكل جدي إن شاء الله، وأن تقوموا بالتعمق في ذلك وتحديد القضايا المهمة لتبليغ الإسلام، وإيضاحها، وتُقدّموا إن شاء الله للمجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية ثمرة ونتيجة فكرية قيّمة من وراء انعقاد هذا المؤتمر الكبير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
-
- ضَرورة العَودة إلى القرآن
- العودة إلى نهج البلاغة
- روح التوحيد رفض عبودية غير الله
روح التوحيد رفض عبودية غير الله
آية الله العظمى السيد علي الخامنئي (دام ظله)
بسم الله الرحمن الرحيم
يوم نهض نبي الإسلام لحمل رسالة تحرير الإنسان، وأعلن شعار "لا إله إلا الله" واجه معارضة حادة ومقاومة عنيفة؛ وكان في مقدمة هذه الجبهة المضادة رؤساء القبائل ووجهاؤها، وكان بقية المعارضين تابعين ومطيعين لهؤلاء السادة والكبراء.
هؤلاء واجهوا الرسول، واجهوا الفئة المؤمنة ـ في البداية ـ بأبسط الأسلحة العدوانية، بالهمز واللمز والاستهزاء، ثم عمدوا إلى أسلحة أشد وأفتك كلما ازدادت الحركة التوحيدية قوة وبلورة. وهكذا كررت هذه الجبهة المضادة خلال الأعوام الثلاثة عشر قبل الهجرة تلك المشاهد المخزية في تاريخ الصراع بين الحق والباطل.
هذه الحقيقة التاريخية تستحق مزيداً من الدقة والإمعان لأنها تشكّل مؤشراً هاماً للتعمق في فهم الإسلام، وفي فهم التوحيد الذي يشكّل العمود الفقري للإسلام.
إنه لمؤسف جداً، بل إنها لمأساة، لكل دعاة تحرير الإنسان أن نشهد انحراف مفهوم التوحيد في عصرنا، فهذا المفهوم يشكّل أعمق أسس محتوى الأديان، ولا يناظره مفهوم آخر في عمق اتجاهه نحو تحرير الإنسان وإنقاذ البشرية المعذبة على مسرح التاريخ.
الرسالات الإلهية عامة عملت خلال التاريخ ـ على ما نعلم ـ على تغيير المجتمع، ودفعه في اتجاه يخدم مصالح الإنسان وينقذ المستضعفين والمسحوقين، ويقضي على كل مظاهر الظلم والتمييز والعدوان. المحتوى الأخلاقي لكل الأديان الكبرى، كما يقول "أريش فروم"، يتكون من التطلع نحو: العلم، والحب الأخوي، والتخفيف من الآلام، والاستقلال، والشعور بالمسؤولية (وهناك طبعاً تطلعات سامية شريفة أخرى لا نتوقع من باحث مادي أن يدركها).
كل هذه التطلعات والآمال تتلخص في مبدأ التوحيد. والأنبياء كانوا يطرحون كل أهدافهم من خلال شعار التوحيد، كما كانوا يحققون تلك الأهداف أو يمهدون لتحقيقها في أعقاب كفاح ينشب تحت راية هذا الشعار.
إنه لمؤسف حقاً، لا للموحدين فحسب بل كل المتبنّين لهذه الآمال والأهداف، أن يبقى محتوى التوحيد مجهولاً أو محرَّفاً أو سطحياً لا يتجاوز الإطار الذهني، خاصة في عصر تتصاعد فيه ضرورة الاتجاه نحو تلك الأهداف أكثر من أي وقت مضى.
ذكرنا أن المجابهات التي شهدها عصر فجر الإسلام تستطيع أن توضّح حقيقة هامة بشأن مفهوم التوحيد.
هذه الحقيقة هي أن شعار "لا إله إلا الله" اتجه أولاً لمقارعة أولئك الذين حاربوه وعادَوه، وهم: أفراد الطبقة المسيطرة المقتدرة في المجتمع.
رد الفعل الذي يبديه خصوم كل حركة في المجتمع يعـبّر دوماً بوضوح عن الاتجاهات الاجتماعية لتلك الحركة، ومدى عمق تأثير هذه الاتجاهات؛ كما يمكن فهم الاتجاه الطبقي والاجتماعي للحركة من خلال دراسة طبيعة أعدائها وانتماءاتهم الطبقية، ويمكن قياس عمق تأثيرها عن طريق فهم مدى تصلّب الأعداء تجاهها.
من هنا، فإن دراسة جبهة أتباع الدعوات الإلهية وجبهة أعدائها، واحدةٌ من الطرق الموثوقة في فهم هذه الدعوات بشكل صحيح.
حين تشاهد أن الفئات المقتدرة كانت دوماً سبّاقة في محاربة الرسالات الإلهية، نفهم بوضوح أن هذه الرسالات تعارض بطبيعتها هذه الفئات، تعارض تجـبّرها وترفها، بل تعارض أساساً هذه الطبقية التي جعلت هذه الفئات متميزة عن غيرها.
قبل أن ندرس التوحيد من هذا المنظار، منظار مقارعته لكل ألوان السيطرة الاجتماعية، لابد من الإشارة أولاً إلى أن التوحيد لا ينحصر في إطار نظرية فلسفية ذهنية ـ كما هو شائع ـ بل هو نظرية أساسية حول الإنسان والعالم، ومنهج اجتماعي واقتصادي وسياسي للحياة.
يندر أن نجد في قواميس الألفاظ، الدينية وغير الدينية، لفظة مثل لفظة "التوحيد" في استيعابها للمفاهيم الثورية البنّاءة، ولأبعاد الحياة الاجتماعية والتاريخية للإنسان، لم يكن من الصدفة أن تبدأ كل الدعوات والحركات الإلهية في التاريخ بـإعلان توحيد الله وحصر الربوبية والألوهية به.
أبعاد محتوى التوحيد نلخصها فيما يلي:
أ/ التوحيد على صعيد التصور (النظرة العامة للكون والحياة):
يعني وحدة جميع العالم وانسجامه وائتلاف أجزائه وعناصره
مبدأ الخلقة واحد، وجميع المخلوقات من ذلك المبدأ الواحد، وليس هناك آلهة متعددة في خلق العالم وإدارته، وهذا يستتبع وحدة جميع أجزاء العالم في التكوين والاتجاه.
{ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (المُلك:3).
{أوَ لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى} (الروم:8).
العالم المتحرك ـ انطلاقاً من هذا التصور ـ قافلة متصلة الأجزاء، كاتصال حلقات السلسلة الواحدة، وكارتباط أجزاء الجهاز الواحد العاملة في اتجاه واحد، وكل جزء من هذه الأجزاء يكتسب معناه الواقعي ويتضح واجبه من خلال فهم مكانته في مجموع هذا التركيب، كل الأجزاء يعاون بعضها الآخر، ويكمّل بعضها الآخر في هذا السير التكاملي الحثيث، وكل واحد منها آلة ضرورية في هذه المجموعة، وكل توقف وفساد وركود وانحراف في أي واحد من هذه الأجزاء يؤدي إلى بطء وفساد وانحراف في جميع الجهاز، وبهذا الشكل ترتبط جميع الذرات مع بعضها برباط معنوي عميق.
ويعني أن للعالم هدفاً ويقوم على أساس حساب وانضباط دقيق، وأن لكل واحد من الأجزاء روحاً ومعنى
العالم له خالق حكيم، وبناءاً على هذا فإن لأصل الوجود ـ كما لكثير من أجزائه ـ حكمة وغاية واتجاه وهدف.
{وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين...} (الأنبياء:16).
العالم بمجموعه ـ انطلاقاً من هذا التصور ـ ليس بالحائر العابث، بل هو مثل ماكينة مصنوعة ومرصودة للعمل من أجل هدف معيّن، يمكن السؤال عن هدفه ولا يمكن السؤال عن أصل هذا الهدف. إنه قصيدة ذات مضمون ينبغي التأمل والتدبر فيها لفهم مضمونها، ولا يمكن اعتبارها إطلاقاً صوتاً منطلقاً من حركة عشوائية.
ويعني أبعد من ذلك خضوع كل عناصر العالم وكل الأشياء لله
فلا يوجد بين هذه المجموعة عنصر شاذ متمرد، كل قوانين الطبيعة وكل ما يخضع لسيطرة هذه القوانين منصاع لله وعبد له. فوجود القوانين التكوينية والطبيعية على ساحة الكون لا يعني نفي ربوبية الله ومبدئيته.
{إن كل مَن السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} (مريم:93).
{بل له ما في السماوات والأرض كلٌ له قانتون} (البقرة:117).
{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويّات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} (الزمر:67).
ب/ التوحيد على صعيد فهم الإنسان:
يعني وحدة أبناء البشر وتساويهم في ارتباطهم بالله
إنه رب جميع الناس، وليس لأحد ـ بسبب طبيعته الإنسانية ـ علاقة خاصة متميزة به، ولا لأحد معه قرابة، ليس إله شعب خاص أو قبيلة معيّنة، ولم يختر شعباً معيّناً ليكون ذلك الشعب سيداً والباقي مَسُودين. كل الناس أمام الله سواسية، وليس لأحد عند الله كرامة خاصة، إلا بالعمل الصالح، أي بالسعي والمثابرة على طريق خدمة الناس والعمل بأحكام الله المؤدية إلى سمو الإنسان.
{وقالوا اتخذ الله ولداً، سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون} (البقرة:117).
{فمَن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون} (الأنبياء:94).
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لِتَعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13).
ويعني وحدة أبناء البشر وتساويهم في الخلقة والتكوين الإنساني.
الإنسانية عنصر واحد يسري في جميع أفراد النوع البشري بشكل متساوٍ، ليس هناك آلهة متعددة خلقت فئات بشرية متعددة. ولذلك فلا توجد ثمة اختلافات وفواصل منيعة في الخلقة، كما أن إله الطبقة الاجتماعية العليا ليس بأقوى من إله الطبقة الاجتماعية السفلى. كل الناس مخلوقات الإله الواحد الأحد، وكلهم متشابهون في جوهر خلقتهم.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} (النساء:1).
ويعني تساوي أبناء البشر في الإمكانات المتاحة لهم من أجل السمو والتكامل.
البشر متشابهون في جوهرهم الإنساني وطبيعتهم الإنسانية، وهذه الطبيعة الإنسانية جُبِلت بيد بارئ حكيم؛ فليس هناك إذاً فرد عاجز ذاتياً عن ارتقاء مدارج الصراط المستقيم نحو السمو والتكامل.
من هنا، فدعوة الله دعوة عامة ولا تختص بشعب معيّن أو فئة خاصة.
الظروف المختلفة لها آثارها المختلفة على الإنسان، لكن هذه الظروف الطارئة لم تستطع أن تصنع من الإنسان بشكل دائم شيطاناً أو مَلَكاً، وتغلّ يديه، وتسلب اختياره، وتسدّ الطريق أمام انتخابه وتغيّره.
{وما أرسلناك إلا كافة للناس} (سبأ:28).
{وأرسلناك للناس رسولاً} (النساء:79).
{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً * فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيُدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً} (النساء:174ـ175).
ويعني حرية جميع الناس من قيود الأسر ومن قيود العبودية لغير الله وهو تعبير آخر عن ضرورة العبودية لله
أفراد البشر الراضخون بشكل من الأشكال تحت سيطرة غير الله (سيطرة فكرية وثقافية، أو اقتصادية، أو سياسية) هم مستعبدون لعباد من أمثالهم بالمفهوم الواسع للعبادة. هؤلاء قد اتخذوا لله أنداداً. والتوحيد يرفض هذا الشكل من الحياة، ويعتبر الإنسان عبداً لله فقط، ويحرره من العبودية والرضوخ لكل نظام، بل لكل عامل مسيطر يضع نفسه مكان الله. فالتوحيد يعني التسليم لله وحده، ويستتبع ذلك رفض كل سلطة غير سلطة الله مهما كان شكلها ونوعها.
{إنِ الحكم إلا لله، أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّم} (يوسف:40).
{وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} (الإسراء:23).
والتوحيد بالمعنى المتقدم يعني تكريم الإنسان وتثمينه.
فالعنصر الإنساني السامي أعظم من أن يخضع ويرضخ لأحد غير الله؛ فالوجود المطلق والجمال المطلق هو وحده الذي يستحق عبادة الإنسان وثناءه وتعشّقه. وهذا النزوع المتسامي هو درجة من درجات السمو.
لا شيء ـ غير ذات الله تعالى ـ يتمتع بمنزلة يستحق فيها عبادة الإنسان ودعاءه. كل الأصنام الجامدة والمتحركة التي فرضت نفسها على فكر الإنسان وقلبه وجسمه، واغتصبت حاكمية الله في حياة إنسان هي رجس وأوثان تُبعد الكائن البشري عن طهره ونقائه الفطري، وتذلّه وتصدّه عن حركته. ولابد للإنسان ـ إن أراد استعادة مكانته السامية ـ أن يجتنب هذه الأوثان ويغسل عن وجوده عار التلوث بعبوديتها.
{فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به ومَن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح من مكان سحيق} (الحج:30 ـ31).
{لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً} (الإسراء:22).
{ولا تجعل مع الله إلهاً آخر، فتُلقى في جهنم ملوماً مدحوراً} (الإسراء:39).
يعني وحدة وانسجام حياة الإنسان ووجوده.
حياة الإنسان مركّبة من الذهن والواقع، من الفكر والعمل؛ وإذا خضع واحد من هذين الجانبين ـ بأجمعه أو بقسم منه ـ لأعداء الله، أي إذا أصبح الذهن إلهياً والواقع غير إلهي، أو أصبح الواقع إلهياً والذهن بعيداً عن الله.
الإنسان في مثل هذه الحالة كمؤشر مغناطيسي ظهر في مجاله المغناطيسي عنصر غريب. المؤشر عندئذ إما أن ينحرف عن اتجاهه الطبيعي انحرافاً تاماً، أو يبقى يتأرجح يمنة ويسرة. أي سوف ينحرف الإنسان عن الصراط المستقيم المتناسب مع طبيعته الإنسانية، ينحرف عن الله.
{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء مَن يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردّون إلى أشد العذاب..} (البقرة:58).
ويعني انسجام الإنسان مع العالم المحيط به.
الساحة الكونية الفسيحة تزخر بقوانين الخليقة، ولا تغرب أدنى ظاهرة طبيعية عن إطار هذه القوانين. وبانسجام هذه القوانين وتعاضدها والتقائها ينتظم شكل الكون ويسود في العالم هذا النظام الرائع المشهود. الإنسان جزء من هذه المجموعة وتتحكم فيه قوانينها العامة، إضافة إلى قوانين خاصة. غير أن هذه القوانين الخاصة متناسبة ومنسجمة أيضاً مع قوانين الظواهر الأخرى.
أما الإنسان، خلافاً لسائر الظواهر الأخرى المسخّرة للحركة على طريقها الطبيعي الفطري، يتمتع بقوة إرادة وقدرة اختيار. وعليه أن يطوي طريقه الفطري الطبيعي عن اختيار، لأنه طريق سموّه وكماله. وهذا يعني أنه قادر على الانحراف عن هذا الطريق الطبيعي.
{فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر} (الكهف:29).
التوحيد يدعو الإنسان إلى السير على طريقه الطبيعي الفطري المنسجم مع كل الكون، وبذلك يربط الكائن البشري ـ باعتباره عضواً أصلياً من أعضاء هذا الكون ـ في عمله وسعيه بسائر أجزاء الكون، ويخلق بذلك وحدة وانسجاماً تامـّين.
{أفغير دين الله يبغون وله أسلم مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون} (آل عمران:78).
{ألم تر أن الله يسجد له مَن في السموات ومَن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} (الحج:18).
ج/ التوحيد على صعيد المناهج الاجتماعية (الاقتصادية والسياسية...):
يسلب من كل مصدر غير الله صلاحية الانفراد بوضع مناهج مستقلة لشؤون الحياة والإنسان.
فالله خالق الإنسان والكون والمصمم لهذا النظام الكوني المنسجم، والعالم بـإمكانات الإنسان واحتياجاته.
الله يعلم بما ينطوي عليه الكائن البشري من ذخائر دفينة وطاقات مكنوزة، وبما ينطوي عليه الكون من كنوز وإمكانات، ويعلم ميزان وأبعاد استثمار هذه الكنوز والإمكانات، ويعلم كيف تلتقي هذه جميعاً مع بعضها.
من هنا فهو وحده القادر على وضع منهج لطريقة الحياة، ولعلاقات الإنسان، ومنهج حركته في إطار نظام التكوين. وهو وحده القادر على وضع قوانين الحياة وتعيين شكل النظام الاجتماعي.
اختصاص هذا الأمر بالله نتيجة طبيعية ومنطقية للخالقية والألوهيـة. فكـل تدخـل مـن الآخريــن ـ إذاً ـ لتعيين المسيرة العملية للبشرية هو تدخل في حاكمية الله، وادّعاءٌ للألوهية، وباعثٌ على الشرك.
{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً} (النساء:65).
{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم ومَن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} (الأحزاب:36).
يسلب حق الولاية على المجتمع وحياة الإنسان من غير الله.
ولاية الإنسان على الإنسان لو قامت على أساس حق مستقل وبدون مسؤولية، لاستلزمت الظلم والطغيان والعدوان. الفرد الحاكم والجهاز الحاكم لا يستطيع أن يتخلص من الانحراف والطغيان والإفراط إلا إذا كانت زمام الأمور معطاة بيد هذا الفرد أو هذا الجهاز من قبل سلطة عليا ضمن إطار مسؤوليات متناسبة. وهذه السلطة العليا في المدرسة الدينية هي الله المحيط بكل شيء علماً.
{لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} (سبأ:3).
{ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} (الحاقة:44).
هذه السلطة العليا لا تنطلي عليها خدعة كما قد تنطلي على الجماهير، ولا يمكن اتخاذها وسيلة للسيطرة والتجبّر كما تُتخذ الأحزاب، ولا يمكن المساومة معها كما يمكن مع علّية القوم وزعمائهم.
وبنظرة أعمق: لو استلزم نظم الحياة انتهاء كل أجهزة الحياة الاجتماعية بنقطة واحدة، وتفرد قوة مسيطرة بمسك زمام جميع الأمور، لما كانت تلك القوة المسيطرة سوى خالق الكون والإنسان.
فالحكم حق خاص بالله، ينفّذه مَن عيّنهم الله، أي أولئك الذين تتجسّد فيهم أكثر من غيرهم تلك المعايير والخصال المحددة في الإيديولوجية الإلهية. وهؤلاء منفّذون وحفَظَة للقوانين الإلهية.
{قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض وهو يُطعِم ولا يُطعَم قل إني أُمرت أن أكون أول مَن أسلم ولا تكونن من المشركين} (الأنعام:14).
{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} (المائدة:55).
{قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس} (الناس:1ـ 4).
ويعني اختصاص المُلكية المطلقة الأصلية لكل نِعَم الكون وذخائره بالله.
ليس لأحد أن يملك ويتصرف مباشرة ومستقلاً؛ كل شيء أمانة بيد الإنسان لاستثماره والاستعانة به على طريق السمو والتكامل. ليس للإنسان المنـعَّم أن يفسد ويتلف نِعَم هذا العالم التي هي ثمرة سعي آلاف الظواهر والعناصر في هذا العالم، أو أن يهمل هذه النِعَم أو يستثمرها في طريق غير طريق السمو الإنساني. ما في يد الإنسان، وإن كان ملكاً له، فهو عطاء إلهي. من هنا، ينبغي أن يتجه استثمار هذا العطاء على الطريق الذي عيّنه الله، أي في طريقه الطبيعي الأساسي، في الطريق الذي خُلِق من أجله في الحقيقة. واستثمار هذا العطاء الإلهي في غير هذا الطريق انحراف عن اتجاهه الطبيعي، إنه الفساد.
دور الإنسان إزاء هذه النِعَم الإلهية المتنوعة هو استثمارها بشكل صحيح، وفتح مغاليق كنوزها، وقبل ذلك إحياؤها والبلوغ بها إلى درجة الكمال طبعاً.
{قل لمن الأرض ومَن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكّرون} (المؤمنون:86 ـ87).
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (البقرة:29).
{اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} (هود:61).
{والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصَل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة} (الرعد:28).
ويعني أن أفراد البشر متساوون في حق استثمار نِعَم الحياة.
الإمكانات والفرص متكافئة أمام جميع البشر ليستثمر كلٌ منهم هذه النِعَم قدر حاجاته وضمن إطار سعيه وعمله. هذه الساحة الكونية لا توجد فيها منطقة خصوصية محصورة بفئة معيّنة. الجميع يستطيعون أن يستثمروا نِعَم الحياة المتنوعة قدر همّتهم وإرادتهم، دون تمايز بينهم في العنصر أو الموقع الجغرافي والتاريخي، بل وحتى في الانتماء الإيديولوجي.
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً}.
{والأنعام خلقها لكم}.
{لكم فيها جمال}.
{تحمل أثقالكم}.
{أنزل من السماء ماءاً لكم}.
{ينبت لكم به الزرع}.
{وما ذرأ لكم في الأرض}.
{لتركبوها}.
{لتأكلوا منه}.
وكل هذه الآيات، من مطلع سورة "النحل" تخاطب جميع البشر دون أن تتجه في خطابها إلى فئة خاصة أو طائفة خاصة، وهي جاءت في سياق آيات أخرى تخاطب جميع البشر أيضاً مثل:
{ولو شاء الله لهداكم أجمعين}.
{وإلهكم إله واحد}.
هذا جانب من المحتوى العميق الواسع للتوحيد. ومن خلال هذا الاستعراض السريع يتضح بجلاء أن التوحيد ليس بالنظرية الفلسفية الذهنية غير العملية المعزولة عن الحياة وعما يرتبط بحركة المجموعات البشرية وبحركة الفرد ونشاطه. التوحيد لا يكتفي باستبدال معتقد بمعتقد آخر..
بل إنه من جهة: نظرة عامة للكون والحياة، تشتمل على مفهوم خاص للعالم وللإنسان ولمكانة الإنسان بين ظواهر العالم ومكانته في التاريخ، ولإمكاناته واحتياجاته ومتطلباته الذاتية، ولاتجاهه ومراحل سموّه وكماله.
ومن جهة أخرى: منهج اجتماعي شامل متناسب مع طبيعة الإنسان، ويستطيع الكائن البشري في إطاره أن يسمو على مدارج كماله بسهولة وسرعة. إنه أطروحة خاصة للمجتمع تتضح فيها الخطوط العامة والأساسية للكيان الاجتماعي.
من هنا، حين يرتفع نداء التوحيد في المجتمعات الجاهلية (المجتمعات القائمة على أساس الجهل بحقيقة الإنسان) والمجتمعات الطاغوتية (القائمة على أساس المعاداة للقيم الإنسانية الحقة) فإنه يحدث تغييراً شاملاً، ينير القلوب المظلمة، ويحيي النفوس الهامدة، ويبعث هزة في جسد المجتمع الراكد، وينظم الشؤون المبعثرة المتناقضة لذلك المجتمع. يحدث التوحيد تغييراً في المحتوى النفسي، والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وفي القيم الأخلاقية والإنسانية.
وبعبارة قصيرة: يهاجم التوحيد الوضع الجاهلي القائم، والسلطة التي تحمي هذا الوضع، والجو الذي يغذي هذا الوضع ويمدّه بالحياة.
التوحيد ـ إذاً ـ ليس فقط أطروحة ترتبط بمسألة نظرية محضة أو مسألة ذات إطار عملي محدود، بل إنه أيضاً طريق جديد أمام الإنسان، يستهدف تقديم أسلوب آخر للعمل والحياة، وإن استند إلى تحليل ذهني ونظري.
انطلاقاً من هذا الفهم لمحتوى التوحيد، نعتقد أن هذا الأصل يشكّل حجر البناء في صرح الدين، ومحتواه الأساس، والقاعدة التي يقوم عليها. فهم التوحيد على أنه نظرة لما وراء الطبيعة، أو أنه على أحسن الأحوال أطروحة أخلاقية عرفانية، هذا الفهم لا يتناسب إطلاقاً مع الإيديولوجية الإسلامية الحية التي تنطوي على أطروحة كاملة للحياة الاجتماعية.
كان هناك على مر التاريخ طبعاً أفراد ـ مع إيمانهم بالله وبالتوحيد ـ غفلوا أو تغافلوا عن المحتوى العيني والعملي ـ وخاصة الاجتماعي ـ لهذه العقيدة. هؤلاء وطّنوا أنفسهم على المعيشة في كل زمان ومع كل الظروف بحيث لا تكاد تميّزهم عن الكافر بالتوحيد؛ أي أن هذه العقيدة لم تبعث فيهم شعور التعارض مع الوضع غير التوحيدي القائم، ولم يثقل كاهلهم عبء الشرك المستفحل في مجتمعهم.
في مطلع الإسلام، كان هناك مجموعة من الحنفاء يعيشون في مكة مركز الوثنية وعاصمة أصنام العرب الكبرى. لكن وجودهم لم يكن له أدنى تأثير على الجو الفكري والاجتماعي، لأن مفهوم هؤلاء الحنفاء عن التوحيد لم يتعدّ أذهانهم وقلوبهم وإطار حياتهم الخاصة، ولم يكن له أدنى تواجد في تلك المتاهات الجاهلية، ولا أقلّ تأثيراً على الحياة المؤسفة القائمة هناك. هؤلاء الذين يُسمَّون بـ"الموحدين" كانوا يعيشون مع غيرهم على ساحة واحدة ويطوون مسيرة تلك الحياة بنفس طريقة غيرهم دون أن يزعجهم شيء. هذا الفهم الذهني للتوحيد يتميز بهذه الصفة من الخمول والانعزال عن الحياة، وخاصة الحياة الاجتماعية.
في مثل هذه الأجواء، أعلن الإسلام مفهوم التوحيد باعتباره عقيدة ملتزمة وتنظيماً للحياة وأطروحة جديدة للمجتمع. وبهذا الشكل أعلن هويته باعتباره دعوة انقلابية لكل مخاطبيه، المؤمنين منهم والكافرين، فكل مَن سمع نداء الإسلام علم أنه نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي جديد لا يتلاءم إطلاقاً مع الأوضاع التي كانت قائمة في العالم آنذاك، بل إنه يستهدف إزالة الوضع القائم وإبداله بوضع آخر.
بسبب هذه الأطروحة، اندفع المؤمنون صوب الدعوة باشتياق ولهفة وولع شديد وأسلموا لها، ولهذا السبب أيضاً هبّ المعارضون والكافرون ليقاوموا نداء التوحيد بوحشية وضراوة، وليصعّدوا عداءهم يوماً بعد يوم.
هذه الحقيقة التاريخية، بمقدورها أن تكون معياراً لتقييم صحة أو عدم صحة ادّعاء التوحيد في كل زمان ومكان. من الصعب أن نصدّق وجود التوحيد في نفوس قوم يشبهون موحدي مكة قبل ظهور الإسلام.
التوحيد المهادن.. التوحيد المداهن مع كل الأنداد والآلهة المزيفة.. التوحيد الذي لا يعدو أن يكون فرضية ذهنية، ليس إلا نسخة ممسوخة لتوحيد الأنبياء.. ومن الطبيعي أن يخلو مثل هذا التوحيد من ديناميكية دعوة الأنبياء.
من خلال هذه الرؤية نستطيع أن نفهم سبب انتشار نور الإسلام وتقدّمه في العصور المتقدمة، وسبب تراجعه وتقهقره وضعفه في العصور المتأخرة.
إسلام رسول الله (ص) كان يضع التوحيد أمام الناس باعتباره طريقاً ومسلكاً، وإسلام العصور التالية طرح التوحيد باعتباره نظرية يدور حولها البحث والجدل في المجالس والمحافل. كان الكلام هناك يدور حول تصور جديد للعالم ونظرية جديدة لحركة الحياة، وهنا الكلام يدور حول مسائل كلامية فرعية خالية من كل عطاء حي. كان التوحيد هناك يشكّل الهيكل العظمي للنظام القائم، والمحور لكل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ وهنا يتمثل في لوحة فنية جميلة معلّقة في صالة، الهدف منها إكمال مظاهر الزينة في الصالة. وأي دور فعال يمكن أن نتوقعه من مثل هذه الظاهرة الكمالية؟!
مما تقدّم يتضح أن التوحيد من منظار عملي أطروحة للمجتمع ومنهج للحياة وقاعدة للنظام الذي اعتبره الإسلام متناسباً مع طبيعة الإنسان ونموّه وسموّه؛ وهو من منظار نظري يشكّل القاعدة الفكرية الفلسفية لذلك النظام.
بعد هذه التمهيدات، نستطيع أن نعود إلى بداية المقال، وندرس المسألة من الزاوية الخاصة التي استهدفناها فيه.
قلنا: إن المجابهات الأولى التي واجهها نداء التوحيد انطلقت من ذوي القدرة والسلطة في المجتمع، وهذا مؤشر يثبت أن الضربة التي وجهها هذا الشعار اتجهت أول ما اتجهت وأكثر ما اتجهت نحو تلك الفئة المقتدرة المسلّطة، أو نحو الفئة المستكبرة على حد التعبير القرآني.
وقلنا: إن الدعوات التوحيدية في مختلف عصور التاريخ، ما أن انطلقت في المجتمع حتى اتخذت موقفها الواضح من المستكبرين. وعلى أثر هذا الموقف، انقسم المجتمع إلى فئتين متناقضتين: الفئة المعارضة المستكبرة والفئة المؤمنة المستضعفة.
وقلنا أخيراً: إن رد الفعل الذي تبديه هاتان الفئتان تجاه رسالة التوحيد هي الخاصة التي تميـّز التوحيد الحقيقي الأصيل. أي أن التوحيد ـ متى ما أُعلن بمفهومه الأصيل وبشكله الصحيح ـ يواجه هذه المجابهات وردود الفعل الاجتماعية.
والآن علينا أن نتفحص أبعاد التوحيد لنرى أي بُعد من هذه الأبعاد يتعارض مباشرة مع مصالح الطبقة المستكبرة ويصطدم مع وجودها. بعبارة أخرى: علينا أن نفهم تلك النظرة التوحيدية التي تستثير المستكبرين وتدفعهم إلى اتخاذ موقف المجابهة الحادة.
تفهّم شخصية المستكبر في القرآن الكريم تعيننا كثيراً على فهم هذا الموضوع.
القرآن الكريم يعطي في أكثر من أربعين موضعاً صورة عن المستكبر، وخصائصه النفسية، ومكانته الاجتماعية، وأهدافه، وأطماعه التوسعية الاستئثارية. وبشكل عام نجد القرآن يحدد للمستكبر الخصائص التالية:
يرفض الله بالمفهوم الذي تعبّر عنه عبارة "لا إله إلا الله" (أي حصر الحاكمية والمالكية المطلقة به تعالى)، وإن لم يرفض الله كحقيقة ذهنية تشريفاتية محدودة الإطار.
{إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} (الصافات:35).
{فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا مَن أشد منا قوة} (فصّلت:15).
{وإذا تتلى عليه آياتنا ولّى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً فبشّره بعذاب أليم} (لقمان:7).
ويتخذ موقف الجاحد والمكذب تجاه دعوة النبي التغييرية التحررية، ويجابهها بحجة أنه أقدر من غيره على فهم الطريق الصحيح، وبحجة أن الله ينبغي أن يخاطبه مباشرة.
{وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه} (الأحقاف:11).
{وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} (الأنعام:124).
ويتهم المستكبرون صاحب الدعوة بأنه يستهدف الحصول على الجاه والمنزلة، كما يتذرعون بالتقاليد البالية السائدة لنظامهم المسيطر للحد من انتشار الدعوة في المجتمع.
{قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين} (يونس: 78).
ويستعينون بالقوة والتزوير وبمختلف سبل الخداع والتضليل لإبقاء الناس تحت سيطرتهم وعبوديتهم، ويدفعونهم إلى مجابهة كل دعوة تحررية.
{وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا} (الأحزاب:67).
{فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مُغْنون عنا نصيباً من النار} (المؤمن:47).
{قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون} (الأعراف:108ـ109).
وأخيراً يعرّضون النبي وأتباعه، الثائرين على النظام المسيطر وعلى الاتجاه الفكري السائد، لأقسى الحملات وأشد أنواع التعذيب والأذى والتنكيل.
{قُتِل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود...} (البروج:3ـ7).
{وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد} (غافر:46).
هذه هي باختصار الخصائص التي يذكرها القرآن الكريم للمستكبرين. وهناك مواضع أخرى تجاوز فيها القرآن رسم الصورة إلى وضع الإصبع على أفراد مشخّصين ينتمون إلى اتجاهات معيّنة.
{ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون ومَلَئه بآياتنا فاستكبروا..} (يونس:75).
{وقارون وفرعون وهامان، ولقد جاءهم موسى بالبيّنات فاستكبروا في الأرض} (العنكبوت:39).
فرعون معروف، وهامان مستشار فرعون الخاص والشخصية الأولى في جهاز فرعون. طبعاً و"ملأ فرعون" هم علّية القوم في هذا الجهاز، والسائرون في ركاب فرعون، ومشاوروه ومساعدوه (راجع الآية 126 من سورة "الأعراف"). وقارون هو صاحب الثروات الطائلة والكنوز التي {مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة}.
وباستعراض عشرات الآيات من كلام الله العزيز بشأن الاستكبار، نستطيع أن نفهم المستكبر على النحو التالي: الجناح المسيطر في المجتمع الجاهلي، الماسك ـ دون استحقاق ـ بزمام السلطة السياسية والاقتصادية. واستمراراً لاستثماره وتسلّطه الجائر، يمسك أيضاً بزمام الأفكار والمعتقدات المسيطرة على الأذهان، ويعمل بأساليب متنوعة على ملء الأذهان بأفكار تدفع الأفراد إلى الاستسلام له وإلى الانسجام مع الأوضاع القائمة. وهذا المستكبر يهبّ لمقارعة كل دعوة إلى التوعية، فما بالك إذا كانت الدعوة انقلابية تغييرية!! حفاظاً على مصالحه بل على وجوده.
والآن نعود إلى موضوعنا الأساسي: كيف عرض الأنبياء عقيدة التوحيد؟
الجواب على هذا السؤال يوضح مواضع الحساسية التي تستثير المستكبر في هذه العقيدة، وسبب حساسيته من هذه المواضع، وسبب عدم قدرة المستكبر على تحمّل عقيدة التوحيد حين تطرح بهذه الكيفية. وجدير بالذكر أن الجواب على هذا السؤال يوضح لنا من جانب آخر أهمية التوحيد باعتباره القاعدة الأساس التي تقوم عليها الرسالة.
نعلم أن شعار التوحيد هو أول نداء يرفعه النبي في المجتمع. النبي الخاتم رفع في مكة شعار: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".
والقرآن الكريم نقل عن أنبياء كرام مثل: نوح وهود وصالح وشعيب و... خطابهم لأممهم، وكان الخطاب يدور حول محور التوحيد.
{يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (الأعراف:59).
هذه الشعارات ـ كما ترى ـ تستند بالدرجة الأولى إلى رفض كل عبودية لغير الله. النبي بهذه الشعارات يهيب بالجهَلَة، الغافلين المنغمسين في أوحال النظام الجاهلي الطاغوتي، أن يكفّوا عن عبودية كل قطب وقدرة غير الله. وهذا يعني أن النبي يبدأ دعوته بـإعلان الحرب على كل الذين يجعلون من أنفسهم آلهة من دون الله.
مَن هم أدعياء الألوهية في المجتمع؟ وما معنى إعلان الحرب على الآلهة المزيفة؟ وما هو الوضع الذي تريد دعوة الأنبياء أن توجده في المجتمع؟
عبارة "أدعياء الألوهية" توحي إلى الأذهان عادة أولئك الذين جعلوا من أنفسهم "إلهاً"، أي أولئك الذين ادّعَوا لأنفسهم تلك القدرة الخارقة التي كان البشر يؤمن بها على مر التاريخ بشكل من الأشكال. وهذا فهم سطحي للعبارة.
كان هناك طبعاً في التاريخ مجرمون تافهون استغلّوا قدرتهم السياسية والاجتماعية، فأوحَوا إلى أفراد أتفه منهم أنهم آلهة، بالمعنى المتقدم، أو أنهم يحملون جانباً من روح الإله؛ ولكن لو ألقينا نظرة على المعنى الواسع لألفاظ "العبادة" و"الربوبية" و"الألوهية" في القرآن، لاستنتجنا أن إطار مفهوم "أدعياء الألوهية" أوسع من ذلك الفهم بكثير.
استعمال مادة "العبادة" في القرآن الكريم يفيد أن العبادة تعني التسليم والطاعة المطلقة تجاه إنسان أو أي موجود آخر. حين نستسلم استسلاماً أعمى لشخص، ونتحرك وفقاً لرغباته وأهوائه وأوامره فقد عبدناه؛ وكل قوة تستطيع أن تخضعنا لها، وتسيطر على أجسامنا ونفوسنا، وتسخّر طاقاتنا وفقاً لرغباتها، فإنها تصيّرنا عبيداً لها سواء كانت هذه القوة داخل أنفسنا، أم في محيطنا الخارجي. ومن أمثلة هذه الاستعمالات القرآنية:
موسى يخاطب فرعون في بداية دعوته معاتباً يقول:
{وتلك نعمة تمـنّها عليّ أن عبّدت بني إسرائيل} (الشعراء:22).
فرعون وبطانته يخاطب بعضهم بعضاً فيقولون:
{أنؤمن لبشرَين مثلنا وقومهما لنا عابدون} (المؤمنون:49).
إبراهيم يخاطب أباه قائلاً:
{يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً} (مريم:44).
رب العالمين يخاطب البشرية:
{ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنـه لكـم عــدو مبين} (يس:60).
الله تعالى يَعِدُ عباده الصالحين:
{والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابـوا إلى الله لهـم البشـرى} (الزمر:17).
وحول أولئك الذين يعيبون على المؤمنين إيمانهم يقول تعالى:
{مَن لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القِرَدة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل} (المائدة:65).
هذه الآيات عـبّرت عن الطاعة لفرعون ولبطانته وللطاغوت وللشيطان بكلمة "عبادة". ومن خلال دراسة جميع آيات القرآن في هذا المجال نخلص إلى أن العبادة في المفهوم القرآني هي: الاتباع والتسليم والطاعة المطلقة أمام قدرة واقعية أو وهمية، طوعاً ورغبة أو كرهاً وإلزاماً، مع الشعور بالتقديس والثناء المعنوي أو بدونه.. هذه القدرة هي "المعبود" وهذا المطيع هو "العبد" و"العابد".
من خلال الإطار العام للمفاهيم المتقدمة يتضح معنى لفظة "الألوهية" ولفظة "الله" باعتبارهما تعبيراً آخر عن كلمة "المعبود":
في النظام الجاهلي المنحرف المنقسم إلى طبقتين: مستكبرة ومستضعفة، أي المنقسم إلى طبقة مسيطرة ماسكة بزمام جميع الأمور، ومترفة طبعاً، وطبقة مهملة مسخّرة ومحرومة لزاماً، وأبرز مظاهر الألوهية والعبودية هي هذه العلاقة غير المتعادلة بين الطبقتين.
من العبث أن نبحث وراء موجود مقدس بشري أو حيواني أو جامد، في دراسة آلهة المجتمعات الجاهلية على مر التاريخ. فأبرز مظهر للمعبود والإله في هـذه المجتمعـات، هـو تلـك الفئـة الـتي تمـارس ـ اعتماداً على ارتباطها بالطبقة المستكبرة ـ عملية إخضاع وارضاخ الجماهير المستضعفة، ودفعها على طريق إشباع نهمها وجشعها.
الدين الواقعي في هذه المجتمعات هو "الشرك"، لأن الآلهة فيها متعددة بتعدد مراكز القوة المسيطرة التي تستثمر الناس على طريق أهوائها.
الشرك هو تأليه أفراد إلى جانب الله أو بدلاً من الله. وبتعبير آخر وهو: إيكال أمور الحياة إلى غير الله. وهو الاستسلام أمام كل قدرة غير الله، والاتجاه نحو هذه القدرة لدى الحاجة، والسير على طريقها.
التوحيد يقع في النقطة المقابلة للشرك تماماً: يرفض كل هذه الآلهة، ويرفض التسليم لها، ويقاوم سيطرتها، ويحصّن القلوب من الركون إليها، ويدفع إلى إزالتها وطردها، ويشد الكائن الإنساني بكل وجوده إلى الله.
أول شعار رفعه رسل الله هو ذلك الرفض وهذا التسليم:
{ولقد بعثنا في كل أمّـة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36).
{وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبياء:25).
الأنبياء إذاً أعلنوا زوال النظام الجاهلي الفاسد المنحط بهذا الشعار. وبهذا الشعار أيضاً دَعَوا إلى كفاح مرير للطواغيت، أي لحماة هذا النظام وللمستهينين بالقيم الإنسانية الأصيلة ولأصحاب تلك القيم التافهة المساندة للظلم والظالمين.
رفض الشرك هو في الواقع رفض لكل الكيانات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المقوِّمة للمجتمع الجاهلي، والمتخذة من مذهب الشرك غطاءاً وتبريراً لوضع المجتمع المهزوز.
رفض الآلهة المزيفة، يعني طرد كل الذين دأبوا على استضعاف الجماهير، واستغلالها عن طريق القوة والتزوير، من أجل إشباع غرائزهم وأهوائهم الجامحة.
موسى اتجه إلى حرب فرعون بهذا الشعار.. نعم لقد تردد على ألسن بطانة فرعون مسألة رفض موسى لآلهتهم التقليدية:
{وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك} (الأعراف:127).
غير أن فرعون ومَن لفّ لفّه كانوا يعلمون جيداً أن تلك "الآلهة"، أي الأصنام الجامدة ليست إلا غطاءاً وتبريراً لألوهية فرعون وأتباعه. الصنم الجامد كان في الحقيقة تبريراً لتأليه الأصنام الحية، لذا كان من المنطقي تماماً أن يقف فرعون من دعوة موسى، أي من الدعوة إلى الله الواحد الأحد بارئ السماوات والأرض، موقف المهدد بالسجن وبقتل مَن آمن به وتعذيبهم:
{قال لئن اتخذتَ إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} (الشعراء:29).
{قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون} (الأعراف:126).
{لأُقطّعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأُصلّبنّكم أجمعين} (الأعراف:123).
كل هذا التعنت والتصلب أمام اسم "الله" ودعوة التوحيد، يعود إلى أن هذا النداء لا يعني إلا:
الإيمان بحاكمية الله وحدها على الحياة...
ورفض الآلهة المزيفة...
والارتباط به وحده وتمزيق كل قيود العبودية الأخرى...
وهذه هي روح التوحيد وأبعاده البنّاءة النابضة بالحياة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته - دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)
دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (علیه السلام)
بحث لسماحة ولي أمر المسلمين (دام ظله)
بسم الله الرحمن الرحيم
… ليس علي بن أبي طالب بالشخصية التاريخية فحسب، وإنما هو أمير المؤمنين، أي بالنسبة لنا الأسوة والقدوة والنموذج، ونموذج للحكومة التي ينبغي على حكامها وقادتها أن يقتدوا بسلوكه ومنهجه، وعلى الإسلاميين أن يتخذوا سلوك ومنهج علي بن أبي طالب قدوة ونموذجاً لهم. واليوم حيث أنعم الله علينا بقيام الجمهورية الإسلامية والتي أثبتت جديتها في العالم وذلك بفضل جهود المسلمين والتضحيات الجسام التي بذلت، على الأشخاص الذين يمسكون زمام أمور الحكومة الآن والذين سوف يتولون ذلك في المستقبل أن يعملوا وأن يخططوا لأجل تحقيق هذا النموذج؛ فالقدوة في المجتمع هي لأجل صنع وإحياء الفرد المسلم، وهذا ما كنا نفتقده طوال زمان النظام الشاهنشاهي المشؤوم الذي لم يتح مجالاً لهذا العمل، بحيث نحيا حياة إسلامية ونبقى مسلمين، أما اليوم فعلينا أن نغتنم هذه الفرصة في ظل وجود نظام الجمهورية الإسلامية.
إن شخصية علي (ع) مؤهلة لأن تكون القدوة لصنع وإحياء الفرد المسلم، وكذلك لنعلم كيف يحيا المسلم، وبناء على هذا فإذا أردنا أن نتحدث عن أمير المؤمنين لا ينبغي أن يكون للتيمن والتبرك بذكره فقط، بل للتعلم منه والاستفادة من مشعل نوره لحل المشكلات ولإزالة العوائق التي تمس الآن بالجمهورية الإسلامية، حيث الآن تواجه مشكلة في مواجهتها للقوى الاستكبارية في الشرق والغرب وعدم انسجامها مع الأطماع الإمبريالية والاشتراكية.
إن كل المتتبعين والعارفين بالمسائل والأحداث السياسية في العالم يعرفون أن الثورة تبتلى بمشاكل وتواجه صعوبات، هذا أمر طبيعي، لكن على كل الأحوال يجب علينا في مقابل هذه المشاكل أن نجد طريق الحل، فعندها يصبح للمشاكل نهاية وللعقد حلول ميسرة. ولكي نهتدي إلى سبيل النجاة نرجع إلى حياة أمير المؤمنين التي سوف تفتح لنا باب الحل.
أتعرض هنا إلى ما يتعلق بجوانب شخصية أمير المؤمنين، إلى شكل حكومته وقيادته، ثم علينا فيما بعد أن نطابق حياتنا ومنهجنا في العيش مع علي (ع). والآن إذا أردنا أن نقف على المحطات البارزة واللامعة في حياة مولى المتقين وأن نتعرف على شخصيته وحكومته، أظن أنه علينا أن ندرس نقطتين أساسيتين وحساستين، وأتصور أن شخصية أمير المؤمنين (ع) بعنوان أنه الحاكم وخليفة رسول الله (ص) تدخل في صلب هذه النقاط. طبعاً لن نتعرض في هذا البحث إلى شخصية علي (ع) المعنوية والعرفانية، تلك الشخصية التي كانت دائماً مرتبطة بالفيض واللطف الدائم لله سبحانه، بل سنتحدث عن علي (ع) كحاكم إسلامي حكم الأمة الإسلامية لفترة من الزمن؛ ولكي نتعرف على شخصية وأسلوب هذا الحاكم بشكل واقعي سأتحدث اولاً بشكل كلي ومجمل، أشرع بالتفصيل.
النقطة الأولى: البارز في حياة أمير المؤمنين كحاكم هو التزامه وتعبده الكامل بما جاء به الإسلام وما ورد في شريعته؛ فأمير المؤمنين تربى في كنف الإسلام، وفي الوقت الذي كان الرسول يتولى الحكومة ويتحمل الأذى والمصاعب في سبيل الإسلام كان علي (ع) الشاب المقاتل المقدام الذي لم يجلس في بيته وينتظر وقوع الحوادث، بل كان حاضراً في كل المواجهات والتحديات؛ فلقد سخر كل إمكاناته وكمالاته الإنسانية في خدمة الإسلام، حيث شارك في كل الحروب والغزوات التي جرت في زمن رسول الله (ص) باستثناء حرب واحدة لم يشارك فيها بناءً على طلب الرسول، حيث طلب منه البقاء في المدينة. فقدم حياته للإسلام، وكان حاضراً دائماً ليضحي بروحه دفاعاً عن الإسلام.
وفي ذلك اليوم الذي اجتمع فيه المسلمون على شخص غير علي (ع) ليسلموه الإمرة والخلافة، حيث اتبع جمع الناس مجموعة صغيرة انسلخت لتبايع غير علي (ع)؛ وعلي الذي كان يرى ويعلم بأن الخلافة من حقه وهو اللائق بها، وكان يستطيع إن أراد أن يواجه أولئك ويقوم بدعوة الناس وتحريضهم، لم يقم بذلك وضحى لمصلحة الإسلام. وكذلك فَعَلَ أيضاً بعد وفاة الخليفة الثاني، حيث قال له أعضاء الشورى الستة اقبل بالعمل طبق سنة النبي وسيرة الشيخين حتى نبايعك، ولكنه (ع) رفض ذلك؛ فهذا مخالف لما يؤمن به ويتعارض مع تكليفه والتزامه. وأدى هذا الرفض به إلى أن يتأخر عن تسنّم الخلافة 12 عاماً أخرى. وطوال فترة حياته التي سبقت تسنّمه الخلافة كان دائماً يجاهد ويتحرك في سبيل خدمة الإسلام والشريعة، لذا فمن الطبيعي أن يعمل على تطبيق الأحكام الإسلامية حين تسنمه للخلافة وعلى تحكيم الثوابت الإسلامية، وهذه الخصوصية الأولى للأمير (ع). وأنتم إذا أردتم أن تقارنوا بين علي وبين الأشخاص الذين وقفوا في وجهه، ستجدون فرقاً أساسياً؛ فعلي (ع) لم يكن حاضراً إلا ليتحرك ويعمل لأجل الإسلام الذي قد عرفه وآمن به.
النقطة الثانية: ـ والتي أتمنى أن تلتفتوا لها جيداً وقد كررتها مراراً ـ هي أننا اليوم بحاجة أكثر من أي يوم مضى لمعرفة المباني الإسلامية والقرآنية والدينية. فنحن علينا جميعاً اليوم أن نتعلم ونفهم الإسلام ماذا يريد وكيف يطرح فكره في كل الميادين والمجالات. إن المسألة الأساسية اليوم هي التعرف على الإسلام، وإحدى الطرق التي نفهم من خلالها الإسلام ونستطيع أن ندرك ما يريده منا هي معرفة سيرة ومنهج الإلهيين ومن جملتهم أمير المؤمنين (ع)، لذا نتحدث اليوم عن أمير الؤمنين لا لنبين مزايا هذه الشخصية التاريخية الإسلامية فقط، بل لأجل معرفة وبيان الإسلام، فإننا نعرف الإسلام من خلال علي (ع).
ننتقل الآن إلى النقطة الثانية في شخصية أمير الؤمنين والتي ترتبط بكونه حاكماً إسلامياً؛ فعلي الحاكم لم يكن مستعداً على الإطلاق أن يهادن ويصالح الأشخاص الذين لم يكونوا يتحركون في ضمن خطه ومسيرته، أي الذين لم يتحركوا في خط الإسلام وفي سبيل الله، وحياة علي تشير إلى ذلك؛ فعلي ـ تلميذ النبي ـ لم يكن مستعداً للمسايرة، كالنبي نفسه، الذي كان يتحرك في سبيل تحقيق الأهداف المقدسة. وحياة النبي كلها شاهدة على رفض المهادنة والأهواء والأنانيات، ولو كان أمير المؤمنين (4) مستعداً أن يهادن لكان استطاع أن يحد من نفوذ القادة والشخصيات المعادية له والبارزة في وسط الناس والتي تتمتع بقدر من الاحترام لديهم، وأن يخرس ألسنه الذين انتقدوه، ولو كان أيضاً مستعداً أن يخفف من مواجهته لأعداء الإسلام والحكومة الإسلامية، فمن المؤكد لم تكن لتواجهه كل هذه المشاكل والمصاعب. وهنا كان امتياز علي (ع) الحاكم، عن غيره من الحكام، فأولئك كانوا مستعدين أن يتخالفوا مع أي طرف ضد عدوهم؛ فنرى معاوية وعمرو بن العاص المتنافسين والمتخالفين مع بعضهما، يقفان جنباً إلى جنب لمواجهة علي (ع). وكذلك إذا نظرنا إلى طلحة والزبير من جهة وإلى معاوية من جهة أخرى، فلقد كانوا متعادين، لكنهم كانوا مستعدين أن يتحدوا وأن يقفوا جنباً إلى جنب لمحاربة علي بن أبي طالب (ع)، بينما رفض علي (ع) أن يتحالف مع طلحة والزبير ضد معاوية. فبالنسبة لأمير الؤمنين هذا التحالف مخالف للنهج الإسلامي، معاوية عدو ومخالف وبنفس الدليل فطلحة والزبير أعداء لا يمكن مسايرتهم والتحالف معهم. هذه أيضاً من خصوصيات علي (ع).
قال أمير الؤمنين (ع):
"فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ، ينثالون عليَّ من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم"! وفي مكان آخر يقول: "والله لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما آخذ الله على العلماء من أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت أخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز".
إن علينا اليوم أن نأخذ الدروس والعبر من سيرة أولئك المعلمين للبشرية، الأئمة بالحق (ع)، ننهل من كلماتهم الهادية والمضيئة دروس الحياة والإخلاص والتضحية كي يعم عدل الإسلام في هذا العالم.
ما أريد أن أتناوله هنا هو خطبة أمير الؤمنين التي ذكرتها في المقدمة والمسماة بالخطبة الشقشقية، لكن قبل ذلك أود أن أنقل حادثة، ولعلكم سمعتموها عن أمير الؤمنين (ع)؛ ففي إحدى الحروب التي خاضها (ع) وفي وقت هدنة قصيرة، جلس (ع) في خيمته مشغولاً بتجهيز نفسه للهجوم المقبل، فدخل عليه ابن عباس فوجده منهمكاً بخصف نعله، فالنعل يجب أن يكون محكماً بشدة للتحرك بسهولة وسرعة في الحرب، وأمير المؤمنين (ع) كان قد انتهز هذه الفرصة كي يصلح نعله المقطع، مع العلم بأنه كان حينها حاكماً للبلاد الإسلامية المترامية الأطراف والقائد العام للجيش الإسلامي الكبير. هذا الحاكم الذي كانت تحت ولايته إيران وأفغانستان والعراق ومصر واليمن، ما عدا الشام، هذا الإمام كان منشغلاً بخصف نعله! تأمل ابن عباس ملياً في المشهد الذي يحمل لشخصٍ متيقظ القلب مثله الكثير من الدلالات والمعاني.
التفت الإمام (ع) إلى ابن عباس ليسأله: ما قيمة هذه النعل؟ وبالطبع لم يكن لها قيمة وهي جديدة، فكيف وهي بالية، يصلحها من لا شأن له بهذه المصلحة (الأسكافية)؟! أجاب ابن عباس: لا قيمة لها.
فعندها قال أمير المؤمنين (ع):
"والله لهي أحب إليَّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً وأدفع باطلاً".
فما معنى هذا؟! إنه يعني أنها إمرةٌ وولاية ذات هدف، هي حكومة الدين؛ فالإمام يقصد أني لست مولعاً بالرئاسة ولا أريدها، ولكن هذا القبول بمقام الخلافة والإمارة لا أتركه كوني بواسطته أرتقي بالمجتمع الإسلامي وأديره لأقيم فيه الحق وأدفع الباطل… وهكذا كان…
فلنعد الآن إلى الخطبة الشقشقية التي يبين فيها الأمير (ع) مجرى الأحداث المتعلقة بالخلافة منذ وفاة النبي (ص)، إلى أن وصلت هذه الخلافة إليه (ع)، فيقول:
"وما راعني إلا والناس… حتى وطئ الحسنان…"
يعني كان إلحاح الناس واحتشادهم علي، رغبة بي، إلى هذا الحد، وذلك كي يقبل بالخلافة، ويقبل أخيراً، ولكن لماذا؟
يوضح الإمام علي (ع) هدفه الذي قبل لأجله حيث يقول:
"والله لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها…".
فالحكومة بحسب الرؤية الإٍسلامية ليست سوى عبادة في هدفها ومنطلقاتها؛ فأمير المؤمنين (ع) قبل بالخلافة لعدة أمور:
أولاً: طلب الشعب وإصراره على ذلك. وهو عامل أساسي ومصيري في تسنّم الخلافة.
ثانياً: قيام الحجة بوجود الناصر، فهو (ع) يرى دعماً ومساندة يستطيع بواسطتها أن يحقق أهدافه، ولو لم ير ذلك لما قبل.
ثالثاً: ما أخذ الله على العلماء؛ فأمير المؤمنين لكونه عالماً فهو مسؤول أمام الله سبحانه وتعالى أن لا يرضى بالظلم وأن ينصر المظلوم.
تلك هي المعايير التي جعلت أمير المؤمنين (ع) يقبل بتولي الخلافة.. واليوم فإن من لا يؤمن بالله ولا يقبل بالإسلام كبرنامج للحياة وتكون أفكاره وآراؤه مستوردة من الأفكار القومية أو المادية الإلحادية أو ما يمكن تسميته بالإسلام الالتقاطي، مثل هكذا شخص ممن ليس لديه فكر إسلامي إلهي لن يكون قادراً على تشكيل حكومة إلهية، والتي إن لم توجد فلن يوجد مجتمع إسلامي أبداً. هنا أطلب منكم أن تتحلوا بالوعي واليقظة في النظر للأمور، فأنتم اليوم عندما تنظرون عن بعد إلى تاريخ صدر الإسلام تشاهدون بأم العين علي بن أبي طالب كرجل عظيم وصاحب حق، بينما معاوية يظهر كشخص وضيع… أما في تلك الأيام التي جرت فيها الحرب بين أمير المؤمنين (ع) ومعاوية فقد كان هناك أشخاص من صحابة النبي (ص) ممن لايزال يقاتل مع معاوية، ولعل بعضهم كان من المؤمنين. من كان يظن بأنه يقوم بعمل جيد وصالح بحيث كان يقول: معاوية خال المؤمنين! ففي ذلك الوقت كان الوعي والدقة أمراً مطلوباً بشدة، فمن كان يملك الوعي؟
عمار بن ياسر نموذج من أولئك الذين تمتعوا بالوعي؛ فقد جمع بعض الذين اشتبهت عليهم الأمور فقال لهم: "أقسم بالله أني رأيت هذه الراية، نفسها التي يقف تحتها اليوم معاوية ضد علي (ع)، في معركة بدر حيث كانت يومها مع أبي سفيان". فإن الوعي والدقة ما يلزمنا دائماً.
إن روح تاريخنا إنما هي في ذكر سيرة أئمتنا، فلو لم يكن في تاريخ التشيع هذه الشخصيات العظيمة كأمير الؤمنين والحسنين والزهراء (ع)، لما بقي أثر للتشيع يذكر في أيامنا هذه، بل ولا أثرٌ للإسلام نفسه، اللهم إلا في طيات بعض الكتب.. هذا الإسلام، إنما حُفظ لنا بذكر علي، وبجهاد هؤلاء العظام وشهادتهم (ع).
وكما تعلمون فإن مشاعر الناس وأحاسيسهم المنبعثة من حبهم لأهل بيت النبوة (ع) تتفجرلتصل إلى ذروتها ذكرى أفراح أو أحزان آل محمد (ص)، ويُصادف اليوم الذكرى الدامية لضرب الرأس الشريف لأمير المؤمنين، هذه الليلة الحزينة.. المظلمة في الكوفة، لن تتصوروا كيف كانت هذه المدينة في تلك الليلة؛ كل الناس كانوا أصحاب العزاء فقد رحل المواسي، المؤنس، كان علي هو من يعزيهم في الماضي، ذاك الذي كتب يوماً إلى أحد ولاته "… أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر". كان الإمام شريك الناس في كل الآمهم وهمومهم، مذكراً في وصيته "الله الله في الأيتام". كان (ع) السباق في رعاية الأيتام؛ فاليتيم أشد حاجة للعطف والحنان، محروم من تلك البسمة الأبوية العامرة بالمحبة، محروم من مداعبة أبيه له، فمن يملأ هذا الفراغ؟
علي (ع)، يسير ليلاً بين تلك المنازل التي كان يعرفها ويعرف أحوال أهلها، حاملاً إليهم الطحين والأرز والزيت، ومساعداً لهم، بإشعال التنور أحياناً.. ملاطفاً الأيتام؛ يجلسهم في حضنه، يلاعبهم كي لا يشعروا بالحزن والكآبة. عظمة علي معروفة ومشهورة في الحرب وساعات الوغى، لكن الأهم والأعظم مواساته وخدمته للأيتام والمحرومين، في دموعه المليئة عطفاً وحناناً.
في تلك الليلة.. في ليلة العشرين من شهر رمضان، انتظره الأطفال الذين كان يجلسهم على ركبته ويمسح على رؤوسهم بكل لطف، يطعمهم بيده.. انتظروا ذلك الرجل.. لكنه لم يأت… في تلك الليلة عرفوا من هو… ولعلكم سمعتم بما جرى عندما طلب الطبيب المعالج للأمير (ع) إحضار الحليب لعله يدفع أثر السم كيف أن عشرات الأطفال الأيتام أتوا من كل أنحاء الكوفة يحمل كل منهم كوباً فيه حليب واندفعوا نحو منزل الإمام يريدون رد الجميل وشكره على محبته ورعايته وحنانه… ولعلكم سمعتم أيضاً عن ذلك العجوز الأعمى الذي كان في تلك الليلة يئن من الوحدة وألم الجوع فسأله بعضهم: فكيف كنت تصنع في الأيام السابقة؟! فذكر لهم أن رجلاً كان يأتي إليه يواسيه ويطعمه بيده.. وأخبرهم بمواصفات ذاك الرجل.. الذي ما كان سوى علي (ع)… هذا الإنسان المتعدد الأبعاد، والذي كان حقاً كما وصفه الرسول الأكرم "ياعلي أنت فاروق الحق والباطل"؛ فكان الملجأ والحامي لكل من يشعر بالضعف والحاجة الوحشة؛ هذا الإنسان الذي كان يقع مغشياً عليه في محراب العبادة من خشية الله، هو نفسه الحاكم الذي لم يتحمل وجود والٍ ظالم كمعاوية، وهو نفسه من وبخ أحد الولاة وكان من أصحابه، لأنه أسرع في تلبية دعوة أحد الأشراف إلى الضيافة والولائم.
وهو الحافظ لبيت المال، بحيث أنه وفي الليلة الأولى لاستلامه الخلافة يطفئ المصباح كي لا يصرف من بيت مال المسلمين، وكي ينبه بعض الصحابة المدعين ويحذرهم من سوء أعمالهم.
هذا الإمام كان مظهراً للدفاع عن البشر وحقوق الإنسان واحترامه، وهذا هو الإسلام الذي يتجلى بالتوحيد بكل أبعاده وإكرام الإنسان وعزته، وبالمساواة وروح الأخوة بين جميع الناس.
ومن يخرج عن هذا النهج فلا يعدّ مسلماً حقاً وإن لم يخرج ظاهراً، فإن قلبه لم يؤمن بعد بالله والقرآن إيماناً كاملاً.
ومن يكن أسيراً للآمال والأهواء والانجذاب نحو حياة الترف والوجاهة المليئة بالزبارج والزخارف ويطلب من المسؤولية والسلطة المال فقط ويرغب في المظاهر الفارغة (سيارة من طراز السنة…) وإظهار القوة والقدرة… مثل هكذا شخص لا يمكن أن يدعي بأنه خليفة لعلي (ع).. يجب علينا جميعاً أن نحفظ هذا المعيار دائماً كوننا ننادي بعلي ونبحث عن نهجه.
كان هذا كلامنا وخطابنا وقد سمعتوه منّا منذ عشرين أو ثلاثين سنة، لم يتبدل ولم يتغير.. والآن يظهر جلياً أنه لم يكن ادعاءً أو شعارات فارغة، وما زلنا أمام امتحان واختبار، ونحن الذين حتى الأمس القريب كنا نقول لكم أظهروا ما تعتقدون به وتعلّموا واعلموا بكل هذا في ساحة حياتكم الفردية؛ فاليوم أيضاً نعيد نفس الكلام ونذكركم بنفس المطالب كي يصبح مجتمعنا مقتدياً بمثال علي بن أبي طالب (ع). فهذا ذكر علي (ع) ومن عنده نبدأ ونتقدم، فالإسلام إنما ينبع منه (ع).
ذلك اليوم الذي كنا نعيش فيه تحت ظل الحكم الطاغوتي، لم تكن الأعمال ذات الطابع الفردي ذات تأثير أو أن تأثيرها في تغيير الأوضاع كان ضعيفاً، وقد كنا حينها (أنا وكثير من العلماء المنسجمين بالمنهج والفكر) على هذا الاعتقاد وهو أن لا نحدث الناس ولا ندعوهم بدون وعي إلى الأخلاق بل إلى الأخلاق التي تدفع الناس إلى حمل السيف لمقاتلة أسرة بهلوي. فالأخلاق هي ذلك الشيء الذي يدفع الناس للجهاد والمواجهة وتحفيزهم للقيام ولاقتلاع غدة الفساد. وهذا الوضع يشبه الجسم، حيث إذا بقي جهازه الهضمي مريضاً فإن كل ما يتناوله من غذاء أو أدويه لا ينفع ولا يجدي، فلا بد من العمل الجراحي مهما رافقه من ألم ونزيف ومعاناة. فإن النهاية سيعقبها الصحة والعافية والسلامة، وما لم يقم الإنسان بهذه العملية فصحيح بأنه لن يتألم من العملية، ولكنه في الحقيقة سوف يتجه نحو الضعف الكلي والموت. بهذا المنطق كنا نعمل ونتكلم، والآن هذا التوجه نفسه ما زلنا ندعو إليه.. فقد أُجريت العملية وزال وجعها وحان وقت تناول الغذاء المفيد والأدوية المقوية لجسم مجتمعنا، في ذاك الوقت كنا نطلب منكم الجهاد والمواجهة الثورية، واليوم بعد أن هزمتم الطاغوت الحاكم، صارت ساحة جهادكم هي الساحة الأخلاقية والاهتمام بتقوية العبادات والفرائض والاطلاع على المعارف الإسلامية؛ مجتمعنا اليوم بحاجة ماسة للجانب الأخلاقي (وهذا لا يعني إهمال الشأن السياسي) بل ان العمل السياسي يبقى واجباً، ولكن عليكم عدم الاكتفاء بهذا وعدم الغفلة عن الاهتمام بالأخلاق والعبادة وتعلم القرآن والمعارف الإسلامية، وإحياء مثل هذه الليالي (من شهر رمضان) بأدعية أبي حمزة الثمالي ودعاء الافتتاح.
إذن فاليوم هو يوم الاهتمام والتوجه لمثل هذه الأمور؛ ففي مجتمعنا الآن مشاكل كثيرة في سلوك الناس، إحداها أن الآباء والأمهات لا يلتفتون إلى مسألة إعطاء القيمة والتشجيع لأبنائهم الشباب والفتيان…
ونقول لهؤلاء الأهل دعوا أولادكم، ليتعلموا المعارف الإسلامية وليشاركوا في الأنشطة الإسلامية، فالمئات من الشباب وخاصة من الفتيات كتبوا إليَّ يشكون من أن أهاليهم أنهم لا يسمحون لهم بالذهاب إلى صلاة الجمعة! مع أن هذه الصلاة هي مناسبة لتلاحم ووحدة هذه الأمة وليس عبثاً تأكيد الإمام المتكرر على ضرورة المشاركة فيها، بحيث إن المؤمنين الصادقين كانوا يأتون إليها ويفرشون سجادات الصلاة على الثلج في الشوارع شتاءً، وعلى الإسفلت الحار صيفاً، ولا يتركون هذه الصلاة بأي حال.
إذن دعوا شبابكم ليأتوا ويتعلموا، وإن رغبوا مثلاً بالانضمام إلى قوات الحرس الثوري، دعوهم واسمحوا لهم ليلتحقوا بالحرس ويكونوا في خدمة الإسلام.
هذا واجب الأهل، ولكن ما هو واجب الأبناء؟ ان عليهم احترام آبائهم وأمهاتهم، ولأهمية هذه المسألة نلاحظ كيف أن كثيراً من التفاصيل في المسائل الأخلاقية لم تُذكر في القرآن، أما مسألة احترام الأهل فقد ذكرت مراراً وهذا يدل على مدى أهميتها… لذا نوصي الشباب: أن احترموا أهاليكم، وإن رأيتم أن مستوى فهمكم للأمور أعلى من مستواهم فلا تغتروا بذلك، لأن هذا الفهم والوعي الذي لديكم الآن لم يكن ليحصل لولا التحولات التي أوجدتها الثورة، وكونوا على ثقة بأن أولادكم أنتم سوف يصيرون أيضاً أفضل منكم وأكثر وعياً ولن تكونوا حينها في مستوى فهمهم، وسوف ترون اللامبالاة والفتور تجاهكم.
فيجب أن يكون هناك التفاهم والانسجام سائداً بين الأهل والأبناء… فالأبناء يعاملون أهلهم بالحسنى، والأهل بدورهم يفسحون المجال أمام أبنائهم للتكامل والنضج، وأود أن ألفت النظر في هذا المجال أن خاطفي الأولاد من أهلهم اليوم كثر، وطبعاً لا أعني الخطف والسرقة للأطفال الصغار، وإنما أعني أولئك الذين يسلبون عقول وقلوب شبابكم.
واليوم أيضاً نرى في مجتمعنا بعض الوقاحات التي زادت، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن ينالوا من مقام إمام هذه الأمة وقلب العالم الإسلامي النابض وأعظم ثوريي في هذا العصر رغم ادعائهم الثورية.. أولئك هم سارقو عقول وقلوب شبابكم فاحذروهم وراقبوهم. أريد أن أسال من هو ذاك الذي كان يقاتل في كردستان؟ هو نفسه الذي كان يتكلم اللهجة الطهرانية أو الأصفهانية أو المشهدية ثم يرمي القنابل والقذائف الصاروخية على قوات الحرس، من أين أتى هذا الشاب؟! من بيتي ومن بيوتكم!! ومن الذي جعله ينفر من الإسلام؟! من الذي أبعده عن الإسلام وإيران والاستقلال والثورة والجمهورية الإسلامية؟! دققوا وابحثوا كي تعرفوا من. وإن لم تعرفوا فالإمام قد عرفه لنا… هو عبارة عن تلك المجموعات من المنافقين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "مجاهدي خلق"، فكونوا على حذر منهم وراقبوهم كي تبعدوا أولادكم عنهم، وهذا لا يكون بإخفاء الأولاد وإبعادهم عن الساحة، أو بمنعهم عن المطالعة وقراءة الكتب؛ فهذه الأساليب غير ناجحة.. بل اسعوا لتعرفوا أبناءكم وبناتكم ولترشدوهم إلى النهج الحقيقي والصحيح للفكر الإسلامي والقرآني، إلى التيار المتعمق والمتخصص بذلك الفكر، أصحاب الفهم العميق بالقرآن والإسلام، أولئك الذين أمضوا أعمارهم في البحث والتدقيق والدراسة، هم الذين يستطيعون أن يمنعوا سارقي العقول من أن يعبثوا بأفكار أبنائكم ويحرروهم منهم، فهؤلاء المدعون لا يطرحون سوى "إسلام" التقاطي مقطع أربعين قطعة وكالأكلة المخبوصة، مؤلف من أفكار ملتقطة من كل مدرسة في هذا العالم أو تيار في الدنيا.
ولهذا ترون أن هذه المجموعات الفاسدة والمنحرفة أشد عداوة للتيار العلمائي ولا تواجه فئة بالقدر الذي تواجه فيه فئة العلماء. واليوم في إيران فإن بعض العملاء والخونة والجناة يقولون انهم يريدون اقتلاع العلماء من الجذور! وأكثر من هذا فإن بعض الشباب الذين قاموا لمواجهة أمريكا والشاه، أيضاً فإنهم صاروا يتفوهون بنفس هذا المنطق! فما السبب الذي جعل هؤلاء يشنون الحملات على العلماء ويوهنون مقام "العالم"؟! السبب هو أن العالم العارف بالهداية ونشر الأصالة الإسلامية يستطيع بسرعة أن يفضح هؤلاء ويكف أيديهم وتأثيرهم فيقول لذلك الشاب ويؤكد له أن ما تسمونه "توحيد" مثلاُ وتعتقدون أنه صحيح يشبه كل شيء إلا التوحيد! وإن ما ابتدعتموه من فلسفة وأفكار لا شأن لها بالإسلام. لذلك كله فإن هؤلاء العملاء يشوهون صورة العالم في أعين الناس.
وهنا أشير إلى مسألة بخصوص العلماء ويعرفها الذين سمعوا خطاباتي وعرفوا أفكاري منذ سنوات عديدة، بأنني كنت من أوائل المنتقدين لبعض العلماء وأساليبهم الخاطئة وللمتظاهرين بذلك، وقد رفعت صوت النقد لهم في قلب الحوزة العلمية في مشهد أمام مئات الطلبة والفضلاء والمدرسين، ففي درس التفسير ذكرت هذا كي أؤكد بأني لا أريد أن أدعم وأروج بشكل مطلق لكل من وضع على رأسه العمامة، لكني أشعر بخطر كبير، هذا الخطر نفسه الذي ذكره الإمام وقلب الأمة الناطق الذي لا يرد عليه أحد. وقد أكد مراراً كثيرة هذا المطلب، وأنتم تعلمون أن هذه الثورة قد اشتعلت شراراتها الأولى على يد العلماء الذين هم محل ثقة الشعب، وانتشرت من مركز الحوزات العلمية إلى سائر أنحاء إيران. وهؤلاء العلماء هم الذين حفظوا فكر الثورة وحماسة الناس وثوريتهم ونهوضهم. إن فراشات شمعة هذه الثورة هي نفسها الخطب النارية التي أرشدت الشباب وحركتهم وانطلقت بهذه المسيرة فكانت محرك الثورة، كان هؤلاء العلماء يعبئون الجماهير ويشعلون حماسهم بآيات القرآن وخطب نهج البلاغة وبيانات الإمام، وكما تعلمون فإنه وبعد انتصار الثورة قد استلم بعض العلماء مسؤوليات ومهام حكومية بأمر من الإمام، وانطلقوا ليأخذوا المواقف الصلبة في مواجهة أمريكا وروسيا والتيارات الرجعية الوافدة إلينا من الخارج. ولو لم يؤد هؤلاء العلماء المجاهدون تكليفهم في هذه المواقع لما رأينا اليوم كيفية النظر إلى مسألة رهائن السفارة الأمريكية مثلاً بهذا النحو، وكذا مسألة التعاطي مع أمريكا. لو لم يتصد العلماء لرأيتم اليوم المستشارين الأمريكيين يتجولون في الشوارع عندكم بحرية، هم وقتلة إخوانكم المظلومين، الذين مازالوا إلى الآن يتآمرون.
فعليه، من قاوم منذ البداية هو العالم، ومن صمد قبل الجميع هو العالم. ولا أتعرض هنا لأحد، ولكن أذكر أين كانت مواقع الآخرين في هذه المواجهة. ما أقصده أن العلماء في هذا المجال كان لهم الموقع الحساس والمصيري، والأعداء أنفسهم يعرفون هذا، لذلك يريدون القضاء على العلماء. هل تعرفون من أطلق على حكومة الجمهورية الإسلامية اسم حكومة الملالي؟!عملاء الـ C.I.A. هم الذين قاموا بذلك من خلال المحطات الإعلامية في أوربا وأمريكا، فهؤلاء هم من وضع هذه التسمية المختلفة، وبعدها رأينا هذا الكلام نفسه يتكرر على ألسنة عناصر المجموعات في الداخل التي تسمي نفسها "الشعب" وأحياناً "الشعب الإسلامي" فانظروا وانتبهوا إلى طريقة ارتباط هذه الظواهر ببعضها. فعلينا أن نملك الوعي، وعلينا هداية شبابنا كي يتجهوا لطلب العلم ومعرفة الدين ونهج القرآن الصحيح ومطالعة الكتب. كل الدعايات والحملات الإعلامية التي بدأت بعد شهرين من انتصار الثورة واستهدفت الشخصيات العلمائية والتجمعات المرتبطة بالعلماء، كانت لهذه الأسباب التي ذكرتها، فلو كان الحزب الجمهوري معادياً للعلماء، ولم يكن العلماء عاملين فيه، لما تم محاولة تشويه صورته والتهجم عليه بهذا الشكل.
أمام هذا الواقع، يجب على الآباء والأبناء والأمهات والبنات أن يعرفوا كيف يواجهون وكيف يتّحدون أمام هذه الأحداث الجارية في حياتهم. في الماضي كان الخلاف سائداً بين هذين الجيلين، اليوم عليهم أن يتفقوا ويقفوا صفاً واحداً لمواجهة العدو بسلاح القرآن والإسلام. فعندما تضيعون الإسلام مثلاً (طبعاً هذه الأمة لن تفقد الإسلام على الإطلاق) عندها لن تكونوا قادرين على مقاومة أمريكا وقوتها، بل إن العدو يبدأ عندها بالنفوذ والغزو شيئاً فشيئاً، ولا يقول للأمة أنا أريد ظلمك وأن أكون دكتاتورياً عليك فاستعدي، بل ان ظلمه يتدرج بهدوء.. أنقل لكم، لأخذ العبرة، مقطعاً من تاريخ صدر الإسلام؛ فبعد زمن خلافة أمير المؤمنين وخاصة بعد شهادة الإمام الحسن (ع) أصبحت مدينة الكوفة دائماً مركزاً للاضطرابات والفوضى بالنسبة للحكم الأموي، الذي عجز عن مواجهة الأمر (مثلما عجز نظام الشاه أمام مدينة قم، مدينة الدم والثورة)، فكان بنو أمية كلما عينوا والياً لهم على الكوفة تمرد عليه الناس، فيجد نفسه مضطراً أن يعود للخليفة الأموي خالي الوفاض، كي يقول له لا أستطيع أن أنفذ سياستكم وأنا مضطر أن أتوافق مع زعماء الشيعة كي تهدأ الأحوال.. أمام هذا الواقع انبرى الحجاج بن يوسف سفاح بني أمية المشهور وطلب من الخليفة عبد الملك بن مروان أن يوليه الكوفة، متعهداً له أن يحل المشاكل ويجعل الكوفة خالية آمنة من التوتر، فولاه الخليفة كما أراد، وكتب له كتاباً بذلك، فطلب الحجاج منه أن يخفي هذا الكتاب ولا يطلع عليه أحداً حتى يصل للكوفة ويرسله بذلك. فبقيت هذه المسألة سرية ولم ينتشر الخبر… رحل الحجاج إلى الكوفة مع عشرين فارساً مسلحاً من المحاربين الأشداء، دخلوا الكوفة خلسة قبل أذان الفجر، وتوجهوا إلى المسجد حيث كان الناس يتهيئون لصلاة الصبح وأكثرهم مشغول بالدعاء وقراءة القرآن، نشر الحجاج رجاله على أبواب المسجد ومداخله وطلب منهم أن يبقوا على استعداد دون أن يثيروا أي حركة.
أما الحجاج فقد وضع عمامة حمراء على رأسه وتلثم، ثم دخل المسجد بدون أن يعرفه أحد، واعتلى المنبر بهدوء وجلس بدون أن يتكلم شيئاً وانتظر حتى احتشد المسجد بالمصلين الذين انتبهوا فجأة إلى وجود هذا الرجل الملثم الذي لم يعرفوه، (ولو كان ظاهراً لعرفوا كونه سبق أن حكم الكوفة)، فتوجهت الأنظار إليه بدهشة واستغراب، وغلامه واقف أسفل المنبر، وصاروا يتساءلون عن سر هذا الجالس الملثم الذي تدل علامات عينيه على القسوة والغضب، وكيف أنه يضع سيفه دون غمد على ركبتيه، ولم يكن إمام الجماعة قد وصل بعد… ولما رأى الحجاج أن الوقت صار مناسباً فالأنظار كلها متوجهة إليه باهتمام، رفع عمامته وأسدل اللثام عن وجهه وأنشد الشعر المشهور معرفاً بنفسه:
أنا ابن جلى وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
فعرفه الناس في المسجد، وبدأ الرعب يدب في نفوسهم والأنفاس تتقطع.. أمر الحجاج عندها غلامه أن يقرأ على الملأ كتاب التنصيب للحجاج كوالٍ على الكوفة من قبل الخليفة.. بدايةً، الناس لم تأخذ هذه الرسالة على محمل الجد، فعاد الغلام ليصعد إلى الدرجة الأعلى من المنبر ويعيد القراءة مثبتاً التعيين ومعرفاً الناس على القرار… هكذا تسلل الحجاج بهدوء وتسلل هذا الدكتاتور شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى ما اراد.
واليوم على الأمة الإسلامية أن تنتبه وتفتح عينيها جيداً حتى لا تتكرر هذه الحوادث التاريخية مرة أخرى، فالديكتاتورية تأتي بالتدريج، وفي ذلك الزمان لو قاوم أهل الكوفة رجال الحجاج العشرين لمنعوا فيما بعد قتل آلاف الناس الأبرياء وزج الآلاف من الشيعة وذرية أمير المؤمنين في سجون الحجاج.
الآن ما هو الشيء الذي نقوم به لمنع عودة التسلط الأمريكي في بلادنا؟!
هل لدينا مناعة أو لقاح ضد هذا الميكروب كي لا يعود إلينا؟
ألم تشاهدوا ما جرى في الثورة الفرنسية الكبرى، فبعد انتصارها وتخلص الشعب من "سجن الباستيل" الذي كان رمز الظلم والاستبداد، وتحرر المعتقلون السياسيون وأعدام الملك والملكة الظالمين ومصاصي الدماء وأصبحت الحكومة بيد الشعب الفرنسي. ولكن لم تمض عدة سنوات حتى عادت الدكتاتورية مجدداً، ولكن بواسطة "نابليون بونابرت" الذي كان جنرالاً عسكرياً فحكم بالحكم العسكري القاسي بعد أن كانت فرنسا مهد الحرية، وبعد هزيمة "نابليون" عادة مرة أخرى حكومة متسلطة، فحكم أبناء لويس السادس عشر (الملك المخلوع والمقتول) لأربعين سنة.
هذا التاريخ أمامنا، احذروا ولو قليلاً أن يحدث ذلك معكم أيضاً؟ كونوا متيقظين، فما الذي يمنع ويضمن أن لا يتكرر هذا الأمر معنا؟! هناك عدة أشياء تستطيع أن تحفظنا، أهمها أن لا تضعوا في حسابكم إلا المقاييس والمعايير الإسلامية.
إن أردتم أن تمنعوا عودة الظلم والتسط إلى هذا البلد عليكم دوماً أن تراعوا وتحفظوا المعايير والضوابط الإسلامية، هذا أولاً.
ثم عليكم أن تنهضوا وتتجهوا لفهم الإسلام ومعرفته وكذلك لمواجهة أعداء الثورة في جميع مجالات أعمالكم جماعة أو أفراداً، ثم التفطن والوعي العميق لكل ما يجري حولكم. - الامام الرضا(ع) وولاية العهد
بسم الله الرحمن الرحيم
علينا الاعتراف بأن حياة الأئمة(ع) لم تُعرف وتفهم بالشكل المطلوب والكامل، حتى أن مقامهم وموقعهم الجهادي في الحياة قد بقي مخفياً حتى عن الشيعة أنفسهم. وعلى رغم وجود آلاف الكتب الكبيرة والصغيرة، قديماً وحديثاً تتناول سيرة وحياة الأئمة(ع)، فإن قسماً كبيراً ومهماً من سيرة أولئك العظام ما زال محجوباً بأستار الغموض والإجمال، كما أن الحياة السياسية لأبرز وجوه آل بيت النبوة التي امتدت لقرنين ونصف وكانت تشكل أهم مراحل تاريخ الإسلام ابتليت بكثير من المحققين والكتّاب الذين كانوا ينطلقون في دراستهم من خلفيات مسبقة، أو من تقصير في التدقيق، أو أنهم أصلاً من ذوي الانحرافات، مع افتقارنا إلى التاريخ المدون والموثق لحياة الأئمة المليئة بالأحداث والتطورات.
إن حياة الإمام الثامن علي الرضا(ع) السياسية والتي استمرت عشرين سنة تقريباً من هذه الحقبة (القرنين ونصف) كإمام هي جديرة بالتحقيق والدراسة المعمقة وذلك لأنها كانت من جملة المحطات الحساسة والبارزة لتلك الحقبة.
والآن عندما ندقق النظر لنعرف ما هو أهم شيء لم تتم دارسته بالشكل المطلوب والمناسب في حياة الأئمة(ع) نجد أنه عنصر المواجهة السياسية القاسية والعنيفة؛ فمنذ بداية النصف الثاني من القرن الأول الهجري وحيث تحولت الخلافة الإسلامية بشكل واضح وفاضح إلى سلطنة بكل معنى الكلمة في جميع الجوانب وتبدلت الحكومة (أمانة الله) إلى حكومة متسلطة (ملكية) كانت المواجهة السياسية لأهل البيت(ع) تشتد وتتطور بأسلوب يتناسب مع الأوضاع والظروف المستجدة. وهذه المواجهة كان هدفها الأساسي تشكيل النظام الإسلامي وبناء الحكومة على أساس مبدأ الإمامة، ومن دون شك كان أيضاً تبيين وشرح الدين من وجهة نظر أهل بيت الوحي، ورفع الشبهات ومواجهة الانحرافات، ونشر المعارف والأحكام الإسلامية، من جملة الأهداف المهمة لجهاد أهل البيت(ع).
لكن بعد الاطلاع على حركة اهل البيت نرى قرائن لا تقبل الشك تدل على أن جهاد أهل البيت لم يكن محدوداً وناظراً فقط لتحقيق هذه الأمور، بل نرى أن الهدف الأسمى لذلك الجهاد لم يكن إلا تشكيل الحكومة العلوية وبناء النظام الإسلامي العادل؛ فكل المصاعب والآلام والمرارات والتضحيات في حياة الأئمة وأصحابهم كانت في سبيل هذا الهدف. والأئمة، بدءاً من زمان الإمام السجاد، أي بعد حادثة عاشوراء، ووصولاً إلى آخرهم، كانوا ينهضون لأجل تهيئة الأرضية اللازمة لتصبح على المدى البعيد مستعدة لتحقيق هذا الهدف (الحكومة العلوية). فعلى مدى الفترة الممتدة من حادثة عاشوراء إلى استلام الإمام الثامن(ع) ولاية العهد (140 سنة) كانت نشاطات أئمة اهل البيت والأحداث المتعلقة بهم دائماً من أخطر ما تواجهه أنظمة الخلافة المتعاقبة من خطر يهدد كيانها، وفي هذه المدة (140 سنة) تهيأت عدة فرص للتعبير عن أن جهاد التشيع ونضاله والذي يجب أن يطلق عليه اسم الثورة العلوية، اقترب من تحقيق انتصارات كبرى، لكن في كل مرة كانت تظهر موانع وعوائق تقف في طريق تحقيق الانتصار النهائي (إقامة الحكومة العلوية)، بحيث أنه غالباً ما كانت تتلقى هذه الحركات ضربات قاسية ومميتة، وذلك من خلال الحصار والهجوم على المحور الأساسي والأصلي للثورة والذي يمثل شخص الإمام المعصوم(ع).
فالإمام المعصوم في كل زمان غالباً ما كان يحاصر أو يزجّ به في السجن أو يقتل، وعندما يصل الدور إلى الإمام الذي يليه، كان يواجه جواً شديد القمع مليئاً بالضغوط والصعوبات إلى حد انه كان يحتاج إلى فترة طويلة لتهيئة الأرضية من جديد. والأئمة(ع) في هذا الخضم من المصاعب كانوا بفطنتهم وشجاعتهم يعبرون بالتشيع من هذه المحطات الصعبة والخطرة بسرعة وثبات، وبذلك لم يتمكن الخلفاء الأمويون والعباسيون من أن يقضوا على فكر الإمامة وتأثيره وفاعليته من خلال القضاء على شخص الإمام. فبقي هذا الفكر وهذا الجهاد جرحاً عميقاً في خاصرة النظام، ومصدر تهديد يسلب من هؤلاء الخلفاء الراحة، ولما استشهد الإمام موسى بن جعفر(ع) مسموماً بعد سنوات أمضاها في سجن هارون، ساد الجو من التوتر والضغط في جميع أرجاء السلطنة العباسية، وفي هذا الجو الضاغط يذكر أحد أصحاب الإمام علي بن موسى(ع) قائلاً: "في الوقت الذي كانت الدماء تقطر من سيف هارون كانت براعة الإمام المعصوم، حيث استطاع أن يحفظ ويصون شجرة التشيع من خطر الأحداث الجارفة، ويمنع تفرق أصحاب والده(ع) ويحافظ على حماستهم وروحيتهم"، وتمكن من خلال سلوك طريق التقية أن يحافظ على حياته التي كانت محوراً وروحاً لوحدة وتجمّع الشيعة، وكذلك استمرت المواجهات الأساسية والصلبة من قبل خط الإمامة رغم قوة ونفوذ الخلفاء العباسيين في تلك المرحلة التي نعم فيها النظام الحاكم بجو من الاستقرار والثبات النسبي، حيث كان الخليفة العباسي في تلك الفترة أقوى وأقدر من أسلافه، مع أن التاريخ لم يستطع أن يحدد لنا بشكل واضح حدود ومعالم تلك الفترة من العشر سنوات لحياة الإمام الرضا(ع) في زمان هارون وما بعده من الخمس سنوات التي وقعت فيها حروب وتزاعات داخلية بين خراسان وبغداد ضمن السلطنة العباسية.
لكن عند التأمل والتدبر في تلك الفترة ندرك أن الإمام الثامن(ع) قام في تلك الفترة بنفس المواجهة الناظرة إلى المدى البعيد، والتي انتهجها أهل البيت في كل المراحل التي تلت حادثة عاشوراء ومضى للوصول إلى الأهداف نفسها. ولما فرغ المأمون في سنة 198هـ من حربه ضد أخيه الأمين واستولى على الخلافة من دون منازع، كان أول ما قام به وعمل عليه هو حل مشكلة العلويين وثورات التشيع، ولقد أخذ بعين الاعتبار تجارب أسلافة لتحقيق ذلك، وواقع هذه الحركة، والتي كانت تدل على صلابة هذه الثورة يوماً بعد يوم، وعلى عجز وضعف الأنظمة الحاكمة عن اقتلاع جذورها أو حتى تحجيمها وإيقافها عن التكامل والنمو.
فالمأمون رأى أن قوة نفوذ هارون وسطوته التي وصلت إلى حد أسر الإمام السابع وسجنه لتلك المدة الطويلة ومن ثم قتله بالسم، لم تُجد نفعاً ولم تمنع التحركات السياسية والعسكرية والإعلامية والفكرية لتيار التشيع، فكيف به إذا أراد أن ينتهج هذه الطريقة، وهو لم يكن يتمتع بما تمتع به أبوه! فهو، إضافة إلى الحروب الداخلية التي ابتلي بها بنو العباس وورث هو مخلفاتها وآثارها، كان يعاني من مشاكل كبرى تهدد السلطنة العباسية. ومن دون شك فقد كان من اللازم عليه أن ينظر بجدية إلى خطر ثورة العلويين، ولعل المأمون في تقييمه لخطر الشيعة على نظامه كان ينظر ببصيرة، لذا فهناك ظن كبير بأن الفترة الفاصلة والتي تقدر بخمسة عشر سنة، أي من بعد شهادة الإمام السابع حتى ذلك اليوم الذي جعلت فيه ولاية العهد للإمام الثامن(ع)، بالأخص فرصة الخمس سنوات التي سادت فيها الحروب الداخلية، كان تيار التشيع أكثر جهوزية واقتداراً لرفع راية الحكومة العلوية. ولقد تنبه المأمون إلى هذا الوضع الخطر وهبّ لمواجهته من خلال ما كان يراه مناسباً بعد تقييمه لتجارب المواجهات السابقة؛ فقام بدعوة الإمام الرضا(ع) إلى مدينة خراسان وعرض عليه عرضاً ملزماً بتسلم ولاية العهد، حيث لم يسبق في كل المراحل السابقة للإمامة أن حدث مثل هذا الأمر، وسنتحدث عنه بشيء من الاختصار، حيث إن ولاية العهد التي سُلمت للإمام الثامن علي بن موسى الرضا(ع) والتي تعد تجربة تاريخية عظيمة كانت في حقيقة الأمر حرباً سياسية خفية بحيث كان الانتصار أو الهزيمة فيها يمكن أن يحدد مصير التشيع؛ والطرف المقابل في هذه الحرب كان المأمون الذي تسلّح بكل إمكاناته وقدراته.
فالمأمون بحنكته وتدبيره ودرايته للأمور التي لم يسبقه لها أحد من أقرانه فكر بأنه لو انتصر في هذه الحرب وتمكن من تحقيق مخططه إلى النهاية، لكان من المؤكد حقق الهدف الذي سعى وجهد الخلفاء الأمويون والعباسيون لتحقيقه من بعد شهادة علي بن أبي طالب(ع) ولم يتمكنوا من ذلك؛ أي أنه كان استطاع أن يقتلع شجرة التشيع من جذورها، فهذا هو الهدف، ولكان استطاع أن يقلع تلك الشوكة التي كانت دائماً في عين الملوك الظالمين والطواغيت إلى الأبد، لكن الإمام الثامن علي بن موسى الرضا(ع) وبالتدبير الإلهي استطاع أن يتغلب على المأمون الذي مُني بهزيمة نكراء، مع أنه هو الذي جهز نفسه وأعد العدة لهذه الحرب السياسية، وهو لم يفشل في أضعاف التشيع أو القضاء عليه فحسب، بل إن السنة التي تسنّم فيها الإمام ولاية الفقيه العهد (201هـ) كانت واحدة من أعظم البركات التاريخية على التشيع، حتى إنها نفخت روحاً جديدة في نضال وكفاح العلويين. وهذا كله كان من بركات التدبير الإلهي لللإمام الثامن(ع) وأسلوبه الحكيم.
ولقد كان للمأمون اهداف أساسية من وراء دعوة الإمام إلى خراسان، أولها وأهمها تحويل ساحة المواجهات الثورية العنيفة للشيعة إلى ساحة التحرك السياسي الهادئ والذي لا يشكل خطراً، لأنه ـ وكما ذكرت ـ لم يكن الشيعة يعرفون التعب أو الملل في المواجهة ولم تكن ثورتهم لتقف عند حد. هذه المواجهات كان لها خاصيتين، الأولى: المظلومية، والثانية: القداسة، حيث كانتا تمثلان عنصر قوة يعتمد عليه الشيعة لإيصال الفكر الشيعي ـ الذي هو نفس شرح وبيان الإسلام من وجهة نظر أئمة أهل البيت(ع) ـ إلى عقل وقلب جمهورهم، بحيث ان كل شخص لديه أدنى استعداد كان إما أن يؤمن بهذا الفكر أو أنه يميل إليه. وبهذا الشكل صارت دائرة التشيع تزداد سعة وانتشاراً يوماً بعد يوم، وبنفس المظلومية والقداسة اللتين كانتا الداعم لحركات النهوض والتحرر من ظلم الخلافة.
كان المأمون يريد أن يواجه هذا الاستتار الشيعي العميق والمؤثر دفعة واحدة، فأراد أن يحيد الإمام من ساحة المواجهة الثورية وينقله إلى الميدان السياسي، وأن يقضي بهذه الوسيلة على فعالية الثورة الشيعية والتي كانت تتكامل يوماً بعد يوم بفعل العمل السري والمركز. وبهذه الطريقة يكون المأمون قد انتزع من الشيعة العلويين الخاصيتين: المظلومية والقداسة، اللتين تشكلان عامل نفوذ قوي لهم في الساحة؛ وذلك لأن قائدهم ـ وهو الشخص العالي المقام عندهم ـ قد أصبح في صفوف جهاز الخلافة، فهو ولي العهد للملك المطلق العنان في التصرف في أمور البلاد ، إذن فهو لم يعد لا مظلوماً ولا مقدساً.
وهذا التكتيك الذي قام به المأمون كان يأمل بواسطته أن يحول الفكر الشيعي إلى فكر مشابه لبقية الأفكار والعقائد والتيارات التي لها مؤيدون في المجتمع، فيخفف من وهجه وإشراقه ويخرجه من كونه فكراً معارضاً للنظام الحاكم، وذلك لأن غالباً ما يكون مرفوضاً من الجهاز الحاكم ومخالفاً له يكون مرغوباً عند الناس المستضعفين ومورد اهتمامهم.
هذا هو الهدف الأول من وراء دعوة الإمام إلى خراسان ومن ثم تنصيبه لولاية العهد. أما الهدف الثاني فهو تخطئة الاعتقاد الشيعي القائل بأن الخلافة قد غُصبت من قبل الخلفاء الأمويين والعباسيين وإعطاء الشرعية لهذه الحكومات السابقة؛ فالمأمون كان يرمي بتعيين الإمام ولياً للعهد إلى أن يثبت ـ وبالقوة ـ لكل الشيعة أن ادعاء هم بغصب الخلافة وعدم شرعية الخلفاء الحاكمين (هذا الادعاء الذي كان دائماً يعتبر من ضمن الأصول العقائدية للشيعة) بأنه كلام لا أساس له. وأنه قد نشأ نتيجة الضعف والإحساس بالاستحقار. فلو كانت الحكومات السابقة غير شرعية ومتسلطة فبالتالي خلافة المأمون الذي هو خليفة لأولئك السابقين غير شرعية وغاصبة أيضاً. فكيف يدخل علي بن موسى الرضا(ع) في صفوف هذا النظام الحاكم ويقبل بخلافة المأمون؟ فهذا يعني أنها قانونية وشرعية ويترتب على هذا أن تكون خلافة الحكام السابقين شرعية أيضاً وليست غاصبة. وهذا الأمر ينقض كل ادعاءات الشيعة، وبذلك لا يكون المأمون فقط قد حصل على الاعتراف بشرعية حكومته أسلافه. بل يكون قد قضى على أحد الأركان العقائدية للتشيع والذي يعتبر أساساً أن أصل الحكومات السابقة هو الظلم وغصب الخلافة. إضافة إلى نقض الفكرة السائدة والمعروفة عن زهد وعدم اهتمام الأئمة بزخارف الدنيا ومقاماتها، ويُظهر بأن الأئمة فقط في الظروف التي لا تصل فيها أيديهم إلى الدنيا ـ أي أنهم عندما يمنعون عنها ـ يلجأون إلى الزهد. بينما عندما تفتح أمامهم أبواب جنة الدنيا يسرعون نحوها. وحالهم في هذا حال الآخرين. فهم يتنعمون بالدنيا إن أقبلت عليهم.
والهدف الثالث للمأمون هو أن يجعل الإمام المعصوم الذي كان دوماً ركيزة المعارضة والمواجهة في جهازه الحاكم وكذلك بقية القادة والأبطال العلويين الذين يتبعون الإمام فيدخلون تحت سيطرة المأمون. وهذا النجاح لم يتمكن أحد على الإطلاق أن يتحققه لا من العباسيين ولا من الأمويين.
والهدف الرابع هو أن يجعل الإمام الذي يمتلك العنصر الشعبي ويعد قبلة الآمال ومرجع الناس في كل أسئلتها من ضمن صفوف أجهزة الحكومة. وبذلك يفقد شيئاً فشيئاً الطابع الشعبي ويبني حاجزاً بينه وبين الناس حتى يضعف بالتالي الرابط العاطفي بينه بين الطبقة الشعبية.
الهدف الخامس للمأمون كان أن يكسب سمعة معنوية وصيتاً بالوقار والتقوى. فمن الطبيعي عندها أن يمدح الجميع ذلك الحاكم الذي اختار لولاية عهده ابن بنت النبي(ص)، وهو شخص مقدس وذو مقام معنوي. وفي المقابل يحرم أخوته وأبنائه من هذا المنصب. والمعروف دائماً أن التقرب من الصالحين والمتدينين من قبل طلاب الدنيا يذهُب ماء وجه الصالحين ويزيد من ماء وجه اهل الدنيا.
الهدف السادس كان باعتقاد المأمون أن الإمام بتسلمه لولاية العهد ستحول إلى حامي ومرشد للنظام. فمن البديهي بأن شخصاً كالإمام بما لديه من تقوى وعلم ومقام لا نظير لها فهو في أعين الجميع من أبناء النبي(ص)، وإذا قام بدور شرح وتبرير ما يقوم به جهاز الحكومة، فسوف يأمن النظام من أي صوت مخالف. وبذلك ايضاً لا يستطيع أحد أن ينكر شرعية تصرفات هذا النظام. فهذا الأمر كان عند المأمون حصانة ووقاية لحكمه. فمن خلال الإمام يستطيع أن يخفي كل أخطاء وعيوب نظامه وحكومته ولم يكن ليخطر ببال أحد سوى المأمون، هذا الدهاء السياسي والحنكة والمكر. حتى أن الأصدقاء والمقربين من المأمون لم يكن لديهم علم بأبعاد وجوانب هذه السياسة. ويظهر هذا الأمر من خلال بعض الوثائق التاريخية. حتى أن فضل بن سهل الوزير والقائد والذي هو من أقرب الأشخاص لجهاز الحكومة لم يكن يعلم حقيقة هذه السياسة. وذلك حتى لا تتعرض اهدافه في هذه الحركة الالتفافية إلى أن نكسة.
وحقاً يجب القول أن سياسة المأمون كانت تتمتع بتجربة وعمق لا نظير له. لكن الطرف الآخر الذي كان في ساحة الصراع مع المأمون هو الإمام علي بن موسى الرضا(ع). وهو نفسه الذي كان يحول أعمال وخطط المأمون الذكية والممزوجة بالشيطنة إلى أعمال بدون فائدة ولا تأثير لها وإلى حركات صبيانية. بينما المأمون الذي بذل كل جهوده وتحمل المصاعب من اجل مشروعه هذا، لا أنه فقط لم يحقق أي شيء من الأهداف التي كان يسعى لها، بل أن سياسته التي اتبعها انقلبت عليه. فالسهم الذي كان يريد أن يرمي به مقام ومكانة وطروحات الإمام علي بن موسى الرضا(ع) أصاب المأمون بحيث أنه وبعد مضي فترة قصيرة أصبح مضطراً إلى أن يعتبر كل تدابيره وإجراءاته الماضية هباءاً منثوراً كأنّ شيئاً لم يكن منها.
وفي نهاية المطاف عاد المأمون ليختار نفس الأسلوب الذي سلكه أسلافه من قبله وهو قتل الإمام. فالمأمون الذي قد سعى جاهداً لتكون صورته حسنة ومقدسة وليتصف بأنه خليفة طاهر عاقل، سقط في النهاية في الهوة التي قد سقط فيها كل الخلفاء السابقين له. أي انجر إلى الفساد والفحشاء ووسمت حياته بالظلم والقهر ويمكن مشاهدة نماذج من حياة المأمون خلال 15 عاماً بعد حادثة ولاة العهد تشكف ستار الخداع والتظاهر عند المأمون. فكان لديه قاضٍ للقضاة، فاسق وفاجر مثل يحيى بن الأكثم. وكان المأمون يحضر المغنيات أيضاً إلى قصره، وكان لديه مغنٍ خاص يدعى إبراهيم بن مهدي. وعاش مرفهاً مسرفاً حتى أن ستائر دار خلافته في بغداد كانت من الدارّ.
بعد هذا العرض لسياسة المأمون، نتعرض إلى السياسة والإجراءات التي قام بها الإمام علي بن موسى الرضا(ع) لمواجهة هذا الواقع… فعندما دعي الإمام لينتقل من المدينة إلى خراسان من قبل المأمون نشر في المدينة جواً يدل على انزعاجه وتضايقه من هذه الخطوة بحيث أن كل شخص كان حول الإمام تيقن أن المأمون يضمر سوءاً للإمام من خلال ابعاده عن موطنه. ولقد أعرب الإمام للجميع عن سوء ما يرمي إليه المأمون بكل الأساليب الممكنة، فقام بذلك عند توديع حرم النبي(ص) وعند توديع عائلته وأثناء خروجه من المدينة، وبكلامه وسلوكه ودعائه وبكائه، كان واضحاً للجميع أن هذا السفر هو رحلته الأخيرة ونهاية حياته(ع). وبناءً على ما كان يتصوره المأمون في أن يُنظر إليه نظرة حسنة، بينما يُنظر إلى الإمام الذي قبل بطلب المأمون نظرة سيئة، نرى أن قلوب الجميع ونتيجة لرد فعل الإمام الذي قام به في المدينة زادت حقداً على المأمون من اللحظة الأولى لسفر الإمام. فإمامهم العزيز(ع) قد أبعده المأمون عنهم بهذا الشكل الظالم ووجهه إلى مقتله… هذه الخطوة الأولى للإمام.
وعندما طرحت ولاية العهد على الإمام رفض الإمام هذا الطرح بشدة. ولقد انتشر في كل مكان رفض الإمام علي بن موسى الرضا(ع) لولاية العهد من قبل الخلافة، كما أن العاملين في الحكومة الذين لم يكونوا على علم بدقائق سياسة وتدابير المأمون قاموا وعن غباء بنشر رفض الإمام(ع) في كل مكان. حتى أن الفضل بن سهل صرح في جمع من العاملين في الحكومة أنه لم يرَ على الإطلاق خلافة بهذا القدر من المذلة، فالمأمون الذي هو أمير المؤمنين يقدم الخلافة أو لاية العهد لعلي بن موسى الرضا وهو يرفض ذلك. ولقد سعى الإمام(ع) في كل فرصة تتاح له أن يبين أنه مجبر على تسلم هذا المنصب (ولاية العهد) ودائماً كان يذكر أنه هُدد بالقتل حتى يقبل بولاية العهد. وكان من الطبيعي جداً أن يصير هذا الحديث الذي هو من أعجب الظواهر السياسية متناقلاً على الألسن، ومن مدينة إلى مدينة. فكل العالم الإسلامي في ذلك اليوم وفيما بعد فهم أن شخصاً مثل المأمون حارب أخاه الأمين حتى قتله لأجل أن يبعده عن ولاية العهد ووصل به الأمر من شدة غضبه على أخيه أن قام برفع رأسه على الرمح وطاف به من مدينة إلى مدينة. مثل هكذا شخص كان من الواضح أن أجبر الإمام الذي لم يكن مبالياً بولاية العهد.
على أن يقبل بها وإلا قتله. وعند المقارنة بين عمل المأمون والإمام المعصوم نرى أن كل ما جهد من أجل تحقيقه المأمون ووفر في سبيله كل ما لديه كانت نتيجته عكسية بالكامل. هذا هي الخطوة الثانية للإمام.
أما النقطة الثالثة في سياسته(ع) والتي واجه بها سياسة المأمون هي أنه مع كل الضغوطات والتهديدات التي مورست عليه، لم يقبل ولاية العهد إلا بشرط الموافقة على عدم تدخله في أي شأن من شؤون الحكومة من حرب وصلح وعزل ونصب وتدبير وإشراف على الأمور. والمأمون الذي كان يعتقد أن هذا الشرط ممكن قبوله وتحمله في بداية الأمر. حيث يستطيع فيما بعد أن يجر الإمام إلى ساحة أعمال ونشاطات الحكومة. وافق على قبول شرط الإمام(ع) الذي ينص على عدم التدخل بأي شيء مهما كان. ومن الواضح أن قبول المأمون بهذا الشرط جعل خطته كمن يكتب على وجه الماء. فأكثر أهدافه التي كان يرمي إلى تحقيقها من وراء هذه الخطوة (تسليم ولاية العهد للإمام) لم تتحقق من جراء موافقته على هذا الشرط. والإمام(ع) الذي كان يطلق عليه لقب ولي العهد ويتمتع بسبب موقعه من إمكانات جهاز الحكم كان دائماً يقدم نفسه على أنه مخالف وعلى خلاف معها. فهو لم يكن يأمر ولا ينهى، ولا يتصدى لأي مسؤولية ولا يقوم بأي عمل للسطلة، ولا يدافع عن الحكومة، ولا يقدم أي تبرير لأعمال النظام. لذا كان من الواضح أن هذا الشخص الذي يُعتبر عضواً في النظام الحاكم والذي أدخل إليه بالقوة وكان يتنحى عن كل المسؤوليات، لا يمكن أن يكون شخصاً محباً ومدافعاً عن هذا النظام. ولقد أدرك المأمون جيداً هذا الخلل والنقص. فحاول عدة مرات وباستخدام أكثر الحيل مكراً ليحمل الإمام على العمل خلافاً لما اشترطه سابقاً. فيجر بذلك الإمام إلى التدخل في إعمال الحكومة ويقضي أيضاً على سياسة الإمام المواجهة والرافضة. لكن الإمام كان في كل مرة يُحبط خطته بفطنته. وكنموذج على هذا الأمر يذكر معمر بن خلاد نقلاً عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) أن المأمون كان يقول للإمام أنه إذا أمكن أن تكتب شيئاَ لأولئك الذين يسمعون كلامك ويطعنونك حتى يخففوا التوتر والأوضاع المضطربة في مناطق وجودهم، لكن الإمام(ع) رفض ذلك وذكّره بشرطه السابق القاضي بعدم تدخله مطلقاً في أي من الأمور.
نموذج آخر مهم جداً وملفت وهو حادثة صلاة العيد حيث أن المأمون وبحجة أن الناس يعرفون قدر الإمام وقلوبهم تهفو حباً له . طب من الإمام أن يؤم الناس في صلاة العيد، رفض الإمام(ع) في البداية فكن بعد إصرار المأمون على طلبه وافق الإمام بشرط أن يخرج إلى الصلاة ويصلي بنفس طريقة النبي وعلي بن أبي طالب(ع).
فلما استفاد الإمام من هذه المناسبة وانتهزها كفرصة جيدة لصالح مشروعه ندم المأمون الذي كان قد أصر على ذلك وأرجع الإمام من منتصف الطريق قبل أن يصلي، مضطراً بفعله هذا أن تتلقى سياسة نظامه المخادعة والمتملقة ضربة أخرى في صراعه مع الإمام(ع).
النقطة الرابعة في سياسة الإمام(ع) ان استفادته الأساسية من مسألة ولاية العهد كانت أهم من كل من ذكر، فبقبوله لولاية العهد استطاع أن ينهض بحركة لا نظير لها في تاريخ حياة الأئمة (بعد انتهاء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سن 40 هجرية حتى آخر عهود الخلافة الإسلامية)، ولقد تمثل ذلك بظهور ادعاء الإمامة الشيعية على مستوى كبير في عالم الإسلام وخرق ستار التقية الغليظ في ذاك الزمان، حيث تم إيصال نداء التشيع إلى كل المسلمين، فمنبر الخلافة العظيم الذي سمح للإمام باعتلائه مكنه من أن يحدث بما لم يكن يقال طوال فترة 150 سنة إلا إلى الخواص والأصحاب المقربين وذلك بالسر والتقية، فخطب بالصوت العالي ليصل ذلك لجميع الناس، فاستفاد من هذه الفرصة ومن هذه الوسيلة (منبر الخلافة) التي لم تكن ميسرة في ذلك الزمان إلا للخلفاء أنفسهم أو المقربين من الدرجة الأولى. كذلك أيضاً مناظرات الإمام التي جرت بينه وبين جمع من العلماء في محضر المأمون حيث بين أمتن الأدلة على مسألة الإمامة، وهناك أيضاً رسالة جوامع الشريعة التي كتبها الإمام للفضل بين سهل حيث ذكر فيها كل أمهات المطالب العقائدية والفقهية للتشيع، وأيضاً حديث الإمامة المعروف الذي قد ذكره الإمام في مرو لعبد العزيز بن مسلم، إضافة إلى كل ذلك القصائد الكثيرة التي نظمت في مدح الإمام بمناسبة تسليمه ولاية العهد وقسم منها مثل قصيدة دعبل وأبو نواس تعد من أهم القصائد المخلدة في الشعر العربي.
إن كل ما ذكرناه من الاستفادة الأساسية للإمام(ع) من مسألة قبوله بولاية العهد يدل على مدى النجاح العظيم الذي حققه الإمام في صراعه ضد سياسة المأمون. وفي خطبته التي ألقاها من علي منبر الحكومة أورد فضائل أهل البيت الذين ظلوا يشتمون علناً على المنابر لمدة 90 سنة. فلسنوات طويلة لم يكن شخص ليجرؤ على ذكر فضائلهم، فعاد في زمانه(ع) ذكر عظمة وفضائل أهل البيت في كل مكان، كما أن اصحابهم ازدادو جرأة وإقداماً من هذه الحادثة (ولاية العهد وخطبة الإمام الجريئة) وتعرف الأشخاص الذين كانوا يجهلون مقام أهل البيت(ع) عليهم وصاروا يحبونهم وأحس الأعداء الذين أخذو على عاتقهم محاربة أهل البيت بالضعف والهزيمة. فالمحدثون الشيعة أصبحوا ينشرون معارفهم ـ التي لم يكونوا ليجرؤوا قبلاً على ذكرها إلا في الخلوات ـ في حلقات دارسية كبيرة وفي المجامع العامة علناً.
النقطة الخامسة التي قام بها الإمام تظهر عندما رأى المأمون أنه من المفيد فصل الإمام عن الناس. فهذا الفصل والإبعاد هو في النهاية وسيلة لقطع العلاقة المعنوية والعاطفية بين الإمام والناس. وهذا ما يريده المأمون… ولمواجهة هذه الخطوة لم يكن الإمام يترك أي فرصة تمكنه من الاتصال بالناس إلا يستفيد منها خلال تحركه ومسيره. مع أن المأمون كان قد حدد الطريق التي سيسلكها الإمام من المدينة وصولاً إلى مرو بحيث لا يمر على المدن المعروفة بحبها وولاءها لأهل البيت مثل قم والكوفة، لكن الإمام استفاد من كل فرصة في مسيره لإيجاد المودة ورابطة الحب بينه وبين أهل هذه المدن، فأظهر في منطقة الأهواز آيات الإمامة، وفي البصرة التي لم يكن أهلها من محبي الإمام سابقاً جعلهم(ع) من محبيه ومريديه وفي نيشابور ذكر حديث السلسلة الذهبية ليبقى ذكرى خالدة، إضافة إلى ذلك الآيات والمعجزات التي أظهرها. وقد اغتنم الفرصة لهداية وإرشاد الناس في سفره الطويل هذا. وعندما وصل إلى مرو التي هي مركز إقامة الخلافة كان(ع) كلما سنحت له الفرصة وأفلت من رقابة الجهاز الحاكم يسارع للحضور في جمع الناس. والإمام(ع) فضلاً عن أنه لم يحض ثوار التشيع على الهدوء أو الصلح مع جهاز الحكومة بل أن القرائن الموجودة تدل على أن الوضع الجديد للإمام المعصوم كان عاملاً محفزاً ومشجعاً لأولئك الذين أصبحوا بفعل حماية الإمام ومؤازرته لهم محل احترام وتقدير ليس فقط عند عامة الناس بل حتى عند العاملين وولاة الحكومة في مختلف المدن بعد أن كانوا ولفترات طويلة من عمرهم يعيشون في الجبال الصعبة والمناطق النائية البعيدة، فشخص مثل دعبل الخزاعي صاحب البيان الجريء لم يكن على الإطلاق يمدح أي خليفة أو وزير وأمير ولم يكن في خدمة الجهاز الحاكم، بل لم يسلم من هجائه ونقده أي شخص من حاشية الخلافة، وكان لأجل كل ذلك ملاحقاً دوماً من قبل الأجهزة الحكومية وظل لسنوات طوال مهاجراً ليس له موطن، فأصبح الآن يمكنه بوجود الإمام علي بن موسى الرضا أن يصل ويلتقي بمقتداه ومحبوبه بحرية، وأن يُوصل في فترة قصيرة شعره إلى كل أقطار العالم الإسلامي، ومن أشهر وأبهى قصائده تلك التي تلاها للإمام(ع) حيث اشتهر بها، والتي تبين ادعاء الثورة الحسينية على الأنظمة الأموية الحاكمة.
حتى أنه وفي طريق عودته من عند الإمام سمع تلك القصيدة نفسها يرددها قطاع الطرق. وهذا يدل على الانتشار السريع لشعره.
والآن نعود لنلقي نظرة عامة على ساحة الصراع الخفي الذي بدأ المأمون بالإعداد له، ودخل فيه الإمام علي بن موسى الرضا للدوافع التي قد أشرنا إليها، والآن لنرى كيف كان الوضع بعد مضي سنة على تسلم الإمام ولاية العهد.
المأمون، وفي رسالة أمر تسليم الإمام ولاية العهد، وبعدة كلمات ومحطات كان قد مدح الإمام بالفضل والتقوى والإشارة إلى مقامه الرفيع والأصيل. بحيث أصبح الإمام خلال سنة بعد أن كان قسم من الناس لا يعرفون سوى اسمه (حتى ان مجموعة من الناس كانت قد ترعرعت على بغضه) يُعرف عند الناس بأنه شخصية تستحق التعظيم والإجلال واللياقة لاستلام الخلافة حيث أنه أكبر من الخليفة المأمون سناً وأغزر علماً وتقوى وأقرب إلى النبي(ص) وأعظم وأفضل وبعد مضي سنة لم يكن الوضع على أن المأمون لم يستطع أن يكسب ود ورضا الشيعة المعارضين بجلب الإمام إلى قربه فحسب، بل ان الإمام قد قام بدور أساسي في تقوية إيمان وعزيمة وروحية أولئك الشيعة الثائرين.
وعلى خلاف ما كان ينتظره المأمون، ففي المدينة ومكة وفي أهم الأقطار الإسلامية لم يقذف الإمام علي بن موسى الرضا(ع) بتهمة الحرص على الدنيا وحب الجاه والمنصب ولم يخبُ نجمه الساطع. بل على العكس من ذلك تماماً حيث ازداد احترام وتقدير مرتبته المعنوية لدرجة فتح الباب امام المادحين والشعراء بعد عشرات السنين ليذكروا فضل ومقام آبائه المعصومين المظلومين. وخلاصة ما نريد قوله أن المأمون في هذا الصراع فضلاً عن أنه لم يحصل على شيء فإنه فقد مكاسب كثيرة، وكان على طريق خسارة ما تبقى لديه.
بعد مضي سنة على تسلم الإمام ولاية العهد، وأمام هذا الواقع الذي أشرنا إليه، شعر المأمون بالهزيمة والخسارة. ولكي يعوض عن هذه الهزيمة ويجبر أخطاء سياسته وجد نفسه مضطراً. بعد أن أنفق كل ما لديه واستنفذ كل الوسائل في مواجهة أعداء حكومته الذين لا يقبلون الصلح. أي أئمة أهل البيت(ع) ـ إلى أن يستخدم نفس الأسلوب الذي لجأ إليه دوماً أسلافه الظالمون والغادرون، وهو اغتيال الإمام المعصوم. لكن كان من الواضح عند المأمون أن قتل الإمام الذي يتمتع بهذه الموقعية العالية والمرتبة الرفيعة ليس بالأمر السهل. والقرائن التاريخية تدل على أن المأمون قام بعدة إجراءات وأعمال قبل أن يصمم على قتل الإمام لعله من خلالها يسهل أمر قتل الإمام ويحد من خطورته وحساسيته. ولأجل ذلك لجأ إلى نشر الأقوال والأحاديث الكاذبة على لسان الإمام كواحدة من هذه التحضيرات. وهناك ظن كبير بأن نشر الشائعة التي تقول أن علي بن موسى الرضا(ع) يعتبر كل الناس عبيداً له بهذا الشكل المفاجئ في مرو، لم يكن ممكناً، لولا قيام عمال المأمون بنشر هذه الافتراءات. وحينما نقل أبو الصلت هذا الخبر للإمام قال(ع) ما معناه: لا الله يا خالق السموات والأرض أنت الشاهد على أنه لا أنا ولا أحد من آبائي قد قلنا مثل هذا. وهذا واحدة من المظالم التي تأتي إلينا من هؤلاء القوم.
إضافة إلى هذا الإجراء كان تشكيل مجالس المناظرات مع أي شخص عنده أقل أمل في أن يتفوق على الإمام واحدة من هذه الإجراءات التي مارسها المأمون. ولما كان الإمام(ع) يتفوق ويغلب مناظريه من مختلف الأديان والمذاهب في كافة البحوث كان يذيع صيته بالعالم والحجة القاطعة في كل مكان، وفي مقابل ذلك كان المأمون يأتي بكل متكلم من أهل المجادلة إلى مجلس المناظرة مع الإمام لعل أحداً منهم يستطيع أن يغلب الإمام(ع) وكما تعلمون فإنه كلما كانت تكثر المناظرات وتطول كانت القدرة العلمية للإمام(ع) تزداد وضوحاً وجلاءاً. وفي النهاية يئس المأمون من تأثير هذه الوسيلة. وحاول أن يتآمر لقتل الإمام كما تذكر الروايات من خلال حاشيته وخدم الخليفة، وفي أحدى المرات وضع الإمام في سجن سرخس (منطقة شمال شرق إيران) لكن هذا لم يكن نتيجته إلا إيمان الجلاوزة والسجانين انفسهم بالمقام المعنوي للإمام. وهنا لم يجد المأمون العاجز والغاضب أمامه في النهاية وسيلة إلا أن يسم الإمام وبنفسه من دون أن يكلف أي أحد وقام بذلك فعلاً.. ففي شهر صفر من سنة 202 هـ أي تقريباً بعد سنتين من خروج الإمام(ع) من المدينة إلى خراسان وبعد سنة أو أقل من تسلمه ولاية العهد قام المأمون بجريمته العظيمة التي لا تنسى وهي قتل الإمام(ع).
إن ما ذكرناه من سيرة الأئمة هو مرور على إحدى المفاصل الأساسية للحياة السياسية للأئمة التي استمرت 250 عاماً وآمل أن ينهض المحققون والعلماء والباحثون في تاريخ القرون الأولى للإسلام بتنقيح وعرض ذلك أكثر. ومن المفيد أن تخصص الجامعة الرضوية الإسلامية التي تأسس اليوم ببركة الذكرى السنوية لولادة هذا الإمام العظيم علي بن موسى الرضا(ع) وتستضيء بأنوار فيوضات مرقده الطاهر والشريف، قسماً من جهودها وعملها في سبيل الإضاءة على هذا التاريخ المليء بالعبر والدروس، وأن توضح وترسم صورة لجيل اليوم والغد في العالم الإسلامي عن هذا التاريخ السياسي لحياة الأئمة مع التركيز على عامل الجهاد والمواجهة فهو المحور الأساسي لهذا التاريخ. - عنصر الجهاد في حياة الأئمة (عليهم السلام)
عنصر الجهاد في حياة الأئمة (ع)
بحث لسماحة ولي أمر المسلمين (دام ظله)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله وأشكره، ففي هذا الجمع المبارك تتحق إحدى الأمنيات القديمة المنسية وهي ذكر أهل البيت (ع).
إن غربة الأئمة (ع) لم تقتصر على الفترة الزمنية التي عاشوها في حياتهم، وإنّها استمرت ولعصور متمادية من بعدهم، والسبب في ذلك يرجع الى إهمال الجوانب المهمة، بل والأساسية من حياتهم.
من المؤكد أن هناك كتباً ومؤلفات كثيرة قد حَظِيت بمكانة رفيعة وقديرة، وذلك لما حملته بين طياتها من روايات تصف حال الأئمة (ع)، ولما نقلته للأجيال المتعاقبة من أخبار تصف سيرتهم، ولكن عنصر المواجهة والجهاد المرير والذي يمثل الخط الممتد للأئمة (ع) طوال 250 سنة من حياتهم كان قليل الذكر في هذه الروايات التي تضمنت فقط عناوين أخرى كالجوانب العلمية أو المعنوية من سيرتهم.
يجب علينا أن ننظر إلى حياة الأئمة (ع) كأسوة وقدوة نقتدي بها في حياتنا لا كمجرد ذكريات قيمة وعظيمة حدثت في التاريخ. وهذا لا يتحقق إلا بالاهتمام والتركيز على المنهج والأسلوب السياسي من سيرة هؤلاء العظماء (ع).
أنا شخصياً عندي رغبة شديدة للاطلاع على هذا الجانب المهم من حياتهم، وأول مرة شعرت بأهمية هذه المسألة كان عام 1350هـ.ش (1971م) وهي مراحل المحنة التي سبقت الثورة. ومع أنني قبل تلك الفترة كنت أنظر إلى الأئمة (ع) بعنوان أنهم شخصيات مجاهدة ومكافحة لإعلاء كلمة التوحيد وإقامة الحكومة الإلهية، إلا أنّ النقطة المهمة التي وصلت إليها في تلك الفترة هي أنه وعلى الرغم من الاختلاف الظاهري بين سيرهم (ع) (حتى إن البعض ليشعر بالاختلاف الشاسع والتناقض فيها)، إلا أنها عبارة عن مسيرة واحدة وحياة واحدة استمرت 250 سنة ابتداءً من سنة 11هـ إلى 260هـ؛ أي انتهت عام الغيبة الصغرى للإمام الحجة (عج).
إذن فالأئمة عليهم السلام جميعهم عبارة عن شخصية واحدة لها هدف واحد، ولذلك فإننا وبدل أن ندرس حياة كل من الإمام الحسن (ع) والحسين (ع) والسجاد (ع) بصورة منفصلة عن الأخرى، أو حتى لا نقع في خطأ ما اعتقده الآخرون بوجود عنصر التناقض بين حياتهم (ع)، فلندرس ذلك بصورة شمولية. فمن هذا المنظار تصبح كل حركات هذا الانسان العظيم المعصوم قابلة للفهم والإدراك.
إن أي إنسان يملك نوعاً من العقل والحكمة، ولا نقول يملك نوعاً من العصمة، تكون له خطط واختيارات موضوعية خاصة خلال حركته الطويلة المتتابعة. وقد يجد هذا الإنسان أنه من الضروري أن يُسرع في حركته مثلاً وأحياناً أخرى يُبطئ فيها، وحتى من الممكن أن يتراجع تراجعاً حكيماً في مواضع أخرى. والإنسان العاقل والحكيم والعارف سيرى ـ بالنظر لهدف هذا الإنسان ـ في هذا التراجع، حركة نحو الأمام وتقدماً.
من هذا المنظار تعتبر حركة الإمام أمير المؤمنين (ع) والإمام والمجتبى (ع) والإمام الحسين (ع) والأئمة الثمانية المعصومين (ع) من ولدهم حركة واحدة ومستمرة. فأنا ومن تلك السنة توصلت الى هذه الحقيقة التي ذكرتها، وبهذه النظرة نظرت إلى حياتهم (ع)، وكلما تقدمت في مسيرتي هذه تأكدت عندي هذه النظرة والعقيدة.
وطبعاً لا يمكن أن نوسع الكلام في هذا الباب خلال هذا اللقاء القصير، ولكن يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن حياة هؤلاء المعصومين من عظماء آل الرسول (ص) هي حياة ذات طابع سياسي، ويجب أن يُخصص لهذا الجانب دراسة خاصة. وأنا اليوم سأتطرق إلى هذا الجانب من خلال بحثنا هذا.
لقد تحدثت السنة الماضية عن نضال الإمام الرضا (ع)، وأود اليوم أن أبين هذا الموضوع بالتفصيل؛ أولاً ماذا نقصد عندما ننسب المواجهة السياسية أو النضال السياسي للأئمة (ع)؟ إن المقصود من هذا الكلام أن جهاد الأئمة (ع) لم يكن جهاداً علمياً من قبيل النزاعات التي تدور بين الكلاميين والتي نشاهدها عبر التاريخ، مثل النزاع بين المعتزلة والأشاعرة وغيرهم. فلم يكن هدف الأئمة (ع) من اجتماعاتهم العلمية وحلقات دروسهم والأحاديث نقل المعارف الإسلامية والأحكام فقط حتى يثبتوا مدرستهم الكلامية الفقهية، بل كان هدفهم يفوق هذا. وأيضاً لم تكن مواجهتهم مواجهة مسلحة كما كان في عهد زيد والذين جاؤوا من بعده أو كما كان في عهد بني الحسن وبعض آل جعفر وغيرهم من الذين عاصروا الأئمة (ع). وأريد أن أشير إلى هذا موضوع الذي سأتطرق إليه بصورة مفصلة فيما بعد وهو أن الأئمة (ع) لم يستنكروا مواقف هؤلاء أو يحكموا على مثل هذه الحركات بالخطأ بصورة مطلقة، وحكمهم على البعض منها بالخطأ لم يكن بداعي كونها حركات مسلحة، بل لأسباب أخرى مختلفة. فنجد مواقف الأئمة (ع) أحياناً أخرى مؤيدة لهذه الحركات، بل وحتى قد اشتركوا في بعضها بصورة غير مباشرة عن طريق المساعدات التي كانوا يقدمونها للثورة. ومن الجدير الالتفات إلى حديث الإمام الصادق (ع) الذي يقول "لوددت أن الخارجي يخرج من آل محمد (ص) وعليَّ نفقة عياله".. إلا أن الأئمة (ع) لم يخوضوا مثل هذا الثورات المسلحة ولم يشتركوا فيها بشكل مباشر.
إن مواجهة الأئمة (ع) كانت مواجهة ذات هدف سياسي؛ فما هو هذا الهدف إذن؟ الهدف هو عبارة عن تشكيل حكومة إسلامية، وبحسب تعبيرنا حكومة علوية. فكان سعي الأئمة (ع) ومنذ وفاة الرسول (ص) وحتى عام 260هـ هو إيجاد وتأسيس حكومة إلهية في المجتمع. ولا نستطيع أن نقول إن كل إمام كان بصدد تأسيس حكومة في زمانه وعصره، ولكن هدف كل إمام كان يتضمن تأسيس حكومة إسلامية مستقبلية، وقد يكون المستقبل البعيد أو القريب؛ فمثلاً كان هدف الإمام المجتبى (ع) تأسيس حكومة إسلامية لمستقبل قريب، فقوله (ع): "ما ندري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين" في جوابه للمسيب ابن نجيه ولآخرين عندما سألوه عن سبب سكوته هو خير دليل وإشارة إلى هذا المستقبل. وأما الإمام السجاد (ع)، وحسب اعتقادي، كان يهدف لتأسيس الحكومة الإسلامية في المستقبل الآتي من بعده؛ وفي هذا المجال لدينا شواهد سنذكرها فيما بعد. أما الإمام الباقر (ع) فقد سعى من أجل تأسيس حكومة إسلامية لمستقبل قريب منه، وفيما بعد الإمام الثامن (ع) كان كل إمام يهدف من تحركاته تأسيس الحكومة على المدى البعيد.
إذن هدف تأسيس الحكومة كان دائماً نصب أعين الأئمة (ع)، لكن الزمن المنشود لتأسيسها وقيامها يختلف من إمام إلى آخر. إن كل الأعمال التي كان يقوم بها الأئمة (ع)، بغض النظر عن الأمور المعنوية والروحية التي تهدف إلى تكامل ورقي النفس الإنسانية وقربها الى الله تعالى، كانت أعمالاً تهدف إلى تأسيس هذه الحكومة الإسلامية، فنشاطاتهم في نشر العلم والمناظرات التي كانوا يقومون بها ضد خصومهم في العلم والسياسة ومواقفهم إلى جانب جماعة ووقوفهم في وجه أخرى كلها تصب في هذا المجال، وهو تأسيس الحكومة الإسلامية.
إذن فنحن ندعي أن كل هذه الأمور كانت تأخذ منحى واحداً وتهدف إلى تأسيس الحكومة الإسلامية. وأقول ندعي لأنه، وكما قال السيد الطبسي، قد اختلف العلماء وسيختلفون في تفسيرهم لمواقف الأئمة (ع). وأنا شخصياً لا أصر على صحة اعتقادي واستنباطي للأمور، ولكن أصر على أن هذه المواقف هي محطة يجب أن نتوقف عندها ونبدأ منها لنستطيع أن نراجع تاريخ حياة الأئمة (ع).
خلال السنين الأخيرة سعينا للوصول إلى إدراك مدى علاقة هذا الموضوع (تأسيس الحكومة الإسلامية) بالأئمة (ع) ومدى ارتباطه بكل إمام منهم، محاولين الاعتماد في ذلك على أدلة منسدة، إضافة إلى أن هناك أدلة تعتبر أدلة كلية وعامة. فمثلاً ان إمامة الأمة هي النبوة، وأن النبي (ص) كان إماماً للأمة… ألخ كما جاء في حديث الإمام الصادق (ع).
إذن فالرسول (ص) نهض من أجل تأسيس حكومة حقة حيث بُني النظام الإسلامي وتأسس آنذاك نتيجة نضال وجهاد الرسول (ص). ومن بعدها جاهد الرسول (ص) أيضاً من أجل الحفاظ على هذا النظام واستمراره، ولا يُعقل أن يغفل الإمام الذي يأتي من أجل متابعة مسيرة الرسول (ص) عن مثل هذا الموضوع المهم. إذن فهذا دليل عام. وبالطبع فإن البحث الواسع والالتفات إلى النواحي المختلفة لهذا الدليل يجعلنا نفهمه أكثر، كذلك لدينا أدلة صادرة ونابعة من كلامهم (ع) أو مستنبطة من حياتهم العملية، إضافة إلى الظروف والأوضاع التي كانت حينها والتي تستطيع أن تبين لنا مواقف الأئمة، كأن نفهم ما تقصده هذه العبارات "السلام على المعذب في قعر السجون وظلم المطامير ذي الساق المرضوض بحلق القيود".
حول هذا الاتجاه سنتكلم اليوم، كما أريد أن أطرح بعض الاستنتاجات وما أفهمه في خصوص هذا الموضوع خلال اجتماعنا هذا.
إن المطلع على تاريخ الحركة العباسية في الفترة الزمنية من 100هـ إلى 132هـ ش بداية الحكم العباسي لربما يشبّه الحركة الجهادية والسياسية للأئمة (ع) بمثل الحركة التي قام بها بنو العباس، ولكننا نقول إن هذا التشبيه غير دقيق، لأنه ربما تشابه شكل الجهاد وخطته، لكن توجد فوارق جوهرية بين الحركتين: مثلاً هدف ومنهج بني العباس يختلف جوهرياً عن هدف ومنهج الأئمة (ع)، وكذلك الاختلاف الجوهري يُلاحظ في الشخصيات المجاهدة، فنجد بني العباس تقارب دعوتهم وإعلامهم واعمالهم دعوة وإعلام آل علي (ع)، فنجدهم يوحون في أعمالهم في بعض المناطق كالعراق والحجاز أنهم على خط آل علي (ع) فمثلاً نسبوا سبب ارتدائهم السواد الذي اتخذوه شعاراً في بداية دعوتهم في خراسان إلى الحزن على آل علي (ع) وما جرى في كربلاء وعلى زيد ويحيى، حيث كانوا يقولون "هذا السواد حداد آل محمد (ص) وشهداء كربلاء وزيد ويحيى". وحيث كان يخيل للبعض وحتى لرؤسائهم أنهم يعملون لآل علي (ع)، إلا أن الواقع لم يكن كذلك. إذن هناك ثلاثة فروق رئيسية بين الحركتين وهي: اختلاف الهدف واختلاف الوسيلة واختلاف الأشخاص.
الآن سوف أتطرق إلى الشكل العام لجهاد ونضال الأئمة (ع)، ومن ثم أشير إلى أبرز الجوانب الجهادية في حياتهم (ع)، إلا أن هذه الجوانب سأطوي الحديث عنها عند كل من الإمام علي (ع) والإمام الحسن (ع) والإمام الحسين (ع)، لأنه جرت بحوث عديدة ووافية في هذا المجال ولا أعتقد بأن هناك أية شبهة تحيط هذا المجال في حياتهم.
سوف نبدأ حديثنا من زمن الإمام السجاد (ع) إلى عصر غيبة الإمام المهدي (عج) وهي الفترة التي تمتد من (61) هـ إلى (260هـ)، يعني خلال مئتي سنة. هذه الفترة الزمنية تتضمن ثلاثة مراحل:
1 ـ المرحلة الأولى: من سنة 61هـ إلى سنة 135هـ (بداية حكم المنصور العباسي): مع بداية هذه الفترة الزمنية تبدأ الحركة الجهادية من نقطة ثم تأخذ عمقاً وشمولاً لتصل إلى أوجها في سنة 135هـ، وهي السنة التي مات فيها السفاح واستلم الخلافة المنصور العباسي، حيث تغير الوضع وظهرت بعض المشاكل التي أدت إلى الحد من التطورات التي كانت آخذة في مسيرتها آنذاك. وقد شاهدنا مثل هذه الأمور والظروف خلال قيامنا وثورتنا وجهادنا.
2 ـ المرحلة الثانية: تبدأ من سنة 135هـ إلى سنة 203هـ أو إلى 202هـ أي سنة شهادة الإمام الرضا (ع)؛ ففي هذه المرحلة وصلت المواجهة الجهادية إلى مرحلة أعمق وأوسع مما كانت عليه في سنة 61هـ. ولكنها تبدأ بمشكلات جديدة وتتوسع حتى تصل إلى أوجها متقدمة خطوات تجاه مرحلة النصر، حتى سنة شهادة الإمام الرضا (ع) حيث عادت لتتوقف عندها.
3 ـ المرحلة الثالثة: تبدأ من سنة 204هـ إلى سنة 260هـ السنة التي استشهد فيها الإمام العسكري (ع) وبدأت الغيبة الصغرى.. تبدأ المرحلة الثالثة بذهاب المأمون إلى بغداد سنة 204هـ،وفي بداية خلافته يبدأ فصل جديد في حياة الأئمة (ع)، ويبدأ عصر المحنة للأئمة (ع). ومع أن التشيع كان في وضع أفضل مما كان عليه في السابق، فقد أخذت مشكلات الأئمة تتفاقم وتتسع. وبرأيي ان هذه الفترة هي الفترة التي كان الجهاد والمواجهة فيها من أجل تأسيس حكومة إسلامية على المدى البعيد؛ يعني أن الأئمة (ع) لم يكن جهادهم من أجل عصر ما قبل الغيبة وإنما إلى ما بعد الغيبة.
إن لكل مرحلة من هذه المراحل الثلاثة مميزاتها الخاصة وأذكرها بصورة مختصرة:
1 ـ المرحلة الأولى وهي مرحلة الإمام السجاد (ع) والإمام الباقر (ع) وقسم من عصر الإمام الصادق (ع)؛ فبداية هذه المرحلة كانت مؤلمة جداً حيث جرت حادثة كربلاء، التي لم تهز كيان الشيعة فقط وإنما هزت الأمة الإسلامية بأجمعها. ومع أن القتل والأسر والتعذيب كان شائعاً آنذاك ولكن قتل أولاد الرسول (ص) وأسر العائلة النبوية ووضع رؤوس آل محمد (ص) على الرماح والاستهانة بمن كان الرسول (ص) يقبل ثناياه، كل هذا قد زلزل العالم الإسلامي وأدهشه. فلم يكن أحد يتوقع أن الأمر سوف يصل إلى هذه المرحلة. ولا أدري مدى صحة الشعر المنسوب للسيدة زينب (ع):
ما توهمت يا شقيق فؤادي كان هذا مقدراً مكتوباً
فهذا البيت يشير بلا شك إلى أن هذا الحدث كان غير متوقع آنذاك. فلهذا أخذ الهول والفزع ينتاب الأمة الإسلامية حيث شاهدت ورأت ما لم تكن تتوقعه وتظنه من التنكيل والتعذيب.. لذا انتشر الخوف في كافة المناطق الإسلامية إلا الكوفة (وهذا بفضل التوابين والمختار وثورتهم). أما المدينة وحتى مكة المكرمة فعاشت حالة الخوف هذه بسبب حادثة كربلاء المفجعة، وعلى الرغم من قيام ثورة عبد الله بن الزبير في مكة، فقد ظل الخوف يهدد هذه المدينة.
وأيضاً في الكوفة، وبالرغم من قيام التوابين في سنة 64و 65هـ (حيث كانت شهادة التوابين سنة 65هـ) وما أوجدته من جو "جديد" في البلاد، فإن ذلك لم يدم طويلاً حتى عاد الخوف ثانية بعدما استشهد كل التوابين حتى آخر شخص منهم.
بعد ذلك قاتل أعداء النظام الأموي بعضهم بعضاً؛ فهذا المختار حارب مصعب بن الزبير ولم يستطع عبد الله بن الزبير أن يتحمل المختار الموالي لأهل البيت (ع) في الكوفة ولذلك قُتِل المختار على يد مصعب! ومرة أخرى عم الرعب والفزع وخابت الآمال عند الناس. وعندها جاء عبد الملك بن مروان وتسلم سدة الحكم وبعد مدة قصيرة أصبح تمام العالم الإسلامي تحت سيطرة بني أمية وبقي عبد الملك بن مروان متسلطاً وفارضاً سلطته لمدة 21سنة. وهنا من الضروري الإشارة إلى واقعة (الحرة) التي جرت في سنة 64هـ وهي السنة التي هجم فيها مسلم بن عقبة على المدينة، مما أدى إلى زيادة الخوف والرعب في المدينة. واشتدت الغربة على أهل البيت (ع) آنذاك والحادثة هي كما يلي:
في سنة 62هـ عين يزيد أحد قواد الجيش الشباب حاكماً على المدينة، وكان شاباً فاقداً للتجربة، وقد دعا بعضاً من أهل المدينة لزيارة يزيد لعله يستطيع أن يحسن علاقتهم به (يزيد). وهيأ يزيد جوائز تناهز الـ 50 ألف و 100 ألف درهم وأعطاها لهم. ولكن هؤلاء، وحيث كان من بينهم الصحابة، وأبناء الصحابة عندما شاهدوا جاه ومقام يزيد اشتد استياؤهم وغضبهم، وعندما رجعوا إلى المدينة أعلن ابن عبد الله بن حنظلة (غسيل الملائكة) فصل المدينة عن الحكومة المركزية آنذاك. فأرسل يزيد مسلم بن عقبة لمعالجة الوضع، فحصلت الكارثة العظيمة، والتي تحدثت عنها كتب التاريخ وخصصت لها فصول تحكي الحوادث الدامية والكوارث المؤلمة التي حدثت آنذاك. هذه الحادثة أدت إلى زيادة الرعب والفزع بين الناس.
والعامل الثاني الذي زاد الرعب والفزع المنتشرين هو الانحطاط الفكري الذي كان يعم الناس في العالم الإسلامي، وهذا كان نتيجة للابتعاد عن التعاليم الدينية خلال عشرين سنة. ولشدة ضعف التعالم الدينية والإيمان والابتعاد عن الحقائق وتفسير القرآن عن لسان الرسول (ص) خلال العشرين سنة التي تلت عام 40 هـ ضعُف أساس الإيمان عند الناس وعم الخواء العقائدي في نفوسهم. فإذا وضع الإنسان حياة الناس في تلك الفترة تحت المجهر يجد ما ذكرناه واضحاً ويجده أيضاً من خلال قراءة التاريخ والروايات العديدة.
طبعاً كان للمجتمع آنذاك علماء وقرّاء ومحدثون، وسنذكر ما يتعلق بهم فيما بعد، ولكن عامة الناس كانوا يعانون من الاختلال العقائدي والضعف الإيماني، وقد وصل الوضع إلى أن بعض وجوه الخلافة قد ضعفوا من منزلة النبوة. وقد ذكر في الكتب أن خالد بن عبد الله القسري أحد علماء بني أمية كان يفضل الخلافة على النبوة حيث كان يقول: ان الخلافة أرفع من النبوة! وكان يستدل بقوله: "أيهما أفضل خليفة الرجل في أهله أو رسوله ألى أصحابه؟ وهل خليفتكم بين أهلكم أقرب إليكم أو رسولكم إليهم؟ طبعاً إن خليفتكم أقرب إليكم من الرسول. إذن خليفة الله أرفع من الرسول"! حيث كان يقول خليفة الله ولم يقل خليفة رسول الله. وأيضاً إذا لاحظنا شعر شعراء الفترة الأموية وبني العباس نجد أنه ومن عهد خلافة عبد الملك استُعملت كلمة خليفة الله، حيث كُرِرَت في الأشعار آنذاك، بحيث قد ينسى الإنسان أن هناك خليفة لرسول (ص). واستمر استعمال وذكر هذا اللفظ إلى زمان بني العباس، وقد هجا الشاعر بن برد يعقوب بن داود والمنصور بهذا التعبير:
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا خليفة الله بين الرق والعبد
فنلاحظ أنهم عندما يريدون هجاء الخليفة يقولون خليفة الله. وقد تكرر هذا اللفظ في أشعار عدد من الشعراء المعروفين مثل الجرير والفرزدق ونصيب، والمئات من عظماء شعراء ذاك الزمان، حيث كانوا يذكرون كلمة خليفة الله في مدائحهم للخلفاء آنذاك.
هذا نموذج من بعض العقائد التي كانت لدى الناس ومستوى إيمانهم، ولم يضعف أساس الإيمان في نفوسهم وحسب، بل انهارت عندهم القيم الأخلاقية. ومن خلال مطالعتي لكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وجدت أنه وفي حدود سنة 80 ـ 90هـ وإلى ما بعد 50 ـ 60سنة كان أعظم المطربين والعازفين والمترفين وعبيد الدنيا يتواجدون في مكة والمدينة، وكلما رغب الخليفة في الشام بسماع الغناء والعزف أو طلب مغنياً أو عازفاً يبعثون له بهم من مكة والمدينة، حيث كان مركز الغناء والطرب! فأسوأ أنواع الشعر وأكثره مجوناً كان في هاتين المدينتين اللتين كانتا مهبط الوحي ومسقط رأس الإسلام، واللتان تحولتا إلى مركز للفساد والمجون!
ومن المفيد أن نعرف هذه الحقائق المؤلمة والمرة لأن التاريخ والكتب التاريخية المتوفرة بين أيدينا فاقدة لمثل هذه الأخبار والحقائق.
لقد كان في مكة شاعر معروف بعمر بن أبي ربيعة، حيث كان يعتبر من شعراء الشعر الخلاعي الفارغ، حيث شهد التاريخ وشهدت المشاهد المقدسة كالطواف ورمي الجمرات وغيرها من المشاهد الأخرى عبثه ودناءته في الشعر حيث قال مرة:
بدا لي منها معصم حيث جمّرت وكفّ خضيب زُينت ببنان
فوالله ما أدري وإن كنت دارياً بسبع رمين الجمر أم بثمان
فالمعنى يبين تلك الأوضاع. وعندما مات عمر بن أبي ربيعة يُروى أنه عم العزاء في المدينة وكان الناس يبكون في أزقة المدينة وشوارعها، وأينما ذهبت تجد مجموعة من الشباب يبكون تأسفاً عليه. ويقول الراوي رأيت جارية ماضية في طلب حاجة وفي طريقها كانت تسكب الدموع من عينيها، حتى وصلت إلى مجموعة من الشباب سألوها عن سبب بكائها وذرفها للدموع، أجابت أبكي لأننا فقدنا عمر بن أبي ربيعة. فقال أحد الشباب اهدأي ولا تحزني، يُقال إن هناك شاعر آخر في مكة وهو الحارث بن خالد المخزومي يقول الشعر ويرويه مثل عمر بن أبي ربيعة وقرأ لها أحد أشعاره، وعندما سمعت الجارية بهذا الخبر مسحت دموعها وقالت "الحمد لله الذي لم يخل حرمه"! فهذا كان الوضع الأخلاقي في المدينة، حيث تسمعون الكثير من هذه القصص. سهرات مكة والمدينة لم تقتصر على الطبقة الفاسدة في المجتمع، بل كانت تعم كل الناس كالجائع والفقير والمسكين مثل "أشعب" هذا الشاعر والمهرج المعروف وغيره من عامة الناس وساداتهم من قريش، وهذه الظاهرة عمت أيضاً بني هاشم ولا أحب أن أذكر أسماءهم.. إذن وجهاء قريش من الرجال والنساء غرقوا في الفحشاء الذي عم آنذاك.
يروى أن الحارث بن خالد كان يعشق عائشة بنت طلحة، ففي زمن إمارة الحارث كانت عائشة بنت طلحة في حالة طواف بيت الله الحرام وحان وقت الأذان فأمرت هذه المرأة أن لا يؤذن المؤذن إلا بعد انتهائها من الطواف، فأمر الحارث بتأخير وقت الأذان، فاعترض الناس وانتقدوا الحارث لتأخيره وقت الصلاة لأجل شخص واحد فقال مجيباً: "فوالله لو طال طوافها إلى صباح الغد لأمرت بتأخير الأذان حتى الصباح"! هكذا كان وضع الفساد الفكري والأخلاقي السائد بين الناس.
العامل الآخر هو الفساد السياسي. فما ذكرنا كان وضع كبار الشخصيات الذين تشبثوا بفضلات الحياة المادية لرجال الحكومة آنذاك، وأمثال هؤلاء محمد بن شهاب الزهري؛ فهذه الشخصية كانت تعتبر من العظماء ومن تلامذة الإمام السجاد (ع) فالإمام (ع)، استطاع أن يفضح حقيقة هؤلاء من خلال رسالة كتبها لتكون حجة للتاريخ وتبين العلائق المادية التي كانوا يتمسكون بها.
وهناك الكثير من أمثال محمد بن شهاب، حيث نقل العلامة المجلسي عن بن أبي الحديد ما يثير ويهز المشاعر؛ فقد نقل في البحار عن جابر أن الإمام السجاد (ع) قال: "ما تدري كيف نثق بالناس، إن حدثناهم بما سمعنا من رسول الله (ص) ضحكوا (فإنهم لا يكتفون بالرفض وإنما يضحكون استهزاءً) وإن سكتنا لا يسعنا". ومن ثم يذكر ابن أبي الحديد أسماء عدد من الشخصيات ورجال ذلك الزمان من الذين كانوا من أتباع أهل البيت (ع) ثم انحرفوا فيما بعد، وبعدها ينقل رواية عن الإمام السجاد (ع): "ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبوننا"! هكذا كان الوضع في زمان الإمام السجاد (ع).
وفي ظل هذه الظروف بدأ الإمام (ع) بعمله وبتحقيق هدفه العظيم، وهو ذات الوقت الذي أشار فيه الإمام الصادق (ع) قائلاً: "ارتد الناس بعد الحسين (ع) إلا ثلاثة، وهم: أبو خالد الكابلي ويحيى ابن أم طويل وجبير بن مطعم".
في ظل ذاك الوضع وعلى هذه الأرض الصحراوية بدأ الإمام السجاد (ع) بعمله. فماذا يجب على الإمام السجاد (ع) فعله ليحقق هدفه؟ كانت تقع على عاتق الإمام السجاد ثلاث مسؤوليات:
أولاً: يجب على الإمام (ع) أن يُعرف الناس على العلوم والمعارف الإسلامية التي لا يمكن بدونها أن نقيم حكومة إسلامية؛ فعندما نعمل على تعريف الناس على المعارف الدينية يصح أن نأمل بإقامة مثل تلك الحكومة.
ثانياً: ان مسألة الإمامة كانت قد ابتعدت عن أذهان الناس، لذا كان من الضروري توضيحها لهم لتقبلها أذهانهم. فماذا تعني الإمامة؟ وما هي شروط الإمامة؟ إن توضيح هذا الأمر ضروري لأن الناس آنذاك كانوا يرون في عبد الملك بن مروان إماماً، حيث كان زعيم المجتمع.
وسأذكر لاحقاً وفي بحث (الإمام) أن استنباطنا وفهمنا لمعنى الإمام خلال القرون الأخيرة يختلف تماماً عن معنى ومفهوم الإمام الذي كان سائداً في صدر الإسلام وكما هو سائد الآن في ظل الجمهورية الاسلامية في إيران؛ ففي ذلك الزمان (صدر الإسلام) كان كلا الموافقين والمخالفين للأئمة (ع) يقولون في الإمام أنه قائد الأمة، يعني حاكم الدين والدنيا، بينما لم يُفهم موقع الإمام كذلك خلال القرون الثلاثة الأخيرة، فقد كان حينها للجمتمع وللأمة فرد مسؤول عن جباية الأموال والحروب وتأمين الاستقرار وإدارة أمور الشعب ودوائر ومؤسسات الدولة، وهو الذي يشكل الحكومة ويدعى بالحاكم، وأيضاً لها (أي للأمة) شخص آخر يحل ويفصل في أمور الناس الدينية ويصحح عقائد الشعب ويعلمهم دينهم وصلاتهم وغيرها من قبيل هذه الأمور، وهو ما يسمى بالعالِم، وأصبح الإمام بمثابة العالم في المراحل القريبة. فالخليفة هو الذي يفصل بين الناس، والإمام هو الذي يصلح دينهم وأخلاقهم.. هكذا كان فهم الإمامة خلال القرون الأخيرة. ولكن هذا المعنى كان يختلف عن معناه خلال فترة صدر الإسلام؛ فكان الإمام يعني قائد الأمة وزعيمها الديني والدنيوي، فبنو أمية ادعوا هذا المنصب وكذلك من بعدهم بنو العباس، حيث كانوا يدعون أن الإمامة لهم.
إذن فالأمة وفي زمن الإمام السجاد (ع) كان لها إمام وهو عبد الملك بن مروان، لذلك كان على الإمام السجاد (ع) آنذاك أن يُبين للناس معنى الإمامة وشروطها وجهتها، وما هي الأمور المفروض توفرها في الإمام، وما هي الأمور التي بفقدانها لا يمكن أن يكون الشخص إماماً.
ثالثاً: الذي يجب أن يفعله الإمام (ع) هو أن يعلن نفسه إماماً للأمة؛ وقد انصب جهد الإمام وعمله على الأمر الأول، لأن الظروف لم تكن تسمح لإعلان الإمام السجاد (ع) إمامته. كان يجب أن يُصلح دين الأمة، ويجب أن تُهذب أخلاق الناس، ويجب أن يُخلص الشعب من الفساد الذي كان سائداً آنذاك، ويجب أن تُوجه الأمة معنوياً ليرجع أساس الدين إلى الأمة والمجتمع.. ولذا ترون أن أكثر الكلام المنقول عن الإمام السجاد (ع) في الزهد، وحتى في بداية كلامه وخطبه التي تتضمن معنى سياسياً، نجده يبدأها بالكلام حول الزهد، حيث يقول (ع): "إن علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين عنها في الآخرة…إلخ". وفي كلام آخر يصف الدنيا قائلاً: "أولا حر يدع هذه اللماظة لأهلها، فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، ألا فلا تبيعوها بغيرها".
كلمات الإمام (ع) كلها كانت تحمل بين طياتها الزهد والمعارف الإسلامية وكان يطرح المعارف الإسلامية ويبينها من خلال الدعاء، وذلك لأن الظروف الصعبة والاختناق الذي كان مسيطراً على الشعب لم يكن يسمح للإمام السجاد (ع) أن يتكلم ويطرح آراء بصورة صريحة وواضحة، فليست السلطة وحدها كانت مانعة وإنما الناس أنفسهم كانوا يرفضون هذا؛ المجتمع كان قد أصبح مجتمعاً ضائعاً وكان من الواجب إصلاحه.
من عام 61هـ إلى 95هـ كانت حياة الإمام السجاد (ع) على ما ذكرنا، وكلما كان يمضي الوقت كان الوضع يتحسن، حتى قال الإمام الصادق (ع)، كما ذكرناه سابقاً، "ارتد بعد الحسين…" إلى أن قال "ثم أن الناس لحقوا وكثروا".
وفي زمن الإمام الباقر كان الوضع قد تحسن عما كان عليه في زمن السجاد (ع)، وهذا بفضل سعي الإمام السجاد خلال 35سنة.
كذلك نجد أن الإمام السجاد (ع) قد ذكر مسألة بناء الكوادر وتهيئتها خلال كلامه وأحاديثه؛ ففي الكتاب الشريف (تحف الحعقول) نُقل حديث طويل عن الإمام السجاد (ع) حول هذا الموضوع؛ أني آسف لأنني لم أستطع أن أبحث في بقية الكتب الأخرى حول الكلام الذي نقل عن الإمام (ع) وذلك لضيق الوقت، ولكني لا أعتقد أن هناك ذكر لغير هذا الحديث أو بمقدار طوله، نعم توجد كلمات قصار عنه أما أحاديث وخطب طويلة فلا أعتقد بوجودها، إلا التي نقلت في كتاب "تحف العقول".
إن مضمون الأحاديث وطريقة الخطاب (في هذا الكتاب) تبين ما كان يقصده ويفعله الإمام السجاد (ع)، وسنرى من خلال هذه الأحاديث الثلاثة التي سأذكرها أن الإمام السجاد (ع) عندما كان يخاطب عامة الناس كان يبدأ بعبارة: "يا أيها الناس" ومن خلال حديثه كان يشير إلى جُملة من العلوم والمعارف الإسلامية (فقد ذكر فيها موت الإنسان والسؤال في القبر وعن الرب والإمام) في هذا الخطاب نوع من الرفق والرقة وهو يناسب عوام الناس المراد تبليغهم آنذاك. هناك حديث آخر يبدأ بنوع آخر من الألفاظ ويُفهم من مضمونه أن الخواص هم المقصودون فيه حيث بدأه (ع) بـ "كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبارين، لا يفتنكم الطواغيت"، فلا يخاطب الحديث هنا عامة الناس وإنما فئة خاصة من الناس. هناك نوع ثالث يبين أن المقصودين به هم خاصة الخواص من الناس وزبدتهم، ويمكن أن يكون المخاطبون هم الأصحاب المطلعين على أسرار الإمامة وهدف مساعي الإمام (ع) آنذاك ومن زمرة المحافظين على أسرار الإمامة، حيث يبدأ الخطاب بهذه الألفاظ: "إن علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة تركهم كل خليط وخليل ورفضهم كل صاحب لا يريد ما يريدون".ويمكن أن نحتمل ونقدر أن الإمام السجاد (ع) وخلال هذه المدة كان له نوعان أو ثلاثة أنواع من الأحاديث التي تتضمن قيماً وتعاليم إسلامية؛ ففي بعضها أشار إلى النظام الحاكم وطواغيت ذلك الزمان، وفي بعضها الآخر اكتفى بالإشارة إلى المسائل والمفاهيم الإسلامية؛ هكذا كانت حياة الإمام السجاد (ع) حيث استطاع، وخلال 35 سنة، أن يخلص وينُجي الناس الجهلة من براثن شهواتهم من جانب، ومن تسلط النظام الحاكم المتجبر وشباك علماء السوء وعملاء البلاط الحاكم من جانب آخر. واستطاع كذلك أن يوجد ثلة مؤمنة وصالحة تصلح لأن تكون قاعدة وأساساً للعمل في المستقبل. وطبعاً الجزئيات المتعلقة بحياة الإمام السجاد (ع) تحتاج إلى حديث يطول.
الآن يأتي دور الإمام الباقر (ع)، حيث نجد في عهد الإمام الباقر (ع) الاستمرار على هذا الخط والمنهج، ولكن الوضع في زمن الإمام الباقر (ع) كان قد تحسن، وهنا أيضاً كان التركيز على المعارف الإسلامية وعلومها.
الناس في هذا العصر لم يعودوا متصفين بعدم الاكتراث وعدم الولاء لأهل البيت (ع) كما كانوا عليه؛ فعندما كان يدخل الإمام الباقر (ع) إلى المسجد كان الناس يجلسون حوله ويحيطون به ليستفيدوا منه. ويروي الراوي قائلاً: "رأيت الإمام الباقر (ع) في مسجد المدينة وحوله أهل خراسان وغيرهم"؛ يعني يحيط به أناس من أقصى البلاد كخراسان ومناطق أخرى، وهذا يدل على أن أمواج التبليغ كانت قد عمت العالم بأجمعه، وأصبحت قلوب الناس ومن أقصى العالم تقترب من أهل البيت (ع). وفي رواية أخرى ذكر "احتوشه أهل خراسان" يعني جلسوا حوله وأحاطوه. وكان الإمام الباقر (ع) يعلمهم مسائل الحلال والحرام، حيث كان كبار العلماء يأتون إليه ويتلقون علومهم عنده، ومن بينهم عكرمة، الذي يعتبر شخصية معروفة ومن تلامذة ابن عباس؛ فعندما أتى إلى الإمام الباقر (ع) أصابته رجفة وسقط في حضن الإمام (ع) وقال: "يا بن رسول الله، أصابني أمامك ما لم يصبني من قبل أمام أحد من الناس". فأجابه الإمام (ع) قائلاً: "ويحك يا عُبيد أهل الشام! إنك بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه". وأيضاً شخص آخر مثل أبي حنيفة، والذي كان يعتبر من عظماء فقهاء ذاك الزمان، كان يأتي ويتلقى علومه على يد الإمام الباقر (ع). وغيره من بقية العلماء كانوا يتلقون علومهم على يده (ع)، حتى وصلت شهرته العلمية إلى كل أرجاء العالم وعُرف بباقر العلوم.
تلاحظون أن الوضع الاجتماعي والعاطفي واحترام الناس للأئمة (ع) قد تغير في عهد الإمام الباقر (ع)، وبهذا نجد أن الحركة السياسية للإمام الباقر (ع) أصبحت أشد وضوحاً. وإننا لا نجد في خطاب الإمام السجاد (ع) لعبد الملك بن مروان ما يُشير صراحة وبشكل واضح إلى الاعتراض عليه، فعندما كان عبد الملك بن مروان يكتب الى الإمام السجاد (ع) عن موضوع معين كان الإمام (ع) يجيبه (طبعاً جواب ابن رسول الله دائماً قوي ومحكم) بطريقة لا تحتوي على العداء الصريح. أما الإمام الباقر (ع) فقد غير حركته لتغير الوضع آنذاك، بحيث أصبح هشام بن عبد الملك يحس بالرعب والفزع من وجوده (ع)، وكان هشام يرى أنه من الضروري أن يضع الإمام (ع) تحت المراقبة، وكان ينوي أن ينقل الإمام (ع) إلى الشام. طبعاً، الإمام السجاد (ع) وفي عهد إمامته (بعد المرحلة الأولى التي بدأت من كربلاء) قُيّدَ بالأغلال وحُمِلَ إلى الشام! لذا فالوضع في زمن الإمام الباقر (ع) قد تغير، ونجد أن أسلوب الكلام أصبح أكثر حدة. رأيت عدة روايات تصف مباحثات الإمام الباقر مع أصحابه حول مسألة الخلافة والإمامة ويلاحظ فيها الأمل بالمستقبل؛ وإحدى هذه الروايات هي رواية في بحار الأنوار مضمونها" كان منزل أبي جعفر (ع) مزدحماً بالناس وجاء رجل مسنّ يستند بعصاه وسلم مظهراً محبته وجلس إلى جانب الإمام الباقر (ع) وقال: "فوالله إني لأحبكم وأحب من يحبكم؛ فوالله ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في الدنيا. وأنني لأبغض عدوكم وأبرأ منه، فوالله ما أبغضه وأبرأ منه، لوترٍ كان بيني وبينه. والله إني لأحلّ حلالكم وأحرم حرامكم وأنتظر أمركم، فهل ترجو لي جعلني الله فداك؟". يعني هل تأمل أن يأتي يوم وأرى نصركم. فأنا منتظر أمركم، يعني منتظر وصول عصر حكومتكم وولايتكم؟
وتعبير "أمر، وهذا الأمر أمركم" إشارة إلى الحكومة، فالحكومة آنذاك كان يعبر عنها بالأمر، سواء في تعابير الأئمة (ع) وأصحابهم أو عند مخالفيهم؛ فمثلاً في كلام هارون إلى المأمون جاء "والله لو تنازعت معي في هذا الأمر" تعبير هذا الأمر يعني الخلافة والإمامة.
أنتظر أمركم يعني أنتظر خلافتكم. وهنا يسأل هل تأملون أن أدرك ذاك اليوم؟ فأجابه أبو جعفر (ع) أي أي… حتى أقعده على جنبه ثم قال: "أيها الشيخ، إن علي بن الحسين (ع) أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه".
يعني سُئِل الإمام علي بن الحسين (ع) نفس هذا السؤال، ولكننا لا نجده خلال الروايات التي نقلت عنه، ونفهم من هذا أن الإمام (ع) لو كان قد قالها في جمع من الناس فهذا يعني أنه قد سمعها الآخرون، وكان لا بد أن تصلنا، لذا فالاحتمال القوي هو قولها سراً. وهنا يقول الإمام الباقر (ع) علناً: "إن تمُت ترد على رسول الله (ص) وعلى علي والحسن والحسين وعلى علي بن الحسين يثلج قلبك ويبرد فؤادك وتقر عينك وتستقبل الروح والريحان مع الكرام الكاتبين، وإن تعش ترى ما يقر الله به عينك وتكون معنا في السنام الأعلى".
إذاً، الإمام (ع) لا يُدخل اليأس على قلبه بل يقول: إذا مُت فسوف تُحشر مع الرسول (ص) وأوليائه وإذا بقيت تكون معنا. فهذا المعنى في كلام الإمام الباقر يعطي للشيعة الأمل بالمستقبل. وفي رواية أخرى بين فيها زمان النهضة، وهذا لشيء عجيب جداً؛ فعن أبي الحمزة الثمالي وبسند قوي ـ كما جاء في الكافي ـ قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: "يا ثابت، إن الله تبارك وتعالى قد وقت هذا الأمر في السبعين، فلما أن قتل الحسين (ع) اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخره إلى أربعين ومائة، وحدثناكم الحديث فكشفتم قناع الستر، ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً عندنا، ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب". بعدها يقول أبو حمزة: فحدثت بذاك أبا عبد الله (ع) فقال: قد كان كذلك. وواقعاً لو لم تحدث تلك التحولات بعد سنة 135هـ وقد ذكرت أهميتها، ففي ذلك الوقت أتى المنصور على رأس الحكم، فلو لم تأتِ حادثة بني العباس، كأن التقديرات الإلهية كانت تكشف على أنه ستقام الحكومة الإلهية الإسلامية في سنة 140. وهناك بحث آخر وهو هل كان الأئمة فعلاً متوقعين حدوث هذا الأمر أم أنهم كانوا قد عرفوا أن القضاء الإلهي على خلاف ذلك؟ اللافت أن من خصوصيات زمان الإمام الباقر هي هذه الآمال والوعود.
وللتعرف على حياة الإمام الباقر (ع) نحتاج إلى ساعات طويلة متمادية لتكوين صورة عن حياته (ع)، وأنا قد تطرقت إلى هذا الموضوع سابقاً وبصورة عامة.
إن عنصر الجهاد السياسي في حياة الإمام الباقر (ع) أكثر وضوحاً، ولا نقصد هنا الجهاد العنيف أو المسلح؛ فعندما جاء زيد بن علي أخو الإمام الباقر (ع) وسأل الإمام الإذن بالنهوض والقيام، أمره الإمام الباقر (ع) بعدم القيام فأطاعه زيد بن علي. والبعض اتهموا زيداً ووجهوا له الإهانة لعدم إطاعته الإمام الباقر (ع) عندما قال له لا تنهض، فهذا اعتقاد وتصور خاطئ، لأن زيد أطاع الإمام (ع) في عدم نهوضه، ولكنه في عهد الإمام الصادق (ع) أستأذن زيد ثانية في قيامه ونهضته، ولم يمنعه الإمام الصادق (ع) آنذاك، بل شجعه عليه. وبعد شهادة زيد تمنى الإمام قائلاً: يا ليتني كنت من زمرة الذين قاموا ونهضوا مع زيد، لذا يجب أن لا يُلام زيد. في هذه الحالة.
نعم الإمام الباقر (ع) لم يرض بالجهاد المسلح في عهده، ولكن عنصر الجهاد السياسي كان واضحاً في عهده؛ فعنصر الجهاد البارز في حياة الإمام الباقر (ع) لم نكن نراه في عهد الإمام السجاد (ع)، وعند انتهاء عهد الإمام السجاد نجد أن الإمام الباقر استمر في جهاده، وذلك في إقامة مجالس العزاء في منى. وحتى إنه أوصى أن يقام له العزاء، ولمدة عشر سنوات في منى (تندبني النوادب بمنى عشر سنين) فهذا استمرار للنضال.
لماذا البكاء على الإمام الباقر في منى، وما هو الهدف منه؟ فمن خلال حياة الأئمة (ع) نلاحظ التأكيد والحث على مسألة البكاء، ولقد ظهر هذا التأكيد في الروايات التي ذكرت فضل وأهمية البكاء على ما جرى في حادثة كربلاء.
ولدينا روايات صحيحة ومعتبرة في هذا المجال، ولا أذكر أنه قد أكد على البكاء في حادثة اخرى غيرها، إلا في زمن الإمام الرضا (ع)، عندما عزم الإمام الرضا (ع) على الرحيل واقتربت منيته قام بجمع أهله ليبكوا عليه، فهذه الحركة لها دلالة ومعنىً سياسياً يتعلق بالفترة التي سبقت سفره وشهادته (ع). وفقط زمن الإمام الباقر (ع) أمَرَ بالبكاء وحتى إنه وصى به بعد شهادته، ووضع 800 درهم من ماله لإنجاز هذه الوصية في "منى". "فمنى" تختلف عن منطقة عرفات والمشعر وحتى مكة؛ ففي مكة الناس متفرقون وكل واحد منهم مشغول بعمله، وعرفات لا يكون المكوث فيها إلا من الصباح حتى وقت (بعد الظهر)، وعندما يأتي الناس إلى عرفات يأتون بعجلة ويسرعون بالرحيل بعد الظهر أيضاً، وذلك ليلتحقوا بأعمالهم. وأما المشعر فلا يدوم المكوث فيه إلا عدة ساعات، فهو ليس إلا ممراً في طريق منى. أما في منى فالمكوث يدوم فيه ثلاث ليالٍ متتالية؛ فقليل من الناس خلال هذه الليالي الثلاث من يذهب إلى مكة ويرجع ثانية، بل أكثر الناس يمكثون الأيام الثلاثة وبصورة مستمرة في منى، وخاصة في ذلك الزمان ومع بساطة الوسائل المتوفرة؛ حيث يجتمع الآلاف من الناس الذين يأتون من جميع أنحاء العالم ويمكثون ثلاث ليال، وكل شخص يعلم أن هذا المكان هو الأنسب لإيصال أي نداء إلى العام، وخاصة في تلك الأيام، حيث تنعدم وسائل الإعلام كالراديو والتلفزيون والجرائد وغيرها من الوسائل الأخرى، فعندما يبكى جماعة على آل الرسول (ص) فمن المؤكد أن يسأل الجميع عن سبب البكاء؛ فلا أحد (عادة) يبكي على ميت عادي وبعد مرور سنين طويلة. إذن فهل ظُلِمَ؟ أو قُتِلَ؟ ومَن الذي ظلمه؟ ولماذا ظُلِمَ؟ تُطرَح أسئلة كثيرة من هذا القبيل؛ إذن فهذه حركة جهادية دقيقة ومخطط لها.
ولقد لفتت نظري نقطة في الحياة السياسية للإمام الباقر (ع) هي أن الأدلة والحجج التي جاءت على لسان أهل البيت (ع) في النصف الأول من القرن الهجري حول باب الخلافة هي نفسها التي كررها الإمام الباقر (ع) وهي إن العرب قد تفاخروا على العجم لأن النبي (ص) منهم، وتفاخرت قريش على غيرها لأن النبي منها، وإذا كان هذا صحيحاً، فأهل بيت النبي (ص) أولى بالتفاخر من الآخرين. ولكن هؤلاء يضعون كل ذلك جانباً ويرون أنفسهم ورثة الحكومة. فإذا كان النبي هو أساس التفاخر في قريش على غيرها وتفاخر العرب على العجم، فالأولى أن نتفاخر نحن آل الرسول (ص) على غيرنا.
فهذا الاستدلال ذُكر مراراً في الفترة الأولى من القرن الهجري من قبل أهل البيت (ع)، فنجد أن الإمام الباقر (ع) وبين عام 95إلى 114هـ ـ فترة إمامته ـ يُبين هذه الكلمات، واحتجاج الإمام (ع) في ذلك العصر بشأن الخلافة شيء له دلالة كبيرة.
فعندما ينتهي عصر الإمام الباقر (ع) يبدأ عصر الإمام الصادق (ع) من عام 114 إلى عام 148هـ، والإمام الصادق عاصر مرحلتين في هذه الفترة: الأولى تمتد من عام 114هـ إلى 132 أو 135هـ ـ يعني إلى سنة انتصار بني العباس واستلام المنصور للخلافة ـ وكانت تعتبر مرحلة هدوء وسعة، وذلك بسبب النزاع الذي كان دائراً بين بني أمية وبني العباس، فوجد الإمام (ع) في تلك فرصة لنشر العلوم الإسلامية، ولم يمرّ الإمام الباقر (ع) بمثل هذه الظروف لأنها كانت خاصة بعصر الإمام الصادق (ع)؛ ففي عهد الإمام الباقر (ع) كانت الفترة فترة غطرسة بني أمية، وكان حكم هشام بن عبد الملك الذي قيل فيه: "كان هشام رجلهم"، حيث كان أكبر شخصية بعد عبد الملك، وكانت فترة حكمه في عهد الإمام الباقر (ع)، ولم يكن في عهده اختلاف أو قوى ليستطيع الاستفادة منها؛ فالحروب الداخلية والاختلافات السياسية كانت في عهد الإمام الصادق (ع) وفي المرحلة الأولى من عهده (ع)، ولكن بالتدريج اتسعت دعوة بني العباس، وفي نفس الوقت كانت الدعوة الشيعية في العالم الإسلامي قد وصلت إلى أوجها، وهذا مما لا نقف عنده الآن. وعندما بدأت مرحلة إمامة الإمام الصادق (ع) كانت الصدامات والحروب منتشرة في العالم الإسلامي كإفريقيا وخراسان وفارس وبلاد ما وراء النهر ونقاط أخرى من العالم الإسلامي، مما سبب مشكلات كثيرة لبني أمية. وهكذا استطاع الإمام الصادق (ع) في هذه المرحلة أن يستفيد من هذه الفرصة وقام بالتركيز على نفس النقاط الثلاث التي أشرنا إليها في حياة الإمام السجاد (ع)، وهي: مسألة نشر العلوم الإسلامية، ومسألة الإمامة، وخاصة التأكيد على إمامة أهل البيت (ع)؛ وعلى سبيل المثال: يروي عمر بن المقدام قائلاً: "رأيت أبا عبد الله يوم عرفة بالموقف وهو ينادي بأعلى صوته"، فكان يقول جملة ثم يلتفت إلى الطرف الآخر ويكررها ومن ثم إلى الطرف الآخر.. وهكذا إلى أربعة أطراف، وكل مرة يكررها ثلاثاً، والجملة هي" أيها الناس، إن رسول الله (ص) كان هو الإمام".
التفتوا إلى نفس استعمال كلمة إمام، كان هذا لأجل لفت انظار الناس إلى حقيقة الإمامة ولإشاعة هذه الفكرة حتى يُصار إلى التساؤل: هل هؤلاء الحكام المتسلطين على الحكم لائقون بالإمامة أم لا؟
فينادي ثلاث مرات لمن بين يديه ولمن خلفه وعن يساره... اثنا عشر صوتاً: "أيها الناس، رسول الله كان هو الإمام، ومن بعده علي بن أبي طالب، وبعده الحسن، وبعده الحسين، ومن ثم علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وبعدها هاه".. ويكرر الكلمات اثنا عشر مرة.
يقول الراوي سألت ما معنى هاه. قال معناها في لغة (لهجة) بني فلان (أنا) كناية للإشارة عن نفسه (ع)؛ يعني بعد محمد بن علي (ع) أنا الإمام.
ونشير إلى نموذج آخر، قال: قدم رجل من أهل الكوفة إلى خراسان فدعا الناس إلى ولاية جعفر بن محمد (ع) يعني إلى حكومته.
ونحن، حتى استطعنا أن ندعو لقيام "الجمهورية الإسلامية" خلال فترة جهادنا، فطوال سنوات الجهاد والكفاح لم نستطع أن نقول أكثر من رأي الإسلام في الحكومة وحدودها؛ يعني استطعنا أن نحدد القواعد الأولى التي حددها الإسلام للحكومة والشروط التي وضعها للحكام. فهذه حدود ما استطعنا أن نبينه آنذاك، حيث لم يكن الوقت مناسباً أبداً للدعوة إلى الحكومة الإسلامية أو الإعلان عن شخص معين ليكون الولي؛ ففي سنة 1357هـ.ش (1979م) أو في سنة 1356هـ.ش، وفي اجتماعاتنا الخاصة، استطعنا أن ندعو إلى الحكومة الإسلامية وطبعاً من دون أن نذكر اسم قائدها.
بينما ترون أن رجلاً وفي زمن الإمام الصادق (ع) يذهب إلى أقصى نقاط العالم ويدعو الناس لحكومة الإمام الصادق (ع)، ماذا يعني هذا؟ هل له معنى سوى حلول الزمان الموعود؟ فهذا هو عام 140هـ وهذا هو نفس الشيء الذي كان يتحرك لأجله الأئمة بشكل طبيعي، وهو الذي أدى إلى أن يقوم هذا الرجل بما فعل. فالنهوض الطبيعي للأئمة (ع) هو الذي أدى إلى هذا، كما أنه أعطى الأمل في تشكيل الحكومة الإسلامية في ذلك الزمان.
إذن، فقد كانت الدعوة للناس إلى حكومة وولاية الإمام جعفر بن محمد (ع).. ونحن اليوم نفهم الولاية بمعناها الحقيقي والواقعي، ولكن سابقاً كانوا يفسرون الولاية بالمحبة؛ وهذا يعني أنهم كانوا يدعون الناس إلى الولاية، أي إلى محبة الإمام جعفر بن محمد (ع)، فهل يصح هذا؟! فهذا ليس من شؤون الدعوة، فالمحبة لفرد ليست هي بالشيء الذي يُدعى إليه المجتمع، إضافة إلى أنه إذا فسرنا الولاية بالمحبة لا يكون لبقية الحديث معنى، حيث قال (ع): "ففرقة أطاعت وأجابت، وفرقة جحدت وأنكرت ـ ومن الذي ينكر ويرد محبة أهل البيت في العالم الإسلامي ـ "وفرقة ورعت ووقفت". وإذا فسرت الولاية بالمحبة فلا تتناسب هنا مع مسألة التورع والتوقف. وهذا قرينة إلى أن الولاية لها معنى آخر غير المحبة، بل هي الحكومة. وبقية الحديث، يقول: "فخرج من كل فرقة رجل فدخلوا على أبي عبد الله (ع)" فكانوا يأتون إلى الإمام ويتكلمون معه، حيث يرد على واحد من الذين تورعوا وتوقفوا كما يلي: "تورعت في هذا العمل، فلماذا لم تتورع عند النهر الفلاني في اليوم الفلاني حيث ارتكبت العمل المخالف الفلاني"؟ فهذا الكلام يبين بوضوح أن الشخص الذي ذهب إلى خراسان ودعا الناس لولاية الإمام قد قام بهذا برضا الإمام، ولعل الإمام (ع) هو الذي أرسله.
فهذا كله يتعلق بالمرحلة الأولى من حياة وعصر الإمام الصادق (ع)، وتوجد حوادث أخرى من هذا القبيل في حياته (ع)، وعلى الأكثر تتعلق هذه الحوادث بالمرحلة الأولى من حياته (ع) حتى وصول المنصور إلى سدة الحكم والخلافة، فتتبدل الأوضاع وتبدأ المشاكل والمصاعب في حياة الإمام الصادق (ع). ولربما هذه الفترة من حياة الإمام الصادق (ع) تشبه الفترة التي مرت على الإمام الباقر (ع)، حيث ساد جو القمع وممارسة الضغوط على الإمام حتى إنه (ع) أُحضر ونُفي لعدة مرات إلى الحيرة وواسط والرميلة ومناطق أخرى. وكان الخليفة يخاطب الإمام الصادق (ع) بقساوة وغضب حيث قال له مرة: "قتلني الله إن لم أقتلك"! ومرة من المرات خاطب الخليفة والي المدينة قائلاً له: "أن أحرق على جعفر بن محمد داره"! وحينما أُحرق داره أظهر الأمام الغربة والوحدة التي ألمّت به آنذاك وذلك خلال حركاته وسكناته وهو يعبر النار المضرمة، حيث قال: "أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن محمد المصطفى". وهذا مما أدى إلى زيادة سخط أعدائه أكثر.
إن معاملة المنصور للإمام الصادق (ع) كانت معاملة صعبة جداً وقاسية للغاية، ولطالما هدد المنصور الإمام (ع). وهناك روايات تنقل أن الإمام (ع) كان يتذلل ويظهر الخضوع للمنصور! وبالتأكيد أن هذه الروايات لا أساس لها من الصحة؛ فأنا بحثت حول هذه الروايات ولم يكن لأي منها أساس وسند صحيح ومعتبر، وغالباً من تنتهي في سندها إلى ربيع الحاجب هذا المقطوع بفسقه، الذي كان من المقربين للمنصور. ومن العجب أن البعض نقل أن الربيع كان يعتبر من الشيعة المحبين لأهل البيت (ع)، فأين التشيع من ربيع؟!
إن الربيع كان يعتبر الخادم المطيع والمخلص لأوامر المنصور، ومنذ طفولته استطاع أن يجد طريقاً ومكاناً في الحكومة العباسية، وخدم بني العباس حتى أصبح حاجب المنصور، وقدم له الخدمات الكثيرة حتى استطاع أن يتسنّم الوزارة، ولو لم يكن الربيع موجوداً لخرجت الحكومة والخلافة من آل المنصور بعد موته، ولربما كان قد تسنّمها أعمامه من بعده، فعند احتضار المنصور لم يكن عنده سوى الربيع، تسنّم ولهذا كتب الوصية بنفسه عن المنصور زوراً وجعل الخلافة باسم المهدي بن المنصور.
والفضل بن ربيع الذي تسنّم الوزارة في عهد هارون والأمين هو ابن هذا الشخص، فهذه العائلة عرفت بوفائها لبني العباس، ولم يكن لهم أي ولاء لأهل البيت (ع).. وما نُقل عن الربيع حول الإمام فهو كذب وبهتان، ولم يرد من كذبه هذا إلا أن يُظهر الإمام (ع) للمسلمين آنذاك الإنسان المتذلل والخاضع أمام الخليفة! حتى يعتبر الآخرون أن تكليفهم هو أيضاً مثل تكليف الإمام، أي التذلل والخضوع للخليفة!
وكما قلنا، فقد كانت معاملة المنصور للإمام الصادق (ع) معاملة قاسية جداً حتى انتهت بشهادة الإمام (ع) وذلك في عام 148هـ.
وبدأ عصر الإمام موسى الكاظم (ع) فكانت حياته مليئة بالأحداث المهمة والمثيرة وأعتقد أن الجهاد والمواجهة قد بلغا أوجهما في عهد هذا الإمام (ع). ومع الأسف لا يوجد بين أيدينا تقرير ونص واضح وصريح حول حياة الإمام الكاظم (ع)؛ مثلاً جاء في بعض الروايات أن الإمام بقي ولفترة مخفياً عن أنظار الحكومة آنذاك وكان هارون وأزلامه يبحثون عنه ولم يستطيعوا أن يجدوه، وكان الخليفة يقبض على بعض الأفراد ويعذبهم ليعترفوا ويخبروه عن مكان الإمام (ع)! ولأول مرة يحدث مثل هذا الأمر في حياة الأئمة (ع).
ونقل ابن شهر أشوب في المناقب ما يفيد ما ذكرناه حيث قال: "دخل موسى بن جعفر (ع) بعض قرى الشام متنكراً هارباً"! ولم يُنقل عن أي من الأئمة هذا الوضع.
وهذه الأحداث تعبير عن الشرارة والالتهاب الذي ميز حياة الإمام.. وسجن الإمام المؤبد هو خير دليل على الوضع الذي كان قائماً، مع أن هارون كان يعامل الإمام الكاظم (ع) معاملة جيدة وحسنة وذلك خلال المرحلة الأولى من تصديه الحكم.
والقصة التي ينقلها المأمون حول الإمام الكاظم (ع) معروفة؛ وملخصها أن الإمام (ع) كان يمتطي دابة وجاء إلى المكان الذي كان يجلس في هارون، وأراد الإمام (ع) أن يترجل ولكن هارون لم يرضَ بذلك وأقسم عليه أن يبقى راكباً ويأتي بدابته إلى بساطه، وعندما جاء الإمام (ع) راكباً إلى بساط الخليفة احترمه هارون وبقيا مدة بتبادلان الحديث. فعندما عزم الإمام (ع) الرحيل طلب هارون مني (أي من المأمون) ومن الأمين أن نأخذ بركاب أبي الحسن، إلى آخر القصة. والشيء اللافت في هذه القصة هو ما نقله المأمون عن أن أبيه هارون أنه أعطى لجميع الذين كانوا حاضرين في المجلس 5 الآف دينار و 10 الآف دينار (أو درهم) كهدية وجائزة ولكن أعطى لموسى بن جعفر 200 دينار، علماً بأنه عندما كان الخليفة يسأل عن وضع الإمام (ع) كان الإمام (ع) يجيبه مبيناً له المشكلات والأوضاع المعيشية السيئة وكثرة العيال. فهذا الكلام من الإمام يحمل بين طياته معنى دقيقاً؛ فأنا وبقية الذين عاشوا تجربة التقية في زمان مواجهة الشاه نستطيع أن نفهم وندرك لماذا ذكر الإمام (ع) ولمثل هارون وضعه المعيشة، فهذا الكلام لا يحتوي على التذلل، لأن الكثير منكم وفي عهد القمع والظلم قد فعلتم مثل ما فعل الإمام (ع) لأن الإنسان ومن خلال هذا الكلام يستطيع أن يبعد نظر العدو عن أعماله ونشاطاته.
وطبيعي أن هارون وبعد استماعه إلى مثل هذا الكلام كان ينبغي أن يعطي للإمام مبالغ طائلة مثلاً 50 ألف دينار (أو درهم)، ولكنه رغم هذا كله لم يعطه أكثر من 200 دينار!
يقول المأمون سألت أبي عن سبب إعطائه القليل فأجابني إذا أعطيته ما في ذمتي من المبلغ لخرج، وبعد فترة وجيزة، مئة ألف فارس من الشيعة يقومون ضدي، فهذا كان استنتاج وفهم هارون، وحسب رأيي أن هارون كان صائباً في فهمه. والبعض يعتقد أن تصور هارون هذا كان نتيجة لما بُلغ به من سوء عن الإمام (ع)، ولكنه واقع الأمر وحقيقته، لأنه لو كان الإمام (ع) يملك من الأموال الكافية في زمان جهاده ونضاله ضد هارون لاستطاع استقطاب الكثير ليحاربوا إلى جانبه. وهذا الوضع لاحظناه في زمان أبناء الأئمة (ع). وبالتأكيد أن الأئمة لو كانوا يملكون المال الكافي لاستطاعوا جمع عدد أكبر من الناس حولهم. وعلى هذا نجد أن عهد الإمام الكاظم (ع) كان عهداً وصل فيه الجهاد والكفاح إلى أوجه حتى انتهى باعتقال الإمام (ع) وسجنه. وعندما جاء عهد الإمام الثامن (ع) بدأ الوضع يتحسن بالنسبة للأئمة (ع) وانتشر الشيعة في كل البقاع وتوفرت لهم الإمكانيات اللازمة حتى انتهى الأمر إلى ولاية العهد للإمام الرضا (ع). وعاش الإمام الرضا في عهد هارون الرشيد مراعياً للتقية في حياته، يعني كان يسعى في حركته ونشاطاته بسرية وتقية؛ فمثلاً دعبل الخزاعي الذي كان يتكلم بحق الإمام الرضا (ع) بهذا الشكل المعروف في زمن ولاية عهده (ع) لم يظهر إلى الوجود فجأة، فالمجتمع الذي يُربي مثل دعبل الخزاعي أو إبراهيم بن العباس الذي كان يعتبر من المادحين لعلي بن موسى الرضا (ع) أو غيره من الموالين، هذا المجتمع لا يُخرج مثل هؤلاء من لا شيء؛ فهذا الولاء يجب أن يكون قد بدأ من سنين وله سابقة في ثقافة المجتمع، فليس من الممكن أن يحتفل الناس في خراسان وري ومناطق أخرى بمناسبة تعيين الإمام الرضا (ع) ولياً للعهد من دون أن يكون لهم في ولايتهم هذه سابقة وتاريخ.
وما حدث في عهد ولاية العهد للإمام الرضا (ع) دليل على مدى ولاء الناس ومحبتهم لأهل البيت (ع).
وبعد ذلك ظهر الاختلاف بين الأمين والمأمون واستمر الخلاف والجدل بين خراسان وبغداد لمدة خمس سنوات، وهذا مما ساعد الإمام الرضا (ع) لأن يوسع من نشاطاته وحركته حتى انتهت إلى تعيينه ولياً للعهد. ولكن ـ ومع الأسف ـ انتهى الوضع بشهادته وبداية عهد جديد حاملاً بين طياته المحن والمشاكل لأهل البيت (ع). وحسب رأيي أن المحن والمشكلات التي واجهت أهل البيت (ع) بلغت ذروتها في زمن الإمام الجواد (ع) وشملت عصور الأئمة الذين جاؤوا من بعده.
كان هذا شرحاً مجملاً ونظرة عامة إلى المحن والمشاكل التي واجهت الأئمة (ع) وتحليلاً مختصراً لحياتهم السياسة.
وكما ذكرت سابقاً أنني قد قسمت البحث إلى قسمين. القسم الأول هو عرض مجمل، وقد انتهى إلى هنا، والقسم الثاني هو التعرض إلى أبرز التحركات الجهادية في حياة الأئمة (ع).
كل ما سأذكره هو بعض العناوين والتي استطعت خلال اليومين الماضيين أن استخرجها من بين ملاحظاتي التي كنت قد سجلتها قديماً، وطبعاً المواضيع التي يمكن البحث فيها لا تقتصر على التي سأذكرها، ولكن أذكر بعضاً منها ليستطيع من يريد البحث والدراسة أن يتخذها محوراً في بحثه.
من المسائل والمواضيع المهمة هي ادعاء الإمامة والدعوة إلى الإمامة.
وتعتبر هذه المسألة حركة جهادية في كل المراحل التي مرت بحياة الأئمة (ع)، وذكرت حولها روايات في فصول واسعة، ومن جملتها روايات أن الأئمة "نور الله" التي وردت في الكافي، ورواية الإمام الثامن (ع) حول الإمامة، وروايات عديدة أيضاً حول حياة الإمام الصادق (ع) ومحاورات ومناظرات أصحابه في ظروف مختلفة، وأيضاً روايات حول حياة الإمام الحسين (ع) عند دعوته لأهل العراق وروايات أخرى.
والمسألة الأخرى هي فهم وإدراك لما يقوم به الأئمة من أعمال وتبليغ؛ فأنه ـ وكما تلاحظون ـ أن فهم الخلفاء لأهداف الأئمة (ع) متشابه من زمان عبد الملك بن مروان إلى زمان المتوكل؛ أي كان فهمهم وإدراكهم لما يدور حولهم متشابهاً، فمعاملتهم للأئمة (ع) كانت تتشابه من حيث القهر والاضطهاد. فهذه مسألة مهمة لا يمكن أن نمر عليها بشكل عابر.
لماذا كانوا يفهمون ويدركون من حياة الأئمة (ع) هذا الفهم والإدراك؟!
فمثلاً جملة "خليفتان يجبى إليهما الخراج" حول الإمام موسى بن جعفر (ع)، أو "هذا على ابنه قد تعدوا وادعى الأمر لنفسه" حول الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، أو جملات أخرى مشابهة لهذه الجمل حول الأئمة (ع).
والمسألة المهمة الأخرى هي أن الخلفاء كانوا يسعون لينسبوا الإمامة إليهم. توجد أمثلة كثيرة حول ما قلناه، ونذكر منها مثالاً؛ فكُثير هو شاعر بارز عاصر المرحلة الأولى من الخلافة الأموية ويعتبر من الموالين لأهل البيت (ع)، وكان على على مستوى الفرزدق وجرير والأخطل وجميل ونصيب وغيرهم؛ جاء يوماً من الأيام إلى الإمام الباقر (ع) حيث قال له الإمام (ع) معترضاً "امتدحت عبد الملك"! أجاب مضطرباً "يا بن رسول الله، ما قلت يا أمام الهدى، وإنما قلت له أسد والأسد كلب، ويا شمس والشمس جماد، ويا بحر والبحر موات). يعني أراد الشاعر أن يبرر عمله. فتبسم الإمام (ع)، وحينها قام الكميت الأسدي وأنشد هذه القصيدة:
من لقلبٍ متيم مستهام غير ما صبوة ولا أحلام
حتى وصل إلى البيت
ساسة لا كمن يرى رعيه الناس سوا ورعيه الأنعام
فهذا يدل على أن الأئمة (ع) كانوا شديدي الحساسية من جهة مدح عبد الملك وأصحابه، وكانت اهتماماتهم وحساسيتهم في إطلاق كلمة إمام الهدى عليه، حيث قال: لم أقل له إمام الهدى. وهذا يدل على مدى رغبة الخليفة في إطلاق عبارة إمام الهدى عليه. وكانت هذه الرغبة أشد في زمن بني العباس.
ومروان بن أبي حفصة كان شاعراً أموياً وعميلاً للبلاط الأموي والعباسي (والعجب في هذا أنه كان شاعر البلاط الأموي في الخلافة الأموية، وبعد أن جاء بنو العباس إلى سدة الحكم أصبح شاعر البلاط العباسي، حيث كان شاعراً قوياً عذب البيان فاشتروه بالمال)! وعندما كان يمتدح بني العباس لم يكن يكتفي بذكر كرمهم وشجاعتهم وبقية خصالهم، بل كان ينسبهم إلى رسول الله (ص) وينسب إليهم منزلته، حيث قال:
أنى يكون وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام
يعني كيف يمكن أن يرث أبناء البنات ما ترك الأعمام؟ فعم رسول الله (ص) هو العباس وله وارث، فكيف يمكن أن يرث ما ترك العباس أبناء فاطمة (ع)!
إذن، فالدعوى حول الخلافة والحرب حرب ثقافية وسياسية، وفي مقابل هذا الشعر قال الشاعر الطائي الشيعي المعروف، يعني جعفر بن عفان الطائي:
لم لا يكون وإن ذاك لكائن لبني البنات وراثة الأعمام
للبنت نصف كامل من ماله والعم متروك بغير سهام
يعني البنت ترث نصف مال أبيها والعم لا يرث من مال أخيه، إذن فليس لكم إرث لتطالبوا به!
فهذا من موقف أصحاب الأئمة (ع) مقابل ما يدعيه الخلفاء في الإمامة.
والمسألة الأخرى هي تأييد الأئمة (ع) وحمايتهم للحركات الثورية التي كانت آنذاك، فهذه من البحوث المثيرة من حياة الأئمة (ع) وتدل على منهجية الجهاد أيضاً، ككلام الإمام الصادق (ع) حول المعلى بن خنيس عندما قتل على يد داود بن علي، وكلماته حول زيد وحول الحسين بن علي شهيد فخ وغيرهم.
وقد رأيت رواية عجيبة في نور الثقلين عن علي بن عقبة حيث قال إن أبي قال : دخلت أنا والمعلى على أبي عبد الله (ع) فقال: "أبشروا، أنتم على إحدى الحسنيين، شفى الله صدوركم واذهب غيظ قلوبكم وأنالكم من عدوكم ـ وهو قول الله تعالى: {ويشف صدور قوم مؤمنين} ـ وإن قضيتم قبل أن تروا ذلك مضيتم على دين الله الذي رضيه لنبيه (ص) ولعلي (ع)".
هذه الرواية مهمة كونها تتحدث عن الجهاد والنصر "أبشروا، أنتم على إحدى الحسنين" وعن النيل من العدو والشهادة "وأنالكم من عدوكم… وإن قضيتم قبل أن تروا ذلك".
وتزيد الأهمية كون المخاطب في هذه الرواية هو المعلى بن خنيس الذي عرفنا كيف كان مصيره (التنكيل والقتل)، ونلاحظ أن الإمام المعصوم في هذه الرواية بدأ بمخاطبة الصاحبين مباشرة دون أي مقدمة. ويستدل من خلال سياق الرواية أن الحديث كان يتناول موضوعاً محدداً لكنه لم يُذكر، أما قوله (ع): "شفى الله صدوركم" فمن الممكن أن يكون دعاءً، ولكن يوجد احتمال آخر، وهو أقوى، وهو إخباره عن أمر ما قد حصل أو أنجز، فهل كان الداخلان على الإمام قد عادا من عمل أو مواجهة ما؟ غير معلوم، أو أنهما مكلفان بمهمة معينة من قبل الإمام؟
لم تفصح الرواية عن شيء كهذا، لكن على كلا الاحتمالين فإن سياق الحديث يفصح عن مساندة وحماية الإمام (ع) للتحركات الثورية التي تحكي عنها الحياة اليومية لمعلى بن خنيس. ومن المهم في حديثنا عن هذا الصاحب أن نلتفت إلى أنه كان "باب" الإمام الصادق (بتعبير الروايات)، ومن المهم أن نتعرض لهذا المصطلح بالبحث؛ فالذين ذُكروا في أحاديث أهل البيت (ع) بعنوان "الباب" من كانوا؟ فإن أغلبهم قد قُتل أو هُدد بالقتل، أمثال يحيى ابن أم الطويل، ومعلى بن خنيس، وجابر بن يزيد الجعفي، وغيرهم..
بحث آخر في حياة الأئمة (ع) حول سجنهم ونفيهم وملاحقتهم…
وأرى أنه يجب أن نتتبع هذا البحث بدقة، وهناك الكثير من المسائل التي تحتاج إلى التدقيق والتحليل، منها أيضاً ما يتعلق بخطابات أهل البيت (ع) التي تميزت بالصراحة وبمواجهاتهم الحادة لحكام زمانهم. وهي نفطة ينبغي الوقوف عندها ملياً؛ فهؤلاء العظام (ع) لو كانوا من الصنف المحافظ والمسالم المهادن لسلكوا نفس منهاج الزهاد والعلماء في ذلك العصر، من الذين لا تزعج خطاباتهم السلطة، ولا تقترب من المعارضة، وهؤلاء كانو كثر، حتى إن السلاطين والحكام كانوا على علاقة معهم ويحبون بعضهم، لدرجة ان هارون كان يقول بحق أحدهم:
كلكم يمشي رويداً كلكم يطلب صيداً
وهؤلاء الزهاد كانوا يعظون الحكام حتى إنهم كانوا يبكونهم أحياناً من الموعظة، لكن هؤلاء الزهاد يحرصون على أن لا ينطقوا بأي كلمة فيها تلميح إلى مثل الجبار والطاغية والغاصب والشيطان وأشباه هذه المعاني، بينما نجد أن الأئمة كانوا يصرحون بكل هذا وينشرون هذه الحقائق بين الناس، فلم تكن هيبة وسطوة الحكام لتجبرهم على السكوت.. وهناك بحث آخر متعلق بتحدي الأئمة (ع) للسلاطين وقد أشرنا إلى بعضه كالذي جرى بين المنصور والإمام الصادق (ع) أو بين هارون والإمام الكاظم (ع).
بحث آخر أيضاً مهم جداً ويحتاج للمتابعة، وهو يتعلق بالموارد التي تدل على استراتيجية الإمامة، فأحياناً كانت كلمات الأئمة تطرح أموراً ليست بالبسيطة والعادية، بل تتعلق بهدف محدد ومشروع خاص كان هو نفسه استراتيجية الإمامة. ومن جملة هذه الموارد هو الحوار الذي دار بين الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) وهارون الرشيد حول ما يتعلق بمسألة "فدك"؛ ففي أحد الأيام قال هارون للإمام الكاظم (ع): "حُدّ فدكاً حتى أردّها إليك"، وكان هدفه من وراء هذا العمل أن يسلب تأثير هذا الرمز "فدك" الذي كان أهل البيت (ع) يطرحونه دائماً كدليل وشاهد على مظلوميتهم التاريخية، فبإرجاعه "لفدك" يسحب هذا السلاح من أيديهم. ولعله أيضاً يصبح مميزاً، بنظر الشيعة عن أولئك السلاطين الذين استمروا بغصب "فدك". والإمام في البداية امتنع عن تنفيذ هذا الطلب، ولكن بعد إصرار هارون قال له الإمام (ع):
"لا آخذها إلا بحدودها" فقبل هارون بذلك، فبدأ الإمام بذكر تلك الحدود قائلاً: "أما الحد الأول فعدن". فتغير وجه هارون، وقال" إيه"!!
تابع الإمام (ع): "والحد الثاني سمر قند"؛ أي الحدود الشرقية لأراضي حكومة هارون، فأربد وجهه.
فتابع الإمام (ع) وقال: "والحد الثالث إفريقيا" ويعني تونس، أي الحدود الغربية للبلاد.
يقول الراوي: فاسود وجه هارون وقال: "هيه"!!
عندها أنهى الإمام (ع) كلامه وقال: "والحد الرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينيا" أي الحدود الشمالية.
عندها قال هارون غاضباً مستهزئاً:
"فلم يبق لنا شيء، فتحول إلى المجلس"! (أي قم واستلم الخلافة).
فقال الإمام (ع): "قد أعلمتك أنني إن حددتها لن تردها". وكما جاء في نهاية هذه الرواية: "فعند ذلك عزم على قتله".
في هذا الحوار يظهر أهم مطلب للإمام موسى الكاظم (ع) والذي كان كافياً حتى يقرر هارون الرشيد قتله، وكذلك الأمر، فإن مطالب الأئمة (ع) واضحة في حياة الإمام الباقر والإمام الصادق والإمام الرضا بحيث إنها لو جمعت فسترسم استراتيجية الإمامة.
من المباحث المهمة أيضاً والتي تحتاج إلى التحليل والتحقيق في شرح سيرة الأئمة هي معرفة مدى اطلاع الأئمة على أهدافهم ومشروعهم ومطالبهم (ع)؛ طبعاً، فإن هؤلاء الأصحاب كانوا أقرب إليهم منا وكانوا أكثر اطلاعاً على مطالبهم وأهدافهم، لذا فإن معرفة وإدراك هؤلاء الأصحاب لحركة الإمامة أمر مهم، فنحن إذا نظرنا في الروايات، فهل نرى أنهم لم يكونوا منتظرين ومترقبين لقيام الأئمة بالثورة؟!
أنتم تعرفون قصة ذلك الرجل الذي أتى من خراسان للقاء الإمام الصادق (ع) وأخبره بأن هنالك الآلاف من الفرسان المقاتلين ينتظرون منك الإشارة حتى يثوروا، فأبدى الإمام شكّه وتعجبه، وبالتدريج صار الخراساني يقلل من العدد. وبعدما أكد الإمام له على نوعية هؤلاء الأفراد، قال الإمام (ع):
"لو كان لديَّ اثنا عشر (أو خمسة عشر) صاحب لخرجت"! (على اختلاف الروايات).
وكان هناك أشخاصاً يقومون بمراحعة الإمام (ع)، ويطلبون منه الخروج (بحسب الروايات). وبالطبع فإن بعضهم كان من جواسيس بني العباس، وهذا يعرف من خلال أجوبته (ع). فلماذا كانت تتم مراجعة الإمام؟!
هذا لأنهم يعرفون أن هذا الأمر (أي الثورة) هو هدف أساسي وثابت عند الأئمة (ع)؛ فمسألة الخروج والثورة لإقامة دولة الحق كانت مسألة أساسية في ثقافة الشيعة في ذلك الزمان، والأئمة كانوا ينتظرون الفرصة المناسبة للقيام بذلك. ولقد رأيت رواية لافتة في هذا المجال حيث يفهم منها مستوى إدراك وفهم الأصحاب المقربين مثل زرارة بن أعين، وهذه الرواية موجودة في رجال الكشي، وتذكر أن زرارة أتى يوماً إلى الإمام الصادق (ع) وقال: أصلحك الله، إن رجلاً من أصحابنا كان مختفياً من غُرّامه؛ فإن كان هذا الأمر قريباً صبر حتى يخرج مع القائم وإن كان فيه تأخير صالح غرّامه! فقال له أبو عبد الله (ع): يكون. فقال زرارة: يكون إلى سنة؟ فقال أبو عبد الله (ع): يكون إن شاء الله. فقال زرارة: فيكون إلى سنتين؟ فقال أبو عبد الله: يكون إن شاء الله. فخرج زرارة موطّناً نفسه على أن يكون على سنتين، فلم يكن.
وبالطبع فإن زرارة لم يكن بالشخص الساذج والبسيط من الأصحاب المقربين للإمامين الباقر والصادق (ع)، فكيف يصل إلى هذه النتيجة التي تأكد له معها اقتراب موعد تشكيل الحكومة العلوية؟!
وفي رواية أخرى ينقل هشام بن سالم أن زرارة قال له: "لا ترى على أعوادها غير جعفر"، أي أنك لن ترى على رأس الخلافة إلا جعفر بن محمد (ع)، وعندما يقول له هشام بعد استشهاد الإمام الصادق (ع): تذكر الحديث الذي حدثني به؟ ويذكره، ويقول هشام: كنت أخاف أن يجحدنيه! فقال زرارة إني والله ما كنت قلت ذلك إلا برأيي (منبهاً إياه بأنه لم يكن ينقل عن الإمام).
وهناك روايات كثيرة في هذا المجال حول الخروج أو طلب ذلك من قبل الأصحاب، نفهم منها وبوضوح أن هدف الأئمة كان تشكيل الحكومة العلوية والسعي لأجل تحقيق ذلك، وأن الأمر كان متوقعاً وقريباً، وهذا من المسلّمات في اعتقاد الشيعة وأصحاب الأئمة المقربين. وهذه دلالة أساسية وواضحة على هدف ومشروع الأئمة (ع).
يوجد بحث آخر يتعلق ببغض وعداء الحكام المتعاقبين للأئمة (ع) وخلفية هذا العداء؛ هل هو الحسد فقط على المقام المعنوي وعلى حب الناس للأئمة؟ أم أن هناك عامل آخر؟ طبعاً ومن دون شك كان الأئمة محسودين من قبل هؤلاء الحكام وغيرهم، ففي تفسير آية {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} ورد في الروايات "نحن المحسودون"، ولكن علينا أن ننظر على ماذا كان هذا الحسد؟! على علمهم وتقواهم؟!
فنحن نعرف أن العلماء والزهاد كانوا كُثراً في ذلك الزمان وكانوا معروفين بين الناس بهذه الصفات وكان لهم الكثير من المحبين والأصحاب من أمثال: وأبو حنيفة، أبو يوسف، والحسن البصري، وسفيان الثوري، ومحمد بن شهاب والعشرات من أمثالهم، ممن كان لهم أتباعاً ومريدين. وفي الوقت نفسه لم يحسدهم الحكام والسلاطين، ولم يبغضوهم، بل ـ وكما ذكرنا ـ إن الحكام كانوا يحبون بعضهم. إذن فخلفية عداء هؤلاء لأهل البيت (ع)، والتي انتهت إلى استشهادهم، هي شيء آخر بنظرنا، وهي ليست إلا مطالبة الأئمة بحقهم في الإمامة والخلافة/ وهذا ما لم يدّعه الآخرون. هذا بحث مطلوب.
ومن جملة الأبحاث المطلوبة أيضاً حول التحركات الثورية والمعارضة التي قادها أصحاب الأئمة ضد النظام الحاكم، ونستطيع أن نرى نماذج منها في كل المراحل التي عاشها الأئمة؛ ففي زمان الإمام السجاد (ع)، أي في ذروة الضغوط والقمع، نرى يحيى ابن أم الطويل وهو أحد حواري الإمام يأتي إلى المسجد مخاطباً الناس الذين رضخوا لرجال السلطة، قارئاً الآية التي خاطب بها النبي إبراهيم (ع) الكفار: {كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء...}.
وكذلك كان يخطب في الناس في كناسة الكوفة (اسم موضع في الكوفة) معترضاً على الأوضاع السياسية الحاكمة منادياً الناس بصوت عال…
وكذلك فعل معلى بن خنيس حينما خرج لأداء صلاة العيد بمظهر حزين وكئيب وعليه آثار التفجع؛ فصعد إلى المنبر مثل الخطيب وقال رافعاً يديه: "اللهم إن هذا مقام خلفائك وأصفيائك وموضع أمنائك.. ابتزوه" (يعني غصب الخلافة). وللأسف فإن هذا الصحابي الجليل الذي لعن الإمام الصادق قاتليه، وكان (ع) يثني عليه، يشكك البعض في وثاقته، وليس بعيداً أن يكون منشأ هذا الافتراء هو الأيادي الخبيثة لبني العباس.
والمسألة الأخرى التي لها بحث واسع وعميق، هي مسألة "التقية"؛ ولفهمها يلزم أن ننظر في كل الروايات التي تتحدث عن الكتمان والتستر، إضافة إلى التوجه لهدف الأئمة الذي سبق ذكره وهو إقامة الحكومة العلوية، والأخذ بعين الاعتبار بطش الحكام في مواجهة هذا المطلب. ومع هذه التحركات للأئمة (ع) وأصحابهم، وبالالتفات إلى كل هذه الأمور نفهم المعنى الحقيقي للتقية، بحث لا يبقى أي شك في أن التقية لا تعني التوقف عن العمل، بل هي إخفاء هذا العمل؛ ويتوضح هذا بمراجعة الروايات.
هذا قسم من المباحث المهمة المرتبطة بسيرة أهل البيت (ع)، وطبعاً فهنالك مباحث أخرى كثيرة تتعلق بالحياة السياسية لأولئك العظام. ولا يتسع الوقت حتى لذكر فهرس لهذه المواضيع. ولقد كان لي عمل دؤوب في كل هذه المباحث، ولكن مع الأسف، فلا يوجد عندي اليوم فرصة للاستمرار ولتجميع هذه الملاحظات التي قد قمت بتدوينها سابقاً، فيا ليت من يكون من أصحاب الهمم العالية كي يتابع هذا العمل. فيجمع مباحث الحياة السياسية لأئمة أهل البيت كي يقدمها للناس، حتى نستطيع أن نجعلها درساً وقدوة لنا، وليس فقط كذكرى خالدة. - كتاب الفن والأدب في التصور الإسلامي
- الإمامة والولاية في الإسلام
- المواعظ الحسنة
- حقوق الإنسان في الإسلام
حقوق الإنسان في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهرين المنتجبين وصحبه المهتدين..
إن مسألة حقوق الإنسان هي إحدى المسائل الأساسية المهمة، كما أنها من أكثر قضايا الإنسان حساسية، فقد اتخذت في العقود الأخيرة أبعاداً سياسية فضلاً عن أبعادها الأخلاقية والحقوقية. ومع أن تدخل الأهداف السياسية والتكتلات والمواقف السياسية قد وضع عقبات ومشاكل عديدة أمام الطرح الصحيح لهذه المسألة، إلا أن كل ذلك يجب أن لا يثني المفكرين والمهتمين بالأمر عن مواصلة دراسة حقوق الإنسان وحل مشكلاتها.
وفي الغرب هذه المسألة قد تم إحياؤها من قبل المفكرين، فهي ومنذ نحو مئتي عام تتصدر قائمة المسائل السياسية والإجتماعية للعالم الغربي، حتى أضحت مسألة مهمة نجد بصماتها على الكثير من الإنقلابات والتغييرات السياسية والإجتماعية.
وقد بلغ هذا الإهتمام الغربي ذروته خلال العقود الأخيرة، فكان صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتأسيس منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية مصداقاً عينياً للإهتمام بقضية حقوق الإنسان في العالم، ويمكننا اتخاذ هذا المصداق مقياساً نستند إليه في تحليلنا وحكمنا على ما سمعناه من شعارات وضجيج عن حقوق الإنسان خلال المئتي عام الأخيرة، وخاصة خلال العقود الأخيرة.
وطبيعي أننا نحن المسلمين نعلم جيداً أنه إذا كان الغرب قد أولى هذه المسألة اهتماماً كبيراً خلال العقود الماضية، فإن الإسلام كان قد اهتم بها وبأبعادها الواسعة والشاملة منذ قرون عديدة. فقد عالجها بشكل أساسي وجذري، وهذا ما نلاحظه في الكتب والآثار الإسلامية الموجودة والتي لسنا بحاجة الى تفصيلها الآن ما دمنا نتحدث الى جمع من المسلمين.
إن الآيات القرآنية والأحاديث الواردة عن الرسول الأكرم والأئمة (عليهم السلام) أكدت جميع حقوق الإنسان التي تنبّه إليها العالم واهتم بها خلال العهود الأخيرة، وهي تحظى دوماً باهتمام المسلمين والعلماء، وهم ليسوا بحاجة الى التذكير بها وتكرارها. وفي ختام حديثي، سأذكّر بأن على المجتمع الإسلامي اليوم مسؤولية تعريف العالم بهذه الحقيقة الإسلامية الوضّاءة لكي لا يدع هذه الأصالة الإسلامية تضيع وسط أعاصير الضجيج والأجواء السياسية المفتعلة على الصعيد العالمي.
هنا تطرح عدة أسئلة نفسها، وتشكل الإجابة عنها، هدفنا من هذا البحث. من المؤكد، أيها المفكرون والباحثون، أنكم ستقدمون خلال هذا المؤتمر بحوثاً عميقة ونافعة حول الجوانب والأبعاد المختلفة لحقوق الإنسان، وهذا بحد ذاته سيكون ذخراً للعالم الإسلامي يمكّنه من الإطلاع على الموضوع من منظار إسلامي.
السؤال الأول هو: هل كانت المحاولات التي جرت خلال القرنين الماضيين، وخاصة خلال نصف القرن الأخير، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن وتحت اسم حقوق الإنسان، موفقة أم لا؟ وهل استطاعت كل هذه التصريحات والإجتماعات والمؤتمرات من جانب هيئة الأمم المتحدة والإذاعات حول حقوق الإنسان أن توصل البشر الى حقوقهم الحقة؟ أو في الأقل هل استطاعت إعطاء الإنسان الجزء الأكبر من حقوقه؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست صعبة، فمجرد الإطلاع على حقائق عالمنا اليوم، يكفي لإثبات إخفاق كل ما بذل في هذا المجال لحد الآن، ونظرة عابرة لوضع المجتمعات المتخلفة التي تشكل النسبة الأكبر من سكان العالم ستثبت لنا أن أكثر البشر لم يحصلوا خلال نصف القرن الأخير على حقوقهم، وليس هذا فحسب بل إن أساليب سلب حقوق الإنسان والشعوب المحرومة قد تطورت وتعقدت وأصبح من الصعب علاجها. نحن لا يمكننا تقبّل ادعاءات منظمات حقوق الإنسان ولا ادعاءات هؤلاء الذين يدّعون مناصرة حقوق الإنسان، بينما نحن نشاهد الواقع المر لشعوب أفريقيا وآسيا، وجوع ملايين البشر، وحرمان العديد من الشعوب من أبسط حقوقها الإجتماعية. إن هؤلاء الذين رفعوا عقيرتهم خلال الأربعين عاماً الماضية دفاعاً عن حقوق الإنسان إنما هم أنفسهم قد سلبوا ولا زالوا يسلبون حقوق الشعوب المحرومة في العالم الثالث، واليوم نشاهد حكومات وأنظمة تسلّمت السلطة في العالم الثالث تستند الى تلك القوى نفسها وتنتهج طريقها نفسه في انتهاك حقوق الإنسان في بلدانها.
إن الحكام الجبابرة الذين كثر عددهم خلال نصف القرن الأخير في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، لا يستطيعون انتهاج الدكتاتورية دون الإعتماد على القوى الكبرى في العالم، والقوى الكبرى هي نفسها التي ترفع عقيرتها دوماً بشعارات الدفاع عن حقوق الإنسان، وهي التي أسست الأمم المتحدة التي لا زالت حتى اليوم خاضعة لسيطرتها.
إن تفشي الفقر والجوع والموت في العديد من دول العالم، إنما هو نتيجة التدخل والظلم والإغتصاب الذي تقوم به هذه القوى. فمَن الذي أوصل أفريقيا المليئة بالخيرات الى ما هي عليه اليوم؟ ومَن الذي استغل شعبي بنغلادش والهند لسنوات طوال وأوصلهما الى هذا الوضع بحيث يتفشى فيهما الجوع والموت بينما تملكان من الخيرات والبركات ما شاء الله؟
ومَن الذي ينهب ثروات دول العالم الثالث ويطوّر تكنولوجيته وصناعته ويجمع الأموال الطائلة على حساب الفقراء والجياع في هذه الدول؟
إن الذين أسسوا منظمة الأمم المتحدة، وأصدروا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذين يواصلون اليوم وبكل صلافة الإدعاء بالدفاع عن هذه الحقوق، هم أنفسهم سبب معاناة الشعوب وتعاستها، وإلا فلماذا تبقى أفريقيا الغنية بالثروات والموارد الطبيعية، وأميركا اللاتينية المليئة بالثروات الطبيعية، والهند الكبيرة الواسعة، ودول العالم الثالث التي تمتلك كل هذه الطاقات البشرية والثروات الطبيعية، لماذا تبقى كل هذه المناطق متخلفة عن مواكبة ركب التطور والتقدم؟
إن الذي يحكم العالم اليوم، هم أصحاب المال والقدرة الذين وضعوا بأنفسهم أسس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وها نحن نرى الوضع المأسوي الذي تعاني منه الشعوب وهي ترزح تحت نير تسلّط هذه القوى ونهبها لها.
منظمة الأمم المتحدة التي تعتبر ثمرة كل الجهود الرامية الى حفظ حقوق الإنسان، ما الذي عملته للشعوب، وماذا تفعل اليوم؟ وفي أية قضية سياسية أو كارثة كبرى أصابت الشعوب إستطاعت هذه المنظمة أن تلعب دوراً فعالاً وإيجابياً؟ ومتى نهضت هذه المنظمة لدعم المظلوم؟ ومتى استطاعت هذه المنظمة منع القوى الكبرى من مواصلة سياساتها الظالمة؟ إن هذه المنظمة أكثر تخلفاً من الكثير من الدول والشعوب. فعلى الرغم من كل هذه الإدعاءات، فإنكم تشاهدون في أفريقيا اليوم نظاماً عنصرياً، بل إنكم تشاهدون التمييز العنصري داخل الدول المتقدمة نفسها. إذاً فمنظمة الأمم المتحدة لم تفعل شيئاً من أجل حقوق الإنسان، إذ قُصر دورها في المشاكل العالمية على التوصيات والإرشادات فقط كما تفعل أية كنيسة.
وفي منظمة الأمم المتحدة، يوجد مجلس الأمن الدولي الذي يعتبر النواة المركزية للمنظمة ومركز القرار، وفيه تمتلك الدول الكبرى حق النقض (الفيتو) فتستطيع الدول الكبرى نقض أي قرار يتخذه المجلس ضد المتسببين في إضعاف الشعوب وإبقائها متخلفة. إن منظمة الأمم المتحدة وكل المنظمات التابعة لها، سواء أكانت ثقافية أم إقتصادية أم فنية أم غيرها.. خاضعة لتأثير القوى الكبرى. وقد شاهدتم الضغوط التي مارستها أميركا ضد منظمة اليونسكو الثقافية بسبب مجيء رجل مسلم الى رئاسة المنظمة يسعى الى إبقائها مستقلة؛ فقد شاهدتم خلال السنتين الماضيتين حجم الضغوط التي مارستها أميركا ضد هذه المنظمة ورئيسها.
إذاً فالأمم المتحدة، باعتبارها ثمرة كل الجهود التي بذلت من أجل حقوق الإنسان، تراها اليوم عقيمة لا فائدة منها، بل إنها تتصرف أحياناً وكأنها ملك للقوى الكبرى. ومع ذلك فإننا لا نرفض وجود الأمم المتحدة أساساً، بل نعتقد أنها يجب أن تبقى، ولكن يجب أن يجري إصلاحها، فنحن أيضاً عضو فيها. والذي أريد قوله هو إنه بعد كل تلك الجهود والضجيج والإدعاءات، وبعد كل تلك الآمال التي عُقدت على هذه المنظمة، نشاهد اليوم مدى عجز هذه المنظمة عن تأمين حقوق الإنسان، وهكذا فقط إتضحت الإجابة عن السؤال الأول، إذ يمكننا القول: إن الجهود التي بُذلت من أجل حقوق الإنسان خلال القرون الأخيرة قد باءت جميعها بالإخفاق.
السؤال الثاني هو: هل كانت كل هذه الجهود صادقة ومخلصة؟
من الواضح أن هذا سؤال تاريخي قد لا تكون له آثاره العملية، ولهذا فلن نطيل البحث والتفصيل فيه، ونكتفي بالقول إن أغلب هذه الجهود لم تكن مخلصة. صحيح أنه كان من بين المتصدين لهذا الأمر مفكرون وفلاسفة ومصلحون، إلا أن السياسيين كانوا يتحكمون بكل شيء حتى أن جهود بعض المصلحين أصبحت بالنتيجة تصب في مصلحة تجار السياسة. ففي الماضي، كان الذين يطلقون نداءات الدفاع عن حقوق الإنسان هم الأنبياء والحكماء وأمثالهم، أما اليوم فنشاهد هذه النداءات تصدر عن السياسيين، ولهذا فمن حقنا أن نشك في صدقها وإخلاصها. أنظروا مَن الذي ينادي بحقوق الإنسان اليوم، فالرئيس الأميركي السابق إتخذ من ضمان حقوق الإنسان شعاراً ليصل بواسطته الى الرئاسة، وفي أيام رئاسته الأولى كان يظهر من أحاديثه وتصريحاته أنه يريد العمل بجد بهذا الخصوص، إلا أنه وقف في النهاية الى جانب أظلم الحكام المعارضين لحقوق الإنسان وأقساهم وأشرسهم في المنطقة، فقد وقف الى جانب الشاه والصهاينة المتسلطين على فلسطين وسائر المستبدين المعروفين في هذا العصر.
إن الحكام ورجال السياسة الذين يرفعون عقيرتهم اليوم بالدفاع عن حقوق الإنسان في المؤتمرات والمحافل الدولية، ليسوا بأفضل ممن سبقوهم إذ أننا لا نشاهد الصدق والإخلاص في تحركاتهم. فالذين وضعوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى رأسهم أميركا، كانوا يسعَون الى فرض سلطتهم وهيمنتهم على العالم. إن هؤلاء هم أنفسهم الذين قتلوا عشرات الآلاف من البشر بالقنبلة الذرية، وهم أنفسهم الذين زجّوا بأبناء الهند والجزائر وأفريقيا في جيوش تخوض حروباً لا علاقة لها بهذه الدول من قريب ولا من بعيد. نعم إننا لا يمكن أن نصدّق أبداً أن روزفلت وتشرشل وستالين وأمثالهم قد فكروا يوماً بحقوق الإنسان الحقيقية، أو أنهم كانوا صادقين ومخلصين في تأسيسهم منظمة الأمم المتحدة وإصدارهم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إذاً، فقد اتضح الجواب عن السؤال الثاني، وهو أننا نعتقد أن تحركات السياسيين ومساعيهم وأغلب النداءات والصرخات الداعية الى إعطاء الإنسان حقوقه لم تكن صادقة أبداً.
أما السؤال الثالث، وهو السؤال الأساسي فهو: ما هي أسباب كل هذا العجز والإخفاق في هذه المساعي؟ إن هذه النقطة يجب أن تحظى بقدر أكبر من اهتمامكم، وسأتناولها أنا هنا باختصار. فنحن نعتقد أن ما يطرح اليوم باسم حقوق الإنسان إنما يطرح في إطار نظام معْوَجّ وخاطئ، ألا وهو نظام الهيمنة، نظام الظلم، وهو ما يؤمن به أولئك الذين أوجدوا الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذين يرفعون اليوم عقيرتهم ويملأون الدنيا شعارات دفاعاً عن هذه الحقوق، كما يؤمن به أيضاً - مع الأسف - أغلب الحكام والسياسيين في العالم، ويتلخص معنى هذا النظام في أن هناك مجموعة من الناس تهيمن على الباقين ويجب أن تبقى مهيمنة. هذا النظام تتبعه ثقافة الهيمنة. فالعالم اليوم مقسّم الى قطبين أو مجموعتين: مجموعة المهيمنين، ومجموعة الخاضعين لهذه الهيمنة، فالمجموعة الأولى تعتقد بأن نظام الهيمنة يجب أن يسود، والثانية رضيت بهذا النظام وخضعت للهيمنة. وهذا هو الخلل الكبير في الوضع العالمي اليوم. فالذين يرفضون هذا النظام والذين يتمردون على الوضع الإجتماعي والسياسي السائد في العالم، هم أولئك الثوار التحرريون أو دول قليلة جداً، وهؤلاء يتعرضون لضغوط مستمرة، والجمهورية الإسلامية خير مثال على ذلك، فقد رفضت نظام الهيمنة بكل أشكاله، ورفضت هيمنة أية جهة أو دولة أو مجموعة، سواء أكانت شرقية أم غربية. وقد شاهد الجميع ما واجهته الثورة الإسلامية خلال سنيّ عمرها الثماني من ضغوط سياسية وعسكرية واقتصادية وإعلامية بسبب اتخاذها الموقف الصادق والجاد والمستقل من نظام الهيمنة.
فإن كانت هناك بعض التقدمية تقف بوجه الهيمنة الغربية والأميركية، فسنلاحظ أنها تميل الى المعسكر الشرقي بنسب متفاوتة، فبعضها يرتمي بشكل كامل في أحضان المعسكر الشرقي وروسيا، وبعضها الآخر يميل الى هذا المعسكر مع وضوح الإستقلالية في الكثير من مواقفه وسياساته.
إن الدولة الوحيدة التي رفضت الرضوخ لضغوط أية قوة، هي الجمهورية الإسلامية بشعبها وكل قواها، فقد رفضت نظام الهيمنة جملة وتفصيلاً. فنحن نعلن موقفنا الصريح والواضح وبدون أي تحفظ من أية حالة هيمنة تمارسها قوة أو فئة ضد شعب من شعوب العالم.
إن أكثر العالم رضي بنظام الهيمنة، فأنتم تلاحظون أنه حتى الحكومات الخاضعة للهيمنة، تملك الجرأة على الوقوف بوجه القوى الكبرى ومواجهتها، بينما نحن نعتقد أن هذا الأمر ممكن ويسير.
نحن نعتقد أن الدول الفقيرة، والدول التي رضخت للهيمنة والدول التي أُجبرت على الرضوخ للهيمنة رغم امتلاكها القدرات والثروات، بإمكانها الوقوف بوجه القوى الكبرى إن أرادت ذلك، وهذا الأمر يسير لا يحتاج الى معجزة، إذ يكفي حكومات هذه الدول أن تعتمد على شعوبها.
إن ضعف نفوس وإرادة بعض الحكام، وخيانة بعضهم الآخر أدّيا الى خضوع هؤلاء لنظام الهيمنة، فهذا النظام هو الذي يسيّر الإقتصاد والثقافة والعلاقات والحقوق الدولية، وطبيعي أن تكون مسألة حقوق الإنسان قد انطلقت من هذه النظرة، ووجدت وتنامت في إطار هذا النظام. فالذين ينادون بحقوق الإنسان في الغرب ويسعَون الى إعطاء مواطنيهم بعض الحرية الشكلية والإمكانات الرفاهية، يقومون هم أنفسهم بقتل آلاف البشر من الدول الأخرى، فما الذي يعنيه ذلك غير سيطرة ثفافة الهيمنة على عقول هؤلاء؟ إنهم يقسمون الإنسان في العالم الى نوعين: الأول/ إنسان يجب الدفاع عن حقوقه، والثاني/ إنسان بلا حقوق، يجوز قتله واستعباده واغتصاب ثرواته. هذه هي ثقافة الهيمنة المسيطرة على العالم، وحقوق الإنسان المطروحة اليوم، إنما هي وليدة هذه الثقافة.
هذا هو إطار حقوق الإنسان في عالمنا اليوم، والذي تعمل القوى الكبرى بواسطته على تعميق الهوة بينها وبين الدول الضعيفة، وتزيد من ضغوطها عليها، لتسرع هي في تطورها وتقدمها العلمي والتكنولوجي.
إن الأقمار الصناعية تدور اليوم حول الأرض لتجمع الأسرار والمعلومات الخاصة بالدول والشعوب، فبأي حق يتم كل هذا؟ إن جميع المحادثات واللقاءات بين الناس على سطح هذه الأرض تخضع للإنصات من قبل أولئك الذين يملكون التفوق التكنولوجي ولتجسسهم، فبأي حق يتم هذا؟ هل سأل أحد عن ذلك؟ هل مَن يعترض على ذلك؟ بما أن أميركا تملك أقماراً صناعية إذاً فمن حقها استخدام هذه المعلومات المستحصلة، والجميع يرضخ لذلك! ترى أليس التجسس على أحاديث الآخرين وأسرارهم اعتداءاً على حقوقهم؟ وهل قام أحد بطرح هذا السؤال على أميركا وروسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا؟ ونحن نسأل: هل يمكن طرح مثل هذا السؤال؟ ويأتي الجواب بالنفي، لأن الجميع سيقولون إن هذه الدول تملك القوة والقدرة ويجب أن تقوم بذلك.
إن مسألة القنبلة النووية واستخدام السلاح النووي تُطرح اليوم على الصعيد العالمي، تطرحها الدول الكبرى نفسها لأن كلاً منها تخاف الأخرى، فتقوم بافتعال الضجيج واللجوء الى كل وسيلة لخداع الأخرى ودفعها الى التقليل من تسليحاتها النووية، بينما تقوم هي بزيادة تسليحها. ترى هل فكرت الدول الصغيرة بأن تعلن للدول المنتجة للأسلحة النووية بأنها ستقطع علاقاتها معها وستقطع عنها مواردها وتسهيلاتها وإمكاناتها ما دامت تواصل إنتاج هذا السلاح الذي يحمل خطراً كبيراً يهدد البشرية بالفناء في أية لحظة؟ هل فكرت دول عدم الإنحياز وسائر الدول بأن تشكل محوراً معارضاً لإنتاج الأسلحة النووية؟ بالطبع لا. ولو أنكم عرضتم عليهم هذه الفكرة لقالوا إن هذه الدول تملك تكنولوجيا متطورة وباستطاعتها إنتاج هذه الأسلحة. إن هؤلاء قد استسلموا واقتنعوا بنظام الهيمنة الذي بات مقبولاً من كلا الجانبين: المهيمنين والخاضعين للهيمنة في وقت واحد.
نحن نشاهد في المحافل الدولية أن ممثلي الدول تدهشهم إدانتنا للشرق والغرب ويعتبرون ذلك تهوراً من جانبنا بينما هو موقف طبيعي من شعب مستقل، وعلى الشعوب جميعاً سلوك نفس هذا النهج، كما أن على الحكومات أيضاً أن تتخذ هذا الموقف الذي تتركه وللأسف.
نخلص الى القول بأن ثقافة الهيمنة، تعتبر اليوم أكبر آفة وخطر يهدد العالم كله، خاصة الشعوب المستضعفة.
إن القوى الكبرى، وفقاً لثقافة الهيمنة تسمح لنفسها بنقض حقوق الإنسان حيثما شاءت، فهي تهاجم غرينادا وتساند الصهاينة الذي يقتلون الأبرياء في لبنان، وتساند - مع بعض الدول الأوروبية - النظام العنصري في جنوب أفريقيا في ظلمه واضطهاده لأصحاب البلد الأصليين، أما لو نهض شخص في إحدى بقاع العالم وتمـرّد على هذا الوضع غير المتوازن، فقام بتفجير قنبلة أو عملية ثورية، او قاد حركة ضد هذه المعادلة غير المتوازنة، لتعرَّض للإدانة، ولأُلصقت به صفة الإرهاب، بينما الإغارة على ليبيا وقصف منزل رئيس دولة والإعتداء على أراضي دولة أخرى لا تتعرض لأية إدانة.
عندما يتحدث هؤلاء عن الإرهاب يطرحون عمليات أفراد مظلومين نهضوا غاضبين، من فلسطين ولبنان ودول أفريقيا وأميركا اللاتينية، ويبعدون الأذهان عن الإعتداءات والإنتهاكات والإرهاب الذي تمارسه أميركا وبريطانيا وسائر القوى الكبرى. إن هذه هي ثقافة الهيمنة التي تسيطر، مع الأسف، على أذهان البشر.
في ثقافة الهيمنة، تعطي المصطلحات معاني تتلاءم مع نظام الهيمنة، فمثلاً يطرح معنى الإرهاب بشكل بحيث لا تعتبر الإغارة على ليبيا وتهديد نيكاراغوا والهجوم على غرينادا، مصاديق له، هذا هو الخطأ الكبير في عالمنا اليوم.
إذاً، فسبب عدم نجاح كل المحاولات والمساعي المبذولة باسم حقوق الإنسان من قبل المخلصين الصادقين والحريصين على هذه الحقوق، يكمن في أنهم يطرحون هذه الحقوق في إطار نظام الهيمنة وثقافتها، وفي هذا الإطار يريدون وضع حقوق الإنسان، وهذا أمر مستحيل. إذ يجب تحطيم هذا الإطار، أولاً تجب إدانة نظام الهيمنة ورفضه جملة وتفصيلاً حتى يمكن فهم مسألة حقوق الإنسان، والسعي من أجل ضمانها بالشكل الصحيح.
وهنا نصل الى السؤال الرابع والأخير وهو: ما العلاج؟
برأينا يكمن العلاج في جملة واحدة هي: العودة الى الإسلام والوحي الإلهي. إنها الوصفة الطبية النافعة للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء. إن على المجتمعات الإسلامية أن لا تفكر بغير هذا، عليها أن تحيي القرآن والفكر الإسلامي وتستنبط القوانين والأحكام من المصادر الإسلامية (القرآن والسنّة) فذلك كفيل بتحديد معالم حقوق الإنسان ومصاديقها، ومساعدتنا في ضمان هذه الحقوق. ولأجل إعطاء الإنسان حقوقه علينا ترك التوصيات والنصائح، فهي عديمة الفائدة، {خذوا ما آتيناكم بقوة} فلقد أعطى الله هذه الحقوق للإنسان وعليه أخذها بكل قوة. على الشعوب أن تعتمد على الفكر الإسلامي في مواجهة الهيمنة والضغوط، وهذا الكلام لا يصدر من إنسان يجلس في زاوية المدرسة يفكر بالمسائل والنظريات الإسلامية، بل إنه صادر عن ثورة خاضت تجربة ناجحة ولمست حقائق عديدة، فثورتنا تجربة تقدم نفسها لكل الشعوب. أنا لا أقول إننا استطعنا حل كل مشاكلنا، فبسبب الثورة واتجاهنا نحو الإسلام اختلقوا لنا مشاكل عديدة، إلا أننا استطعنا إنهاء مشكلة الهيمنة، وشعبنا اليوم مستقل عن جميع القوى، ويمكنه اتخاذ أي قرار يريده بكل حرية واستقلالية. وطبيعي أن أمام شعب يريد التحرر من كل أنواع التبعية طريقاً طويلاً وشاقاً، لكن التبعية التي لا تقترن بالهيمنة هي أمر طبيعي يمكن تحمله، وواضح أن ثورتنا وجمهوريتنا الإسلامية قد ورثتا مجتمعاً مدمراً واقتصاداً منهاراً وثقافة منحطة، لقد ورثت ثورتنا. إيران كانت خلال الستين عاماً الأخيرة معرضة للغزو من كل صوب وعلى الأصعدة كافة، ولا يتوقع أحد أن الثورة ستستطيع التعويض عما فات إيران على الصعيد الثقافي والأخلاقي والإقتصادي والعلمي والصناعي في فترة وجيزة، ونحن أيضاً لا ندّعي ذلك.
إننا نعتقد أنه إذا استطاع شعبنا الوصول الى مستوى مادي عالٍ، فيجب أن يتم ذلك في ظل الإستقلال والإعتماد على النفس واستخدام جميع إمكاناته المادية والبشرية.
إن الذي يمكن أن ندّعيه بكل ثقة، هو أن الجمهورية الإسلامية لم تعد تخضع لأية هيمنة أو ضغوط سياسية من جانب أية قوة، وليس بإمكان الضغوط السياسية التي تمارس ضدها تغيير نهجها وخطها، ولا التعديل من مواقفها أو إجبارها على الإتجاه نحو إحدى القوى الكبرى، إننا حررنا أنفسنا من سلطة القوى الكبرى وهيمنتها، وهذا بحد ذاته تجربة غنية.
نحن نعتقد أن أفضل النماذج لحقوق الإنسان في الإسلام هو حق الحياة، وحق الحرية، وحق التمتع بالعدالة، وحق التمتع بالرفاهية، وسائر الحقوق الأساسية التي أعطاها الإسلام للإنسان قبل أن ينتبه لها المفكرون الغربيون.
إن علينا أن نعود الى الإسلام، وعلى المفكرين الإسلاميين الإضطلاع بمسؤولية البحث والدراسة في مجال حقوق الإنسان خاصة، والنظام الحقوقي بشكل عام، وهذا ما أخذه هذا المؤتمر على عاتقه والذي سيكون خطوة على هذا الطريق، وستستمر هذه الجهود إن شاء الله على مستوى عالٍ لتتمكن الشعوب من التمتع بهذه الحقوق، وطبيعي أن بإمكان الحكومات مساعدة شعوبها في هذا الأمر بشرط أن لا تراعي رغبات القوى الكبرى، وهذا ما لا نشاهده الآن بكل أسف، فأغلب الأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية تقع تحت تأثير القوى الكبرى، وأغلبها تحت تأثير الغرب وأميركا، ولهذا فإن جميع مواقفها وقوانينها لا تتماشى مع الموازين والأحكام الإسلامية وإرادة شعوبها، وهذا المؤتمر الذي عقد في الكويت مثال بارز على ذلك، فقد رأيتم كيف أنه لم يبحث القضايا الأساسية والمصيرية للمسلمين، بل ذهب الى طرح قضية وإصدار البيان الختامي بشأنها وهي لا تتفق والإسلام، فبدلاً من أن يدينوا العراق ويطردوه من المؤتمر بسبب اعتدائه على إيران ووقوفه بوجه بلد مسلم، وبدلاً من كشف دور القوى الكبرى في تأجيج هذه الحرب، فإنهم أبدَوا رضاهم عن العراق باعتباره - حسب قولهم - يلبي نداء السلام؛ متجاهلين بذلك واقع هذه القضية وحقيقتها، ومتناسين أن دفاع شعب عن حقوقه أحق أن يُشاد به، وامتثال نظام معين لرغبات الإستكبار العالمي في الوقوف بوجه ثورة شعبية إسلامية أحق أن يدان.
إن هذه البيانات والقرارات ووجهات النظر خاوية لا تستند الى المبادئ والقيم الإسلامية، كما أنها تفقد أية أهمية، فليس هناك شعب ينتظر ما ستتخذه قمة الكويت من قرارات لكي يفرح أو يحزن لها، أي أن هذه المؤتمرات وهذه القرارات بعيدة عن الواقع والأصالة الإسلامية وطموحات الشعوب لدرجة أنها تواجه بعدم اكتراث من قبل الشعوب، فليس هناك من شعب متعطش لما سيصدر عن القمة الإسلامية، ليحدد واجبه على غرارها. لماذا يصل تجمع يضم ستاً وأربعين دولة، على مستوى القمة، الى هذه الدرجة من الخواء والضعف؟ إن السبب يكمن في أن أغلب هؤلاء الرؤساء يقعون تحت تأثير القوى الكبرى، وما دام رعب هيمنة هذه القوى يسيطر على قلوبهم فلن تصلح حال المسلمين، ولو أردنا إصلاح هذه الحال التي نمر بها اليوم، لكان علينا أولاً طرد ما في القلوب من رعب من القوى الكبرى، وكما قال الباري عز وجل {فلا تخشَوا الناس واخشونِ}، وإذا ما حدث ذلك فسينصلح حال الشعوب الإسلامية.
هنا أصل الى نهاية حديثي، وآمل أن يتمكن هذا المؤتمر من قطع خطوات مؤثرة في طريق معرفة الحقائق الإسلامية في مجال حقوق الإنسان، كما آمل أن يؤدي التقاء الإخوة المؤتمرين الى توضيح تجارب الثورة الإسلامية للإخوة غير الإيرانيين ليتسنى لهم دراستها والإستفادة منها ولشعوبها، الإطلاع على ثورة إخوانهم في إيران باعتبارها قدوة ونهجاً يمكن اتباعه.والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
- قيادة الإمام الصادق (عليه السلام)