تحميل:
سائر الكتب
- الفكر الأصيل
- ضَرورة العَودة إلى القرآن
- العودة إلى نهج البلاغة
- روح التوحيد رفض عبودية غير الله
روح التوحيد رفض عبودية غير الله
آية الله العظمى السيد علي الخامنئي (دام ظله)
بسم الله الرحمن الرحيم
يوم نهض نبي الإسلام لحمل رسالة تحرير الإنسان، وأعلن شعار "لا إله إلا الله" واجه معارضة حادة ومقاومة عنيفة؛ وكان في مقدمة هذه الجبهة المضادة رؤساء القبائل ووجهاؤها، وكان بقية المعارضين تابعين ومطيعين لهؤلاء السادة والكبراء.
هؤلاء واجهوا الرسول، واجهوا الفئة المؤمنة ـ في البداية ـ بأبسط الأسلحة العدوانية، بالهمز واللمز والاستهزاء، ثم عمدوا إلى أسلحة أشد وأفتك كلما ازدادت الحركة التوحيدية قوة وبلورة. وهكذا كررت هذه الجبهة المضادة خلال الأعوام الثلاثة عشر قبل الهجرة تلك المشاهد المخزية في تاريخ الصراع بين الحق والباطل.
هذه الحقيقة التاريخية تستحق مزيداً من الدقة والإمعان لأنها تشكّل مؤشراً هاماً للتعمق في فهم الإسلام، وفي فهم التوحيد الذي يشكّل العمود الفقري للإسلام.
إنه لمؤسف جداً، بل إنها لمأساة، لكل دعاة تحرير الإنسان أن نشهد انحراف مفهوم التوحيد في عصرنا، فهذا المفهوم يشكّل أعمق أسس محتوى الأديان، ولا يناظره مفهوم آخر في عمق اتجاهه نحو تحرير الإنسان وإنقاذ البشرية المعذبة على مسرح التاريخ.
الرسالات الإلهية عامة عملت خلال التاريخ ـ على ما نعلم ـ على تغيير المجتمع، ودفعه في اتجاه يخدم مصالح الإنسان وينقذ المستضعفين والمسحوقين، ويقضي على كل مظاهر الظلم والتمييز والعدوان. المحتوى الأخلاقي لكل الأديان الكبرى، كما يقول "أريش فروم"، يتكون من التطلع نحو: العلم، والحب الأخوي، والتخفيف من الآلام، والاستقلال، والشعور بالمسؤولية (وهناك طبعاً تطلعات سامية شريفة أخرى لا نتوقع من باحث مادي أن يدركها).
كل هذه التطلعات والآمال تتلخص في مبدأ التوحيد. والأنبياء كانوا يطرحون كل أهدافهم من خلال شعار التوحيد، كما كانوا يحققون تلك الأهداف أو يمهدون لتحقيقها في أعقاب كفاح ينشب تحت راية هذا الشعار.
إنه لمؤسف حقاً، لا للموحدين فحسب بل كل المتبنّين لهذه الآمال والأهداف، أن يبقى محتوى التوحيد مجهولاً أو محرَّفاً أو سطحياً لا يتجاوز الإطار الذهني، خاصة في عصر تتصاعد فيه ضرورة الاتجاه نحو تلك الأهداف أكثر من أي وقت مضى.
ذكرنا أن المجابهات التي شهدها عصر فجر الإسلام تستطيع أن توضّح حقيقة هامة بشأن مفهوم التوحيد.
هذه الحقيقة هي أن شعار "لا إله إلا الله" اتجه أولاً لمقارعة أولئك الذين حاربوه وعادَوه، وهم: أفراد الطبقة المسيطرة المقتدرة في المجتمع.
رد الفعل الذي يبديه خصوم كل حركة في المجتمع يعـبّر دوماً بوضوح عن الاتجاهات الاجتماعية لتلك الحركة، ومدى عمق تأثير هذه الاتجاهات؛ كما يمكن فهم الاتجاه الطبقي والاجتماعي للحركة من خلال دراسة طبيعة أعدائها وانتماءاتهم الطبقية، ويمكن قياس عمق تأثيرها عن طريق فهم مدى تصلّب الأعداء تجاهها.
من هنا، فإن دراسة جبهة أتباع الدعوات الإلهية وجبهة أعدائها، واحدةٌ من الطرق الموثوقة في فهم هذه الدعوات بشكل صحيح.
حين تشاهد أن الفئات المقتدرة كانت دوماً سبّاقة في محاربة الرسالات الإلهية، نفهم بوضوح أن هذه الرسالات تعارض بطبيعتها هذه الفئات، تعارض تجـبّرها وترفها، بل تعارض أساساً هذه الطبقية التي جعلت هذه الفئات متميزة عن غيرها.
قبل أن ندرس التوحيد من هذا المنظار، منظار مقارعته لكل ألوان السيطرة الاجتماعية، لابد من الإشارة أولاً إلى أن التوحيد لا ينحصر في إطار نظرية فلسفية ذهنية ـ كما هو شائع ـ بل هو نظرية أساسية حول الإنسان والعالم، ومنهج اجتماعي واقتصادي وسياسي للحياة.
يندر أن نجد في قواميس الألفاظ، الدينية وغير الدينية، لفظة مثل لفظة "التوحيد" في استيعابها للمفاهيم الثورية البنّاءة، ولأبعاد الحياة الاجتماعية والتاريخية للإنسان، لم يكن من الصدفة أن تبدأ كل الدعوات والحركات الإلهية في التاريخ بـإعلان توحيد الله وحصر الربوبية والألوهية به.
أبعاد محتوى التوحيد نلخصها فيما يلي:
أ/ التوحيد على صعيد التصور (النظرة العامة للكون والحياة):
يعني وحدة جميع العالم وانسجامه وائتلاف أجزائه وعناصره
مبدأ الخلقة واحد، وجميع المخلوقات من ذلك المبدأ الواحد، وليس هناك آلهة متعددة في خلق العالم وإدارته، وهذا يستتبع وحدة جميع أجزاء العالم في التكوين والاتجاه.
{ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (المُلك:3).
{أوَ لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى} (الروم:8).
العالم المتحرك ـ انطلاقاً من هذا التصور ـ قافلة متصلة الأجزاء، كاتصال حلقات السلسلة الواحدة، وكارتباط أجزاء الجهاز الواحد العاملة في اتجاه واحد، وكل جزء من هذه الأجزاء يكتسب معناه الواقعي ويتضح واجبه من خلال فهم مكانته في مجموع هذا التركيب، كل الأجزاء يعاون بعضها الآخر، ويكمّل بعضها الآخر في هذا السير التكاملي الحثيث، وكل واحد منها آلة ضرورية في هذه المجموعة، وكل توقف وفساد وركود وانحراف في أي واحد من هذه الأجزاء يؤدي إلى بطء وفساد وانحراف في جميع الجهاز، وبهذا الشكل ترتبط جميع الذرات مع بعضها برباط معنوي عميق.
ويعني أن للعالم هدفاً ويقوم على أساس حساب وانضباط دقيق، وأن لكل واحد من الأجزاء روحاً ومعنى
العالم له خالق حكيم، وبناءاً على هذا فإن لأصل الوجود ـ كما لكثير من أجزائه ـ حكمة وغاية واتجاه وهدف.
{وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين...} (الأنبياء:16).
العالم بمجموعه ـ انطلاقاً من هذا التصور ـ ليس بالحائر العابث، بل هو مثل ماكينة مصنوعة ومرصودة للعمل من أجل هدف معيّن، يمكن السؤال عن هدفه ولا يمكن السؤال عن أصل هذا الهدف. إنه قصيدة ذات مضمون ينبغي التأمل والتدبر فيها لفهم مضمونها، ولا يمكن اعتبارها إطلاقاً صوتاً منطلقاً من حركة عشوائية.
ويعني أبعد من ذلك خضوع كل عناصر العالم وكل الأشياء لله
فلا يوجد بين هذه المجموعة عنصر شاذ متمرد، كل قوانين الطبيعة وكل ما يخضع لسيطرة هذه القوانين منصاع لله وعبد له. فوجود القوانين التكوينية والطبيعية على ساحة الكون لا يعني نفي ربوبية الله ومبدئيته.
{إن كل مَن السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} (مريم:93).
{بل له ما في السماوات والأرض كلٌ له قانتون} (البقرة:117).
{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويّات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} (الزمر:67).
ب/ التوحيد على صعيد فهم الإنسان:
يعني وحدة أبناء البشر وتساويهم في ارتباطهم بالله
إنه رب جميع الناس، وليس لأحد ـ بسبب طبيعته الإنسانية ـ علاقة خاصة متميزة به، ولا لأحد معه قرابة، ليس إله شعب خاص أو قبيلة معيّنة، ولم يختر شعباً معيّناً ليكون ذلك الشعب سيداً والباقي مَسُودين. كل الناس أمام الله سواسية، وليس لأحد عند الله كرامة خاصة، إلا بالعمل الصالح، أي بالسعي والمثابرة على طريق خدمة الناس والعمل بأحكام الله المؤدية إلى سمو الإنسان.
{وقالوا اتخذ الله ولداً، سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون} (البقرة:117).
{فمَن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون} (الأنبياء:94).
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لِتَعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13).
ويعني وحدة أبناء البشر وتساويهم في الخلقة والتكوين الإنساني.
الإنسانية عنصر واحد يسري في جميع أفراد النوع البشري بشكل متساوٍ، ليس هناك آلهة متعددة خلقت فئات بشرية متعددة. ولذلك فلا توجد ثمة اختلافات وفواصل منيعة في الخلقة، كما أن إله الطبقة الاجتماعية العليا ليس بأقوى من إله الطبقة الاجتماعية السفلى. كل الناس مخلوقات الإله الواحد الأحد، وكلهم متشابهون في جوهر خلقتهم.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} (النساء:1).
ويعني تساوي أبناء البشر في الإمكانات المتاحة لهم من أجل السمو والتكامل.
البشر متشابهون في جوهرهم الإنساني وطبيعتهم الإنسانية، وهذه الطبيعة الإنسانية جُبِلت بيد بارئ حكيم؛ فليس هناك إذاً فرد عاجز ذاتياً عن ارتقاء مدارج الصراط المستقيم نحو السمو والتكامل.
من هنا، فدعوة الله دعوة عامة ولا تختص بشعب معيّن أو فئة خاصة.
الظروف المختلفة لها آثارها المختلفة على الإنسان، لكن هذه الظروف الطارئة لم تستطع أن تصنع من الإنسان بشكل دائم شيطاناً أو مَلَكاً، وتغلّ يديه، وتسلب اختياره، وتسدّ الطريق أمام انتخابه وتغيّره.
{وما أرسلناك إلا كافة للناس} (سبأ:28).
{وأرسلناك للناس رسولاً} (النساء:79).
{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً * فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيُدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً} (النساء:174ـ175).
ويعني حرية جميع الناس من قيود الأسر ومن قيود العبودية لغير الله وهو تعبير آخر عن ضرورة العبودية لله
أفراد البشر الراضخون بشكل من الأشكال تحت سيطرة غير الله (سيطرة فكرية وثقافية، أو اقتصادية، أو سياسية) هم مستعبدون لعباد من أمثالهم بالمفهوم الواسع للعبادة. هؤلاء قد اتخذوا لله أنداداً. والتوحيد يرفض هذا الشكل من الحياة، ويعتبر الإنسان عبداً لله فقط، ويحرره من العبودية والرضوخ لكل نظام، بل لكل عامل مسيطر يضع نفسه مكان الله. فالتوحيد يعني التسليم لله وحده، ويستتبع ذلك رفض كل سلطة غير سلطة الله مهما كان شكلها ونوعها.
{إنِ الحكم إلا لله، أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّم} (يوسف:40).
{وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} (الإسراء:23).
والتوحيد بالمعنى المتقدم يعني تكريم الإنسان وتثمينه.
فالعنصر الإنساني السامي أعظم من أن يخضع ويرضخ لأحد غير الله؛ فالوجود المطلق والجمال المطلق هو وحده الذي يستحق عبادة الإنسان وثناءه وتعشّقه. وهذا النزوع المتسامي هو درجة من درجات السمو.
لا شيء ـ غير ذات الله تعالى ـ يتمتع بمنزلة يستحق فيها عبادة الإنسان ودعاءه. كل الأصنام الجامدة والمتحركة التي فرضت نفسها على فكر الإنسان وقلبه وجسمه، واغتصبت حاكمية الله في حياة إنسان هي رجس وأوثان تُبعد الكائن البشري عن طهره ونقائه الفطري، وتذلّه وتصدّه عن حركته. ولابد للإنسان ـ إن أراد استعادة مكانته السامية ـ أن يجتنب هذه الأوثان ويغسل عن وجوده عار التلوث بعبوديتها.
{فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به ومَن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح من مكان سحيق} (الحج:30 ـ31).
{لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً} (الإسراء:22).
{ولا تجعل مع الله إلهاً آخر، فتُلقى في جهنم ملوماً مدحوراً} (الإسراء:39).
يعني وحدة وانسجام حياة الإنسان ووجوده.
حياة الإنسان مركّبة من الذهن والواقع، من الفكر والعمل؛ وإذا خضع واحد من هذين الجانبين ـ بأجمعه أو بقسم منه ـ لأعداء الله، أي إذا أصبح الذهن إلهياً والواقع غير إلهي، أو أصبح الواقع إلهياً والذهن بعيداً عن الله.
الإنسان في مثل هذه الحالة كمؤشر مغناطيسي ظهر في مجاله المغناطيسي عنصر غريب. المؤشر عندئذ إما أن ينحرف عن اتجاهه الطبيعي انحرافاً تاماً، أو يبقى يتأرجح يمنة ويسرة. أي سوف ينحرف الإنسان عن الصراط المستقيم المتناسب مع طبيعته الإنسانية، ينحرف عن الله.
{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء مَن يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردّون إلى أشد العذاب..} (البقرة:58).
ويعني انسجام الإنسان مع العالم المحيط به.
الساحة الكونية الفسيحة تزخر بقوانين الخليقة، ولا تغرب أدنى ظاهرة طبيعية عن إطار هذه القوانين. وبانسجام هذه القوانين وتعاضدها والتقائها ينتظم شكل الكون ويسود في العالم هذا النظام الرائع المشهود. الإنسان جزء من هذه المجموعة وتتحكم فيه قوانينها العامة، إضافة إلى قوانين خاصة. غير أن هذه القوانين الخاصة متناسبة ومنسجمة أيضاً مع قوانين الظواهر الأخرى.
أما الإنسان، خلافاً لسائر الظواهر الأخرى المسخّرة للحركة على طريقها الطبيعي الفطري، يتمتع بقوة إرادة وقدرة اختيار. وعليه أن يطوي طريقه الفطري الطبيعي عن اختيار، لأنه طريق سموّه وكماله. وهذا يعني أنه قادر على الانحراف عن هذا الطريق الطبيعي.
{فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر} (الكهف:29).
التوحيد يدعو الإنسان إلى السير على طريقه الطبيعي الفطري المنسجم مع كل الكون، وبذلك يربط الكائن البشري ـ باعتباره عضواً أصلياً من أعضاء هذا الكون ـ في عمله وسعيه بسائر أجزاء الكون، ويخلق بذلك وحدة وانسجاماً تامـّين.
{أفغير دين الله يبغون وله أسلم مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون} (آل عمران:78).
{ألم تر أن الله يسجد له مَن في السموات ومَن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} (الحج:18).
ج/ التوحيد على صعيد المناهج الاجتماعية (الاقتصادية والسياسية...):
يسلب من كل مصدر غير الله صلاحية الانفراد بوضع مناهج مستقلة لشؤون الحياة والإنسان.
فالله خالق الإنسان والكون والمصمم لهذا النظام الكوني المنسجم، والعالم بـإمكانات الإنسان واحتياجاته.
الله يعلم بما ينطوي عليه الكائن البشري من ذخائر دفينة وطاقات مكنوزة، وبما ينطوي عليه الكون من كنوز وإمكانات، ويعلم ميزان وأبعاد استثمار هذه الكنوز والإمكانات، ويعلم كيف تلتقي هذه جميعاً مع بعضها.
من هنا فهو وحده القادر على وضع منهج لطريقة الحياة، ولعلاقات الإنسان، ومنهج حركته في إطار نظام التكوين. وهو وحده القادر على وضع قوانين الحياة وتعيين شكل النظام الاجتماعي.
اختصاص هذا الأمر بالله نتيجة طبيعية ومنطقية للخالقية والألوهيـة. فكـل تدخـل مـن الآخريــن ـ إذاً ـ لتعيين المسيرة العملية للبشرية هو تدخل في حاكمية الله، وادّعاءٌ للألوهية، وباعثٌ على الشرك.
{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً} (النساء:65).
{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم ومَن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} (الأحزاب:36).
يسلب حق الولاية على المجتمع وحياة الإنسان من غير الله.
ولاية الإنسان على الإنسان لو قامت على أساس حق مستقل وبدون مسؤولية، لاستلزمت الظلم والطغيان والعدوان. الفرد الحاكم والجهاز الحاكم لا يستطيع أن يتخلص من الانحراف والطغيان والإفراط إلا إذا كانت زمام الأمور معطاة بيد هذا الفرد أو هذا الجهاز من قبل سلطة عليا ضمن إطار مسؤوليات متناسبة. وهذه السلطة العليا في المدرسة الدينية هي الله المحيط بكل شيء علماً.
{لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} (سبأ:3).
{ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} (الحاقة:44).
هذه السلطة العليا لا تنطلي عليها خدعة كما قد تنطلي على الجماهير، ولا يمكن اتخاذها وسيلة للسيطرة والتجبّر كما تُتخذ الأحزاب، ولا يمكن المساومة معها كما يمكن مع علّية القوم وزعمائهم.
وبنظرة أعمق: لو استلزم نظم الحياة انتهاء كل أجهزة الحياة الاجتماعية بنقطة واحدة، وتفرد قوة مسيطرة بمسك زمام جميع الأمور، لما كانت تلك القوة المسيطرة سوى خالق الكون والإنسان.
فالحكم حق خاص بالله، ينفّذه مَن عيّنهم الله، أي أولئك الذين تتجسّد فيهم أكثر من غيرهم تلك المعايير والخصال المحددة في الإيديولوجية الإلهية. وهؤلاء منفّذون وحفَظَة للقوانين الإلهية.
{قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض وهو يُطعِم ولا يُطعَم قل إني أُمرت أن أكون أول مَن أسلم ولا تكونن من المشركين} (الأنعام:14).
{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} (المائدة:55).
{قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس} (الناس:1ـ 4).
ويعني اختصاص المُلكية المطلقة الأصلية لكل نِعَم الكون وذخائره بالله.
ليس لأحد أن يملك ويتصرف مباشرة ومستقلاً؛ كل شيء أمانة بيد الإنسان لاستثماره والاستعانة به على طريق السمو والتكامل. ليس للإنسان المنـعَّم أن يفسد ويتلف نِعَم هذا العالم التي هي ثمرة سعي آلاف الظواهر والعناصر في هذا العالم، أو أن يهمل هذه النِعَم أو يستثمرها في طريق غير طريق السمو الإنساني. ما في يد الإنسان، وإن كان ملكاً له، فهو عطاء إلهي. من هنا، ينبغي أن يتجه استثمار هذا العطاء على الطريق الذي عيّنه الله، أي في طريقه الطبيعي الأساسي، في الطريق الذي خُلِق من أجله في الحقيقة. واستثمار هذا العطاء الإلهي في غير هذا الطريق انحراف عن اتجاهه الطبيعي، إنه الفساد.
دور الإنسان إزاء هذه النِعَم الإلهية المتنوعة هو استثمارها بشكل صحيح، وفتح مغاليق كنوزها، وقبل ذلك إحياؤها والبلوغ بها إلى درجة الكمال طبعاً.
{قل لمن الأرض ومَن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكّرون} (المؤمنون:86 ـ87).
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (البقرة:29).
{اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} (هود:61).
{والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصَل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة} (الرعد:28).
ويعني أن أفراد البشر متساوون في حق استثمار نِعَم الحياة.
الإمكانات والفرص متكافئة أمام جميع البشر ليستثمر كلٌ منهم هذه النِعَم قدر حاجاته وضمن إطار سعيه وعمله. هذه الساحة الكونية لا توجد فيها منطقة خصوصية محصورة بفئة معيّنة. الجميع يستطيعون أن يستثمروا نِعَم الحياة المتنوعة قدر همّتهم وإرادتهم، دون تمايز بينهم في العنصر أو الموقع الجغرافي والتاريخي، بل وحتى في الانتماء الإيديولوجي.
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً}.
{والأنعام خلقها لكم}.
{لكم فيها جمال}.
{تحمل أثقالكم}.
{أنزل من السماء ماءاً لكم}.
{ينبت لكم به الزرع}.
{وما ذرأ لكم في الأرض}.
{لتركبوها}.
{لتأكلوا منه}.
وكل هذه الآيات، من مطلع سورة "النحل" تخاطب جميع البشر دون أن تتجه في خطابها إلى فئة خاصة أو طائفة خاصة، وهي جاءت في سياق آيات أخرى تخاطب جميع البشر أيضاً مثل:
{ولو شاء الله لهداكم أجمعين}.
{وإلهكم إله واحد}.
هذا جانب من المحتوى العميق الواسع للتوحيد. ومن خلال هذا الاستعراض السريع يتضح بجلاء أن التوحيد ليس بالنظرية الفلسفية الذهنية غير العملية المعزولة عن الحياة وعما يرتبط بحركة المجموعات البشرية وبحركة الفرد ونشاطه. التوحيد لا يكتفي باستبدال معتقد بمعتقد آخر..
بل إنه من جهة: نظرة عامة للكون والحياة، تشتمل على مفهوم خاص للعالم وللإنسان ولمكانة الإنسان بين ظواهر العالم ومكانته في التاريخ، ولإمكاناته واحتياجاته ومتطلباته الذاتية، ولاتجاهه ومراحل سموّه وكماله.
ومن جهة أخرى: منهج اجتماعي شامل متناسب مع طبيعة الإنسان، ويستطيع الكائن البشري في إطاره أن يسمو على مدارج كماله بسهولة وسرعة. إنه أطروحة خاصة للمجتمع تتضح فيها الخطوط العامة والأساسية للكيان الاجتماعي.
من هنا، حين يرتفع نداء التوحيد في المجتمعات الجاهلية (المجتمعات القائمة على أساس الجهل بحقيقة الإنسان) والمجتمعات الطاغوتية (القائمة على أساس المعاداة للقيم الإنسانية الحقة) فإنه يحدث تغييراً شاملاً، ينير القلوب المظلمة، ويحيي النفوس الهامدة، ويبعث هزة في جسد المجتمع الراكد، وينظم الشؤون المبعثرة المتناقضة لذلك المجتمع. يحدث التوحيد تغييراً في المحتوى النفسي، والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وفي القيم الأخلاقية والإنسانية.
وبعبارة قصيرة: يهاجم التوحيد الوضع الجاهلي القائم، والسلطة التي تحمي هذا الوضع، والجو الذي يغذي هذا الوضع ويمدّه بالحياة.
التوحيد ـ إذاً ـ ليس فقط أطروحة ترتبط بمسألة نظرية محضة أو مسألة ذات إطار عملي محدود، بل إنه أيضاً طريق جديد أمام الإنسان، يستهدف تقديم أسلوب آخر للعمل والحياة، وإن استند إلى تحليل ذهني ونظري.
انطلاقاً من هذا الفهم لمحتوى التوحيد، نعتقد أن هذا الأصل يشكّل حجر البناء في صرح الدين، ومحتواه الأساس، والقاعدة التي يقوم عليها. فهم التوحيد على أنه نظرة لما وراء الطبيعة، أو أنه على أحسن الأحوال أطروحة أخلاقية عرفانية، هذا الفهم لا يتناسب إطلاقاً مع الإيديولوجية الإسلامية الحية التي تنطوي على أطروحة كاملة للحياة الاجتماعية.
كان هناك على مر التاريخ طبعاً أفراد ـ مع إيمانهم بالله وبالتوحيد ـ غفلوا أو تغافلوا عن المحتوى العيني والعملي ـ وخاصة الاجتماعي ـ لهذه العقيدة. هؤلاء وطّنوا أنفسهم على المعيشة في كل زمان ومع كل الظروف بحيث لا تكاد تميّزهم عن الكافر بالتوحيد؛ أي أن هذه العقيدة لم تبعث فيهم شعور التعارض مع الوضع غير التوحيدي القائم، ولم يثقل كاهلهم عبء الشرك المستفحل في مجتمعهم.
في مطلع الإسلام، كان هناك مجموعة من الحنفاء يعيشون في مكة مركز الوثنية وعاصمة أصنام العرب الكبرى. لكن وجودهم لم يكن له أدنى تأثير على الجو الفكري والاجتماعي، لأن مفهوم هؤلاء الحنفاء عن التوحيد لم يتعدّ أذهانهم وقلوبهم وإطار حياتهم الخاصة، ولم يكن له أدنى تواجد في تلك المتاهات الجاهلية، ولا أقلّ تأثيراً على الحياة المؤسفة القائمة هناك. هؤلاء الذين يُسمَّون بـ"الموحدين" كانوا يعيشون مع غيرهم على ساحة واحدة ويطوون مسيرة تلك الحياة بنفس طريقة غيرهم دون أن يزعجهم شيء. هذا الفهم الذهني للتوحيد يتميز بهذه الصفة من الخمول والانعزال عن الحياة، وخاصة الحياة الاجتماعية.
في مثل هذه الأجواء، أعلن الإسلام مفهوم التوحيد باعتباره عقيدة ملتزمة وتنظيماً للحياة وأطروحة جديدة للمجتمع. وبهذا الشكل أعلن هويته باعتباره دعوة انقلابية لكل مخاطبيه، المؤمنين منهم والكافرين، فكل مَن سمع نداء الإسلام علم أنه نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي جديد لا يتلاءم إطلاقاً مع الأوضاع التي كانت قائمة في العالم آنذاك، بل إنه يستهدف إزالة الوضع القائم وإبداله بوضع آخر.
بسبب هذه الأطروحة، اندفع المؤمنون صوب الدعوة باشتياق ولهفة وولع شديد وأسلموا لها، ولهذا السبب أيضاً هبّ المعارضون والكافرون ليقاوموا نداء التوحيد بوحشية وضراوة، وليصعّدوا عداءهم يوماً بعد يوم.
هذه الحقيقة التاريخية، بمقدورها أن تكون معياراً لتقييم صحة أو عدم صحة ادّعاء التوحيد في كل زمان ومكان. من الصعب أن نصدّق وجود التوحيد في نفوس قوم يشبهون موحدي مكة قبل ظهور الإسلام.
التوحيد المهادن.. التوحيد المداهن مع كل الأنداد والآلهة المزيفة.. التوحيد الذي لا يعدو أن يكون فرضية ذهنية، ليس إلا نسخة ممسوخة لتوحيد الأنبياء.. ومن الطبيعي أن يخلو مثل هذا التوحيد من ديناميكية دعوة الأنبياء.
من خلال هذه الرؤية نستطيع أن نفهم سبب انتشار نور الإسلام وتقدّمه في العصور المتقدمة، وسبب تراجعه وتقهقره وضعفه في العصور المتأخرة.
إسلام رسول الله (ص) كان يضع التوحيد أمام الناس باعتباره طريقاً ومسلكاً، وإسلام العصور التالية طرح التوحيد باعتباره نظرية يدور حولها البحث والجدل في المجالس والمحافل. كان الكلام هناك يدور حول تصور جديد للعالم ونظرية جديدة لحركة الحياة، وهنا الكلام يدور حول مسائل كلامية فرعية خالية من كل عطاء حي. كان التوحيد هناك يشكّل الهيكل العظمي للنظام القائم، والمحور لكل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ وهنا يتمثل في لوحة فنية جميلة معلّقة في صالة، الهدف منها إكمال مظاهر الزينة في الصالة. وأي دور فعال يمكن أن نتوقعه من مثل هذه الظاهرة الكمالية؟!
مما تقدّم يتضح أن التوحيد من منظار عملي أطروحة للمجتمع ومنهج للحياة وقاعدة للنظام الذي اعتبره الإسلام متناسباً مع طبيعة الإنسان ونموّه وسموّه؛ وهو من منظار نظري يشكّل القاعدة الفكرية الفلسفية لذلك النظام.
بعد هذه التمهيدات، نستطيع أن نعود إلى بداية المقال، وندرس المسألة من الزاوية الخاصة التي استهدفناها فيه.
قلنا: إن المجابهات الأولى التي واجهها نداء التوحيد انطلقت من ذوي القدرة والسلطة في المجتمع، وهذا مؤشر يثبت أن الضربة التي وجهها هذا الشعار اتجهت أول ما اتجهت وأكثر ما اتجهت نحو تلك الفئة المقتدرة المسلّطة، أو نحو الفئة المستكبرة على حد التعبير القرآني.
وقلنا: إن الدعوات التوحيدية في مختلف عصور التاريخ، ما أن انطلقت في المجتمع حتى اتخذت موقفها الواضح من المستكبرين. وعلى أثر هذا الموقف، انقسم المجتمع إلى فئتين متناقضتين: الفئة المعارضة المستكبرة والفئة المؤمنة المستضعفة.
وقلنا أخيراً: إن رد الفعل الذي تبديه هاتان الفئتان تجاه رسالة التوحيد هي الخاصة التي تميـّز التوحيد الحقيقي الأصيل. أي أن التوحيد ـ متى ما أُعلن بمفهومه الأصيل وبشكله الصحيح ـ يواجه هذه المجابهات وردود الفعل الاجتماعية.
والآن علينا أن نتفحص أبعاد التوحيد لنرى أي بُعد من هذه الأبعاد يتعارض مباشرة مع مصالح الطبقة المستكبرة ويصطدم مع وجودها. بعبارة أخرى: علينا أن نفهم تلك النظرة التوحيدية التي تستثير المستكبرين وتدفعهم إلى اتخاذ موقف المجابهة الحادة.
تفهّم شخصية المستكبر في القرآن الكريم تعيننا كثيراً على فهم هذا الموضوع.
القرآن الكريم يعطي في أكثر من أربعين موضعاً صورة عن المستكبر، وخصائصه النفسية، ومكانته الاجتماعية، وأهدافه، وأطماعه التوسعية الاستئثارية. وبشكل عام نجد القرآن يحدد للمستكبر الخصائص التالية:
يرفض الله بالمفهوم الذي تعبّر عنه عبارة "لا إله إلا الله" (أي حصر الحاكمية والمالكية المطلقة به تعالى)، وإن لم يرفض الله كحقيقة ذهنية تشريفاتية محدودة الإطار.
{إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} (الصافات:35).
{فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا مَن أشد منا قوة} (فصّلت:15).
{وإذا تتلى عليه آياتنا ولّى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً فبشّره بعذاب أليم} (لقمان:7).
ويتخذ موقف الجاحد والمكذب تجاه دعوة النبي التغييرية التحررية، ويجابهها بحجة أنه أقدر من غيره على فهم الطريق الصحيح، وبحجة أن الله ينبغي أن يخاطبه مباشرة.
{وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه} (الأحقاف:11).
{وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} (الأنعام:124).
ويتهم المستكبرون صاحب الدعوة بأنه يستهدف الحصول على الجاه والمنزلة، كما يتذرعون بالتقاليد البالية السائدة لنظامهم المسيطر للحد من انتشار الدعوة في المجتمع.
{قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين} (يونس: 78).
ويستعينون بالقوة والتزوير وبمختلف سبل الخداع والتضليل لإبقاء الناس تحت سيطرتهم وعبوديتهم، ويدفعونهم إلى مجابهة كل دعوة تحررية.
{وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا} (الأحزاب:67).
{فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مُغْنون عنا نصيباً من النار} (المؤمن:47).
{قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون} (الأعراف:108ـ109).
وأخيراً يعرّضون النبي وأتباعه، الثائرين على النظام المسيطر وعلى الاتجاه الفكري السائد، لأقسى الحملات وأشد أنواع التعذيب والأذى والتنكيل.
{قُتِل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود...} (البروج:3ـ7).
{وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد} (غافر:46).
هذه هي باختصار الخصائص التي يذكرها القرآن الكريم للمستكبرين. وهناك مواضع أخرى تجاوز فيها القرآن رسم الصورة إلى وضع الإصبع على أفراد مشخّصين ينتمون إلى اتجاهات معيّنة.
{ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون ومَلَئه بآياتنا فاستكبروا..} (يونس:75).
{وقارون وفرعون وهامان، ولقد جاءهم موسى بالبيّنات فاستكبروا في الأرض} (العنكبوت:39).
فرعون معروف، وهامان مستشار فرعون الخاص والشخصية الأولى في جهاز فرعون. طبعاً و"ملأ فرعون" هم علّية القوم في هذا الجهاز، والسائرون في ركاب فرعون، ومشاوروه ومساعدوه (راجع الآية 126 من سورة "الأعراف"). وقارون هو صاحب الثروات الطائلة والكنوز التي {مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة}.
وباستعراض عشرات الآيات من كلام الله العزيز بشأن الاستكبار، نستطيع أن نفهم المستكبر على النحو التالي: الجناح المسيطر في المجتمع الجاهلي، الماسك ـ دون استحقاق ـ بزمام السلطة السياسية والاقتصادية. واستمراراً لاستثماره وتسلّطه الجائر، يمسك أيضاً بزمام الأفكار والمعتقدات المسيطرة على الأذهان، ويعمل بأساليب متنوعة على ملء الأذهان بأفكار تدفع الأفراد إلى الاستسلام له وإلى الانسجام مع الأوضاع القائمة. وهذا المستكبر يهبّ لمقارعة كل دعوة إلى التوعية، فما بالك إذا كانت الدعوة انقلابية تغييرية!! حفاظاً على مصالحه بل على وجوده.
والآن نعود إلى موضوعنا الأساسي: كيف عرض الأنبياء عقيدة التوحيد؟
الجواب على هذا السؤال يوضح مواضع الحساسية التي تستثير المستكبر في هذه العقيدة، وسبب حساسيته من هذه المواضع، وسبب عدم قدرة المستكبر على تحمّل عقيدة التوحيد حين تطرح بهذه الكيفية. وجدير بالذكر أن الجواب على هذا السؤال يوضح لنا من جانب آخر أهمية التوحيد باعتباره القاعدة الأساس التي تقوم عليها الرسالة.
نعلم أن شعار التوحيد هو أول نداء يرفعه النبي في المجتمع. النبي الخاتم رفع في مكة شعار: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".
والقرآن الكريم نقل عن أنبياء كرام مثل: نوح وهود وصالح وشعيب و... خطابهم لأممهم، وكان الخطاب يدور حول محور التوحيد.
{يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (الأعراف:59).
هذه الشعارات ـ كما ترى ـ تستند بالدرجة الأولى إلى رفض كل عبودية لغير الله. النبي بهذه الشعارات يهيب بالجهَلَة، الغافلين المنغمسين في أوحال النظام الجاهلي الطاغوتي، أن يكفّوا عن عبودية كل قطب وقدرة غير الله. وهذا يعني أن النبي يبدأ دعوته بـإعلان الحرب على كل الذين يجعلون من أنفسهم آلهة من دون الله.
مَن هم أدعياء الألوهية في المجتمع؟ وما معنى إعلان الحرب على الآلهة المزيفة؟ وما هو الوضع الذي تريد دعوة الأنبياء أن توجده في المجتمع؟
عبارة "أدعياء الألوهية" توحي إلى الأذهان عادة أولئك الذين جعلوا من أنفسهم "إلهاً"، أي أولئك الذين ادّعَوا لأنفسهم تلك القدرة الخارقة التي كان البشر يؤمن بها على مر التاريخ بشكل من الأشكال. وهذا فهم سطحي للعبارة.
كان هناك طبعاً في التاريخ مجرمون تافهون استغلّوا قدرتهم السياسية والاجتماعية، فأوحَوا إلى أفراد أتفه منهم أنهم آلهة، بالمعنى المتقدم، أو أنهم يحملون جانباً من روح الإله؛ ولكن لو ألقينا نظرة على المعنى الواسع لألفاظ "العبادة" و"الربوبية" و"الألوهية" في القرآن، لاستنتجنا أن إطار مفهوم "أدعياء الألوهية" أوسع من ذلك الفهم بكثير.
استعمال مادة "العبادة" في القرآن الكريم يفيد أن العبادة تعني التسليم والطاعة المطلقة تجاه إنسان أو أي موجود آخر. حين نستسلم استسلاماً أعمى لشخص، ونتحرك وفقاً لرغباته وأهوائه وأوامره فقد عبدناه؛ وكل قوة تستطيع أن تخضعنا لها، وتسيطر على أجسامنا ونفوسنا، وتسخّر طاقاتنا وفقاً لرغباتها، فإنها تصيّرنا عبيداً لها سواء كانت هذه القوة داخل أنفسنا، أم في محيطنا الخارجي. ومن أمثلة هذه الاستعمالات القرآنية:
موسى يخاطب فرعون في بداية دعوته معاتباً يقول:
{وتلك نعمة تمـنّها عليّ أن عبّدت بني إسرائيل} (الشعراء:22).
فرعون وبطانته يخاطب بعضهم بعضاً فيقولون:
{أنؤمن لبشرَين مثلنا وقومهما لنا عابدون} (المؤمنون:49).
إبراهيم يخاطب أباه قائلاً:
{يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً} (مريم:44).
رب العالمين يخاطب البشرية:
{ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنـه لكـم عــدو مبين} (يس:60).
الله تعالى يَعِدُ عباده الصالحين:
{والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابـوا إلى الله لهـم البشـرى} (الزمر:17).
وحول أولئك الذين يعيبون على المؤمنين إيمانهم يقول تعالى:
{مَن لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القِرَدة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل} (المائدة:65).
هذه الآيات عـبّرت عن الطاعة لفرعون ولبطانته وللطاغوت وللشيطان بكلمة "عبادة". ومن خلال دراسة جميع آيات القرآن في هذا المجال نخلص إلى أن العبادة في المفهوم القرآني هي: الاتباع والتسليم والطاعة المطلقة أمام قدرة واقعية أو وهمية، طوعاً ورغبة أو كرهاً وإلزاماً، مع الشعور بالتقديس والثناء المعنوي أو بدونه.. هذه القدرة هي "المعبود" وهذا المطيع هو "العبد" و"العابد".
من خلال الإطار العام للمفاهيم المتقدمة يتضح معنى لفظة "الألوهية" ولفظة "الله" باعتبارهما تعبيراً آخر عن كلمة "المعبود":
في النظام الجاهلي المنحرف المنقسم إلى طبقتين: مستكبرة ومستضعفة، أي المنقسم إلى طبقة مسيطرة ماسكة بزمام جميع الأمور، ومترفة طبعاً، وطبقة مهملة مسخّرة ومحرومة لزاماً، وأبرز مظاهر الألوهية والعبودية هي هذه العلاقة غير المتعادلة بين الطبقتين.
من العبث أن نبحث وراء موجود مقدس بشري أو حيواني أو جامد، في دراسة آلهة المجتمعات الجاهلية على مر التاريخ. فأبرز مظهر للمعبود والإله في هـذه المجتمعـات، هـو تلـك الفئـة الـتي تمـارس ـ اعتماداً على ارتباطها بالطبقة المستكبرة ـ عملية إخضاع وارضاخ الجماهير المستضعفة، ودفعها على طريق إشباع نهمها وجشعها.
الدين الواقعي في هذه المجتمعات هو "الشرك"، لأن الآلهة فيها متعددة بتعدد مراكز القوة المسيطرة التي تستثمر الناس على طريق أهوائها.
الشرك هو تأليه أفراد إلى جانب الله أو بدلاً من الله. وبتعبير آخر وهو: إيكال أمور الحياة إلى غير الله. وهو الاستسلام أمام كل قدرة غير الله، والاتجاه نحو هذه القدرة لدى الحاجة، والسير على طريقها.
التوحيد يقع في النقطة المقابلة للشرك تماماً: يرفض كل هذه الآلهة، ويرفض التسليم لها، ويقاوم سيطرتها، ويحصّن القلوب من الركون إليها، ويدفع إلى إزالتها وطردها، ويشد الكائن الإنساني بكل وجوده إلى الله.
أول شعار رفعه رسل الله هو ذلك الرفض وهذا التسليم:
{ولقد بعثنا في كل أمّـة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36).
{وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبياء:25).
الأنبياء إذاً أعلنوا زوال النظام الجاهلي الفاسد المنحط بهذا الشعار. وبهذا الشعار أيضاً دَعَوا إلى كفاح مرير للطواغيت، أي لحماة هذا النظام وللمستهينين بالقيم الإنسانية الأصيلة ولأصحاب تلك القيم التافهة المساندة للظلم والظالمين.
رفض الشرك هو في الواقع رفض لكل الكيانات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المقوِّمة للمجتمع الجاهلي، والمتخذة من مذهب الشرك غطاءاً وتبريراً لوضع المجتمع المهزوز.
رفض الآلهة المزيفة، يعني طرد كل الذين دأبوا على استضعاف الجماهير، واستغلالها عن طريق القوة والتزوير، من أجل إشباع غرائزهم وأهوائهم الجامحة.
موسى اتجه إلى حرب فرعون بهذا الشعار.. نعم لقد تردد على ألسن بطانة فرعون مسألة رفض موسى لآلهتهم التقليدية:
{وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك} (الأعراف:127).
غير أن فرعون ومَن لفّ لفّه كانوا يعلمون جيداً أن تلك "الآلهة"، أي الأصنام الجامدة ليست إلا غطاءاً وتبريراً لألوهية فرعون وأتباعه. الصنم الجامد كان في الحقيقة تبريراً لتأليه الأصنام الحية، لذا كان من المنطقي تماماً أن يقف فرعون من دعوة موسى، أي من الدعوة إلى الله الواحد الأحد بارئ السماوات والأرض، موقف المهدد بالسجن وبقتل مَن آمن به وتعذيبهم:
{قال لئن اتخذتَ إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} (الشعراء:29).
{قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون} (الأعراف:126).
{لأُقطّعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأُصلّبنّكم أجمعين} (الأعراف:123).
كل هذا التعنت والتصلب أمام اسم "الله" ودعوة التوحيد، يعود إلى أن هذا النداء لا يعني إلا:
الإيمان بحاكمية الله وحدها على الحياة...
ورفض الآلهة المزيفة...
والارتباط به وحده وتمزيق كل قيود العبودية الأخرى...
وهذه هي روح التوحيد وأبعاده البنّاءة النابضة بالحياة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته - دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)
دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (علیه السلام)
بحث لسماحة ولي أمر المسلمين (دام ظله)
بسم الله الرحمن الرحيم
… ليس علي بن أبي طالب بالشخصية التاريخية فحسب، وإنما هو أمير المؤمنين، أي بالنسبة لنا الأسوة والقدوة والنموذج، ونموذج للحكومة التي ينبغي على حكامها وقادتها أن يقتدوا بسلوكه ومنهجه، وعلى الإسلاميين أن يتخذوا سلوك ومنهج علي بن أبي طالب قدوة ونموذجاً لهم. واليوم حيث أنعم الله علينا بقيام الجمهورية الإسلامية والتي أثبتت جديتها في العالم وذلك بفضل جهود المسلمين والتضحيات الجسام التي بذلت، على الأشخاص الذين يمسكون زمام أمور الحكومة الآن والذين سوف يتولون ذلك في المستقبل أن يعملوا وأن يخططوا لأجل تحقيق هذا النموذج؛ فالقدوة في المجتمع هي لأجل صنع وإحياء الفرد المسلم، وهذا ما كنا نفتقده طوال زمان النظام الشاهنشاهي المشؤوم الذي لم يتح مجالاً لهذا العمل، بحيث نحيا حياة إسلامية ونبقى مسلمين، أما اليوم فعلينا أن نغتنم هذه الفرصة في ظل وجود نظام الجمهورية الإسلامية.
إن شخصية علي (ع) مؤهلة لأن تكون القدوة لصنع وإحياء الفرد المسلم، وكذلك لنعلم كيف يحيا المسلم، وبناء على هذا فإذا أردنا أن نتحدث عن أمير المؤمنين لا ينبغي أن يكون للتيمن والتبرك بذكره فقط، بل للتعلم منه والاستفادة من مشعل نوره لحل المشكلات ولإزالة العوائق التي تمس الآن بالجمهورية الإسلامية، حيث الآن تواجه مشكلة في مواجهتها للقوى الاستكبارية في الشرق والغرب وعدم انسجامها مع الأطماع الإمبريالية والاشتراكية.
إن كل المتتبعين والعارفين بالمسائل والأحداث السياسية في العالم يعرفون أن الثورة تبتلى بمشاكل وتواجه صعوبات، هذا أمر طبيعي، لكن على كل الأحوال يجب علينا في مقابل هذه المشاكل أن نجد طريق الحل، فعندها يصبح للمشاكل نهاية وللعقد حلول ميسرة. ولكي نهتدي إلى سبيل النجاة نرجع إلى حياة أمير المؤمنين التي سوف تفتح لنا باب الحل.
أتعرض هنا إلى ما يتعلق بجوانب شخصية أمير المؤمنين، إلى شكل حكومته وقيادته، ثم علينا فيما بعد أن نطابق حياتنا ومنهجنا في العيش مع علي (ع). والآن إذا أردنا أن نقف على المحطات البارزة واللامعة في حياة مولى المتقين وأن نتعرف على شخصيته وحكومته، أظن أنه علينا أن ندرس نقطتين أساسيتين وحساستين، وأتصور أن شخصية أمير المؤمنين (ع) بعنوان أنه الحاكم وخليفة رسول الله (ص) تدخل في صلب هذه النقاط. طبعاً لن نتعرض في هذا البحث إلى شخصية علي (ع) المعنوية والعرفانية، تلك الشخصية التي كانت دائماً مرتبطة بالفيض واللطف الدائم لله سبحانه، بل سنتحدث عن علي (ع) كحاكم إسلامي حكم الأمة الإسلامية لفترة من الزمن؛ ولكي نتعرف على شخصية وأسلوب هذا الحاكم بشكل واقعي سأتحدث اولاً بشكل كلي ومجمل، أشرع بالتفصيل.
النقطة الأولى: البارز في حياة أمير المؤمنين كحاكم هو التزامه وتعبده الكامل بما جاء به الإسلام وما ورد في شريعته؛ فأمير المؤمنين تربى في كنف الإسلام، وفي الوقت الذي كان الرسول يتولى الحكومة ويتحمل الأذى والمصاعب في سبيل الإسلام كان علي (ع) الشاب المقاتل المقدام الذي لم يجلس في بيته وينتظر وقوع الحوادث، بل كان حاضراً في كل المواجهات والتحديات؛ فلقد سخر كل إمكاناته وكمالاته الإنسانية في خدمة الإسلام، حيث شارك في كل الحروب والغزوات التي جرت في زمن رسول الله (ص) باستثناء حرب واحدة لم يشارك فيها بناءً على طلب الرسول، حيث طلب منه البقاء في المدينة. فقدم حياته للإسلام، وكان حاضراً دائماً ليضحي بروحه دفاعاً عن الإسلام.
وفي ذلك اليوم الذي اجتمع فيه المسلمون على شخص غير علي (ع) ليسلموه الإمرة والخلافة، حيث اتبع جمع الناس مجموعة صغيرة انسلخت لتبايع غير علي (ع)؛ وعلي الذي كان يرى ويعلم بأن الخلافة من حقه وهو اللائق بها، وكان يستطيع إن أراد أن يواجه أولئك ويقوم بدعوة الناس وتحريضهم، لم يقم بذلك وضحى لمصلحة الإسلام. وكذلك فَعَلَ أيضاً بعد وفاة الخليفة الثاني، حيث قال له أعضاء الشورى الستة اقبل بالعمل طبق سنة النبي وسيرة الشيخين حتى نبايعك، ولكنه (ع) رفض ذلك؛ فهذا مخالف لما يؤمن به ويتعارض مع تكليفه والتزامه. وأدى هذا الرفض به إلى أن يتأخر عن تسنّم الخلافة 12 عاماً أخرى. وطوال فترة حياته التي سبقت تسنّمه الخلافة كان دائماً يجاهد ويتحرك في سبيل خدمة الإسلام والشريعة، لذا فمن الطبيعي أن يعمل على تطبيق الأحكام الإسلامية حين تسنمه للخلافة وعلى تحكيم الثوابت الإسلامية، وهذه الخصوصية الأولى للأمير (ع). وأنتم إذا أردتم أن تقارنوا بين علي وبين الأشخاص الذين وقفوا في وجهه، ستجدون فرقاً أساسياً؛ فعلي (ع) لم يكن حاضراً إلا ليتحرك ويعمل لأجل الإسلام الذي قد عرفه وآمن به.
النقطة الثانية: ـ والتي أتمنى أن تلتفتوا لها جيداً وقد كررتها مراراً ـ هي أننا اليوم بحاجة أكثر من أي يوم مضى لمعرفة المباني الإسلامية والقرآنية والدينية. فنحن علينا جميعاً اليوم أن نتعلم ونفهم الإسلام ماذا يريد وكيف يطرح فكره في كل الميادين والمجالات. إن المسألة الأساسية اليوم هي التعرف على الإسلام، وإحدى الطرق التي نفهم من خلالها الإسلام ونستطيع أن ندرك ما يريده منا هي معرفة سيرة ومنهج الإلهيين ومن جملتهم أمير المؤمنين (ع)، لذا نتحدث اليوم عن أمير الؤمنين لا لنبين مزايا هذه الشخصية التاريخية الإسلامية فقط، بل لأجل معرفة وبيان الإسلام، فإننا نعرف الإسلام من خلال علي (ع).
ننتقل الآن إلى النقطة الثانية في شخصية أمير الؤمنين والتي ترتبط بكونه حاكماً إسلامياً؛ فعلي الحاكم لم يكن مستعداً على الإطلاق أن يهادن ويصالح الأشخاص الذين لم يكونوا يتحركون في ضمن خطه ومسيرته، أي الذين لم يتحركوا في خط الإسلام وفي سبيل الله، وحياة علي تشير إلى ذلك؛ فعلي ـ تلميذ النبي ـ لم يكن مستعداً للمسايرة، كالنبي نفسه، الذي كان يتحرك في سبيل تحقيق الأهداف المقدسة. وحياة النبي كلها شاهدة على رفض المهادنة والأهواء والأنانيات، ولو كان أمير المؤمنين (4) مستعداً أن يهادن لكان استطاع أن يحد من نفوذ القادة والشخصيات المعادية له والبارزة في وسط الناس والتي تتمتع بقدر من الاحترام لديهم، وأن يخرس ألسنه الذين انتقدوه، ولو كان أيضاً مستعداً أن يخفف من مواجهته لأعداء الإسلام والحكومة الإسلامية، فمن المؤكد لم تكن لتواجهه كل هذه المشاكل والمصاعب. وهنا كان امتياز علي (ع) الحاكم، عن غيره من الحكام، فأولئك كانوا مستعدين أن يتخالفوا مع أي طرف ضد عدوهم؛ فنرى معاوية وعمرو بن العاص المتنافسين والمتخالفين مع بعضهما، يقفان جنباً إلى جنب لمواجهة علي (ع). وكذلك إذا نظرنا إلى طلحة والزبير من جهة وإلى معاوية من جهة أخرى، فلقد كانوا متعادين، لكنهم كانوا مستعدين أن يتحدوا وأن يقفوا جنباً إلى جنب لمحاربة علي بن أبي طالب (ع)، بينما رفض علي (ع) أن يتحالف مع طلحة والزبير ضد معاوية. فبالنسبة لأمير الؤمنين هذا التحالف مخالف للنهج الإسلامي، معاوية عدو ومخالف وبنفس الدليل فطلحة والزبير أعداء لا يمكن مسايرتهم والتحالف معهم. هذه أيضاً من خصوصيات علي (ع).
قال أمير الؤمنين (ع):
"فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ، ينثالون عليَّ من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم"! وفي مكان آخر يقول: "والله لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما آخذ الله على العلماء من أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت أخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز".
إن علينا اليوم أن نأخذ الدروس والعبر من سيرة أولئك المعلمين للبشرية، الأئمة بالحق (ع)، ننهل من كلماتهم الهادية والمضيئة دروس الحياة والإخلاص والتضحية كي يعم عدل الإسلام في هذا العالم.
ما أريد أن أتناوله هنا هو خطبة أمير الؤمنين التي ذكرتها في المقدمة والمسماة بالخطبة الشقشقية، لكن قبل ذلك أود أن أنقل حادثة، ولعلكم سمعتموها عن أمير الؤمنين (ع)؛ ففي إحدى الحروب التي خاضها (ع) وفي وقت هدنة قصيرة، جلس (ع) في خيمته مشغولاً بتجهيز نفسه للهجوم المقبل، فدخل عليه ابن عباس فوجده منهمكاً بخصف نعله، فالنعل يجب أن يكون محكماً بشدة للتحرك بسهولة وسرعة في الحرب، وأمير المؤمنين (ع) كان قد انتهز هذه الفرصة كي يصلح نعله المقطع، مع العلم بأنه كان حينها حاكماً للبلاد الإسلامية المترامية الأطراف والقائد العام للجيش الإسلامي الكبير. هذا الحاكم الذي كانت تحت ولايته إيران وأفغانستان والعراق ومصر واليمن، ما عدا الشام، هذا الإمام كان منشغلاً بخصف نعله! تأمل ابن عباس ملياً في المشهد الذي يحمل لشخصٍ متيقظ القلب مثله الكثير من الدلالات والمعاني.
التفت الإمام (ع) إلى ابن عباس ليسأله: ما قيمة هذه النعل؟ وبالطبع لم يكن لها قيمة وهي جديدة، فكيف وهي بالية، يصلحها من لا شأن له بهذه المصلحة (الأسكافية)؟! أجاب ابن عباس: لا قيمة لها.
فعندها قال أمير المؤمنين (ع):
"والله لهي أحب إليَّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً وأدفع باطلاً".
فما معنى هذا؟! إنه يعني أنها إمرةٌ وولاية ذات هدف، هي حكومة الدين؛ فالإمام يقصد أني لست مولعاً بالرئاسة ولا أريدها، ولكن هذا القبول بمقام الخلافة والإمارة لا أتركه كوني بواسطته أرتقي بالمجتمع الإسلامي وأديره لأقيم فيه الحق وأدفع الباطل… وهكذا كان…
فلنعد الآن إلى الخطبة الشقشقية التي يبين فيها الأمير (ع) مجرى الأحداث المتعلقة بالخلافة منذ وفاة النبي (ص)، إلى أن وصلت هذه الخلافة إليه (ع)، فيقول:
"وما راعني إلا والناس… حتى وطئ الحسنان…"
يعني كان إلحاح الناس واحتشادهم علي، رغبة بي، إلى هذا الحد، وذلك كي يقبل بالخلافة، ويقبل أخيراً، ولكن لماذا؟
يوضح الإمام علي (ع) هدفه الذي قبل لأجله حيث يقول:
"والله لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها…".
فالحكومة بحسب الرؤية الإٍسلامية ليست سوى عبادة في هدفها ومنطلقاتها؛ فأمير المؤمنين (ع) قبل بالخلافة لعدة أمور:
أولاً: طلب الشعب وإصراره على ذلك. وهو عامل أساسي ومصيري في تسنّم الخلافة.
ثانياً: قيام الحجة بوجود الناصر، فهو (ع) يرى دعماً ومساندة يستطيع بواسطتها أن يحقق أهدافه، ولو لم ير ذلك لما قبل.
ثالثاً: ما أخذ الله على العلماء؛ فأمير المؤمنين لكونه عالماً فهو مسؤول أمام الله سبحانه وتعالى أن لا يرضى بالظلم وأن ينصر المظلوم.
تلك هي المعايير التي جعلت أمير المؤمنين (ع) يقبل بتولي الخلافة.. واليوم فإن من لا يؤمن بالله ولا يقبل بالإسلام كبرنامج للحياة وتكون أفكاره وآراؤه مستوردة من الأفكار القومية أو المادية الإلحادية أو ما يمكن تسميته بالإسلام الالتقاطي، مثل هكذا شخص ممن ليس لديه فكر إسلامي إلهي لن يكون قادراً على تشكيل حكومة إلهية، والتي إن لم توجد فلن يوجد مجتمع إسلامي أبداً. هنا أطلب منكم أن تتحلوا بالوعي واليقظة في النظر للأمور، فأنتم اليوم عندما تنظرون عن بعد إلى تاريخ صدر الإسلام تشاهدون بأم العين علي بن أبي طالب كرجل عظيم وصاحب حق، بينما معاوية يظهر كشخص وضيع… أما في تلك الأيام التي جرت فيها الحرب بين أمير المؤمنين (ع) ومعاوية فقد كان هناك أشخاص من صحابة النبي (ص) ممن لايزال يقاتل مع معاوية، ولعل بعضهم كان من المؤمنين. من كان يظن بأنه يقوم بعمل جيد وصالح بحيث كان يقول: معاوية خال المؤمنين! ففي ذلك الوقت كان الوعي والدقة أمراً مطلوباً بشدة، فمن كان يملك الوعي؟
عمار بن ياسر نموذج من أولئك الذين تمتعوا بالوعي؛ فقد جمع بعض الذين اشتبهت عليهم الأمور فقال لهم: "أقسم بالله أني رأيت هذه الراية، نفسها التي يقف تحتها اليوم معاوية ضد علي (ع)، في معركة بدر حيث كانت يومها مع أبي سفيان". فإن الوعي والدقة ما يلزمنا دائماً.
إن روح تاريخنا إنما هي في ذكر سيرة أئمتنا، فلو لم يكن في تاريخ التشيع هذه الشخصيات العظيمة كأمير الؤمنين والحسنين والزهراء (ع)، لما بقي أثر للتشيع يذكر في أيامنا هذه، بل ولا أثرٌ للإسلام نفسه، اللهم إلا في طيات بعض الكتب.. هذا الإسلام، إنما حُفظ لنا بذكر علي، وبجهاد هؤلاء العظام وشهادتهم (ع).
وكما تعلمون فإن مشاعر الناس وأحاسيسهم المنبعثة من حبهم لأهل بيت النبوة (ع) تتفجرلتصل إلى ذروتها ذكرى أفراح أو أحزان آل محمد (ص)، ويُصادف اليوم الذكرى الدامية لضرب الرأس الشريف لأمير المؤمنين، هذه الليلة الحزينة.. المظلمة في الكوفة، لن تتصوروا كيف كانت هذه المدينة في تلك الليلة؛ كل الناس كانوا أصحاب العزاء فقد رحل المواسي، المؤنس، كان علي هو من يعزيهم في الماضي، ذاك الذي كتب يوماً إلى أحد ولاته "… أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر". كان الإمام شريك الناس في كل الآمهم وهمومهم، مذكراً في وصيته "الله الله في الأيتام". كان (ع) السباق في رعاية الأيتام؛ فاليتيم أشد حاجة للعطف والحنان، محروم من تلك البسمة الأبوية العامرة بالمحبة، محروم من مداعبة أبيه له، فمن يملأ هذا الفراغ؟
علي (ع)، يسير ليلاً بين تلك المنازل التي كان يعرفها ويعرف أحوال أهلها، حاملاً إليهم الطحين والأرز والزيت، ومساعداً لهم، بإشعال التنور أحياناً.. ملاطفاً الأيتام؛ يجلسهم في حضنه، يلاعبهم كي لا يشعروا بالحزن والكآبة. عظمة علي معروفة ومشهورة في الحرب وساعات الوغى، لكن الأهم والأعظم مواساته وخدمته للأيتام والمحرومين، في دموعه المليئة عطفاً وحناناً.
في تلك الليلة.. في ليلة العشرين من شهر رمضان، انتظره الأطفال الذين كان يجلسهم على ركبته ويمسح على رؤوسهم بكل لطف، يطعمهم بيده.. انتظروا ذلك الرجل.. لكنه لم يأت… في تلك الليلة عرفوا من هو… ولعلكم سمعتم بما جرى عندما طلب الطبيب المعالج للأمير (ع) إحضار الحليب لعله يدفع أثر السم كيف أن عشرات الأطفال الأيتام أتوا من كل أنحاء الكوفة يحمل كل منهم كوباً فيه حليب واندفعوا نحو منزل الإمام يريدون رد الجميل وشكره على محبته ورعايته وحنانه… ولعلكم سمعتم أيضاً عن ذلك العجوز الأعمى الذي كان في تلك الليلة يئن من الوحدة وألم الجوع فسأله بعضهم: فكيف كنت تصنع في الأيام السابقة؟! فذكر لهم أن رجلاً كان يأتي إليه يواسيه ويطعمه بيده.. وأخبرهم بمواصفات ذاك الرجل.. الذي ما كان سوى علي (ع)… هذا الإنسان المتعدد الأبعاد، والذي كان حقاً كما وصفه الرسول الأكرم "ياعلي أنت فاروق الحق والباطل"؛ فكان الملجأ والحامي لكل من يشعر بالضعف والحاجة الوحشة؛ هذا الإنسان الذي كان يقع مغشياً عليه في محراب العبادة من خشية الله، هو نفسه الحاكم الذي لم يتحمل وجود والٍ ظالم كمعاوية، وهو نفسه من وبخ أحد الولاة وكان من أصحابه، لأنه أسرع في تلبية دعوة أحد الأشراف إلى الضيافة والولائم.
وهو الحافظ لبيت المال، بحيث أنه وفي الليلة الأولى لاستلامه الخلافة يطفئ المصباح كي لا يصرف من بيت مال المسلمين، وكي ينبه بعض الصحابة المدعين ويحذرهم من سوء أعمالهم.
هذا الإمام كان مظهراً للدفاع عن البشر وحقوق الإنسان واحترامه، وهذا هو الإسلام الذي يتجلى بالتوحيد بكل أبعاده وإكرام الإنسان وعزته، وبالمساواة وروح الأخوة بين جميع الناس.
ومن يخرج عن هذا النهج فلا يعدّ مسلماً حقاً وإن لم يخرج ظاهراً، فإن قلبه لم يؤمن بعد بالله والقرآن إيماناً كاملاً.
ومن يكن أسيراً للآمال والأهواء والانجذاب نحو حياة الترف والوجاهة المليئة بالزبارج والزخارف ويطلب من المسؤولية والسلطة المال فقط ويرغب في المظاهر الفارغة (سيارة من طراز السنة…) وإظهار القوة والقدرة… مثل هكذا شخص لا يمكن أن يدعي بأنه خليفة لعلي (ع).. يجب علينا جميعاً أن نحفظ هذا المعيار دائماً كوننا ننادي بعلي ونبحث عن نهجه.
كان هذا كلامنا وخطابنا وقد سمعتوه منّا منذ عشرين أو ثلاثين سنة، لم يتبدل ولم يتغير.. والآن يظهر جلياً أنه لم يكن ادعاءً أو شعارات فارغة، وما زلنا أمام امتحان واختبار، ونحن الذين حتى الأمس القريب كنا نقول لكم أظهروا ما تعتقدون به وتعلّموا واعلموا بكل هذا في ساحة حياتكم الفردية؛ فاليوم أيضاً نعيد نفس الكلام ونذكركم بنفس المطالب كي يصبح مجتمعنا مقتدياً بمثال علي بن أبي طالب (ع). فهذا ذكر علي (ع) ومن عنده نبدأ ونتقدم، فالإسلام إنما ينبع منه (ع).
ذلك اليوم الذي كنا نعيش فيه تحت ظل الحكم الطاغوتي، لم تكن الأعمال ذات الطابع الفردي ذات تأثير أو أن تأثيرها في تغيير الأوضاع كان ضعيفاً، وقد كنا حينها (أنا وكثير من العلماء المنسجمين بالمنهج والفكر) على هذا الاعتقاد وهو أن لا نحدث الناس ولا ندعوهم بدون وعي إلى الأخلاق بل إلى الأخلاق التي تدفع الناس إلى حمل السيف لمقاتلة أسرة بهلوي. فالأخلاق هي ذلك الشيء الذي يدفع الناس للجهاد والمواجهة وتحفيزهم للقيام ولاقتلاع غدة الفساد. وهذا الوضع يشبه الجسم، حيث إذا بقي جهازه الهضمي مريضاً فإن كل ما يتناوله من غذاء أو أدويه لا ينفع ولا يجدي، فلا بد من العمل الجراحي مهما رافقه من ألم ونزيف ومعاناة. فإن النهاية سيعقبها الصحة والعافية والسلامة، وما لم يقم الإنسان بهذه العملية فصحيح بأنه لن يتألم من العملية، ولكنه في الحقيقة سوف يتجه نحو الضعف الكلي والموت. بهذا المنطق كنا نعمل ونتكلم، والآن هذا التوجه نفسه ما زلنا ندعو إليه.. فقد أُجريت العملية وزال وجعها وحان وقت تناول الغذاء المفيد والأدوية المقوية لجسم مجتمعنا، في ذاك الوقت كنا نطلب منكم الجهاد والمواجهة الثورية، واليوم بعد أن هزمتم الطاغوت الحاكم، صارت ساحة جهادكم هي الساحة الأخلاقية والاهتمام بتقوية العبادات والفرائض والاطلاع على المعارف الإسلامية؛ مجتمعنا اليوم بحاجة ماسة للجانب الأخلاقي (وهذا لا يعني إهمال الشأن السياسي) بل ان العمل السياسي يبقى واجباً، ولكن عليكم عدم الاكتفاء بهذا وعدم الغفلة عن الاهتمام بالأخلاق والعبادة وتعلم القرآن والمعارف الإسلامية، وإحياء مثل هذه الليالي (من شهر رمضان) بأدعية أبي حمزة الثمالي ودعاء الافتتاح.
إذن فاليوم هو يوم الاهتمام والتوجه لمثل هذه الأمور؛ ففي مجتمعنا الآن مشاكل كثيرة في سلوك الناس، إحداها أن الآباء والأمهات لا يلتفتون إلى مسألة إعطاء القيمة والتشجيع لأبنائهم الشباب والفتيان…
ونقول لهؤلاء الأهل دعوا أولادكم، ليتعلموا المعارف الإسلامية وليشاركوا في الأنشطة الإسلامية، فالمئات من الشباب وخاصة من الفتيات كتبوا إليَّ يشكون من أن أهاليهم أنهم لا يسمحون لهم بالذهاب إلى صلاة الجمعة! مع أن هذه الصلاة هي مناسبة لتلاحم ووحدة هذه الأمة وليس عبثاً تأكيد الإمام المتكرر على ضرورة المشاركة فيها، بحيث إن المؤمنين الصادقين كانوا يأتون إليها ويفرشون سجادات الصلاة على الثلج في الشوارع شتاءً، وعلى الإسفلت الحار صيفاً، ولا يتركون هذه الصلاة بأي حال.
إذن دعوا شبابكم ليأتوا ويتعلموا، وإن رغبوا مثلاً بالانضمام إلى قوات الحرس الثوري، دعوهم واسمحوا لهم ليلتحقوا بالحرس ويكونوا في خدمة الإسلام.
هذا واجب الأهل، ولكن ما هو واجب الأبناء؟ ان عليهم احترام آبائهم وأمهاتهم، ولأهمية هذه المسألة نلاحظ كيف أن كثيراً من التفاصيل في المسائل الأخلاقية لم تُذكر في القرآن، أما مسألة احترام الأهل فقد ذكرت مراراً وهذا يدل على مدى أهميتها… لذا نوصي الشباب: أن احترموا أهاليكم، وإن رأيتم أن مستوى فهمكم للأمور أعلى من مستواهم فلا تغتروا بذلك، لأن هذا الفهم والوعي الذي لديكم الآن لم يكن ليحصل لولا التحولات التي أوجدتها الثورة، وكونوا على ثقة بأن أولادكم أنتم سوف يصيرون أيضاً أفضل منكم وأكثر وعياً ولن تكونوا حينها في مستوى فهمهم، وسوف ترون اللامبالاة والفتور تجاهكم.
فيجب أن يكون هناك التفاهم والانسجام سائداً بين الأهل والأبناء… فالأبناء يعاملون أهلهم بالحسنى، والأهل بدورهم يفسحون المجال أمام أبنائهم للتكامل والنضج، وأود أن ألفت النظر في هذا المجال أن خاطفي الأولاد من أهلهم اليوم كثر، وطبعاً لا أعني الخطف والسرقة للأطفال الصغار، وإنما أعني أولئك الذين يسلبون عقول وقلوب شبابكم.
واليوم أيضاً نرى في مجتمعنا بعض الوقاحات التي زادت، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن ينالوا من مقام إمام هذه الأمة وقلب العالم الإسلامي النابض وأعظم ثوريي في هذا العصر رغم ادعائهم الثورية.. أولئك هم سارقو عقول وقلوب شبابكم فاحذروهم وراقبوهم. أريد أن أسال من هو ذاك الذي كان يقاتل في كردستان؟ هو نفسه الذي كان يتكلم اللهجة الطهرانية أو الأصفهانية أو المشهدية ثم يرمي القنابل والقذائف الصاروخية على قوات الحرس، من أين أتى هذا الشاب؟! من بيتي ومن بيوتكم!! ومن الذي جعله ينفر من الإسلام؟! من الذي أبعده عن الإسلام وإيران والاستقلال والثورة والجمهورية الإسلامية؟! دققوا وابحثوا كي تعرفوا من. وإن لم تعرفوا فالإمام قد عرفه لنا… هو عبارة عن تلك المجموعات من المنافقين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "مجاهدي خلق"، فكونوا على حذر منهم وراقبوهم كي تبعدوا أولادكم عنهم، وهذا لا يكون بإخفاء الأولاد وإبعادهم عن الساحة، أو بمنعهم عن المطالعة وقراءة الكتب؛ فهذه الأساليب غير ناجحة.. بل اسعوا لتعرفوا أبناءكم وبناتكم ولترشدوهم إلى النهج الحقيقي والصحيح للفكر الإسلامي والقرآني، إلى التيار المتعمق والمتخصص بذلك الفكر، أصحاب الفهم العميق بالقرآن والإسلام، أولئك الذين أمضوا أعمارهم في البحث والتدقيق والدراسة، هم الذين يستطيعون أن يمنعوا سارقي العقول من أن يعبثوا بأفكار أبنائكم ويحرروهم منهم، فهؤلاء المدعون لا يطرحون سوى "إسلام" التقاطي مقطع أربعين قطعة وكالأكلة المخبوصة، مؤلف من أفكار ملتقطة من كل مدرسة في هذا العالم أو تيار في الدنيا.
ولهذا ترون أن هذه المجموعات الفاسدة والمنحرفة أشد عداوة للتيار العلمائي ولا تواجه فئة بالقدر الذي تواجه فيه فئة العلماء. واليوم في إيران فإن بعض العملاء والخونة والجناة يقولون انهم يريدون اقتلاع العلماء من الجذور! وأكثر من هذا فإن بعض الشباب الذين قاموا لمواجهة أمريكا والشاه، أيضاً فإنهم صاروا يتفوهون بنفس هذا المنطق! فما السبب الذي جعل هؤلاء يشنون الحملات على العلماء ويوهنون مقام "العالم"؟! السبب هو أن العالم العارف بالهداية ونشر الأصالة الإسلامية يستطيع بسرعة أن يفضح هؤلاء ويكف أيديهم وتأثيرهم فيقول لذلك الشاب ويؤكد له أن ما تسمونه "توحيد" مثلاُ وتعتقدون أنه صحيح يشبه كل شيء إلا التوحيد! وإن ما ابتدعتموه من فلسفة وأفكار لا شأن لها بالإسلام. لذلك كله فإن هؤلاء العملاء يشوهون صورة العالم في أعين الناس.
وهنا أشير إلى مسألة بخصوص العلماء ويعرفها الذين سمعوا خطاباتي وعرفوا أفكاري منذ سنوات عديدة، بأنني كنت من أوائل المنتقدين لبعض العلماء وأساليبهم الخاطئة وللمتظاهرين بذلك، وقد رفعت صوت النقد لهم في قلب الحوزة العلمية في مشهد أمام مئات الطلبة والفضلاء والمدرسين، ففي درس التفسير ذكرت هذا كي أؤكد بأني لا أريد أن أدعم وأروج بشكل مطلق لكل من وضع على رأسه العمامة، لكني أشعر بخطر كبير، هذا الخطر نفسه الذي ذكره الإمام وقلب الأمة الناطق الذي لا يرد عليه أحد. وقد أكد مراراً كثيرة هذا المطلب، وأنتم تعلمون أن هذه الثورة قد اشتعلت شراراتها الأولى على يد العلماء الذين هم محل ثقة الشعب، وانتشرت من مركز الحوزات العلمية إلى سائر أنحاء إيران. وهؤلاء العلماء هم الذين حفظوا فكر الثورة وحماسة الناس وثوريتهم ونهوضهم. إن فراشات شمعة هذه الثورة هي نفسها الخطب النارية التي أرشدت الشباب وحركتهم وانطلقت بهذه المسيرة فكانت محرك الثورة، كان هؤلاء العلماء يعبئون الجماهير ويشعلون حماسهم بآيات القرآن وخطب نهج البلاغة وبيانات الإمام، وكما تعلمون فإنه وبعد انتصار الثورة قد استلم بعض العلماء مسؤوليات ومهام حكومية بأمر من الإمام، وانطلقوا ليأخذوا المواقف الصلبة في مواجهة أمريكا وروسيا والتيارات الرجعية الوافدة إلينا من الخارج. ولو لم يؤد هؤلاء العلماء المجاهدون تكليفهم في هذه المواقع لما رأينا اليوم كيفية النظر إلى مسألة رهائن السفارة الأمريكية مثلاً بهذا النحو، وكذا مسألة التعاطي مع أمريكا. لو لم يتصد العلماء لرأيتم اليوم المستشارين الأمريكيين يتجولون في الشوارع عندكم بحرية، هم وقتلة إخوانكم المظلومين، الذين مازالوا إلى الآن يتآمرون.
فعليه، من قاوم منذ البداية هو العالم، ومن صمد قبل الجميع هو العالم. ولا أتعرض هنا لأحد، ولكن أذكر أين كانت مواقع الآخرين في هذه المواجهة. ما أقصده أن العلماء في هذا المجال كان لهم الموقع الحساس والمصيري، والأعداء أنفسهم يعرفون هذا، لذلك يريدون القضاء على العلماء. هل تعرفون من أطلق على حكومة الجمهورية الإسلامية اسم حكومة الملالي؟!عملاء الـ C.I.A. هم الذين قاموا بذلك من خلال المحطات الإعلامية في أوربا وأمريكا، فهؤلاء هم من وضع هذه التسمية المختلفة، وبعدها رأينا هذا الكلام نفسه يتكرر على ألسنة عناصر المجموعات في الداخل التي تسمي نفسها "الشعب" وأحياناً "الشعب الإسلامي" فانظروا وانتبهوا إلى طريقة ارتباط هذه الظواهر ببعضها. فعلينا أن نملك الوعي، وعلينا هداية شبابنا كي يتجهوا لطلب العلم ومعرفة الدين ونهج القرآن الصحيح ومطالعة الكتب. كل الدعايات والحملات الإعلامية التي بدأت بعد شهرين من انتصار الثورة واستهدفت الشخصيات العلمائية والتجمعات المرتبطة بالعلماء، كانت لهذه الأسباب التي ذكرتها، فلو كان الحزب الجمهوري معادياً للعلماء، ولم يكن العلماء عاملين فيه، لما تم محاولة تشويه صورته والتهجم عليه بهذا الشكل.
أمام هذا الواقع، يجب على الآباء والأبناء والأمهات والبنات أن يعرفوا كيف يواجهون وكيف يتّحدون أمام هذه الأحداث الجارية في حياتهم. في الماضي كان الخلاف سائداً بين هذين الجيلين، اليوم عليهم أن يتفقوا ويقفوا صفاً واحداً لمواجهة العدو بسلاح القرآن والإسلام. فعندما تضيعون الإسلام مثلاً (طبعاً هذه الأمة لن تفقد الإسلام على الإطلاق) عندها لن تكونوا قادرين على مقاومة أمريكا وقوتها، بل إن العدو يبدأ عندها بالنفوذ والغزو شيئاً فشيئاً، ولا يقول للأمة أنا أريد ظلمك وأن أكون دكتاتورياً عليك فاستعدي، بل ان ظلمه يتدرج بهدوء.. أنقل لكم، لأخذ العبرة، مقطعاً من تاريخ صدر الإسلام؛ فبعد زمن خلافة أمير المؤمنين وخاصة بعد شهادة الإمام الحسن (ع) أصبحت مدينة الكوفة دائماً مركزاً للاضطرابات والفوضى بالنسبة للحكم الأموي، الذي عجز عن مواجهة الأمر (مثلما عجز نظام الشاه أمام مدينة قم، مدينة الدم والثورة)، فكان بنو أمية كلما عينوا والياً لهم على الكوفة تمرد عليه الناس، فيجد نفسه مضطراً أن يعود للخليفة الأموي خالي الوفاض، كي يقول له لا أستطيع أن أنفذ سياستكم وأنا مضطر أن أتوافق مع زعماء الشيعة كي تهدأ الأحوال.. أمام هذا الواقع انبرى الحجاج بن يوسف سفاح بني أمية المشهور وطلب من الخليفة عبد الملك بن مروان أن يوليه الكوفة، متعهداً له أن يحل المشاكل ويجعل الكوفة خالية آمنة من التوتر، فولاه الخليفة كما أراد، وكتب له كتاباً بذلك، فطلب الحجاج منه أن يخفي هذا الكتاب ولا يطلع عليه أحداً حتى يصل للكوفة ويرسله بذلك. فبقيت هذه المسألة سرية ولم ينتشر الخبر… رحل الحجاج إلى الكوفة مع عشرين فارساً مسلحاً من المحاربين الأشداء، دخلوا الكوفة خلسة قبل أذان الفجر، وتوجهوا إلى المسجد حيث كان الناس يتهيئون لصلاة الصبح وأكثرهم مشغول بالدعاء وقراءة القرآن، نشر الحجاج رجاله على أبواب المسجد ومداخله وطلب منهم أن يبقوا على استعداد دون أن يثيروا أي حركة.
أما الحجاج فقد وضع عمامة حمراء على رأسه وتلثم، ثم دخل المسجد بدون أن يعرفه أحد، واعتلى المنبر بهدوء وجلس بدون أن يتكلم شيئاً وانتظر حتى احتشد المسجد بالمصلين الذين انتبهوا فجأة إلى وجود هذا الرجل الملثم الذي لم يعرفوه، (ولو كان ظاهراً لعرفوا كونه سبق أن حكم الكوفة)، فتوجهت الأنظار إليه بدهشة واستغراب، وغلامه واقف أسفل المنبر، وصاروا يتساءلون عن سر هذا الجالس الملثم الذي تدل علامات عينيه على القسوة والغضب، وكيف أنه يضع سيفه دون غمد على ركبتيه، ولم يكن إمام الجماعة قد وصل بعد… ولما رأى الحجاج أن الوقت صار مناسباً فالأنظار كلها متوجهة إليه باهتمام، رفع عمامته وأسدل اللثام عن وجهه وأنشد الشعر المشهور معرفاً بنفسه:
أنا ابن جلى وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
فعرفه الناس في المسجد، وبدأ الرعب يدب في نفوسهم والأنفاس تتقطع.. أمر الحجاج عندها غلامه أن يقرأ على الملأ كتاب التنصيب للحجاج كوالٍ على الكوفة من قبل الخليفة.. بدايةً، الناس لم تأخذ هذه الرسالة على محمل الجد، فعاد الغلام ليصعد إلى الدرجة الأعلى من المنبر ويعيد القراءة مثبتاً التعيين ومعرفاً الناس على القرار… هكذا تسلل الحجاج بهدوء وتسلل هذا الدكتاتور شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى ما اراد.
واليوم على الأمة الإسلامية أن تنتبه وتفتح عينيها جيداً حتى لا تتكرر هذه الحوادث التاريخية مرة أخرى، فالديكتاتورية تأتي بالتدريج، وفي ذلك الزمان لو قاوم أهل الكوفة رجال الحجاج العشرين لمنعوا فيما بعد قتل آلاف الناس الأبرياء وزج الآلاف من الشيعة وذرية أمير المؤمنين في سجون الحجاج.
الآن ما هو الشيء الذي نقوم به لمنع عودة التسلط الأمريكي في بلادنا؟!
هل لدينا مناعة أو لقاح ضد هذا الميكروب كي لا يعود إلينا؟
ألم تشاهدوا ما جرى في الثورة الفرنسية الكبرى، فبعد انتصارها وتخلص الشعب من "سجن الباستيل" الذي كان رمز الظلم والاستبداد، وتحرر المعتقلون السياسيون وأعدام الملك والملكة الظالمين ومصاصي الدماء وأصبحت الحكومة بيد الشعب الفرنسي. ولكن لم تمض عدة سنوات حتى عادت الدكتاتورية مجدداً، ولكن بواسطة "نابليون بونابرت" الذي كان جنرالاً عسكرياً فحكم بالحكم العسكري القاسي بعد أن كانت فرنسا مهد الحرية، وبعد هزيمة "نابليون" عادة مرة أخرى حكومة متسلطة، فحكم أبناء لويس السادس عشر (الملك المخلوع والمقتول) لأربعين سنة.
هذا التاريخ أمامنا، احذروا ولو قليلاً أن يحدث ذلك معكم أيضاً؟ كونوا متيقظين، فما الذي يمنع ويضمن أن لا يتكرر هذا الأمر معنا؟! هناك عدة أشياء تستطيع أن تحفظنا، أهمها أن لا تضعوا في حسابكم إلا المقاييس والمعايير الإسلامية.
إن أردتم أن تمنعوا عودة الظلم والتسط إلى هذا البلد عليكم دوماً أن تراعوا وتحفظوا المعايير والضوابط الإسلامية، هذا أولاً.
ثم عليكم أن تنهضوا وتتجهوا لفهم الإسلام ومعرفته وكذلك لمواجهة أعداء الثورة في جميع مجالات أعمالكم جماعة أو أفراداً، ثم التفطن والوعي العميق لكل ما يجري حولكم. - الامام الرضا(ع) وولاية العهد
بسم الله الرحمن الرحيم
علينا الاعتراف بأن حياة الأئمة(ع) لم تُعرف وتفهم بالشكل المطلوب والكامل، حتى أن مقامهم وموقعهم الجهادي في الحياة قد بقي مخفياً حتى عن الشيعة أنفسهم. وعلى رغم وجود آلاف الكتب الكبيرة والصغيرة، قديماً وحديثاً تتناول سيرة وحياة الأئمة(ع)، فإن قسماً كبيراً ومهماً من سيرة أولئك العظام ما زال محجوباً بأستار الغموض والإجمال، كما أن الحياة السياسية لأبرز وجوه آل بيت النبوة التي امتدت لقرنين ونصف وكانت تشكل أهم مراحل تاريخ الإسلام ابتليت بكثير من المحققين والكتّاب الذين كانوا ينطلقون في دراستهم من خلفيات مسبقة، أو من تقصير في التدقيق، أو أنهم أصلاً من ذوي الانحرافات، مع افتقارنا إلى التاريخ المدون والموثق لحياة الأئمة المليئة بالأحداث والتطورات.
إن حياة الإمام الثامن علي الرضا(ع) السياسية والتي استمرت عشرين سنة تقريباً من هذه الحقبة (القرنين ونصف) كإمام هي جديرة بالتحقيق والدراسة المعمقة وذلك لأنها كانت من جملة المحطات الحساسة والبارزة لتلك الحقبة.
والآن عندما ندقق النظر لنعرف ما هو أهم شيء لم تتم دارسته بالشكل المطلوب والمناسب في حياة الأئمة(ع) نجد أنه عنصر المواجهة السياسية القاسية والعنيفة؛ فمنذ بداية النصف الثاني من القرن الأول الهجري وحيث تحولت الخلافة الإسلامية بشكل واضح وفاضح إلى سلطنة بكل معنى الكلمة في جميع الجوانب وتبدلت الحكومة (أمانة الله) إلى حكومة متسلطة (ملكية) كانت المواجهة السياسية لأهل البيت(ع) تشتد وتتطور بأسلوب يتناسب مع الأوضاع والظروف المستجدة. وهذه المواجهة كان هدفها الأساسي تشكيل النظام الإسلامي وبناء الحكومة على أساس مبدأ الإمامة، ومن دون شك كان أيضاً تبيين وشرح الدين من وجهة نظر أهل بيت الوحي، ورفع الشبهات ومواجهة الانحرافات، ونشر المعارف والأحكام الإسلامية، من جملة الأهداف المهمة لجهاد أهل البيت(ع).
لكن بعد الاطلاع على حركة اهل البيت نرى قرائن لا تقبل الشك تدل على أن جهاد أهل البيت لم يكن محدوداً وناظراً فقط لتحقيق هذه الأمور، بل نرى أن الهدف الأسمى لذلك الجهاد لم يكن إلا تشكيل الحكومة العلوية وبناء النظام الإسلامي العادل؛ فكل المصاعب والآلام والمرارات والتضحيات في حياة الأئمة وأصحابهم كانت في سبيل هذا الهدف. والأئمة، بدءاً من زمان الإمام السجاد، أي بعد حادثة عاشوراء، ووصولاً إلى آخرهم، كانوا ينهضون لأجل تهيئة الأرضية اللازمة لتصبح على المدى البعيد مستعدة لتحقيق هذا الهدف (الحكومة العلوية). فعلى مدى الفترة الممتدة من حادثة عاشوراء إلى استلام الإمام الثامن(ع) ولاية العهد (140 سنة) كانت نشاطات أئمة اهل البيت والأحداث المتعلقة بهم دائماً من أخطر ما تواجهه أنظمة الخلافة المتعاقبة من خطر يهدد كيانها، وفي هذه المدة (140 سنة) تهيأت عدة فرص للتعبير عن أن جهاد التشيع ونضاله والذي يجب أن يطلق عليه اسم الثورة العلوية، اقترب من تحقيق انتصارات كبرى، لكن في كل مرة كانت تظهر موانع وعوائق تقف في طريق تحقيق الانتصار النهائي (إقامة الحكومة العلوية)، بحيث أنه غالباً ما كانت تتلقى هذه الحركات ضربات قاسية ومميتة، وذلك من خلال الحصار والهجوم على المحور الأساسي والأصلي للثورة والذي يمثل شخص الإمام المعصوم(ع).
فالإمام المعصوم في كل زمان غالباً ما كان يحاصر أو يزجّ به في السجن أو يقتل، وعندما يصل الدور إلى الإمام الذي يليه، كان يواجه جواً شديد القمع مليئاً بالضغوط والصعوبات إلى حد انه كان يحتاج إلى فترة طويلة لتهيئة الأرضية من جديد. والأئمة(ع) في هذا الخضم من المصاعب كانوا بفطنتهم وشجاعتهم يعبرون بالتشيع من هذه المحطات الصعبة والخطرة بسرعة وثبات، وبذلك لم يتمكن الخلفاء الأمويون والعباسيون من أن يقضوا على فكر الإمامة وتأثيره وفاعليته من خلال القضاء على شخص الإمام. فبقي هذا الفكر وهذا الجهاد جرحاً عميقاً في خاصرة النظام، ومصدر تهديد يسلب من هؤلاء الخلفاء الراحة، ولما استشهد الإمام موسى بن جعفر(ع) مسموماً بعد سنوات أمضاها في سجن هارون، ساد الجو من التوتر والضغط في جميع أرجاء السلطنة العباسية، وفي هذا الجو الضاغط يذكر أحد أصحاب الإمام علي بن موسى(ع) قائلاً: "في الوقت الذي كانت الدماء تقطر من سيف هارون كانت براعة الإمام المعصوم، حيث استطاع أن يحفظ ويصون شجرة التشيع من خطر الأحداث الجارفة، ويمنع تفرق أصحاب والده(ع) ويحافظ على حماستهم وروحيتهم"، وتمكن من خلال سلوك طريق التقية أن يحافظ على حياته التي كانت محوراً وروحاً لوحدة وتجمّع الشيعة، وكذلك استمرت المواجهات الأساسية والصلبة من قبل خط الإمامة رغم قوة ونفوذ الخلفاء العباسيين في تلك المرحلة التي نعم فيها النظام الحاكم بجو من الاستقرار والثبات النسبي، حيث كان الخليفة العباسي في تلك الفترة أقوى وأقدر من أسلافه، مع أن التاريخ لم يستطع أن يحدد لنا بشكل واضح حدود ومعالم تلك الفترة من العشر سنوات لحياة الإمام الرضا(ع) في زمان هارون وما بعده من الخمس سنوات التي وقعت فيها حروب وتزاعات داخلية بين خراسان وبغداد ضمن السلطنة العباسية.
لكن عند التأمل والتدبر في تلك الفترة ندرك أن الإمام الثامن(ع) قام في تلك الفترة بنفس المواجهة الناظرة إلى المدى البعيد، والتي انتهجها أهل البيت في كل المراحل التي تلت حادثة عاشوراء ومضى للوصول إلى الأهداف نفسها. ولما فرغ المأمون في سنة 198هـ من حربه ضد أخيه الأمين واستولى على الخلافة من دون منازع، كان أول ما قام به وعمل عليه هو حل مشكلة العلويين وثورات التشيع، ولقد أخذ بعين الاعتبار تجارب أسلافة لتحقيق ذلك، وواقع هذه الحركة، والتي كانت تدل على صلابة هذه الثورة يوماً بعد يوم، وعلى عجز وضعف الأنظمة الحاكمة عن اقتلاع جذورها أو حتى تحجيمها وإيقافها عن التكامل والنمو.
فالمأمون رأى أن قوة نفوذ هارون وسطوته التي وصلت إلى حد أسر الإمام السابع وسجنه لتلك المدة الطويلة ومن ثم قتله بالسم، لم تُجد نفعاً ولم تمنع التحركات السياسية والعسكرية والإعلامية والفكرية لتيار التشيع، فكيف به إذا أراد أن ينتهج هذه الطريقة، وهو لم يكن يتمتع بما تمتع به أبوه! فهو، إضافة إلى الحروب الداخلية التي ابتلي بها بنو العباس وورث هو مخلفاتها وآثارها، كان يعاني من مشاكل كبرى تهدد السلطنة العباسية. ومن دون شك فقد كان من اللازم عليه أن ينظر بجدية إلى خطر ثورة العلويين، ولعل المأمون في تقييمه لخطر الشيعة على نظامه كان ينظر ببصيرة، لذا فهناك ظن كبير بأن الفترة الفاصلة والتي تقدر بخمسة عشر سنة، أي من بعد شهادة الإمام السابع حتى ذلك اليوم الذي جعلت فيه ولاية العهد للإمام الثامن(ع)، بالأخص فرصة الخمس سنوات التي سادت فيها الحروب الداخلية، كان تيار التشيع أكثر جهوزية واقتداراً لرفع راية الحكومة العلوية. ولقد تنبه المأمون إلى هذا الوضع الخطر وهبّ لمواجهته من خلال ما كان يراه مناسباً بعد تقييمه لتجارب المواجهات السابقة؛ فقام بدعوة الإمام الرضا(ع) إلى مدينة خراسان وعرض عليه عرضاً ملزماً بتسلم ولاية العهد، حيث لم يسبق في كل المراحل السابقة للإمامة أن حدث مثل هذا الأمر، وسنتحدث عنه بشيء من الاختصار، حيث إن ولاية العهد التي سُلمت للإمام الثامن علي بن موسى الرضا(ع) والتي تعد تجربة تاريخية عظيمة كانت في حقيقة الأمر حرباً سياسية خفية بحيث كان الانتصار أو الهزيمة فيها يمكن أن يحدد مصير التشيع؛ والطرف المقابل في هذه الحرب كان المأمون الذي تسلّح بكل إمكاناته وقدراته.
فالمأمون بحنكته وتدبيره ودرايته للأمور التي لم يسبقه لها أحد من أقرانه فكر بأنه لو انتصر في هذه الحرب وتمكن من تحقيق مخططه إلى النهاية، لكان من المؤكد حقق الهدف الذي سعى وجهد الخلفاء الأمويون والعباسيون لتحقيقه من بعد شهادة علي بن أبي طالب(ع) ولم يتمكنوا من ذلك؛ أي أنه كان استطاع أن يقتلع شجرة التشيع من جذورها، فهذا هو الهدف، ولكان استطاع أن يقلع تلك الشوكة التي كانت دائماً في عين الملوك الظالمين والطواغيت إلى الأبد، لكن الإمام الثامن علي بن موسى الرضا(ع) وبالتدبير الإلهي استطاع أن يتغلب على المأمون الذي مُني بهزيمة نكراء، مع أنه هو الذي جهز نفسه وأعد العدة لهذه الحرب السياسية، وهو لم يفشل في أضعاف التشيع أو القضاء عليه فحسب، بل إن السنة التي تسنّم فيها الإمام ولاية الفقيه العهد (201هـ) كانت واحدة من أعظم البركات التاريخية على التشيع، حتى إنها نفخت روحاً جديدة في نضال وكفاح العلويين. وهذا كله كان من بركات التدبير الإلهي لللإمام الثامن(ع) وأسلوبه الحكيم.
ولقد كان للمأمون اهداف أساسية من وراء دعوة الإمام إلى خراسان، أولها وأهمها تحويل ساحة المواجهات الثورية العنيفة للشيعة إلى ساحة التحرك السياسي الهادئ والذي لا يشكل خطراً، لأنه ـ وكما ذكرت ـ لم يكن الشيعة يعرفون التعب أو الملل في المواجهة ولم تكن ثورتهم لتقف عند حد. هذه المواجهات كان لها خاصيتين، الأولى: المظلومية، والثانية: القداسة، حيث كانتا تمثلان عنصر قوة يعتمد عليه الشيعة لإيصال الفكر الشيعي ـ الذي هو نفس شرح وبيان الإسلام من وجهة نظر أئمة أهل البيت(ع) ـ إلى عقل وقلب جمهورهم، بحيث ان كل شخص لديه أدنى استعداد كان إما أن يؤمن بهذا الفكر أو أنه يميل إليه. وبهذا الشكل صارت دائرة التشيع تزداد سعة وانتشاراً يوماً بعد يوم، وبنفس المظلومية والقداسة اللتين كانتا الداعم لحركات النهوض والتحرر من ظلم الخلافة.
كان المأمون يريد أن يواجه هذا الاستتار الشيعي العميق والمؤثر دفعة واحدة، فأراد أن يحيد الإمام من ساحة المواجهة الثورية وينقله إلى الميدان السياسي، وأن يقضي بهذه الوسيلة على فعالية الثورة الشيعية والتي كانت تتكامل يوماً بعد يوم بفعل العمل السري والمركز. وبهذه الطريقة يكون المأمون قد انتزع من الشيعة العلويين الخاصيتين: المظلومية والقداسة، اللتين تشكلان عامل نفوذ قوي لهم في الساحة؛ وذلك لأن قائدهم ـ وهو الشخص العالي المقام عندهم ـ قد أصبح في صفوف جهاز الخلافة، فهو ولي العهد للملك المطلق العنان في التصرف في أمور البلاد ، إذن فهو لم يعد لا مظلوماً ولا مقدساً.
وهذا التكتيك الذي قام به المأمون كان يأمل بواسطته أن يحول الفكر الشيعي إلى فكر مشابه لبقية الأفكار والعقائد والتيارات التي لها مؤيدون في المجتمع، فيخفف من وهجه وإشراقه ويخرجه من كونه فكراً معارضاً للنظام الحاكم، وذلك لأن غالباً ما يكون مرفوضاً من الجهاز الحاكم ومخالفاً له يكون مرغوباً عند الناس المستضعفين ومورد اهتمامهم.
هذا هو الهدف الأول من وراء دعوة الإمام إلى خراسان ومن ثم تنصيبه لولاية العهد. أما الهدف الثاني فهو تخطئة الاعتقاد الشيعي القائل بأن الخلافة قد غُصبت من قبل الخلفاء الأمويين والعباسيين وإعطاء الشرعية لهذه الحكومات السابقة؛ فالمأمون كان يرمي بتعيين الإمام ولياً للعهد إلى أن يثبت ـ وبالقوة ـ لكل الشيعة أن ادعاء هم بغصب الخلافة وعدم شرعية الخلفاء الحاكمين (هذا الادعاء الذي كان دائماً يعتبر من ضمن الأصول العقائدية للشيعة) بأنه كلام لا أساس له. وأنه قد نشأ نتيجة الضعف والإحساس بالاستحقار. فلو كانت الحكومات السابقة غير شرعية ومتسلطة فبالتالي خلافة المأمون الذي هو خليفة لأولئك السابقين غير شرعية وغاصبة أيضاً. فكيف يدخل علي بن موسى الرضا(ع) في صفوف هذا النظام الحاكم ويقبل بخلافة المأمون؟ فهذا يعني أنها قانونية وشرعية ويترتب على هذا أن تكون خلافة الحكام السابقين شرعية أيضاً وليست غاصبة. وهذا الأمر ينقض كل ادعاءات الشيعة، وبذلك لا يكون المأمون فقط قد حصل على الاعتراف بشرعية حكومته أسلافه. بل يكون قد قضى على أحد الأركان العقائدية للتشيع والذي يعتبر أساساً أن أصل الحكومات السابقة هو الظلم وغصب الخلافة. إضافة إلى نقض الفكرة السائدة والمعروفة عن زهد وعدم اهتمام الأئمة بزخارف الدنيا ومقاماتها، ويُظهر بأن الأئمة فقط في الظروف التي لا تصل فيها أيديهم إلى الدنيا ـ أي أنهم عندما يمنعون عنها ـ يلجأون إلى الزهد. بينما عندما تفتح أمامهم أبواب جنة الدنيا يسرعون نحوها. وحالهم في هذا حال الآخرين. فهم يتنعمون بالدنيا إن أقبلت عليهم.
والهدف الثالث للمأمون هو أن يجعل الإمام المعصوم الذي كان دوماً ركيزة المعارضة والمواجهة في جهازه الحاكم وكذلك بقية القادة والأبطال العلويين الذين يتبعون الإمام فيدخلون تحت سيطرة المأمون. وهذا النجاح لم يتمكن أحد على الإطلاق أن يتحققه لا من العباسيين ولا من الأمويين.
والهدف الرابع هو أن يجعل الإمام الذي يمتلك العنصر الشعبي ويعد قبلة الآمال ومرجع الناس في كل أسئلتها من ضمن صفوف أجهزة الحكومة. وبذلك يفقد شيئاً فشيئاً الطابع الشعبي ويبني حاجزاً بينه وبين الناس حتى يضعف بالتالي الرابط العاطفي بينه بين الطبقة الشعبية.
الهدف الخامس للمأمون كان أن يكسب سمعة معنوية وصيتاً بالوقار والتقوى. فمن الطبيعي عندها أن يمدح الجميع ذلك الحاكم الذي اختار لولاية عهده ابن بنت النبي(ص)، وهو شخص مقدس وذو مقام معنوي. وفي المقابل يحرم أخوته وأبنائه من هذا المنصب. والمعروف دائماً أن التقرب من الصالحين والمتدينين من قبل طلاب الدنيا يذهُب ماء وجه الصالحين ويزيد من ماء وجه اهل الدنيا.
الهدف السادس كان باعتقاد المأمون أن الإمام بتسلمه لولاية العهد ستحول إلى حامي ومرشد للنظام. فمن البديهي بأن شخصاً كالإمام بما لديه من تقوى وعلم ومقام لا نظير لها فهو في أعين الجميع من أبناء النبي(ص)، وإذا قام بدور شرح وتبرير ما يقوم به جهاز الحكومة، فسوف يأمن النظام من أي صوت مخالف. وبذلك ايضاً لا يستطيع أحد أن ينكر شرعية تصرفات هذا النظام. فهذا الأمر كان عند المأمون حصانة ووقاية لحكمه. فمن خلال الإمام يستطيع أن يخفي كل أخطاء وعيوب نظامه وحكومته ولم يكن ليخطر ببال أحد سوى المأمون، هذا الدهاء السياسي والحنكة والمكر. حتى أن الأصدقاء والمقربين من المأمون لم يكن لديهم علم بأبعاد وجوانب هذه السياسة. ويظهر هذا الأمر من خلال بعض الوثائق التاريخية. حتى أن فضل بن سهل الوزير والقائد والذي هو من أقرب الأشخاص لجهاز الحكومة لم يكن يعلم حقيقة هذه السياسة. وذلك حتى لا تتعرض اهدافه في هذه الحركة الالتفافية إلى أن نكسة.
وحقاً يجب القول أن سياسة المأمون كانت تتمتع بتجربة وعمق لا نظير له. لكن الطرف الآخر الذي كان في ساحة الصراع مع المأمون هو الإمام علي بن موسى الرضا(ع). وهو نفسه الذي كان يحول أعمال وخطط المأمون الذكية والممزوجة بالشيطنة إلى أعمال بدون فائدة ولا تأثير لها وإلى حركات صبيانية. بينما المأمون الذي بذل كل جهوده وتحمل المصاعب من اجل مشروعه هذا، لا أنه فقط لم يحقق أي شيء من الأهداف التي كان يسعى لها، بل أن سياسته التي اتبعها انقلبت عليه. فالسهم الذي كان يريد أن يرمي به مقام ومكانة وطروحات الإمام علي بن موسى الرضا(ع) أصاب المأمون بحيث أنه وبعد مضي فترة قصيرة أصبح مضطراً إلى أن يعتبر كل تدابيره وإجراءاته الماضية هباءاً منثوراً كأنّ شيئاً لم يكن منها.
وفي نهاية المطاف عاد المأمون ليختار نفس الأسلوب الذي سلكه أسلافه من قبله وهو قتل الإمام. فالمأمون الذي قد سعى جاهداً لتكون صورته حسنة ومقدسة وليتصف بأنه خليفة طاهر عاقل، سقط في النهاية في الهوة التي قد سقط فيها كل الخلفاء السابقين له. أي انجر إلى الفساد والفحشاء ووسمت حياته بالظلم والقهر ويمكن مشاهدة نماذج من حياة المأمون خلال 15 عاماً بعد حادثة ولاة العهد تشكف ستار الخداع والتظاهر عند المأمون. فكان لديه قاضٍ للقضاة، فاسق وفاجر مثل يحيى بن الأكثم. وكان المأمون يحضر المغنيات أيضاً إلى قصره، وكان لديه مغنٍ خاص يدعى إبراهيم بن مهدي. وعاش مرفهاً مسرفاً حتى أن ستائر دار خلافته في بغداد كانت من الدارّ.
بعد هذا العرض لسياسة المأمون، نتعرض إلى السياسة والإجراءات التي قام بها الإمام علي بن موسى الرضا(ع) لمواجهة هذا الواقع… فعندما دعي الإمام لينتقل من المدينة إلى خراسان من قبل المأمون نشر في المدينة جواً يدل على انزعاجه وتضايقه من هذه الخطوة بحيث أن كل شخص كان حول الإمام تيقن أن المأمون يضمر سوءاً للإمام من خلال ابعاده عن موطنه. ولقد أعرب الإمام للجميع عن سوء ما يرمي إليه المأمون بكل الأساليب الممكنة، فقام بذلك عند توديع حرم النبي(ص) وعند توديع عائلته وأثناء خروجه من المدينة، وبكلامه وسلوكه ودعائه وبكائه، كان واضحاً للجميع أن هذا السفر هو رحلته الأخيرة ونهاية حياته(ع). وبناءً على ما كان يتصوره المأمون في أن يُنظر إليه نظرة حسنة، بينما يُنظر إلى الإمام الذي قبل بطلب المأمون نظرة سيئة، نرى أن قلوب الجميع ونتيجة لرد فعل الإمام الذي قام به في المدينة زادت حقداً على المأمون من اللحظة الأولى لسفر الإمام. فإمامهم العزيز(ع) قد أبعده المأمون عنهم بهذا الشكل الظالم ووجهه إلى مقتله… هذه الخطوة الأولى للإمام.
وعندما طرحت ولاية العهد على الإمام رفض الإمام هذا الطرح بشدة. ولقد انتشر في كل مكان رفض الإمام علي بن موسى الرضا(ع) لولاية العهد من قبل الخلافة، كما أن العاملين في الحكومة الذين لم يكونوا على علم بدقائق سياسة وتدابير المأمون قاموا وعن غباء بنشر رفض الإمام(ع) في كل مكان. حتى أن الفضل بن سهل صرح في جمع من العاملين في الحكومة أنه لم يرَ على الإطلاق خلافة بهذا القدر من المذلة، فالمأمون الذي هو أمير المؤمنين يقدم الخلافة أو لاية العهد لعلي بن موسى الرضا وهو يرفض ذلك. ولقد سعى الإمام(ع) في كل فرصة تتاح له أن يبين أنه مجبر على تسلم هذا المنصب (ولاية العهد) ودائماً كان يذكر أنه هُدد بالقتل حتى يقبل بولاية العهد. وكان من الطبيعي جداً أن يصير هذا الحديث الذي هو من أعجب الظواهر السياسية متناقلاً على الألسن، ومن مدينة إلى مدينة. فكل العالم الإسلامي في ذلك اليوم وفيما بعد فهم أن شخصاً مثل المأمون حارب أخاه الأمين حتى قتله لأجل أن يبعده عن ولاية العهد ووصل به الأمر من شدة غضبه على أخيه أن قام برفع رأسه على الرمح وطاف به من مدينة إلى مدينة. مثل هكذا شخص كان من الواضح أن أجبر الإمام الذي لم يكن مبالياً بولاية العهد.
على أن يقبل بها وإلا قتله. وعند المقارنة بين عمل المأمون والإمام المعصوم نرى أن كل ما جهد من أجل تحقيقه المأمون ووفر في سبيله كل ما لديه كانت نتيجته عكسية بالكامل. هذا هي الخطوة الثانية للإمام.
أما النقطة الثالثة في سياسته(ع) والتي واجه بها سياسة المأمون هي أنه مع كل الضغوطات والتهديدات التي مورست عليه، لم يقبل ولاية العهد إلا بشرط الموافقة على عدم تدخله في أي شأن من شؤون الحكومة من حرب وصلح وعزل ونصب وتدبير وإشراف على الأمور. والمأمون الذي كان يعتقد أن هذا الشرط ممكن قبوله وتحمله في بداية الأمر. حيث يستطيع فيما بعد أن يجر الإمام إلى ساحة أعمال ونشاطات الحكومة. وافق على قبول شرط الإمام(ع) الذي ينص على عدم التدخل بأي شيء مهما كان. ومن الواضح أن قبول المأمون بهذا الشرط جعل خطته كمن يكتب على وجه الماء. فأكثر أهدافه التي كان يرمي إلى تحقيقها من وراء هذه الخطوة (تسليم ولاية العهد للإمام) لم تتحقق من جراء موافقته على هذا الشرط. والإمام(ع) الذي كان يطلق عليه لقب ولي العهد ويتمتع بسبب موقعه من إمكانات جهاز الحكم كان دائماً يقدم نفسه على أنه مخالف وعلى خلاف معها. فهو لم يكن يأمر ولا ينهى، ولا يتصدى لأي مسؤولية ولا يقوم بأي عمل للسطلة، ولا يدافع عن الحكومة، ولا يقدم أي تبرير لأعمال النظام. لذا كان من الواضح أن هذا الشخص الذي يُعتبر عضواً في النظام الحاكم والذي أدخل إليه بالقوة وكان يتنحى عن كل المسؤوليات، لا يمكن أن يكون شخصاً محباً ومدافعاً عن هذا النظام. ولقد أدرك المأمون جيداً هذا الخلل والنقص. فحاول عدة مرات وباستخدام أكثر الحيل مكراً ليحمل الإمام على العمل خلافاً لما اشترطه سابقاً. فيجر بذلك الإمام إلى التدخل في إعمال الحكومة ويقضي أيضاً على سياسة الإمام المواجهة والرافضة. لكن الإمام كان في كل مرة يُحبط خطته بفطنته. وكنموذج على هذا الأمر يذكر معمر بن خلاد نقلاً عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) أن المأمون كان يقول للإمام أنه إذا أمكن أن تكتب شيئاَ لأولئك الذين يسمعون كلامك ويطعنونك حتى يخففوا التوتر والأوضاع المضطربة في مناطق وجودهم، لكن الإمام(ع) رفض ذلك وذكّره بشرطه السابق القاضي بعدم تدخله مطلقاً في أي من الأمور.
نموذج آخر مهم جداً وملفت وهو حادثة صلاة العيد حيث أن المأمون وبحجة أن الناس يعرفون قدر الإمام وقلوبهم تهفو حباً له . طب من الإمام أن يؤم الناس في صلاة العيد، رفض الإمام(ع) في البداية فكن بعد إصرار المأمون على طلبه وافق الإمام بشرط أن يخرج إلى الصلاة ويصلي بنفس طريقة النبي وعلي بن أبي طالب(ع).
فلما استفاد الإمام من هذه المناسبة وانتهزها كفرصة جيدة لصالح مشروعه ندم المأمون الذي كان قد أصر على ذلك وأرجع الإمام من منتصف الطريق قبل أن يصلي، مضطراً بفعله هذا أن تتلقى سياسة نظامه المخادعة والمتملقة ضربة أخرى في صراعه مع الإمام(ع).
النقطة الرابعة في سياسة الإمام(ع) ان استفادته الأساسية من مسألة ولاية العهد كانت أهم من كل من ذكر، فبقبوله لولاية العهد استطاع أن ينهض بحركة لا نظير لها في تاريخ حياة الأئمة (بعد انتهاء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سن 40 هجرية حتى آخر عهود الخلافة الإسلامية)، ولقد تمثل ذلك بظهور ادعاء الإمامة الشيعية على مستوى كبير في عالم الإسلام وخرق ستار التقية الغليظ في ذاك الزمان، حيث تم إيصال نداء التشيع إلى كل المسلمين، فمنبر الخلافة العظيم الذي سمح للإمام باعتلائه مكنه من أن يحدث بما لم يكن يقال طوال فترة 150 سنة إلا إلى الخواص والأصحاب المقربين وذلك بالسر والتقية، فخطب بالصوت العالي ليصل ذلك لجميع الناس، فاستفاد من هذه الفرصة ومن هذه الوسيلة (منبر الخلافة) التي لم تكن ميسرة في ذلك الزمان إلا للخلفاء أنفسهم أو المقربين من الدرجة الأولى. كذلك أيضاً مناظرات الإمام التي جرت بينه وبين جمع من العلماء في محضر المأمون حيث بين أمتن الأدلة على مسألة الإمامة، وهناك أيضاً رسالة جوامع الشريعة التي كتبها الإمام للفضل بين سهل حيث ذكر فيها كل أمهات المطالب العقائدية والفقهية للتشيع، وأيضاً حديث الإمامة المعروف الذي قد ذكره الإمام في مرو لعبد العزيز بن مسلم، إضافة إلى كل ذلك القصائد الكثيرة التي نظمت في مدح الإمام بمناسبة تسليمه ولاية العهد وقسم منها مثل قصيدة دعبل وأبو نواس تعد من أهم القصائد المخلدة في الشعر العربي.
إن كل ما ذكرناه من الاستفادة الأساسية للإمام(ع) من مسألة قبوله بولاية العهد يدل على مدى النجاح العظيم الذي حققه الإمام في صراعه ضد سياسة المأمون. وفي خطبته التي ألقاها من علي منبر الحكومة أورد فضائل أهل البيت الذين ظلوا يشتمون علناً على المنابر لمدة 90 سنة. فلسنوات طويلة لم يكن شخص ليجرؤ على ذكر فضائلهم، فعاد في زمانه(ع) ذكر عظمة وفضائل أهل البيت في كل مكان، كما أن اصحابهم ازدادو جرأة وإقداماً من هذه الحادثة (ولاية العهد وخطبة الإمام الجريئة) وتعرف الأشخاص الذين كانوا يجهلون مقام أهل البيت(ع) عليهم وصاروا يحبونهم وأحس الأعداء الذين أخذو على عاتقهم محاربة أهل البيت بالضعف والهزيمة. فالمحدثون الشيعة أصبحوا ينشرون معارفهم ـ التي لم يكونوا ليجرؤوا قبلاً على ذكرها إلا في الخلوات ـ في حلقات دارسية كبيرة وفي المجامع العامة علناً.
النقطة الخامسة التي قام بها الإمام تظهر عندما رأى المأمون أنه من المفيد فصل الإمام عن الناس. فهذا الفصل والإبعاد هو في النهاية وسيلة لقطع العلاقة المعنوية والعاطفية بين الإمام والناس. وهذا ما يريده المأمون… ولمواجهة هذه الخطوة لم يكن الإمام يترك أي فرصة تمكنه من الاتصال بالناس إلا يستفيد منها خلال تحركه ومسيره. مع أن المأمون كان قد حدد الطريق التي سيسلكها الإمام من المدينة وصولاً إلى مرو بحيث لا يمر على المدن المعروفة بحبها وولاءها لأهل البيت مثل قم والكوفة، لكن الإمام استفاد من كل فرصة في مسيره لإيجاد المودة ورابطة الحب بينه وبين أهل هذه المدن، فأظهر في منطقة الأهواز آيات الإمامة، وفي البصرة التي لم يكن أهلها من محبي الإمام سابقاً جعلهم(ع) من محبيه ومريديه وفي نيشابور ذكر حديث السلسلة الذهبية ليبقى ذكرى خالدة، إضافة إلى ذلك الآيات والمعجزات التي أظهرها. وقد اغتنم الفرصة لهداية وإرشاد الناس في سفره الطويل هذا. وعندما وصل إلى مرو التي هي مركز إقامة الخلافة كان(ع) كلما سنحت له الفرصة وأفلت من رقابة الجهاز الحاكم يسارع للحضور في جمع الناس. والإمام(ع) فضلاً عن أنه لم يحض ثوار التشيع على الهدوء أو الصلح مع جهاز الحكومة بل أن القرائن الموجودة تدل على أن الوضع الجديد للإمام المعصوم كان عاملاً محفزاً ومشجعاً لأولئك الذين أصبحوا بفعل حماية الإمام ومؤازرته لهم محل احترام وتقدير ليس فقط عند عامة الناس بل حتى عند العاملين وولاة الحكومة في مختلف المدن بعد أن كانوا ولفترات طويلة من عمرهم يعيشون في الجبال الصعبة والمناطق النائية البعيدة، فشخص مثل دعبل الخزاعي صاحب البيان الجريء لم يكن على الإطلاق يمدح أي خليفة أو وزير وأمير ولم يكن في خدمة الجهاز الحاكم، بل لم يسلم من هجائه ونقده أي شخص من حاشية الخلافة، وكان لأجل كل ذلك ملاحقاً دوماً من قبل الأجهزة الحكومية وظل لسنوات طوال مهاجراً ليس له موطن، فأصبح الآن يمكنه بوجود الإمام علي بن موسى الرضا أن يصل ويلتقي بمقتداه ومحبوبه بحرية، وأن يُوصل في فترة قصيرة شعره إلى كل أقطار العالم الإسلامي، ومن أشهر وأبهى قصائده تلك التي تلاها للإمام(ع) حيث اشتهر بها، والتي تبين ادعاء الثورة الحسينية على الأنظمة الأموية الحاكمة.
حتى أنه وفي طريق عودته من عند الإمام سمع تلك القصيدة نفسها يرددها قطاع الطرق. وهذا يدل على الانتشار السريع لشعره.
والآن نعود لنلقي نظرة عامة على ساحة الصراع الخفي الذي بدأ المأمون بالإعداد له، ودخل فيه الإمام علي بن موسى الرضا للدوافع التي قد أشرنا إليها، والآن لنرى كيف كان الوضع بعد مضي سنة على تسلم الإمام ولاية العهد.
المأمون، وفي رسالة أمر تسليم الإمام ولاية العهد، وبعدة كلمات ومحطات كان قد مدح الإمام بالفضل والتقوى والإشارة إلى مقامه الرفيع والأصيل. بحيث أصبح الإمام خلال سنة بعد أن كان قسم من الناس لا يعرفون سوى اسمه (حتى ان مجموعة من الناس كانت قد ترعرعت على بغضه) يُعرف عند الناس بأنه شخصية تستحق التعظيم والإجلال واللياقة لاستلام الخلافة حيث أنه أكبر من الخليفة المأمون سناً وأغزر علماً وتقوى وأقرب إلى النبي(ص) وأعظم وأفضل وبعد مضي سنة لم يكن الوضع على أن المأمون لم يستطع أن يكسب ود ورضا الشيعة المعارضين بجلب الإمام إلى قربه فحسب، بل ان الإمام قد قام بدور أساسي في تقوية إيمان وعزيمة وروحية أولئك الشيعة الثائرين.
وعلى خلاف ما كان ينتظره المأمون، ففي المدينة ومكة وفي أهم الأقطار الإسلامية لم يقذف الإمام علي بن موسى الرضا(ع) بتهمة الحرص على الدنيا وحب الجاه والمنصب ولم يخبُ نجمه الساطع. بل على العكس من ذلك تماماً حيث ازداد احترام وتقدير مرتبته المعنوية لدرجة فتح الباب امام المادحين والشعراء بعد عشرات السنين ليذكروا فضل ومقام آبائه المعصومين المظلومين. وخلاصة ما نريد قوله أن المأمون في هذا الصراع فضلاً عن أنه لم يحصل على شيء فإنه فقد مكاسب كثيرة، وكان على طريق خسارة ما تبقى لديه.
بعد مضي سنة على تسلم الإمام ولاية العهد، وأمام هذا الواقع الذي أشرنا إليه، شعر المأمون بالهزيمة والخسارة. ولكي يعوض عن هذه الهزيمة ويجبر أخطاء سياسته وجد نفسه مضطراً. بعد أن أنفق كل ما لديه واستنفذ كل الوسائل في مواجهة أعداء حكومته الذين لا يقبلون الصلح. أي أئمة أهل البيت(ع) ـ إلى أن يستخدم نفس الأسلوب الذي لجأ إليه دوماً أسلافه الظالمون والغادرون، وهو اغتيال الإمام المعصوم. لكن كان من الواضح عند المأمون أن قتل الإمام الذي يتمتع بهذه الموقعية العالية والمرتبة الرفيعة ليس بالأمر السهل. والقرائن التاريخية تدل على أن المأمون قام بعدة إجراءات وأعمال قبل أن يصمم على قتل الإمام لعله من خلالها يسهل أمر قتل الإمام ويحد من خطورته وحساسيته. ولأجل ذلك لجأ إلى نشر الأقوال والأحاديث الكاذبة على لسان الإمام كواحدة من هذه التحضيرات. وهناك ظن كبير بأن نشر الشائعة التي تقول أن علي بن موسى الرضا(ع) يعتبر كل الناس عبيداً له بهذا الشكل المفاجئ في مرو، لم يكن ممكناً، لولا قيام عمال المأمون بنشر هذه الافتراءات. وحينما نقل أبو الصلت هذا الخبر للإمام قال(ع) ما معناه: لا الله يا خالق السموات والأرض أنت الشاهد على أنه لا أنا ولا أحد من آبائي قد قلنا مثل هذا. وهذا واحدة من المظالم التي تأتي إلينا من هؤلاء القوم.
إضافة إلى هذا الإجراء كان تشكيل مجالس المناظرات مع أي شخص عنده أقل أمل في أن يتفوق على الإمام واحدة من هذه الإجراءات التي مارسها المأمون. ولما كان الإمام(ع) يتفوق ويغلب مناظريه من مختلف الأديان والمذاهب في كافة البحوث كان يذيع صيته بالعالم والحجة القاطعة في كل مكان، وفي مقابل ذلك كان المأمون يأتي بكل متكلم من أهل المجادلة إلى مجلس المناظرة مع الإمام لعل أحداً منهم يستطيع أن يغلب الإمام(ع) وكما تعلمون فإنه كلما كانت تكثر المناظرات وتطول كانت القدرة العلمية للإمام(ع) تزداد وضوحاً وجلاءاً. وفي النهاية يئس المأمون من تأثير هذه الوسيلة. وحاول أن يتآمر لقتل الإمام كما تذكر الروايات من خلال حاشيته وخدم الخليفة، وفي أحدى المرات وضع الإمام في سجن سرخس (منطقة شمال شرق إيران) لكن هذا لم يكن نتيجته إلا إيمان الجلاوزة والسجانين انفسهم بالمقام المعنوي للإمام. وهنا لم يجد المأمون العاجز والغاضب أمامه في النهاية وسيلة إلا أن يسم الإمام وبنفسه من دون أن يكلف أي أحد وقام بذلك فعلاً.. ففي شهر صفر من سنة 202 هـ أي تقريباً بعد سنتين من خروج الإمام(ع) من المدينة إلى خراسان وبعد سنة أو أقل من تسلمه ولاية العهد قام المأمون بجريمته العظيمة التي لا تنسى وهي قتل الإمام(ع).
إن ما ذكرناه من سيرة الأئمة هو مرور على إحدى المفاصل الأساسية للحياة السياسية للأئمة التي استمرت 250 عاماً وآمل أن ينهض المحققون والعلماء والباحثون في تاريخ القرون الأولى للإسلام بتنقيح وعرض ذلك أكثر. ومن المفيد أن تخصص الجامعة الرضوية الإسلامية التي تأسس اليوم ببركة الذكرى السنوية لولادة هذا الإمام العظيم علي بن موسى الرضا(ع) وتستضيء بأنوار فيوضات مرقده الطاهر والشريف، قسماً من جهودها وعملها في سبيل الإضاءة على هذا التاريخ المليء بالعبر والدروس، وأن توضح وترسم صورة لجيل اليوم والغد في العالم الإسلامي عن هذا التاريخ السياسي لحياة الأئمة مع التركيز على عامل الجهاد والمواجهة فهو المحور الأساسي لهذا التاريخ. - عنصر الجهاد في حياة الأئمة (عليهم السلام)
عنصر الجهاد في حياة الأئمة (ع)
بحث لسماحة ولي أمر المسلمين (دام ظله)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله وأشكره، ففي هذا الجمع المبارك تتحق إحدى الأمنيات القديمة المنسية وهي ذكر أهل البيت (ع).
إن غربة الأئمة (ع) لم تقتصر على الفترة الزمنية التي عاشوها في حياتهم، وإنّها استمرت ولعصور متمادية من بعدهم، والسبب في ذلك يرجع الى إهمال الجوانب المهمة، بل والأساسية من حياتهم.
من المؤكد أن هناك كتباً ومؤلفات كثيرة قد حَظِيت بمكانة رفيعة وقديرة، وذلك لما حملته بين طياتها من روايات تصف حال الأئمة (ع)، ولما نقلته للأجيال المتعاقبة من أخبار تصف سيرتهم، ولكن عنصر المواجهة والجهاد المرير والذي يمثل الخط الممتد للأئمة (ع) طوال 250 سنة من حياتهم كان قليل الذكر في هذه الروايات التي تضمنت فقط عناوين أخرى كالجوانب العلمية أو المعنوية من سيرتهم.
يجب علينا أن ننظر إلى حياة الأئمة (ع) كأسوة وقدوة نقتدي بها في حياتنا لا كمجرد ذكريات قيمة وعظيمة حدثت في التاريخ. وهذا لا يتحقق إلا بالاهتمام والتركيز على المنهج والأسلوب السياسي من سيرة هؤلاء العظماء (ع).
أنا شخصياً عندي رغبة شديدة للاطلاع على هذا الجانب المهم من حياتهم، وأول مرة شعرت بأهمية هذه المسألة كان عام 1350هـ.ش (1971م) وهي مراحل المحنة التي سبقت الثورة. ومع أنني قبل تلك الفترة كنت أنظر إلى الأئمة (ع) بعنوان أنهم شخصيات مجاهدة ومكافحة لإعلاء كلمة التوحيد وإقامة الحكومة الإلهية، إلا أنّ النقطة المهمة التي وصلت إليها في تلك الفترة هي أنه وعلى الرغم من الاختلاف الظاهري بين سيرهم (ع) (حتى إن البعض ليشعر بالاختلاف الشاسع والتناقض فيها)، إلا أنها عبارة عن مسيرة واحدة وحياة واحدة استمرت 250 سنة ابتداءً من سنة 11هـ إلى 260هـ؛ أي انتهت عام الغيبة الصغرى للإمام الحجة (عج).
إذن فالأئمة عليهم السلام جميعهم عبارة عن شخصية واحدة لها هدف واحد، ولذلك فإننا وبدل أن ندرس حياة كل من الإمام الحسن (ع) والحسين (ع) والسجاد (ع) بصورة منفصلة عن الأخرى، أو حتى لا نقع في خطأ ما اعتقده الآخرون بوجود عنصر التناقض بين حياتهم (ع)، فلندرس ذلك بصورة شمولية. فمن هذا المنظار تصبح كل حركات هذا الانسان العظيم المعصوم قابلة للفهم والإدراك.
إن أي إنسان يملك نوعاً من العقل والحكمة، ولا نقول يملك نوعاً من العصمة، تكون له خطط واختيارات موضوعية خاصة خلال حركته الطويلة المتتابعة. وقد يجد هذا الإنسان أنه من الضروري أن يُسرع في حركته مثلاً وأحياناً أخرى يُبطئ فيها، وحتى من الممكن أن يتراجع تراجعاً حكيماً في مواضع أخرى. والإنسان العاقل والحكيم والعارف سيرى ـ بالنظر لهدف هذا الإنسان ـ في هذا التراجع، حركة نحو الأمام وتقدماً.
من هذا المنظار تعتبر حركة الإمام أمير المؤمنين (ع) والإمام والمجتبى (ع) والإمام الحسين (ع) والأئمة الثمانية المعصومين (ع) من ولدهم حركة واحدة ومستمرة. فأنا ومن تلك السنة توصلت الى هذه الحقيقة التي ذكرتها، وبهذه النظرة نظرت إلى حياتهم (ع)، وكلما تقدمت في مسيرتي هذه تأكدت عندي هذه النظرة والعقيدة.
وطبعاً لا يمكن أن نوسع الكلام في هذا الباب خلال هذا اللقاء القصير، ولكن يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن حياة هؤلاء المعصومين من عظماء آل الرسول (ص) هي حياة ذات طابع سياسي، ويجب أن يُخصص لهذا الجانب دراسة خاصة. وأنا اليوم سأتطرق إلى هذا الجانب من خلال بحثنا هذا.
لقد تحدثت السنة الماضية عن نضال الإمام الرضا (ع)، وأود اليوم أن أبين هذا الموضوع بالتفصيل؛ أولاً ماذا نقصد عندما ننسب المواجهة السياسية أو النضال السياسي للأئمة (ع)؟ إن المقصود من هذا الكلام أن جهاد الأئمة (ع) لم يكن جهاداً علمياً من قبيل النزاعات التي تدور بين الكلاميين والتي نشاهدها عبر التاريخ، مثل النزاع بين المعتزلة والأشاعرة وغيرهم. فلم يكن هدف الأئمة (ع) من اجتماعاتهم العلمية وحلقات دروسهم والأحاديث نقل المعارف الإسلامية والأحكام فقط حتى يثبتوا مدرستهم الكلامية الفقهية، بل كان هدفهم يفوق هذا. وأيضاً لم تكن مواجهتهم مواجهة مسلحة كما كان في عهد زيد والذين جاؤوا من بعده أو كما كان في عهد بني الحسن وبعض آل جعفر وغيرهم من الذين عاصروا الأئمة (ع). وأريد أن أشير إلى هذا موضوع الذي سأتطرق إليه بصورة مفصلة فيما بعد وهو أن الأئمة (ع) لم يستنكروا مواقف هؤلاء أو يحكموا على مثل هذه الحركات بالخطأ بصورة مطلقة، وحكمهم على البعض منها بالخطأ لم يكن بداعي كونها حركات مسلحة، بل لأسباب أخرى مختلفة. فنجد مواقف الأئمة (ع) أحياناً أخرى مؤيدة لهذه الحركات، بل وحتى قد اشتركوا في بعضها بصورة غير مباشرة عن طريق المساعدات التي كانوا يقدمونها للثورة. ومن الجدير الالتفات إلى حديث الإمام الصادق (ع) الذي يقول "لوددت أن الخارجي يخرج من آل محمد (ص) وعليَّ نفقة عياله".. إلا أن الأئمة (ع) لم يخوضوا مثل هذا الثورات المسلحة ولم يشتركوا فيها بشكل مباشر.
إن مواجهة الأئمة (ع) كانت مواجهة ذات هدف سياسي؛ فما هو هذا الهدف إذن؟ الهدف هو عبارة عن تشكيل حكومة إسلامية، وبحسب تعبيرنا حكومة علوية. فكان سعي الأئمة (ع) ومنذ وفاة الرسول (ص) وحتى عام 260هـ هو إيجاد وتأسيس حكومة إلهية في المجتمع. ولا نستطيع أن نقول إن كل إمام كان بصدد تأسيس حكومة في زمانه وعصره، ولكن هدف كل إمام كان يتضمن تأسيس حكومة إسلامية مستقبلية، وقد يكون المستقبل البعيد أو القريب؛ فمثلاً كان هدف الإمام المجتبى (ع) تأسيس حكومة إسلامية لمستقبل قريب، فقوله (ع): "ما ندري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين" في جوابه للمسيب ابن نجيه ولآخرين عندما سألوه عن سبب سكوته هو خير دليل وإشارة إلى هذا المستقبل. وأما الإمام السجاد (ع)، وحسب اعتقادي، كان يهدف لتأسيس الحكومة الإسلامية في المستقبل الآتي من بعده؛ وفي هذا المجال لدينا شواهد سنذكرها فيما بعد. أما الإمام الباقر (ع) فقد سعى من أجل تأسيس حكومة إسلامية لمستقبل قريب منه، وفيما بعد الإمام الثامن (ع) كان كل إمام يهدف من تحركاته تأسيس الحكومة على المدى البعيد.
إذن هدف تأسيس الحكومة كان دائماً نصب أعين الأئمة (ع)، لكن الزمن المنشود لتأسيسها وقيامها يختلف من إمام إلى آخر. إن كل الأعمال التي كان يقوم بها الأئمة (ع)، بغض النظر عن الأمور المعنوية والروحية التي تهدف إلى تكامل ورقي النفس الإنسانية وقربها الى الله تعالى، كانت أعمالاً تهدف إلى تأسيس هذه الحكومة الإسلامية، فنشاطاتهم في نشر العلم والمناظرات التي كانوا يقومون بها ضد خصومهم في العلم والسياسة ومواقفهم إلى جانب جماعة ووقوفهم في وجه أخرى كلها تصب في هذا المجال، وهو تأسيس الحكومة الإسلامية.
إذن فنحن ندعي أن كل هذه الأمور كانت تأخذ منحى واحداً وتهدف إلى تأسيس الحكومة الإسلامية. وأقول ندعي لأنه، وكما قال السيد الطبسي، قد اختلف العلماء وسيختلفون في تفسيرهم لمواقف الأئمة (ع). وأنا شخصياً لا أصر على صحة اعتقادي واستنباطي للأمور، ولكن أصر على أن هذه المواقف هي محطة يجب أن نتوقف عندها ونبدأ منها لنستطيع أن نراجع تاريخ حياة الأئمة (ع).
خلال السنين الأخيرة سعينا للوصول إلى إدراك مدى علاقة هذا الموضوع (تأسيس الحكومة الإسلامية) بالأئمة (ع) ومدى ارتباطه بكل إمام منهم، محاولين الاعتماد في ذلك على أدلة منسدة، إضافة إلى أن هناك أدلة تعتبر أدلة كلية وعامة. فمثلاً ان إمامة الأمة هي النبوة، وأن النبي (ص) كان إماماً للأمة… ألخ كما جاء في حديث الإمام الصادق (ع).
إذن فالرسول (ص) نهض من أجل تأسيس حكومة حقة حيث بُني النظام الإسلامي وتأسس آنذاك نتيجة نضال وجهاد الرسول (ص). ومن بعدها جاهد الرسول (ص) أيضاً من أجل الحفاظ على هذا النظام واستمراره، ولا يُعقل أن يغفل الإمام الذي يأتي من أجل متابعة مسيرة الرسول (ص) عن مثل هذا الموضوع المهم. إذن فهذا دليل عام. وبالطبع فإن البحث الواسع والالتفات إلى النواحي المختلفة لهذا الدليل يجعلنا نفهمه أكثر، كذلك لدينا أدلة صادرة ونابعة من كلامهم (ع) أو مستنبطة من حياتهم العملية، إضافة إلى الظروف والأوضاع التي كانت حينها والتي تستطيع أن تبين لنا مواقف الأئمة، كأن نفهم ما تقصده هذه العبارات "السلام على المعذب في قعر السجون وظلم المطامير ذي الساق المرضوض بحلق القيود".
حول هذا الاتجاه سنتكلم اليوم، كما أريد أن أطرح بعض الاستنتاجات وما أفهمه في خصوص هذا الموضوع خلال اجتماعنا هذا.
إن المطلع على تاريخ الحركة العباسية في الفترة الزمنية من 100هـ إلى 132هـ ش بداية الحكم العباسي لربما يشبّه الحركة الجهادية والسياسية للأئمة (ع) بمثل الحركة التي قام بها بنو العباس، ولكننا نقول إن هذا التشبيه غير دقيق، لأنه ربما تشابه شكل الجهاد وخطته، لكن توجد فوارق جوهرية بين الحركتين: مثلاً هدف ومنهج بني العباس يختلف جوهرياً عن هدف ومنهج الأئمة (ع)، وكذلك الاختلاف الجوهري يُلاحظ في الشخصيات المجاهدة، فنجد بني العباس تقارب دعوتهم وإعلامهم واعمالهم دعوة وإعلام آل علي (ع)، فنجدهم يوحون في أعمالهم في بعض المناطق كالعراق والحجاز أنهم على خط آل علي (ع) فمثلاً نسبوا سبب ارتدائهم السواد الذي اتخذوه شعاراً في بداية دعوتهم في خراسان إلى الحزن على آل علي (ع) وما جرى في كربلاء وعلى زيد ويحيى، حيث كانوا يقولون "هذا السواد حداد آل محمد (ص) وشهداء كربلاء وزيد ويحيى". وحيث كان يخيل للبعض وحتى لرؤسائهم أنهم يعملون لآل علي (ع)، إلا أن الواقع لم يكن كذلك. إذن هناك ثلاثة فروق رئيسية بين الحركتين وهي: اختلاف الهدف واختلاف الوسيلة واختلاف الأشخاص.
الآن سوف أتطرق إلى الشكل العام لجهاد ونضال الأئمة (ع)، ومن ثم أشير إلى أبرز الجوانب الجهادية في حياتهم (ع)، إلا أن هذه الجوانب سأطوي الحديث عنها عند كل من الإمام علي (ع) والإمام الحسن (ع) والإمام الحسين (ع)، لأنه جرت بحوث عديدة ووافية في هذا المجال ولا أعتقد بأن هناك أية شبهة تحيط هذا المجال في حياتهم.
سوف نبدأ حديثنا من زمن الإمام السجاد (ع) إلى عصر غيبة الإمام المهدي (عج) وهي الفترة التي تمتد من (61) هـ إلى (260هـ)، يعني خلال مئتي سنة. هذه الفترة الزمنية تتضمن ثلاثة مراحل:
1 ـ المرحلة الأولى: من سنة 61هـ إلى سنة 135هـ (بداية حكم المنصور العباسي): مع بداية هذه الفترة الزمنية تبدأ الحركة الجهادية من نقطة ثم تأخذ عمقاً وشمولاً لتصل إلى أوجها في سنة 135هـ، وهي السنة التي مات فيها السفاح واستلم الخلافة المنصور العباسي، حيث تغير الوضع وظهرت بعض المشاكل التي أدت إلى الحد من التطورات التي كانت آخذة في مسيرتها آنذاك. وقد شاهدنا مثل هذه الأمور والظروف خلال قيامنا وثورتنا وجهادنا.
2 ـ المرحلة الثانية: تبدأ من سنة 135هـ إلى سنة 203هـ أو إلى 202هـ أي سنة شهادة الإمام الرضا (ع)؛ ففي هذه المرحلة وصلت المواجهة الجهادية إلى مرحلة أعمق وأوسع مما كانت عليه في سنة 61هـ. ولكنها تبدأ بمشكلات جديدة وتتوسع حتى تصل إلى أوجها متقدمة خطوات تجاه مرحلة النصر، حتى سنة شهادة الإمام الرضا (ع) حيث عادت لتتوقف عندها.
3 ـ المرحلة الثالثة: تبدأ من سنة 204هـ إلى سنة 260هـ السنة التي استشهد فيها الإمام العسكري (ع) وبدأت الغيبة الصغرى.. تبدأ المرحلة الثالثة بذهاب المأمون إلى بغداد سنة 204هـ،وفي بداية خلافته يبدأ فصل جديد في حياة الأئمة (ع)، ويبدأ عصر المحنة للأئمة (ع). ومع أن التشيع كان في وضع أفضل مما كان عليه في السابق، فقد أخذت مشكلات الأئمة تتفاقم وتتسع. وبرأيي ان هذه الفترة هي الفترة التي كان الجهاد والمواجهة فيها من أجل تأسيس حكومة إسلامية على المدى البعيد؛ يعني أن الأئمة (ع) لم يكن جهادهم من أجل عصر ما قبل الغيبة وإنما إلى ما بعد الغيبة.
إن لكل مرحلة من هذه المراحل الثلاثة مميزاتها الخاصة وأذكرها بصورة مختصرة:
1 ـ المرحلة الأولى وهي مرحلة الإمام السجاد (ع) والإمام الباقر (ع) وقسم من عصر الإمام الصادق (ع)؛ فبداية هذه المرحلة كانت مؤلمة جداً حيث جرت حادثة كربلاء، التي لم تهز كيان الشيعة فقط وإنما هزت الأمة الإسلامية بأجمعها. ومع أن القتل والأسر والتعذيب كان شائعاً آنذاك ولكن قتل أولاد الرسول (ص) وأسر العائلة النبوية ووضع رؤوس آل محمد (ص) على الرماح والاستهانة بمن كان الرسول (ص) يقبل ثناياه، كل هذا قد زلزل العالم الإسلامي وأدهشه. فلم يكن أحد يتوقع أن الأمر سوف يصل إلى هذه المرحلة. ولا أدري مدى صحة الشعر المنسوب للسيدة زينب (ع):
ما توهمت يا شقيق فؤادي كان هذا مقدراً مكتوباً
فهذا البيت يشير بلا شك إلى أن هذا الحدث كان غير متوقع آنذاك. فلهذا أخذ الهول والفزع ينتاب الأمة الإسلامية حيث شاهدت ورأت ما لم تكن تتوقعه وتظنه من التنكيل والتعذيب.. لذا انتشر الخوف في كافة المناطق الإسلامية إلا الكوفة (وهذا بفضل التوابين والمختار وثورتهم). أما المدينة وحتى مكة المكرمة فعاشت حالة الخوف هذه بسبب حادثة كربلاء المفجعة، وعلى الرغم من قيام ثورة عبد الله بن الزبير في مكة، فقد ظل الخوف يهدد هذه المدينة.
وأيضاً في الكوفة، وبالرغم من قيام التوابين في سنة 64و 65هـ (حيث كانت شهادة التوابين سنة 65هـ) وما أوجدته من جو "جديد" في البلاد، فإن ذلك لم يدم طويلاً حتى عاد الخوف ثانية بعدما استشهد كل التوابين حتى آخر شخص منهم.
بعد ذلك قاتل أعداء النظام الأموي بعضهم بعضاً؛ فهذا المختار حارب مصعب بن الزبير ولم يستطع عبد الله بن الزبير أن يتحمل المختار الموالي لأهل البيت (ع) في الكوفة ولذلك قُتِل المختار على يد مصعب! ومرة أخرى عم الرعب والفزع وخابت الآمال عند الناس. وعندها جاء عبد الملك بن مروان وتسلم سدة الحكم وبعد مدة قصيرة أصبح تمام العالم الإسلامي تحت سيطرة بني أمية وبقي عبد الملك بن مروان متسلطاً وفارضاً سلطته لمدة 21سنة. وهنا من الضروري الإشارة إلى واقعة (الحرة) التي جرت في سنة 64هـ وهي السنة التي هجم فيها مسلم بن عقبة على المدينة، مما أدى إلى زيادة الخوف والرعب في المدينة. واشتدت الغربة على أهل البيت (ع) آنذاك والحادثة هي كما يلي:
في سنة 62هـ عين يزيد أحد قواد الجيش الشباب حاكماً على المدينة، وكان شاباً فاقداً للتجربة، وقد دعا بعضاً من أهل المدينة لزيارة يزيد لعله يستطيع أن يحسن علاقتهم به (يزيد). وهيأ يزيد جوائز تناهز الـ 50 ألف و 100 ألف درهم وأعطاها لهم. ولكن هؤلاء، وحيث كان من بينهم الصحابة، وأبناء الصحابة عندما شاهدوا جاه ومقام يزيد اشتد استياؤهم وغضبهم، وعندما رجعوا إلى المدينة أعلن ابن عبد الله بن حنظلة (غسيل الملائكة) فصل المدينة عن الحكومة المركزية آنذاك. فأرسل يزيد مسلم بن عقبة لمعالجة الوضع، فحصلت الكارثة العظيمة، والتي تحدثت عنها كتب التاريخ وخصصت لها فصول تحكي الحوادث الدامية والكوارث المؤلمة التي حدثت آنذاك. هذه الحادثة أدت إلى زيادة الرعب والفزع بين الناس.
والعامل الثاني الذي زاد الرعب والفزع المنتشرين هو الانحطاط الفكري الذي كان يعم الناس في العالم الإسلامي، وهذا كان نتيجة للابتعاد عن التعاليم الدينية خلال عشرين سنة. ولشدة ضعف التعالم الدينية والإيمان والابتعاد عن الحقائق وتفسير القرآن عن لسان الرسول (ص) خلال العشرين سنة التي تلت عام 40 هـ ضعُف أساس الإيمان عند الناس وعم الخواء العقائدي في نفوسهم. فإذا وضع الإنسان حياة الناس في تلك الفترة تحت المجهر يجد ما ذكرناه واضحاً ويجده أيضاً من خلال قراءة التاريخ والروايات العديدة.
طبعاً كان للمجتمع آنذاك علماء وقرّاء ومحدثون، وسنذكر ما يتعلق بهم فيما بعد، ولكن عامة الناس كانوا يعانون من الاختلال العقائدي والضعف الإيماني، وقد وصل الوضع إلى أن بعض وجوه الخلافة قد ضعفوا من منزلة النبوة. وقد ذكر في الكتب أن خالد بن عبد الله القسري أحد علماء بني أمية كان يفضل الخلافة على النبوة حيث كان يقول: ان الخلافة أرفع من النبوة! وكان يستدل بقوله: "أيهما أفضل خليفة الرجل في أهله أو رسوله ألى أصحابه؟ وهل خليفتكم بين أهلكم أقرب إليكم أو رسولكم إليهم؟ طبعاً إن خليفتكم أقرب إليكم من الرسول. إذن خليفة الله أرفع من الرسول"! حيث كان يقول خليفة الله ولم يقل خليفة رسول الله. وأيضاً إذا لاحظنا شعر شعراء الفترة الأموية وبني العباس نجد أنه ومن عهد خلافة عبد الملك استُعملت كلمة خليفة الله، حيث كُرِرَت في الأشعار آنذاك، بحيث قد ينسى الإنسان أن هناك خليفة لرسول (ص). واستمر استعمال وذكر هذا اللفظ إلى زمان بني العباس، وقد هجا الشاعر بن برد يعقوب بن داود والمنصور بهذا التعبير:
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا خليفة الله بين الرق والعبد
فنلاحظ أنهم عندما يريدون هجاء الخليفة يقولون خليفة الله. وقد تكرر هذا اللفظ في أشعار عدد من الشعراء المعروفين مثل الجرير والفرزدق ونصيب، والمئات من عظماء شعراء ذاك الزمان، حيث كانوا يذكرون كلمة خليفة الله في مدائحهم للخلفاء آنذاك.
هذا نموذج من بعض العقائد التي كانت لدى الناس ومستوى إيمانهم، ولم يضعف أساس الإيمان في نفوسهم وحسب، بل انهارت عندهم القيم الأخلاقية. ومن خلال مطالعتي لكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وجدت أنه وفي حدود سنة 80 ـ 90هـ وإلى ما بعد 50 ـ 60سنة كان أعظم المطربين والعازفين والمترفين وعبيد الدنيا يتواجدون في مكة والمدينة، وكلما رغب الخليفة في الشام بسماع الغناء والعزف أو طلب مغنياً أو عازفاً يبعثون له بهم من مكة والمدينة، حيث كان مركز الغناء والطرب! فأسوأ أنواع الشعر وأكثره مجوناً كان في هاتين المدينتين اللتين كانتا مهبط الوحي ومسقط رأس الإسلام، واللتان تحولتا إلى مركز للفساد والمجون!
ومن المفيد أن نعرف هذه الحقائق المؤلمة والمرة لأن التاريخ والكتب التاريخية المتوفرة بين أيدينا فاقدة لمثل هذه الأخبار والحقائق.
لقد كان في مكة شاعر معروف بعمر بن أبي ربيعة، حيث كان يعتبر من شعراء الشعر الخلاعي الفارغ، حيث شهد التاريخ وشهدت المشاهد المقدسة كالطواف ورمي الجمرات وغيرها من المشاهد الأخرى عبثه ودناءته في الشعر حيث قال مرة:
بدا لي منها معصم حيث جمّرت وكفّ خضيب زُينت ببنان
فوالله ما أدري وإن كنت دارياً بسبع رمين الجمر أم بثمان
فالمعنى يبين تلك الأوضاع. وعندما مات عمر بن أبي ربيعة يُروى أنه عم العزاء في المدينة وكان الناس يبكون في أزقة المدينة وشوارعها، وأينما ذهبت تجد مجموعة من الشباب يبكون تأسفاً عليه. ويقول الراوي رأيت جارية ماضية في طلب حاجة وفي طريقها كانت تسكب الدموع من عينيها، حتى وصلت إلى مجموعة من الشباب سألوها عن سبب بكائها وذرفها للدموع، أجابت أبكي لأننا فقدنا عمر بن أبي ربيعة. فقال أحد الشباب اهدأي ولا تحزني، يُقال إن هناك شاعر آخر في مكة وهو الحارث بن خالد المخزومي يقول الشعر ويرويه مثل عمر بن أبي ربيعة وقرأ لها أحد أشعاره، وعندما سمعت الجارية بهذا الخبر مسحت دموعها وقالت "الحمد لله الذي لم يخل حرمه"! فهذا كان الوضع الأخلاقي في المدينة، حيث تسمعون الكثير من هذه القصص. سهرات مكة والمدينة لم تقتصر على الطبقة الفاسدة في المجتمع، بل كانت تعم كل الناس كالجائع والفقير والمسكين مثل "أشعب" هذا الشاعر والمهرج المعروف وغيره من عامة الناس وساداتهم من قريش، وهذه الظاهرة عمت أيضاً بني هاشم ولا أحب أن أذكر أسماءهم.. إذن وجهاء قريش من الرجال والنساء غرقوا في الفحشاء الذي عم آنذاك.
يروى أن الحارث بن خالد كان يعشق عائشة بنت طلحة، ففي زمن إمارة الحارث كانت عائشة بنت طلحة في حالة طواف بيت الله الحرام وحان وقت الأذان فأمرت هذه المرأة أن لا يؤذن المؤذن إلا بعد انتهائها من الطواف، فأمر الحارث بتأخير وقت الأذان، فاعترض الناس وانتقدوا الحارث لتأخيره وقت الصلاة لأجل شخص واحد فقال مجيباً: "فوالله لو طال طوافها إلى صباح الغد لأمرت بتأخير الأذان حتى الصباح"! هكذا كان وضع الفساد الفكري والأخلاقي السائد بين الناس.
العامل الآخر هو الفساد السياسي. فما ذكرنا كان وضع كبار الشخصيات الذين تشبثوا بفضلات الحياة المادية لرجال الحكومة آنذاك، وأمثال هؤلاء محمد بن شهاب الزهري؛ فهذه الشخصية كانت تعتبر من العظماء ومن تلامذة الإمام السجاد (ع) فالإمام (ع)، استطاع أن يفضح حقيقة هؤلاء من خلال رسالة كتبها لتكون حجة للتاريخ وتبين العلائق المادية التي كانوا يتمسكون بها.
وهناك الكثير من أمثال محمد بن شهاب، حيث نقل العلامة المجلسي عن بن أبي الحديد ما يثير ويهز المشاعر؛ فقد نقل في البحار عن جابر أن الإمام السجاد (ع) قال: "ما تدري كيف نثق بالناس، إن حدثناهم بما سمعنا من رسول الله (ص) ضحكوا (فإنهم لا يكتفون بالرفض وإنما يضحكون استهزاءً) وإن سكتنا لا يسعنا". ومن ثم يذكر ابن أبي الحديد أسماء عدد من الشخصيات ورجال ذلك الزمان من الذين كانوا من أتباع أهل البيت (ع) ثم انحرفوا فيما بعد، وبعدها ينقل رواية عن الإمام السجاد (ع): "ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبوننا"! هكذا كان الوضع في زمان الإمام السجاد (ع).
وفي ظل هذه الظروف بدأ الإمام (ع) بعمله وبتحقيق هدفه العظيم، وهو ذات الوقت الذي أشار فيه الإمام الصادق (ع) قائلاً: "ارتد الناس بعد الحسين (ع) إلا ثلاثة، وهم: أبو خالد الكابلي ويحيى ابن أم طويل وجبير بن مطعم".
في ظل ذاك الوضع وعلى هذه الأرض الصحراوية بدأ الإمام السجاد (ع) بعمله. فماذا يجب على الإمام السجاد (ع) فعله ليحقق هدفه؟ كانت تقع على عاتق الإمام السجاد ثلاث مسؤوليات:
أولاً: يجب على الإمام (ع) أن يُعرف الناس على العلوم والمعارف الإسلامية التي لا يمكن بدونها أن نقيم حكومة إسلامية؛ فعندما نعمل على تعريف الناس على المعارف الدينية يصح أن نأمل بإقامة مثل تلك الحكومة.
ثانياً: ان مسألة الإمامة كانت قد ابتعدت عن أذهان الناس، لذا كان من الضروري توضيحها لهم لتقبلها أذهانهم. فماذا تعني الإمامة؟ وما هي شروط الإمامة؟ إن توضيح هذا الأمر ضروري لأن الناس آنذاك كانوا يرون في عبد الملك بن مروان إماماً، حيث كان زعيم المجتمع.
وسأذكر لاحقاً وفي بحث (الإمام) أن استنباطنا وفهمنا لمعنى الإمام خلال القرون الأخيرة يختلف تماماً عن معنى ومفهوم الإمام الذي كان سائداً في صدر الإسلام وكما هو سائد الآن في ظل الجمهورية الاسلامية في إيران؛ ففي ذلك الزمان (صدر الإسلام) كان كلا الموافقين والمخالفين للأئمة (ع) يقولون في الإمام أنه قائد الأمة، يعني حاكم الدين والدنيا، بينما لم يُفهم موقع الإمام كذلك خلال القرون الثلاثة الأخيرة، فقد كان حينها للجمتمع وللأمة فرد مسؤول عن جباية الأموال والحروب وتأمين الاستقرار وإدارة أمور الشعب ودوائر ومؤسسات الدولة، وهو الذي يشكل الحكومة ويدعى بالحاكم، وأيضاً لها (أي للأمة) شخص آخر يحل ويفصل في أمور الناس الدينية ويصحح عقائد الشعب ويعلمهم دينهم وصلاتهم وغيرها من قبيل هذه الأمور، وهو ما يسمى بالعالِم، وأصبح الإمام بمثابة العالم في المراحل القريبة. فالخليفة هو الذي يفصل بين الناس، والإمام هو الذي يصلح دينهم وأخلاقهم.. هكذا كان فهم الإمامة خلال القرون الأخيرة. ولكن هذا المعنى كان يختلف عن معناه خلال فترة صدر الإسلام؛ فكان الإمام يعني قائد الأمة وزعيمها الديني والدنيوي، فبنو أمية ادعوا هذا المنصب وكذلك من بعدهم بنو العباس، حيث كانوا يدعون أن الإمامة لهم.
إذن فالأمة وفي زمن الإمام السجاد (ع) كان لها إمام وهو عبد الملك بن مروان، لذلك كان على الإمام السجاد (ع) آنذاك أن يُبين للناس معنى الإمامة وشروطها وجهتها، وما هي الأمور المفروض توفرها في الإمام، وما هي الأمور التي بفقدانها لا يمكن أن يكون الشخص إماماً.
ثالثاً: الذي يجب أن يفعله الإمام (ع) هو أن يعلن نفسه إماماً للأمة؛ وقد انصب جهد الإمام وعمله على الأمر الأول، لأن الظروف لم تكن تسمح لإعلان الإمام السجاد (ع) إمامته. كان يجب أن يُصلح دين الأمة، ويجب أن تُهذب أخلاق الناس، ويجب أن يُخلص الشعب من الفساد الذي كان سائداً آنذاك، ويجب أن تُوجه الأمة معنوياً ليرجع أساس الدين إلى الأمة والمجتمع.. ولذا ترون أن أكثر الكلام المنقول عن الإمام السجاد (ع) في الزهد، وحتى في بداية كلامه وخطبه التي تتضمن معنى سياسياً، نجده يبدأها بالكلام حول الزهد، حيث يقول (ع): "إن علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين عنها في الآخرة…إلخ". وفي كلام آخر يصف الدنيا قائلاً: "أولا حر يدع هذه اللماظة لأهلها، فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، ألا فلا تبيعوها بغيرها".
كلمات الإمام (ع) كلها كانت تحمل بين طياتها الزهد والمعارف الإسلامية وكان يطرح المعارف الإسلامية ويبينها من خلال الدعاء، وذلك لأن الظروف الصعبة والاختناق الذي كان مسيطراً على الشعب لم يكن يسمح للإمام السجاد (ع) أن يتكلم ويطرح آراء بصورة صريحة وواضحة، فليست السلطة وحدها كانت مانعة وإنما الناس أنفسهم كانوا يرفضون هذا؛ المجتمع كان قد أصبح مجتمعاً ضائعاً وكان من الواجب إصلاحه.
من عام 61هـ إلى 95هـ كانت حياة الإمام السجاد (ع) على ما ذكرنا، وكلما كان يمضي الوقت كان الوضع يتحسن، حتى قال الإمام الصادق (ع)، كما ذكرناه سابقاً، "ارتد بعد الحسين…" إلى أن قال "ثم أن الناس لحقوا وكثروا".
وفي زمن الإمام الباقر كان الوضع قد تحسن عما كان عليه في زمن السجاد (ع)، وهذا بفضل سعي الإمام السجاد خلال 35سنة.
كذلك نجد أن الإمام السجاد (ع) قد ذكر مسألة بناء الكوادر وتهيئتها خلال كلامه وأحاديثه؛ ففي الكتاب الشريف (تحف الحعقول) نُقل حديث طويل عن الإمام السجاد (ع) حول هذا الموضوع؛ أني آسف لأنني لم أستطع أن أبحث في بقية الكتب الأخرى حول الكلام الذي نقل عن الإمام (ع) وذلك لضيق الوقت، ولكني لا أعتقد أن هناك ذكر لغير هذا الحديث أو بمقدار طوله، نعم توجد كلمات قصار عنه أما أحاديث وخطب طويلة فلا أعتقد بوجودها، إلا التي نقلت في كتاب "تحف العقول".
إن مضمون الأحاديث وطريقة الخطاب (في هذا الكتاب) تبين ما كان يقصده ويفعله الإمام السجاد (ع)، وسنرى من خلال هذه الأحاديث الثلاثة التي سأذكرها أن الإمام السجاد (ع) عندما كان يخاطب عامة الناس كان يبدأ بعبارة: "يا أيها الناس" ومن خلال حديثه كان يشير إلى جُملة من العلوم والمعارف الإسلامية (فقد ذكر فيها موت الإنسان والسؤال في القبر وعن الرب والإمام) في هذا الخطاب نوع من الرفق والرقة وهو يناسب عوام الناس المراد تبليغهم آنذاك. هناك حديث آخر يبدأ بنوع آخر من الألفاظ ويُفهم من مضمونه أن الخواص هم المقصودون فيه حيث بدأه (ع) بـ "كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبارين، لا يفتنكم الطواغيت"، فلا يخاطب الحديث هنا عامة الناس وإنما فئة خاصة من الناس. هناك نوع ثالث يبين أن المقصودين به هم خاصة الخواص من الناس وزبدتهم، ويمكن أن يكون المخاطبون هم الأصحاب المطلعين على أسرار الإمامة وهدف مساعي الإمام (ع) آنذاك ومن زمرة المحافظين على أسرار الإمامة، حيث يبدأ الخطاب بهذه الألفاظ: "إن علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة تركهم كل خليط وخليل ورفضهم كل صاحب لا يريد ما يريدون".ويمكن أن نحتمل ونقدر أن الإمام السجاد (ع) وخلال هذه المدة كان له نوعان أو ثلاثة أنواع من الأحاديث التي تتضمن قيماً وتعاليم إسلامية؛ ففي بعضها أشار إلى النظام الحاكم وطواغيت ذلك الزمان، وفي بعضها الآخر اكتفى بالإشارة إلى المسائل والمفاهيم الإسلامية؛ هكذا كانت حياة الإمام السجاد (ع) حيث استطاع، وخلال 35 سنة، أن يخلص وينُجي الناس الجهلة من براثن شهواتهم من جانب، ومن تسلط النظام الحاكم المتجبر وشباك علماء السوء وعملاء البلاط الحاكم من جانب آخر. واستطاع كذلك أن يوجد ثلة مؤمنة وصالحة تصلح لأن تكون قاعدة وأساساً للعمل في المستقبل. وطبعاً الجزئيات المتعلقة بحياة الإمام السجاد (ع) تحتاج إلى حديث يطول.
الآن يأتي دور الإمام الباقر (ع)، حيث نجد في عهد الإمام الباقر (ع) الاستمرار على هذا الخط والمنهج، ولكن الوضع في زمن الإمام الباقر (ع) كان قد تحسن، وهنا أيضاً كان التركيز على المعارف الإسلامية وعلومها.
الناس في هذا العصر لم يعودوا متصفين بعدم الاكتراث وعدم الولاء لأهل البيت (ع) كما كانوا عليه؛ فعندما كان يدخل الإمام الباقر (ع) إلى المسجد كان الناس يجلسون حوله ويحيطون به ليستفيدوا منه. ويروي الراوي قائلاً: "رأيت الإمام الباقر (ع) في مسجد المدينة وحوله أهل خراسان وغيرهم"؛ يعني يحيط به أناس من أقصى البلاد كخراسان ومناطق أخرى، وهذا يدل على أن أمواج التبليغ كانت قد عمت العالم بأجمعه، وأصبحت قلوب الناس ومن أقصى العالم تقترب من أهل البيت (ع). وفي رواية أخرى ذكر "احتوشه أهل خراسان" يعني جلسوا حوله وأحاطوه. وكان الإمام الباقر (ع) يعلمهم مسائل الحلال والحرام، حيث كان كبار العلماء يأتون إليه ويتلقون علومهم عنده، ومن بينهم عكرمة، الذي يعتبر شخصية معروفة ومن تلامذة ابن عباس؛ فعندما أتى إلى الإمام الباقر (ع) أصابته رجفة وسقط في حضن الإمام (ع) وقال: "يا بن رسول الله، أصابني أمامك ما لم يصبني من قبل أمام أحد من الناس". فأجابه الإمام (ع) قائلاً: "ويحك يا عُبيد أهل الشام! إنك بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه". وأيضاً شخص آخر مثل أبي حنيفة، والذي كان يعتبر من عظماء فقهاء ذاك الزمان، كان يأتي ويتلقى علومه على يد الإمام الباقر (ع). وغيره من بقية العلماء كانوا يتلقون علومهم على يده (ع)، حتى وصلت شهرته العلمية إلى كل أرجاء العالم وعُرف بباقر العلوم.
تلاحظون أن الوضع الاجتماعي والعاطفي واحترام الناس للأئمة (ع) قد تغير في عهد الإمام الباقر (ع)، وبهذا نجد أن الحركة السياسية للإمام الباقر (ع) أصبحت أشد وضوحاً. وإننا لا نجد في خطاب الإمام السجاد (ع) لعبد الملك بن مروان ما يُشير صراحة وبشكل واضح إلى الاعتراض عليه، فعندما كان عبد الملك بن مروان يكتب الى الإمام السجاد (ع) عن موضوع معين كان الإمام (ع) يجيبه (طبعاً جواب ابن رسول الله دائماً قوي ومحكم) بطريقة لا تحتوي على العداء الصريح. أما الإمام الباقر (ع) فقد غير حركته لتغير الوضع آنذاك، بحيث أصبح هشام بن عبد الملك يحس بالرعب والفزع من وجوده (ع)، وكان هشام يرى أنه من الضروري أن يضع الإمام (ع) تحت المراقبة، وكان ينوي أن ينقل الإمام (ع) إلى الشام. طبعاً، الإمام السجاد (ع) وفي عهد إمامته (بعد المرحلة الأولى التي بدأت من كربلاء) قُيّدَ بالأغلال وحُمِلَ إلى الشام! لذا فالوضع في زمن الإمام الباقر (ع) قد تغير، ونجد أن أسلوب الكلام أصبح أكثر حدة. رأيت عدة روايات تصف مباحثات الإمام الباقر مع أصحابه حول مسألة الخلافة والإمامة ويلاحظ فيها الأمل بالمستقبل؛ وإحدى هذه الروايات هي رواية في بحار الأنوار مضمونها" كان منزل أبي جعفر (ع) مزدحماً بالناس وجاء رجل مسنّ يستند بعصاه وسلم مظهراً محبته وجلس إلى جانب الإمام الباقر (ع) وقال: "فوالله إني لأحبكم وأحب من يحبكم؛ فوالله ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في الدنيا. وأنني لأبغض عدوكم وأبرأ منه، فوالله ما أبغضه وأبرأ منه، لوترٍ كان بيني وبينه. والله إني لأحلّ حلالكم وأحرم حرامكم وأنتظر أمركم، فهل ترجو لي جعلني الله فداك؟". يعني هل تأمل أن يأتي يوم وأرى نصركم. فأنا منتظر أمركم، يعني منتظر وصول عصر حكومتكم وولايتكم؟
وتعبير "أمر، وهذا الأمر أمركم" إشارة إلى الحكومة، فالحكومة آنذاك كان يعبر عنها بالأمر، سواء في تعابير الأئمة (ع) وأصحابهم أو عند مخالفيهم؛ فمثلاً في كلام هارون إلى المأمون جاء "والله لو تنازعت معي في هذا الأمر" تعبير هذا الأمر يعني الخلافة والإمامة.
أنتظر أمركم يعني أنتظر خلافتكم. وهنا يسأل هل تأملون أن أدرك ذاك اليوم؟ فأجابه أبو جعفر (ع) أي أي… حتى أقعده على جنبه ثم قال: "أيها الشيخ، إن علي بن الحسين (ع) أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه".
يعني سُئِل الإمام علي بن الحسين (ع) نفس هذا السؤال، ولكننا لا نجده خلال الروايات التي نقلت عنه، ونفهم من هذا أن الإمام (ع) لو كان قد قالها في جمع من الناس فهذا يعني أنه قد سمعها الآخرون، وكان لا بد أن تصلنا، لذا فالاحتمال القوي هو قولها سراً. وهنا يقول الإمام الباقر (ع) علناً: "إن تمُت ترد على رسول الله (ص) وعلى علي والحسن والحسين وعلى علي بن الحسين يثلج قلبك ويبرد فؤادك وتقر عينك وتستقبل الروح والريحان مع الكرام الكاتبين، وإن تعش ترى ما يقر الله به عينك وتكون معنا في السنام الأعلى".
إذاً، الإمام (ع) لا يُدخل اليأس على قلبه بل يقول: إذا مُت فسوف تُحشر مع الرسول (ص) وأوليائه وإذا بقيت تكون معنا. فهذا المعنى في كلام الإمام الباقر يعطي للشيعة الأمل بالمستقبل. وفي رواية أخرى بين فيها زمان النهضة، وهذا لشيء عجيب جداً؛ فعن أبي الحمزة الثمالي وبسند قوي ـ كما جاء في الكافي ـ قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: "يا ثابت، إن الله تبارك وتعالى قد وقت هذا الأمر في السبعين، فلما أن قتل الحسين (ع) اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخره إلى أربعين ومائة، وحدثناكم الحديث فكشفتم قناع الستر، ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً عندنا، ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب". بعدها يقول أبو حمزة: فحدثت بذاك أبا عبد الله (ع) فقال: قد كان كذلك. وواقعاً لو لم تحدث تلك التحولات بعد سنة 135هـ وقد ذكرت أهميتها، ففي ذلك الوقت أتى المنصور على رأس الحكم، فلو لم تأتِ حادثة بني العباس، كأن التقديرات الإلهية كانت تكشف على أنه ستقام الحكومة الإلهية الإسلامية في سنة 140. وهناك بحث آخر وهو هل كان الأئمة فعلاً متوقعين حدوث هذا الأمر أم أنهم كانوا قد عرفوا أن القضاء الإلهي على خلاف ذلك؟ اللافت أن من خصوصيات زمان الإمام الباقر هي هذه الآمال والوعود.
وللتعرف على حياة الإمام الباقر (ع) نحتاج إلى ساعات طويلة متمادية لتكوين صورة عن حياته (ع)، وأنا قد تطرقت إلى هذا الموضوع سابقاً وبصورة عامة.
إن عنصر الجهاد السياسي في حياة الإمام الباقر (ع) أكثر وضوحاً، ولا نقصد هنا الجهاد العنيف أو المسلح؛ فعندما جاء زيد بن علي أخو الإمام الباقر (ع) وسأل الإمام الإذن بالنهوض والقيام، أمره الإمام الباقر (ع) بعدم القيام فأطاعه زيد بن علي. والبعض اتهموا زيداً ووجهوا له الإهانة لعدم إطاعته الإمام الباقر (ع) عندما قال له لا تنهض، فهذا اعتقاد وتصور خاطئ، لأن زيد أطاع الإمام (ع) في عدم نهوضه، ولكنه في عهد الإمام الصادق (ع) أستأذن زيد ثانية في قيامه ونهضته، ولم يمنعه الإمام الصادق (ع) آنذاك، بل شجعه عليه. وبعد شهادة زيد تمنى الإمام قائلاً: يا ليتني كنت من زمرة الذين قاموا ونهضوا مع زيد، لذا يجب أن لا يُلام زيد. في هذه الحالة.
نعم الإمام الباقر (ع) لم يرض بالجهاد المسلح في عهده، ولكن عنصر الجهاد السياسي كان واضحاً في عهده؛ فعنصر الجهاد البارز في حياة الإمام الباقر (ع) لم نكن نراه في عهد الإمام السجاد (ع)، وعند انتهاء عهد الإمام السجاد نجد أن الإمام الباقر استمر في جهاده، وذلك في إقامة مجالس العزاء في منى. وحتى إنه أوصى أن يقام له العزاء، ولمدة عشر سنوات في منى (تندبني النوادب بمنى عشر سنين) فهذا استمرار للنضال.
لماذا البكاء على الإمام الباقر في منى، وما هو الهدف منه؟ فمن خلال حياة الأئمة (ع) نلاحظ التأكيد والحث على مسألة البكاء، ولقد ظهر هذا التأكيد في الروايات التي ذكرت فضل وأهمية البكاء على ما جرى في حادثة كربلاء.
ولدينا روايات صحيحة ومعتبرة في هذا المجال، ولا أذكر أنه قد أكد على البكاء في حادثة اخرى غيرها، إلا في زمن الإمام الرضا (ع)، عندما عزم الإمام الرضا (ع) على الرحيل واقتربت منيته قام بجمع أهله ليبكوا عليه، فهذه الحركة لها دلالة ومعنىً سياسياً يتعلق بالفترة التي سبقت سفره وشهادته (ع). وفقط زمن الإمام الباقر (ع) أمَرَ بالبكاء وحتى إنه وصى به بعد شهادته، ووضع 800 درهم من ماله لإنجاز هذه الوصية في "منى". "فمنى" تختلف عن منطقة عرفات والمشعر وحتى مكة؛ ففي مكة الناس متفرقون وكل واحد منهم مشغول بعمله، وعرفات لا يكون المكوث فيها إلا من الصباح حتى وقت (بعد الظهر)، وعندما يأتي الناس إلى عرفات يأتون بعجلة ويسرعون بالرحيل بعد الظهر أيضاً، وذلك ليلتحقوا بأعمالهم. وأما المشعر فلا يدوم المكوث فيه إلا عدة ساعات، فهو ليس إلا ممراً في طريق منى. أما في منى فالمكوث يدوم فيه ثلاث ليالٍ متتالية؛ فقليل من الناس خلال هذه الليالي الثلاث من يذهب إلى مكة ويرجع ثانية، بل أكثر الناس يمكثون الأيام الثلاثة وبصورة مستمرة في منى، وخاصة في ذلك الزمان ومع بساطة الوسائل المتوفرة؛ حيث يجتمع الآلاف من الناس الذين يأتون من جميع أنحاء العالم ويمكثون ثلاث ليال، وكل شخص يعلم أن هذا المكان هو الأنسب لإيصال أي نداء إلى العام، وخاصة في تلك الأيام، حيث تنعدم وسائل الإعلام كالراديو والتلفزيون والجرائد وغيرها من الوسائل الأخرى، فعندما يبكى جماعة على آل الرسول (ص) فمن المؤكد أن يسأل الجميع عن سبب البكاء؛ فلا أحد (عادة) يبكي على ميت عادي وبعد مرور سنين طويلة. إذن فهل ظُلِمَ؟ أو قُتِلَ؟ ومَن الذي ظلمه؟ ولماذا ظُلِمَ؟ تُطرَح أسئلة كثيرة من هذا القبيل؛ إذن فهذه حركة جهادية دقيقة ومخطط لها.
ولقد لفتت نظري نقطة في الحياة السياسية للإمام الباقر (ع) هي أن الأدلة والحجج التي جاءت على لسان أهل البيت (ع) في النصف الأول من القرن الهجري حول باب الخلافة هي نفسها التي كررها الإمام الباقر (ع) وهي إن العرب قد تفاخروا على العجم لأن النبي (ص) منهم، وتفاخرت قريش على غيرها لأن النبي منها، وإذا كان هذا صحيحاً، فأهل بيت النبي (ص) أولى بالتفاخر من الآخرين. ولكن هؤلاء يضعون كل ذلك جانباً ويرون أنفسهم ورثة الحكومة. فإذا كان النبي هو أساس التفاخر في قريش على غيرها وتفاخر العرب على العجم، فالأولى أن نتفاخر نحن آل الرسول (ص) على غيرنا.
فهذا الاستدلال ذُكر مراراً في الفترة الأولى من القرن الهجري من قبل أهل البيت (ع)، فنجد أن الإمام الباقر (ع) وبين عام 95إلى 114هـ ـ فترة إمامته ـ يُبين هذه الكلمات، واحتجاج الإمام (ع) في ذلك العصر بشأن الخلافة شيء له دلالة كبيرة.
فعندما ينتهي عصر الإمام الباقر (ع) يبدأ عصر الإمام الصادق (ع) من عام 114 إلى عام 148هـ، والإمام الصادق عاصر مرحلتين في هذه الفترة: الأولى تمتد من عام 114هـ إلى 132 أو 135هـ ـ يعني إلى سنة انتصار بني العباس واستلام المنصور للخلافة ـ وكانت تعتبر مرحلة هدوء وسعة، وذلك بسبب النزاع الذي كان دائراً بين بني أمية وبني العباس، فوجد الإمام (ع) في تلك فرصة لنشر العلوم الإسلامية، ولم يمرّ الإمام الباقر (ع) بمثل هذه الظروف لأنها كانت خاصة بعصر الإمام الصادق (ع)؛ ففي عهد الإمام الباقر (ع) كانت الفترة فترة غطرسة بني أمية، وكان حكم هشام بن عبد الملك الذي قيل فيه: "كان هشام رجلهم"، حيث كان أكبر شخصية بعد عبد الملك، وكانت فترة حكمه في عهد الإمام الباقر (ع)، ولم يكن في عهده اختلاف أو قوى ليستطيع الاستفادة منها؛ فالحروب الداخلية والاختلافات السياسية كانت في عهد الإمام الصادق (ع) وفي المرحلة الأولى من عهده (ع)، ولكن بالتدريج اتسعت دعوة بني العباس، وفي نفس الوقت كانت الدعوة الشيعية في العالم الإسلامي قد وصلت إلى أوجها، وهذا مما لا نقف عنده الآن. وعندما بدأت مرحلة إمامة الإمام الصادق (ع) كانت الصدامات والحروب منتشرة في العالم الإسلامي كإفريقيا وخراسان وفارس وبلاد ما وراء النهر ونقاط أخرى من العالم الإسلامي، مما سبب مشكلات كثيرة لبني أمية. وهكذا استطاع الإمام الصادق (ع) في هذه المرحلة أن يستفيد من هذه الفرصة وقام بالتركيز على نفس النقاط الثلاث التي أشرنا إليها في حياة الإمام السجاد (ع)، وهي: مسألة نشر العلوم الإسلامية، ومسألة الإمامة، وخاصة التأكيد على إمامة أهل البيت (ع)؛ وعلى سبيل المثال: يروي عمر بن المقدام قائلاً: "رأيت أبا عبد الله يوم عرفة بالموقف وهو ينادي بأعلى صوته"، فكان يقول جملة ثم يلتفت إلى الطرف الآخر ويكررها ومن ثم إلى الطرف الآخر.. وهكذا إلى أربعة أطراف، وكل مرة يكررها ثلاثاً، والجملة هي" أيها الناس، إن رسول الله (ص) كان هو الإمام".
التفتوا إلى نفس استعمال كلمة إمام، كان هذا لأجل لفت انظار الناس إلى حقيقة الإمامة ولإشاعة هذه الفكرة حتى يُصار إلى التساؤل: هل هؤلاء الحكام المتسلطين على الحكم لائقون بالإمامة أم لا؟
فينادي ثلاث مرات لمن بين يديه ولمن خلفه وعن يساره... اثنا عشر صوتاً: "أيها الناس، رسول الله كان هو الإمام، ومن بعده علي بن أبي طالب، وبعده الحسن، وبعده الحسين، ومن ثم علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وبعدها هاه".. ويكرر الكلمات اثنا عشر مرة.
يقول الراوي سألت ما معنى هاه. قال معناها في لغة (لهجة) بني فلان (أنا) كناية للإشارة عن نفسه (ع)؛ يعني بعد محمد بن علي (ع) أنا الإمام.
ونشير إلى نموذج آخر، قال: قدم رجل من أهل الكوفة إلى خراسان فدعا الناس إلى ولاية جعفر بن محمد (ع) يعني إلى حكومته.
ونحن، حتى استطعنا أن ندعو لقيام "الجمهورية الإسلامية" خلال فترة جهادنا، فطوال سنوات الجهاد والكفاح لم نستطع أن نقول أكثر من رأي الإسلام في الحكومة وحدودها؛ يعني استطعنا أن نحدد القواعد الأولى التي حددها الإسلام للحكومة والشروط التي وضعها للحكام. فهذه حدود ما استطعنا أن نبينه آنذاك، حيث لم يكن الوقت مناسباً أبداً للدعوة إلى الحكومة الإسلامية أو الإعلان عن شخص معين ليكون الولي؛ ففي سنة 1357هـ.ش (1979م) أو في سنة 1356هـ.ش، وفي اجتماعاتنا الخاصة، استطعنا أن ندعو إلى الحكومة الإسلامية وطبعاً من دون أن نذكر اسم قائدها.
بينما ترون أن رجلاً وفي زمن الإمام الصادق (ع) يذهب إلى أقصى نقاط العالم ويدعو الناس لحكومة الإمام الصادق (ع)، ماذا يعني هذا؟ هل له معنى سوى حلول الزمان الموعود؟ فهذا هو عام 140هـ وهذا هو نفس الشيء الذي كان يتحرك لأجله الأئمة بشكل طبيعي، وهو الذي أدى إلى أن يقوم هذا الرجل بما فعل. فالنهوض الطبيعي للأئمة (ع) هو الذي أدى إلى هذا، كما أنه أعطى الأمل في تشكيل الحكومة الإسلامية في ذلك الزمان.
إذن، فقد كانت الدعوة للناس إلى حكومة وولاية الإمام جعفر بن محمد (ع).. ونحن اليوم نفهم الولاية بمعناها الحقيقي والواقعي، ولكن سابقاً كانوا يفسرون الولاية بالمحبة؛ وهذا يعني أنهم كانوا يدعون الناس إلى الولاية، أي إلى محبة الإمام جعفر بن محمد (ع)، فهل يصح هذا؟! فهذا ليس من شؤون الدعوة، فالمحبة لفرد ليست هي بالشيء الذي يُدعى إليه المجتمع، إضافة إلى أنه إذا فسرنا الولاية بالمحبة لا يكون لبقية الحديث معنى، حيث قال (ع): "ففرقة أطاعت وأجابت، وفرقة جحدت وأنكرت ـ ومن الذي ينكر ويرد محبة أهل البيت في العالم الإسلامي ـ "وفرقة ورعت ووقفت". وإذا فسرت الولاية بالمحبة فلا تتناسب هنا مع مسألة التورع والتوقف. وهذا قرينة إلى أن الولاية لها معنى آخر غير المحبة، بل هي الحكومة. وبقية الحديث، يقول: "فخرج من كل فرقة رجل فدخلوا على أبي عبد الله (ع)" فكانوا يأتون إلى الإمام ويتكلمون معه، حيث يرد على واحد من الذين تورعوا وتوقفوا كما يلي: "تورعت في هذا العمل، فلماذا لم تتورع عند النهر الفلاني في اليوم الفلاني حيث ارتكبت العمل المخالف الفلاني"؟ فهذا الكلام يبين بوضوح أن الشخص الذي ذهب إلى خراسان ودعا الناس لولاية الإمام قد قام بهذا برضا الإمام، ولعل الإمام (ع) هو الذي أرسله.
فهذا كله يتعلق بالمرحلة الأولى من حياة وعصر الإمام الصادق (ع)، وتوجد حوادث أخرى من هذا القبيل في حياته (ع)، وعلى الأكثر تتعلق هذه الحوادث بالمرحلة الأولى من حياته (ع) حتى وصول المنصور إلى سدة الحكم والخلافة، فتتبدل الأوضاع وتبدأ المشاكل والمصاعب في حياة الإمام الصادق (ع). ولربما هذه الفترة من حياة الإمام الصادق (ع) تشبه الفترة التي مرت على الإمام الباقر (ع)، حيث ساد جو القمع وممارسة الضغوط على الإمام حتى إنه (ع) أُحضر ونُفي لعدة مرات إلى الحيرة وواسط والرميلة ومناطق أخرى. وكان الخليفة يخاطب الإمام الصادق (ع) بقساوة وغضب حيث قال له مرة: "قتلني الله إن لم أقتلك"! ومرة من المرات خاطب الخليفة والي المدينة قائلاً له: "أن أحرق على جعفر بن محمد داره"! وحينما أُحرق داره أظهر الأمام الغربة والوحدة التي ألمّت به آنذاك وذلك خلال حركاته وسكناته وهو يعبر النار المضرمة، حيث قال: "أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن محمد المصطفى". وهذا مما أدى إلى زيادة سخط أعدائه أكثر.
إن معاملة المنصور للإمام الصادق (ع) كانت معاملة صعبة جداً وقاسية للغاية، ولطالما هدد المنصور الإمام (ع). وهناك روايات تنقل أن الإمام (ع) كان يتذلل ويظهر الخضوع للمنصور! وبالتأكيد أن هذه الروايات لا أساس لها من الصحة؛ فأنا بحثت حول هذه الروايات ولم يكن لأي منها أساس وسند صحيح ومعتبر، وغالباً من تنتهي في سندها إلى ربيع الحاجب هذا المقطوع بفسقه، الذي كان من المقربين للمنصور. ومن العجب أن البعض نقل أن الربيع كان يعتبر من الشيعة المحبين لأهل البيت (ع)، فأين التشيع من ربيع؟!
إن الربيع كان يعتبر الخادم المطيع والمخلص لأوامر المنصور، ومنذ طفولته استطاع أن يجد طريقاً ومكاناً في الحكومة العباسية، وخدم بني العباس حتى أصبح حاجب المنصور، وقدم له الخدمات الكثيرة حتى استطاع أن يتسنّم الوزارة، ولو لم يكن الربيع موجوداً لخرجت الحكومة والخلافة من آل المنصور بعد موته، ولربما كان قد تسنّمها أعمامه من بعده، فعند احتضار المنصور لم يكن عنده سوى الربيع، تسنّم ولهذا كتب الوصية بنفسه عن المنصور زوراً وجعل الخلافة باسم المهدي بن المنصور.
والفضل بن ربيع الذي تسنّم الوزارة في عهد هارون والأمين هو ابن هذا الشخص، فهذه العائلة عرفت بوفائها لبني العباس، ولم يكن لهم أي ولاء لأهل البيت (ع).. وما نُقل عن الربيع حول الإمام فهو كذب وبهتان، ولم يرد من كذبه هذا إلا أن يُظهر الإمام (ع) للمسلمين آنذاك الإنسان المتذلل والخاضع أمام الخليفة! حتى يعتبر الآخرون أن تكليفهم هو أيضاً مثل تكليف الإمام، أي التذلل والخضوع للخليفة!
وكما قلنا، فقد كانت معاملة المنصور للإمام الصادق (ع) معاملة قاسية جداً حتى انتهت بشهادة الإمام (ع) وذلك في عام 148هـ.
وبدأ عصر الإمام موسى الكاظم (ع) فكانت حياته مليئة بالأحداث المهمة والمثيرة وأعتقد أن الجهاد والمواجهة قد بلغا أوجهما في عهد هذا الإمام (ع). ومع الأسف لا يوجد بين أيدينا تقرير ونص واضح وصريح حول حياة الإمام الكاظم (ع)؛ مثلاً جاء في بعض الروايات أن الإمام بقي ولفترة مخفياً عن أنظار الحكومة آنذاك وكان هارون وأزلامه يبحثون عنه ولم يستطيعوا أن يجدوه، وكان الخليفة يقبض على بعض الأفراد ويعذبهم ليعترفوا ويخبروه عن مكان الإمام (ع)! ولأول مرة يحدث مثل هذا الأمر في حياة الأئمة (ع).
ونقل ابن شهر أشوب في المناقب ما يفيد ما ذكرناه حيث قال: "دخل موسى بن جعفر (ع) بعض قرى الشام متنكراً هارباً"! ولم يُنقل عن أي من الأئمة هذا الوضع.
وهذه الأحداث تعبير عن الشرارة والالتهاب الذي ميز حياة الإمام.. وسجن الإمام المؤبد هو خير دليل على الوضع الذي كان قائماً، مع أن هارون كان يعامل الإمام الكاظم (ع) معاملة جيدة وحسنة وذلك خلال المرحلة الأولى من تصديه الحكم.
والقصة التي ينقلها المأمون حول الإمام الكاظم (ع) معروفة؛ وملخصها أن الإمام (ع) كان يمتطي دابة وجاء إلى المكان الذي كان يجلس في هارون، وأراد الإمام (ع) أن يترجل ولكن هارون لم يرضَ بذلك وأقسم عليه أن يبقى راكباً ويأتي بدابته إلى بساطه، وعندما جاء الإمام (ع) راكباً إلى بساط الخليفة احترمه هارون وبقيا مدة بتبادلان الحديث. فعندما عزم الإمام (ع) الرحيل طلب هارون مني (أي من المأمون) ومن الأمين أن نأخذ بركاب أبي الحسن، إلى آخر القصة. والشيء اللافت في هذه القصة هو ما نقله المأمون عن أن أبيه هارون أنه أعطى لجميع الذين كانوا حاضرين في المجلس 5 الآف دينار و 10 الآف دينار (أو درهم) كهدية وجائزة ولكن أعطى لموسى بن جعفر 200 دينار، علماً بأنه عندما كان الخليفة يسأل عن وضع الإمام (ع) كان الإمام (ع) يجيبه مبيناً له المشكلات والأوضاع المعيشية السيئة وكثرة العيال. فهذا الكلام من الإمام يحمل بين طياته معنى دقيقاً؛ فأنا وبقية الذين عاشوا تجربة التقية في زمان مواجهة الشاه نستطيع أن نفهم وندرك لماذا ذكر الإمام (ع) ولمثل هارون وضعه المعيشة، فهذا الكلام لا يحتوي على التذلل، لأن الكثير منكم وفي عهد القمع والظلم قد فعلتم مثل ما فعل الإمام (ع) لأن الإنسان ومن خلال هذا الكلام يستطيع أن يبعد نظر العدو عن أعماله ونشاطاته.
وطبيعي أن هارون وبعد استماعه إلى مثل هذا الكلام كان ينبغي أن يعطي للإمام مبالغ طائلة مثلاً 50 ألف دينار (أو درهم)، ولكنه رغم هذا كله لم يعطه أكثر من 200 دينار!
يقول المأمون سألت أبي عن سبب إعطائه القليل فأجابني إذا أعطيته ما في ذمتي من المبلغ لخرج، وبعد فترة وجيزة، مئة ألف فارس من الشيعة يقومون ضدي، فهذا كان استنتاج وفهم هارون، وحسب رأيي أن هارون كان صائباً في فهمه. والبعض يعتقد أن تصور هارون هذا كان نتيجة لما بُلغ به من سوء عن الإمام (ع)، ولكنه واقع الأمر وحقيقته، لأنه لو كان الإمام (ع) يملك من الأموال الكافية في زمان جهاده ونضاله ضد هارون لاستطاع استقطاب الكثير ليحاربوا إلى جانبه. وهذا الوضع لاحظناه في زمان أبناء الأئمة (ع). وبالتأكيد أن الأئمة لو كانوا يملكون المال الكافي لاستطاعوا جمع عدد أكبر من الناس حولهم. وعلى هذا نجد أن عهد الإمام الكاظم (ع) كان عهداً وصل فيه الجهاد والكفاح إلى أوجه حتى انتهى باعتقال الإمام (ع) وسجنه. وعندما جاء عهد الإمام الثامن (ع) بدأ الوضع يتحسن بالنسبة للأئمة (ع) وانتشر الشيعة في كل البقاع وتوفرت لهم الإمكانيات اللازمة حتى انتهى الأمر إلى ولاية العهد للإمام الرضا (ع). وعاش الإمام الرضا في عهد هارون الرشيد مراعياً للتقية في حياته، يعني كان يسعى في حركته ونشاطاته بسرية وتقية؛ فمثلاً دعبل الخزاعي الذي كان يتكلم بحق الإمام الرضا (ع) بهذا الشكل المعروف في زمن ولاية عهده (ع) لم يظهر إلى الوجود فجأة، فالمجتمع الذي يُربي مثل دعبل الخزاعي أو إبراهيم بن العباس الذي كان يعتبر من المادحين لعلي بن موسى الرضا (ع) أو غيره من الموالين، هذا المجتمع لا يُخرج مثل هؤلاء من لا شيء؛ فهذا الولاء يجب أن يكون قد بدأ من سنين وله سابقة في ثقافة المجتمع، فليس من الممكن أن يحتفل الناس في خراسان وري ومناطق أخرى بمناسبة تعيين الإمام الرضا (ع) ولياً للعهد من دون أن يكون لهم في ولايتهم هذه سابقة وتاريخ.
وما حدث في عهد ولاية العهد للإمام الرضا (ع) دليل على مدى ولاء الناس ومحبتهم لأهل البيت (ع).
وبعد ذلك ظهر الاختلاف بين الأمين والمأمون واستمر الخلاف والجدل بين خراسان وبغداد لمدة خمس سنوات، وهذا مما ساعد الإمام الرضا (ع) لأن يوسع من نشاطاته وحركته حتى انتهت إلى تعيينه ولياً للعهد. ولكن ـ ومع الأسف ـ انتهى الوضع بشهادته وبداية عهد جديد حاملاً بين طياته المحن والمشاكل لأهل البيت (ع). وحسب رأيي أن المحن والمشكلات التي واجهت أهل البيت (ع) بلغت ذروتها في زمن الإمام الجواد (ع) وشملت عصور الأئمة الذين جاؤوا من بعده.
كان هذا شرحاً مجملاً ونظرة عامة إلى المحن والمشاكل التي واجهت الأئمة (ع) وتحليلاً مختصراً لحياتهم السياسة.
وكما ذكرت سابقاً أنني قد قسمت البحث إلى قسمين. القسم الأول هو عرض مجمل، وقد انتهى إلى هنا، والقسم الثاني هو التعرض إلى أبرز التحركات الجهادية في حياة الأئمة (ع).
كل ما سأذكره هو بعض العناوين والتي استطعت خلال اليومين الماضيين أن استخرجها من بين ملاحظاتي التي كنت قد سجلتها قديماً، وطبعاً المواضيع التي يمكن البحث فيها لا تقتصر على التي سأذكرها، ولكن أذكر بعضاً منها ليستطيع من يريد البحث والدراسة أن يتخذها محوراً في بحثه.
من المسائل والمواضيع المهمة هي ادعاء الإمامة والدعوة إلى الإمامة.
وتعتبر هذه المسألة حركة جهادية في كل المراحل التي مرت بحياة الأئمة (ع)، وذكرت حولها روايات في فصول واسعة، ومن جملتها روايات أن الأئمة "نور الله" التي وردت في الكافي، ورواية الإمام الثامن (ع) حول الإمامة، وروايات عديدة أيضاً حول حياة الإمام الصادق (ع) ومحاورات ومناظرات أصحابه في ظروف مختلفة، وأيضاً روايات حول حياة الإمام الحسين (ع) عند دعوته لأهل العراق وروايات أخرى.
والمسألة الأخرى هي فهم وإدراك لما يقوم به الأئمة من أعمال وتبليغ؛ فأنه ـ وكما تلاحظون ـ أن فهم الخلفاء لأهداف الأئمة (ع) متشابه من زمان عبد الملك بن مروان إلى زمان المتوكل؛ أي كان فهمهم وإدراكهم لما يدور حولهم متشابهاً، فمعاملتهم للأئمة (ع) كانت تتشابه من حيث القهر والاضطهاد. فهذه مسألة مهمة لا يمكن أن نمر عليها بشكل عابر.
لماذا كانوا يفهمون ويدركون من حياة الأئمة (ع) هذا الفهم والإدراك؟!
فمثلاً جملة "خليفتان يجبى إليهما الخراج" حول الإمام موسى بن جعفر (ع)، أو "هذا على ابنه قد تعدوا وادعى الأمر لنفسه" حول الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، أو جملات أخرى مشابهة لهذه الجمل حول الأئمة (ع).
والمسألة المهمة الأخرى هي أن الخلفاء كانوا يسعون لينسبوا الإمامة إليهم. توجد أمثلة كثيرة حول ما قلناه، ونذكر منها مثالاً؛ فكُثير هو شاعر بارز عاصر المرحلة الأولى من الخلافة الأموية ويعتبر من الموالين لأهل البيت (ع)، وكان على على مستوى الفرزدق وجرير والأخطل وجميل ونصيب وغيرهم؛ جاء يوماً من الأيام إلى الإمام الباقر (ع) حيث قال له الإمام (ع) معترضاً "امتدحت عبد الملك"! أجاب مضطرباً "يا بن رسول الله، ما قلت يا أمام الهدى، وإنما قلت له أسد والأسد كلب، ويا شمس والشمس جماد، ويا بحر والبحر موات). يعني أراد الشاعر أن يبرر عمله. فتبسم الإمام (ع)، وحينها قام الكميت الأسدي وأنشد هذه القصيدة:
من لقلبٍ متيم مستهام غير ما صبوة ولا أحلام
حتى وصل إلى البيت
ساسة لا كمن يرى رعيه الناس سوا ورعيه الأنعام
فهذا يدل على أن الأئمة (ع) كانوا شديدي الحساسية من جهة مدح عبد الملك وأصحابه، وكانت اهتماماتهم وحساسيتهم في إطلاق كلمة إمام الهدى عليه، حيث قال: لم أقل له إمام الهدى. وهذا يدل على مدى رغبة الخليفة في إطلاق عبارة إمام الهدى عليه. وكانت هذه الرغبة أشد في زمن بني العباس.
ومروان بن أبي حفصة كان شاعراً أموياً وعميلاً للبلاط الأموي والعباسي (والعجب في هذا أنه كان شاعر البلاط الأموي في الخلافة الأموية، وبعد أن جاء بنو العباس إلى سدة الحكم أصبح شاعر البلاط العباسي، حيث كان شاعراً قوياً عذب البيان فاشتروه بالمال)! وعندما كان يمتدح بني العباس لم يكن يكتفي بذكر كرمهم وشجاعتهم وبقية خصالهم، بل كان ينسبهم إلى رسول الله (ص) وينسب إليهم منزلته، حيث قال:
أنى يكون وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام
يعني كيف يمكن أن يرث أبناء البنات ما ترك الأعمام؟ فعم رسول الله (ص) هو العباس وله وارث، فكيف يمكن أن يرث ما ترك العباس أبناء فاطمة (ع)!
إذن، فالدعوى حول الخلافة والحرب حرب ثقافية وسياسية، وفي مقابل هذا الشعر قال الشاعر الطائي الشيعي المعروف، يعني جعفر بن عفان الطائي:
لم لا يكون وإن ذاك لكائن لبني البنات وراثة الأعمام
للبنت نصف كامل من ماله والعم متروك بغير سهام
يعني البنت ترث نصف مال أبيها والعم لا يرث من مال أخيه، إذن فليس لكم إرث لتطالبوا به!
فهذا من موقف أصحاب الأئمة (ع) مقابل ما يدعيه الخلفاء في الإمامة.
والمسألة الأخرى هي تأييد الأئمة (ع) وحمايتهم للحركات الثورية التي كانت آنذاك، فهذه من البحوث المثيرة من حياة الأئمة (ع) وتدل على منهجية الجهاد أيضاً، ككلام الإمام الصادق (ع) حول المعلى بن خنيس عندما قتل على يد داود بن علي، وكلماته حول زيد وحول الحسين بن علي شهيد فخ وغيرهم.
وقد رأيت رواية عجيبة في نور الثقلين عن علي بن عقبة حيث قال إن أبي قال : دخلت أنا والمعلى على أبي عبد الله (ع) فقال: "أبشروا، أنتم على إحدى الحسنيين، شفى الله صدوركم واذهب غيظ قلوبكم وأنالكم من عدوكم ـ وهو قول الله تعالى: {ويشف صدور قوم مؤمنين} ـ وإن قضيتم قبل أن تروا ذلك مضيتم على دين الله الذي رضيه لنبيه (ص) ولعلي (ع)".
هذه الرواية مهمة كونها تتحدث عن الجهاد والنصر "أبشروا، أنتم على إحدى الحسنين" وعن النيل من العدو والشهادة "وأنالكم من عدوكم… وإن قضيتم قبل أن تروا ذلك".
وتزيد الأهمية كون المخاطب في هذه الرواية هو المعلى بن خنيس الذي عرفنا كيف كان مصيره (التنكيل والقتل)، ونلاحظ أن الإمام المعصوم في هذه الرواية بدأ بمخاطبة الصاحبين مباشرة دون أي مقدمة. ويستدل من خلال سياق الرواية أن الحديث كان يتناول موضوعاً محدداً لكنه لم يُذكر، أما قوله (ع): "شفى الله صدوركم" فمن الممكن أن يكون دعاءً، ولكن يوجد احتمال آخر، وهو أقوى، وهو إخباره عن أمر ما قد حصل أو أنجز، فهل كان الداخلان على الإمام قد عادا من عمل أو مواجهة ما؟ غير معلوم، أو أنهما مكلفان بمهمة معينة من قبل الإمام؟
لم تفصح الرواية عن شيء كهذا، لكن على كلا الاحتمالين فإن سياق الحديث يفصح عن مساندة وحماية الإمام (ع) للتحركات الثورية التي تحكي عنها الحياة اليومية لمعلى بن خنيس. ومن المهم في حديثنا عن هذا الصاحب أن نلتفت إلى أنه كان "باب" الإمام الصادق (بتعبير الروايات)، ومن المهم أن نتعرض لهذا المصطلح بالبحث؛ فالذين ذُكروا في أحاديث أهل البيت (ع) بعنوان "الباب" من كانوا؟ فإن أغلبهم قد قُتل أو هُدد بالقتل، أمثال يحيى ابن أم الطويل، ومعلى بن خنيس، وجابر بن يزيد الجعفي، وغيرهم..
بحث آخر في حياة الأئمة (ع) حول سجنهم ونفيهم وملاحقتهم…
وأرى أنه يجب أن نتتبع هذا البحث بدقة، وهناك الكثير من المسائل التي تحتاج إلى التدقيق والتحليل، منها أيضاً ما يتعلق بخطابات أهل البيت (ع) التي تميزت بالصراحة وبمواجهاتهم الحادة لحكام زمانهم. وهي نفطة ينبغي الوقوف عندها ملياً؛ فهؤلاء العظام (ع) لو كانوا من الصنف المحافظ والمسالم المهادن لسلكوا نفس منهاج الزهاد والعلماء في ذلك العصر، من الذين لا تزعج خطاباتهم السلطة، ولا تقترب من المعارضة، وهؤلاء كانو كثر، حتى إن السلاطين والحكام كانوا على علاقة معهم ويحبون بعضهم، لدرجة ان هارون كان يقول بحق أحدهم:
كلكم يمشي رويداً كلكم يطلب صيداً
وهؤلاء الزهاد كانوا يعظون الحكام حتى إنهم كانوا يبكونهم أحياناً من الموعظة، لكن هؤلاء الزهاد يحرصون على أن لا ينطقوا بأي كلمة فيها تلميح إلى مثل الجبار والطاغية والغاصب والشيطان وأشباه هذه المعاني، بينما نجد أن الأئمة كانوا يصرحون بكل هذا وينشرون هذه الحقائق بين الناس، فلم تكن هيبة وسطوة الحكام لتجبرهم على السكوت.. وهناك بحث آخر متعلق بتحدي الأئمة (ع) للسلاطين وقد أشرنا إلى بعضه كالذي جرى بين المنصور والإمام الصادق (ع) أو بين هارون والإمام الكاظم (ع).
بحث آخر أيضاً مهم جداً ويحتاج للمتابعة، وهو يتعلق بالموارد التي تدل على استراتيجية الإمامة، فأحياناً كانت كلمات الأئمة تطرح أموراً ليست بالبسيطة والعادية، بل تتعلق بهدف محدد ومشروع خاص كان هو نفسه استراتيجية الإمامة. ومن جملة هذه الموارد هو الحوار الذي دار بين الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) وهارون الرشيد حول ما يتعلق بمسألة "فدك"؛ ففي أحد الأيام قال هارون للإمام الكاظم (ع): "حُدّ فدكاً حتى أردّها إليك"، وكان هدفه من وراء هذا العمل أن يسلب تأثير هذا الرمز "فدك" الذي كان أهل البيت (ع) يطرحونه دائماً كدليل وشاهد على مظلوميتهم التاريخية، فبإرجاعه "لفدك" يسحب هذا السلاح من أيديهم. ولعله أيضاً يصبح مميزاً، بنظر الشيعة عن أولئك السلاطين الذين استمروا بغصب "فدك". والإمام في البداية امتنع عن تنفيذ هذا الطلب، ولكن بعد إصرار هارون قال له الإمام (ع):
"لا آخذها إلا بحدودها" فقبل هارون بذلك، فبدأ الإمام بذكر تلك الحدود قائلاً: "أما الحد الأول فعدن". فتغير وجه هارون، وقال" إيه"!!
تابع الإمام (ع): "والحد الثاني سمر قند"؛ أي الحدود الشرقية لأراضي حكومة هارون، فأربد وجهه.
فتابع الإمام (ع) وقال: "والحد الثالث إفريقيا" ويعني تونس، أي الحدود الغربية للبلاد.
يقول الراوي: فاسود وجه هارون وقال: "هيه"!!
عندها أنهى الإمام (ع) كلامه وقال: "والحد الرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينيا" أي الحدود الشمالية.
عندها قال هارون غاضباً مستهزئاً:
"فلم يبق لنا شيء، فتحول إلى المجلس"! (أي قم واستلم الخلافة).
فقال الإمام (ع): "قد أعلمتك أنني إن حددتها لن تردها". وكما جاء في نهاية هذه الرواية: "فعند ذلك عزم على قتله".
في هذا الحوار يظهر أهم مطلب للإمام موسى الكاظم (ع) والذي كان كافياً حتى يقرر هارون الرشيد قتله، وكذلك الأمر، فإن مطالب الأئمة (ع) واضحة في حياة الإمام الباقر والإمام الصادق والإمام الرضا بحيث إنها لو جمعت فسترسم استراتيجية الإمامة.
من المباحث المهمة أيضاً والتي تحتاج إلى التحليل والتحقيق في شرح سيرة الأئمة هي معرفة مدى اطلاع الأئمة على أهدافهم ومشروعهم ومطالبهم (ع)؛ طبعاً، فإن هؤلاء الأصحاب كانوا أقرب إليهم منا وكانوا أكثر اطلاعاً على مطالبهم وأهدافهم، لذا فإن معرفة وإدراك هؤلاء الأصحاب لحركة الإمامة أمر مهم، فنحن إذا نظرنا في الروايات، فهل نرى أنهم لم يكونوا منتظرين ومترقبين لقيام الأئمة بالثورة؟!
أنتم تعرفون قصة ذلك الرجل الذي أتى من خراسان للقاء الإمام الصادق (ع) وأخبره بأن هنالك الآلاف من الفرسان المقاتلين ينتظرون منك الإشارة حتى يثوروا، فأبدى الإمام شكّه وتعجبه، وبالتدريج صار الخراساني يقلل من العدد. وبعدما أكد الإمام له على نوعية هؤلاء الأفراد، قال الإمام (ع):
"لو كان لديَّ اثنا عشر (أو خمسة عشر) صاحب لخرجت"! (على اختلاف الروايات).
وكان هناك أشخاصاً يقومون بمراحعة الإمام (ع)، ويطلبون منه الخروج (بحسب الروايات). وبالطبع فإن بعضهم كان من جواسيس بني العباس، وهذا يعرف من خلال أجوبته (ع). فلماذا كانت تتم مراجعة الإمام؟!
هذا لأنهم يعرفون أن هذا الأمر (أي الثورة) هو هدف أساسي وثابت عند الأئمة (ع)؛ فمسألة الخروج والثورة لإقامة دولة الحق كانت مسألة أساسية في ثقافة الشيعة في ذلك الزمان، والأئمة كانوا ينتظرون الفرصة المناسبة للقيام بذلك. ولقد رأيت رواية لافتة في هذا المجال حيث يفهم منها مستوى إدراك وفهم الأصحاب المقربين مثل زرارة بن أعين، وهذه الرواية موجودة في رجال الكشي، وتذكر أن زرارة أتى يوماً إلى الإمام الصادق (ع) وقال: أصلحك الله، إن رجلاً من أصحابنا كان مختفياً من غُرّامه؛ فإن كان هذا الأمر قريباً صبر حتى يخرج مع القائم وإن كان فيه تأخير صالح غرّامه! فقال له أبو عبد الله (ع): يكون. فقال زرارة: يكون إلى سنة؟ فقال أبو عبد الله (ع): يكون إن شاء الله. فقال زرارة: فيكون إلى سنتين؟ فقال أبو عبد الله: يكون إن شاء الله. فخرج زرارة موطّناً نفسه على أن يكون على سنتين، فلم يكن.
وبالطبع فإن زرارة لم يكن بالشخص الساذج والبسيط من الأصحاب المقربين للإمامين الباقر والصادق (ع)، فكيف يصل إلى هذه النتيجة التي تأكد له معها اقتراب موعد تشكيل الحكومة العلوية؟!
وفي رواية أخرى ينقل هشام بن سالم أن زرارة قال له: "لا ترى على أعوادها غير جعفر"، أي أنك لن ترى على رأس الخلافة إلا جعفر بن محمد (ع)، وعندما يقول له هشام بعد استشهاد الإمام الصادق (ع): تذكر الحديث الذي حدثني به؟ ويذكره، ويقول هشام: كنت أخاف أن يجحدنيه! فقال زرارة إني والله ما كنت قلت ذلك إلا برأيي (منبهاً إياه بأنه لم يكن ينقل عن الإمام).
وهناك روايات كثيرة في هذا المجال حول الخروج أو طلب ذلك من قبل الأصحاب، نفهم منها وبوضوح أن هدف الأئمة كان تشكيل الحكومة العلوية والسعي لأجل تحقيق ذلك، وأن الأمر كان متوقعاً وقريباً، وهذا من المسلّمات في اعتقاد الشيعة وأصحاب الأئمة المقربين. وهذه دلالة أساسية وواضحة على هدف ومشروع الأئمة (ع).
يوجد بحث آخر يتعلق ببغض وعداء الحكام المتعاقبين للأئمة (ع) وخلفية هذا العداء؛ هل هو الحسد فقط على المقام المعنوي وعلى حب الناس للأئمة؟ أم أن هناك عامل آخر؟ طبعاً ومن دون شك كان الأئمة محسودين من قبل هؤلاء الحكام وغيرهم، ففي تفسير آية {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} ورد في الروايات "نحن المحسودون"، ولكن علينا أن ننظر على ماذا كان هذا الحسد؟! على علمهم وتقواهم؟!
فنحن نعرف أن العلماء والزهاد كانوا كُثراً في ذلك الزمان وكانوا معروفين بين الناس بهذه الصفات وكان لهم الكثير من المحبين والأصحاب من أمثال: وأبو حنيفة، أبو يوسف، والحسن البصري، وسفيان الثوري، ومحمد بن شهاب والعشرات من أمثالهم، ممن كان لهم أتباعاً ومريدين. وفي الوقت نفسه لم يحسدهم الحكام والسلاطين، ولم يبغضوهم، بل ـ وكما ذكرنا ـ إن الحكام كانوا يحبون بعضهم. إذن فخلفية عداء هؤلاء لأهل البيت (ع)، والتي انتهت إلى استشهادهم، هي شيء آخر بنظرنا، وهي ليست إلا مطالبة الأئمة بحقهم في الإمامة والخلافة/ وهذا ما لم يدّعه الآخرون. هذا بحث مطلوب.
ومن جملة الأبحاث المطلوبة أيضاً حول التحركات الثورية والمعارضة التي قادها أصحاب الأئمة ضد النظام الحاكم، ونستطيع أن نرى نماذج منها في كل المراحل التي عاشها الأئمة؛ ففي زمان الإمام السجاد (ع)، أي في ذروة الضغوط والقمع، نرى يحيى ابن أم الطويل وهو أحد حواري الإمام يأتي إلى المسجد مخاطباً الناس الذين رضخوا لرجال السلطة، قارئاً الآية التي خاطب بها النبي إبراهيم (ع) الكفار: {كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء...}.
وكذلك كان يخطب في الناس في كناسة الكوفة (اسم موضع في الكوفة) معترضاً على الأوضاع السياسية الحاكمة منادياً الناس بصوت عال…
وكذلك فعل معلى بن خنيس حينما خرج لأداء صلاة العيد بمظهر حزين وكئيب وعليه آثار التفجع؛ فصعد إلى المنبر مثل الخطيب وقال رافعاً يديه: "اللهم إن هذا مقام خلفائك وأصفيائك وموضع أمنائك.. ابتزوه" (يعني غصب الخلافة). وللأسف فإن هذا الصحابي الجليل الذي لعن الإمام الصادق قاتليه، وكان (ع) يثني عليه، يشكك البعض في وثاقته، وليس بعيداً أن يكون منشأ هذا الافتراء هو الأيادي الخبيثة لبني العباس.
والمسألة الأخرى التي لها بحث واسع وعميق، هي مسألة "التقية"؛ ولفهمها يلزم أن ننظر في كل الروايات التي تتحدث عن الكتمان والتستر، إضافة إلى التوجه لهدف الأئمة الذي سبق ذكره وهو إقامة الحكومة العلوية، والأخذ بعين الاعتبار بطش الحكام في مواجهة هذا المطلب. ومع هذه التحركات للأئمة (ع) وأصحابهم، وبالالتفات إلى كل هذه الأمور نفهم المعنى الحقيقي للتقية، بحث لا يبقى أي شك في أن التقية لا تعني التوقف عن العمل، بل هي إخفاء هذا العمل؛ ويتوضح هذا بمراجعة الروايات.
هذا قسم من المباحث المهمة المرتبطة بسيرة أهل البيت (ع)، وطبعاً فهنالك مباحث أخرى كثيرة تتعلق بالحياة السياسية لأولئك العظام. ولا يتسع الوقت حتى لذكر فهرس لهذه المواضيع. ولقد كان لي عمل دؤوب في كل هذه المباحث، ولكن مع الأسف، فلا يوجد عندي اليوم فرصة للاستمرار ولتجميع هذه الملاحظات التي قد قمت بتدوينها سابقاً، فيا ليت من يكون من أصحاب الهمم العالية كي يتابع هذا العمل. فيجمع مباحث الحياة السياسية لأئمة أهل البيت كي يقدمها للناس، حتى نستطيع أن نجعلها درساً وقدوة لنا، وليس فقط كذكرى خالدة. - كتاب الفن والأدب في التصور الإسلامي
- الإمامة والولاية في الإسلام
- المواعظ الحسنة
- حقوق الإنسان في الإسلام
حقوق الإنسان في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهرين المنتجبين وصحبه المهتدين..
إن مسألة حقوق الإنسان هي إحدى المسائل الأساسية المهمة، كما أنها من أكثر قضايا الإنسان حساسية، فقد اتخذت في العقود الأخيرة أبعاداً سياسية فضلاً عن أبعادها الأخلاقية والحقوقية. ومع أن تدخل الأهداف السياسية والتكتلات والمواقف السياسية قد وضع عقبات ومشاكل عديدة أمام الطرح الصحيح لهذه المسألة، إلا أن كل ذلك يجب أن لا يثني المفكرين والمهتمين بالأمر عن مواصلة دراسة حقوق الإنسان وحل مشكلاتها.
وفي الغرب هذه المسألة قد تم إحياؤها من قبل المفكرين، فهي ومنذ نحو مئتي عام تتصدر قائمة المسائل السياسية والإجتماعية للعالم الغربي، حتى أضحت مسألة مهمة نجد بصماتها على الكثير من الإنقلابات والتغييرات السياسية والإجتماعية.
وقد بلغ هذا الإهتمام الغربي ذروته خلال العقود الأخيرة، فكان صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتأسيس منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية مصداقاً عينياً للإهتمام بقضية حقوق الإنسان في العالم، ويمكننا اتخاذ هذا المصداق مقياساً نستند إليه في تحليلنا وحكمنا على ما سمعناه من شعارات وضجيج عن حقوق الإنسان خلال المئتي عام الأخيرة، وخاصة خلال العقود الأخيرة.
وطبيعي أننا نحن المسلمين نعلم جيداً أنه إذا كان الغرب قد أولى هذه المسألة اهتماماً كبيراً خلال العقود الماضية، فإن الإسلام كان قد اهتم بها وبأبعادها الواسعة والشاملة منذ قرون عديدة. فقد عالجها بشكل أساسي وجذري، وهذا ما نلاحظه في الكتب والآثار الإسلامية الموجودة والتي لسنا بحاجة الى تفصيلها الآن ما دمنا نتحدث الى جمع من المسلمين.
إن الآيات القرآنية والأحاديث الواردة عن الرسول الأكرم والأئمة (عليهم السلام) أكدت جميع حقوق الإنسان التي تنبّه إليها العالم واهتم بها خلال العهود الأخيرة، وهي تحظى دوماً باهتمام المسلمين والعلماء، وهم ليسوا بحاجة الى التذكير بها وتكرارها. وفي ختام حديثي، سأذكّر بأن على المجتمع الإسلامي اليوم مسؤولية تعريف العالم بهذه الحقيقة الإسلامية الوضّاءة لكي لا يدع هذه الأصالة الإسلامية تضيع وسط أعاصير الضجيج والأجواء السياسية المفتعلة على الصعيد العالمي.
هنا تطرح عدة أسئلة نفسها، وتشكل الإجابة عنها، هدفنا من هذا البحث. من المؤكد، أيها المفكرون والباحثون، أنكم ستقدمون خلال هذا المؤتمر بحوثاً عميقة ونافعة حول الجوانب والأبعاد المختلفة لحقوق الإنسان، وهذا بحد ذاته سيكون ذخراً للعالم الإسلامي يمكّنه من الإطلاع على الموضوع من منظار إسلامي.
السؤال الأول هو: هل كانت المحاولات التي جرت خلال القرنين الماضيين، وخاصة خلال نصف القرن الأخير، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن وتحت اسم حقوق الإنسان، موفقة أم لا؟ وهل استطاعت كل هذه التصريحات والإجتماعات والمؤتمرات من جانب هيئة الأمم المتحدة والإذاعات حول حقوق الإنسان أن توصل البشر الى حقوقهم الحقة؟ أو في الأقل هل استطاعت إعطاء الإنسان الجزء الأكبر من حقوقه؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست صعبة، فمجرد الإطلاع على حقائق عالمنا اليوم، يكفي لإثبات إخفاق كل ما بذل في هذا المجال لحد الآن، ونظرة عابرة لوضع المجتمعات المتخلفة التي تشكل النسبة الأكبر من سكان العالم ستثبت لنا أن أكثر البشر لم يحصلوا خلال نصف القرن الأخير على حقوقهم، وليس هذا فحسب بل إن أساليب سلب حقوق الإنسان والشعوب المحرومة قد تطورت وتعقدت وأصبح من الصعب علاجها. نحن لا يمكننا تقبّل ادعاءات منظمات حقوق الإنسان ولا ادعاءات هؤلاء الذين يدّعون مناصرة حقوق الإنسان، بينما نحن نشاهد الواقع المر لشعوب أفريقيا وآسيا، وجوع ملايين البشر، وحرمان العديد من الشعوب من أبسط حقوقها الإجتماعية. إن هؤلاء الذين رفعوا عقيرتهم خلال الأربعين عاماً الماضية دفاعاً عن حقوق الإنسان إنما هم أنفسهم قد سلبوا ولا زالوا يسلبون حقوق الشعوب المحرومة في العالم الثالث، واليوم نشاهد حكومات وأنظمة تسلّمت السلطة في العالم الثالث تستند الى تلك القوى نفسها وتنتهج طريقها نفسه في انتهاك حقوق الإنسان في بلدانها.
إن الحكام الجبابرة الذين كثر عددهم خلال نصف القرن الأخير في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، لا يستطيعون انتهاج الدكتاتورية دون الإعتماد على القوى الكبرى في العالم، والقوى الكبرى هي نفسها التي ترفع عقيرتها دوماً بشعارات الدفاع عن حقوق الإنسان، وهي التي أسست الأمم المتحدة التي لا زالت حتى اليوم خاضعة لسيطرتها.
إن تفشي الفقر والجوع والموت في العديد من دول العالم، إنما هو نتيجة التدخل والظلم والإغتصاب الذي تقوم به هذه القوى. فمَن الذي أوصل أفريقيا المليئة بالخيرات الى ما هي عليه اليوم؟ ومَن الذي استغل شعبي بنغلادش والهند لسنوات طوال وأوصلهما الى هذا الوضع بحيث يتفشى فيهما الجوع والموت بينما تملكان من الخيرات والبركات ما شاء الله؟
ومَن الذي ينهب ثروات دول العالم الثالث ويطوّر تكنولوجيته وصناعته ويجمع الأموال الطائلة على حساب الفقراء والجياع في هذه الدول؟
إن الذين أسسوا منظمة الأمم المتحدة، وأصدروا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذين يواصلون اليوم وبكل صلافة الإدعاء بالدفاع عن هذه الحقوق، هم أنفسهم سبب معاناة الشعوب وتعاستها، وإلا فلماذا تبقى أفريقيا الغنية بالثروات والموارد الطبيعية، وأميركا اللاتينية المليئة بالثروات الطبيعية، والهند الكبيرة الواسعة، ودول العالم الثالث التي تمتلك كل هذه الطاقات البشرية والثروات الطبيعية، لماذا تبقى كل هذه المناطق متخلفة عن مواكبة ركب التطور والتقدم؟
إن الذي يحكم العالم اليوم، هم أصحاب المال والقدرة الذين وضعوا بأنفسهم أسس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وها نحن نرى الوضع المأسوي الذي تعاني منه الشعوب وهي ترزح تحت نير تسلّط هذه القوى ونهبها لها.
منظمة الأمم المتحدة التي تعتبر ثمرة كل الجهود الرامية الى حفظ حقوق الإنسان، ما الذي عملته للشعوب، وماذا تفعل اليوم؟ وفي أية قضية سياسية أو كارثة كبرى أصابت الشعوب إستطاعت هذه المنظمة أن تلعب دوراً فعالاً وإيجابياً؟ ومتى نهضت هذه المنظمة لدعم المظلوم؟ ومتى استطاعت هذه المنظمة منع القوى الكبرى من مواصلة سياساتها الظالمة؟ إن هذه المنظمة أكثر تخلفاً من الكثير من الدول والشعوب. فعلى الرغم من كل هذه الإدعاءات، فإنكم تشاهدون في أفريقيا اليوم نظاماً عنصرياً، بل إنكم تشاهدون التمييز العنصري داخل الدول المتقدمة نفسها. إذاً فمنظمة الأمم المتحدة لم تفعل شيئاً من أجل حقوق الإنسان، إذ قُصر دورها في المشاكل العالمية على التوصيات والإرشادات فقط كما تفعل أية كنيسة.
وفي منظمة الأمم المتحدة، يوجد مجلس الأمن الدولي الذي يعتبر النواة المركزية للمنظمة ومركز القرار، وفيه تمتلك الدول الكبرى حق النقض (الفيتو) فتستطيع الدول الكبرى نقض أي قرار يتخذه المجلس ضد المتسببين في إضعاف الشعوب وإبقائها متخلفة. إن منظمة الأمم المتحدة وكل المنظمات التابعة لها، سواء أكانت ثقافية أم إقتصادية أم فنية أم غيرها.. خاضعة لتأثير القوى الكبرى. وقد شاهدتم الضغوط التي مارستها أميركا ضد منظمة اليونسكو الثقافية بسبب مجيء رجل مسلم الى رئاسة المنظمة يسعى الى إبقائها مستقلة؛ فقد شاهدتم خلال السنتين الماضيتين حجم الضغوط التي مارستها أميركا ضد هذه المنظمة ورئيسها.
إذاً فالأمم المتحدة، باعتبارها ثمرة كل الجهود التي بذلت من أجل حقوق الإنسان، تراها اليوم عقيمة لا فائدة منها، بل إنها تتصرف أحياناً وكأنها ملك للقوى الكبرى. ومع ذلك فإننا لا نرفض وجود الأمم المتحدة أساساً، بل نعتقد أنها يجب أن تبقى، ولكن يجب أن يجري إصلاحها، فنحن أيضاً عضو فيها. والذي أريد قوله هو إنه بعد كل تلك الجهود والضجيج والإدعاءات، وبعد كل تلك الآمال التي عُقدت على هذه المنظمة، نشاهد اليوم مدى عجز هذه المنظمة عن تأمين حقوق الإنسان، وهكذا فقط إتضحت الإجابة عن السؤال الأول، إذ يمكننا القول: إن الجهود التي بُذلت من أجل حقوق الإنسان خلال القرون الأخيرة قد باءت جميعها بالإخفاق.
السؤال الثاني هو: هل كانت كل هذه الجهود صادقة ومخلصة؟
من الواضح أن هذا سؤال تاريخي قد لا تكون له آثاره العملية، ولهذا فلن نطيل البحث والتفصيل فيه، ونكتفي بالقول إن أغلب هذه الجهود لم تكن مخلصة. صحيح أنه كان من بين المتصدين لهذا الأمر مفكرون وفلاسفة ومصلحون، إلا أن السياسيين كانوا يتحكمون بكل شيء حتى أن جهود بعض المصلحين أصبحت بالنتيجة تصب في مصلحة تجار السياسة. ففي الماضي، كان الذين يطلقون نداءات الدفاع عن حقوق الإنسان هم الأنبياء والحكماء وأمثالهم، أما اليوم فنشاهد هذه النداءات تصدر عن السياسيين، ولهذا فمن حقنا أن نشك في صدقها وإخلاصها. أنظروا مَن الذي ينادي بحقوق الإنسان اليوم، فالرئيس الأميركي السابق إتخذ من ضمان حقوق الإنسان شعاراً ليصل بواسطته الى الرئاسة، وفي أيام رئاسته الأولى كان يظهر من أحاديثه وتصريحاته أنه يريد العمل بجد بهذا الخصوص، إلا أنه وقف في النهاية الى جانب أظلم الحكام المعارضين لحقوق الإنسان وأقساهم وأشرسهم في المنطقة، فقد وقف الى جانب الشاه والصهاينة المتسلطين على فلسطين وسائر المستبدين المعروفين في هذا العصر.
إن الحكام ورجال السياسة الذين يرفعون عقيرتهم اليوم بالدفاع عن حقوق الإنسان في المؤتمرات والمحافل الدولية، ليسوا بأفضل ممن سبقوهم إذ أننا لا نشاهد الصدق والإخلاص في تحركاتهم. فالذين وضعوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى رأسهم أميركا، كانوا يسعَون الى فرض سلطتهم وهيمنتهم على العالم. إن هؤلاء هم أنفسهم الذين قتلوا عشرات الآلاف من البشر بالقنبلة الذرية، وهم أنفسهم الذين زجّوا بأبناء الهند والجزائر وأفريقيا في جيوش تخوض حروباً لا علاقة لها بهذه الدول من قريب ولا من بعيد. نعم إننا لا يمكن أن نصدّق أبداً أن روزفلت وتشرشل وستالين وأمثالهم قد فكروا يوماً بحقوق الإنسان الحقيقية، أو أنهم كانوا صادقين ومخلصين في تأسيسهم منظمة الأمم المتحدة وإصدارهم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إذاً، فقد اتضح الجواب عن السؤال الثاني، وهو أننا نعتقد أن تحركات السياسيين ومساعيهم وأغلب النداءات والصرخات الداعية الى إعطاء الإنسان حقوقه لم تكن صادقة أبداً.
أما السؤال الثالث، وهو السؤال الأساسي فهو: ما هي أسباب كل هذا العجز والإخفاق في هذه المساعي؟ إن هذه النقطة يجب أن تحظى بقدر أكبر من اهتمامكم، وسأتناولها أنا هنا باختصار. فنحن نعتقد أن ما يطرح اليوم باسم حقوق الإنسان إنما يطرح في إطار نظام معْوَجّ وخاطئ، ألا وهو نظام الهيمنة، نظام الظلم، وهو ما يؤمن به أولئك الذين أوجدوا الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذين يرفعون اليوم عقيرتهم ويملأون الدنيا شعارات دفاعاً عن هذه الحقوق، كما يؤمن به أيضاً - مع الأسف - أغلب الحكام والسياسيين في العالم، ويتلخص معنى هذا النظام في أن هناك مجموعة من الناس تهيمن على الباقين ويجب أن تبقى مهيمنة. هذا النظام تتبعه ثقافة الهيمنة. فالعالم اليوم مقسّم الى قطبين أو مجموعتين: مجموعة المهيمنين، ومجموعة الخاضعين لهذه الهيمنة، فالمجموعة الأولى تعتقد بأن نظام الهيمنة يجب أن يسود، والثانية رضيت بهذا النظام وخضعت للهيمنة. وهذا هو الخلل الكبير في الوضع العالمي اليوم. فالذين يرفضون هذا النظام والذين يتمردون على الوضع الإجتماعي والسياسي السائد في العالم، هم أولئك الثوار التحرريون أو دول قليلة جداً، وهؤلاء يتعرضون لضغوط مستمرة، والجمهورية الإسلامية خير مثال على ذلك، فقد رفضت نظام الهيمنة بكل أشكاله، ورفضت هيمنة أية جهة أو دولة أو مجموعة، سواء أكانت شرقية أم غربية. وقد شاهد الجميع ما واجهته الثورة الإسلامية خلال سنيّ عمرها الثماني من ضغوط سياسية وعسكرية واقتصادية وإعلامية بسبب اتخاذها الموقف الصادق والجاد والمستقل من نظام الهيمنة.
فإن كانت هناك بعض التقدمية تقف بوجه الهيمنة الغربية والأميركية، فسنلاحظ أنها تميل الى المعسكر الشرقي بنسب متفاوتة، فبعضها يرتمي بشكل كامل في أحضان المعسكر الشرقي وروسيا، وبعضها الآخر يميل الى هذا المعسكر مع وضوح الإستقلالية في الكثير من مواقفه وسياساته.
إن الدولة الوحيدة التي رفضت الرضوخ لضغوط أية قوة، هي الجمهورية الإسلامية بشعبها وكل قواها، فقد رفضت نظام الهيمنة جملة وتفصيلاً. فنحن نعلن موقفنا الصريح والواضح وبدون أي تحفظ من أية حالة هيمنة تمارسها قوة أو فئة ضد شعب من شعوب العالم.
إن أكثر العالم رضي بنظام الهيمنة، فأنتم تلاحظون أنه حتى الحكومات الخاضعة للهيمنة، تملك الجرأة على الوقوف بوجه القوى الكبرى ومواجهتها، بينما نحن نعتقد أن هذا الأمر ممكن ويسير.
نحن نعتقد أن الدول الفقيرة، والدول التي رضخت للهيمنة والدول التي أُجبرت على الرضوخ للهيمنة رغم امتلاكها القدرات والثروات، بإمكانها الوقوف بوجه القوى الكبرى إن أرادت ذلك، وهذا الأمر يسير لا يحتاج الى معجزة، إذ يكفي حكومات هذه الدول أن تعتمد على شعوبها.
إن ضعف نفوس وإرادة بعض الحكام، وخيانة بعضهم الآخر أدّيا الى خضوع هؤلاء لنظام الهيمنة، فهذا النظام هو الذي يسيّر الإقتصاد والثقافة والعلاقات والحقوق الدولية، وطبيعي أن تكون مسألة حقوق الإنسان قد انطلقت من هذه النظرة، ووجدت وتنامت في إطار هذا النظام. فالذين ينادون بحقوق الإنسان في الغرب ويسعَون الى إعطاء مواطنيهم بعض الحرية الشكلية والإمكانات الرفاهية، يقومون هم أنفسهم بقتل آلاف البشر من الدول الأخرى، فما الذي يعنيه ذلك غير سيطرة ثفافة الهيمنة على عقول هؤلاء؟ إنهم يقسمون الإنسان في العالم الى نوعين: الأول/ إنسان يجب الدفاع عن حقوقه، والثاني/ إنسان بلا حقوق، يجوز قتله واستعباده واغتصاب ثرواته. هذه هي ثقافة الهيمنة المسيطرة على العالم، وحقوق الإنسان المطروحة اليوم، إنما هي وليدة هذه الثقافة.
هذا هو إطار حقوق الإنسان في عالمنا اليوم، والذي تعمل القوى الكبرى بواسطته على تعميق الهوة بينها وبين الدول الضعيفة، وتزيد من ضغوطها عليها، لتسرع هي في تطورها وتقدمها العلمي والتكنولوجي.
إن الأقمار الصناعية تدور اليوم حول الأرض لتجمع الأسرار والمعلومات الخاصة بالدول والشعوب، فبأي حق يتم كل هذا؟ إن جميع المحادثات واللقاءات بين الناس على سطح هذه الأرض تخضع للإنصات من قبل أولئك الذين يملكون التفوق التكنولوجي ولتجسسهم، فبأي حق يتم هذا؟ هل سأل أحد عن ذلك؟ هل مَن يعترض على ذلك؟ بما أن أميركا تملك أقماراً صناعية إذاً فمن حقها استخدام هذه المعلومات المستحصلة، والجميع يرضخ لذلك! ترى أليس التجسس على أحاديث الآخرين وأسرارهم اعتداءاً على حقوقهم؟ وهل قام أحد بطرح هذا السؤال على أميركا وروسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا؟ ونحن نسأل: هل يمكن طرح مثل هذا السؤال؟ ويأتي الجواب بالنفي، لأن الجميع سيقولون إن هذه الدول تملك القوة والقدرة ويجب أن تقوم بذلك.
إن مسألة القنبلة النووية واستخدام السلاح النووي تُطرح اليوم على الصعيد العالمي، تطرحها الدول الكبرى نفسها لأن كلاً منها تخاف الأخرى، فتقوم بافتعال الضجيج واللجوء الى كل وسيلة لخداع الأخرى ودفعها الى التقليل من تسليحاتها النووية، بينما تقوم هي بزيادة تسليحها. ترى هل فكرت الدول الصغيرة بأن تعلن للدول المنتجة للأسلحة النووية بأنها ستقطع علاقاتها معها وستقطع عنها مواردها وتسهيلاتها وإمكاناتها ما دامت تواصل إنتاج هذا السلاح الذي يحمل خطراً كبيراً يهدد البشرية بالفناء في أية لحظة؟ هل فكرت دول عدم الإنحياز وسائر الدول بأن تشكل محوراً معارضاً لإنتاج الأسلحة النووية؟ بالطبع لا. ولو أنكم عرضتم عليهم هذه الفكرة لقالوا إن هذه الدول تملك تكنولوجيا متطورة وباستطاعتها إنتاج هذه الأسلحة. إن هؤلاء قد استسلموا واقتنعوا بنظام الهيمنة الذي بات مقبولاً من كلا الجانبين: المهيمنين والخاضعين للهيمنة في وقت واحد.
نحن نشاهد في المحافل الدولية أن ممثلي الدول تدهشهم إدانتنا للشرق والغرب ويعتبرون ذلك تهوراً من جانبنا بينما هو موقف طبيعي من شعب مستقل، وعلى الشعوب جميعاً سلوك نفس هذا النهج، كما أن على الحكومات أيضاً أن تتخذ هذا الموقف الذي تتركه وللأسف.
نخلص الى القول بأن ثقافة الهيمنة، تعتبر اليوم أكبر آفة وخطر يهدد العالم كله، خاصة الشعوب المستضعفة.
إن القوى الكبرى، وفقاً لثقافة الهيمنة تسمح لنفسها بنقض حقوق الإنسان حيثما شاءت، فهي تهاجم غرينادا وتساند الصهاينة الذي يقتلون الأبرياء في لبنان، وتساند - مع بعض الدول الأوروبية - النظام العنصري في جنوب أفريقيا في ظلمه واضطهاده لأصحاب البلد الأصليين، أما لو نهض شخص في إحدى بقاع العالم وتمـرّد على هذا الوضع غير المتوازن، فقام بتفجير قنبلة أو عملية ثورية، او قاد حركة ضد هذه المعادلة غير المتوازنة، لتعرَّض للإدانة، ولأُلصقت به صفة الإرهاب، بينما الإغارة على ليبيا وقصف منزل رئيس دولة والإعتداء على أراضي دولة أخرى لا تتعرض لأية إدانة.
عندما يتحدث هؤلاء عن الإرهاب يطرحون عمليات أفراد مظلومين نهضوا غاضبين، من فلسطين ولبنان ودول أفريقيا وأميركا اللاتينية، ويبعدون الأذهان عن الإعتداءات والإنتهاكات والإرهاب الذي تمارسه أميركا وبريطانيا وسائر القوى الكبرى. إن هذه هي ثقافة الهيمنة التي تسيطر، مع الأسف، على أذهان البشر.
في ثقافة الهيمنة، تعطي المصطلحات معاني تتلاءم مع نظام الهيمنة، فمثلاً يطرح معنى الإرهاب بشكل بحيث لا تعتبر الإغارة على ليبيا وتهديد نيكاراغوا والهجوم على غرينادا، مصاديق له، هذا هو الخطأ الكبير في عالمنا اليوم.
إذاً، فسبب عدم نجاح كل المحاولات والمساعي المبذولة باسم حقوق الإنسان من قبل المخلصين الصادقين والحريصين على هذه الحقوق، يكمن في أنهم يطرحون هذه الحقوق في إطار نظام الهيمنة وثقافتها، وفي هذا الإطار يريدون وضع حقوق الإنسان، وهذا أمر مستحيل. إذ يجب تحطيم هذا الإطار، أولاً تجب إدانة نظام الهيمنة ورفضه جملة وتفصيلاً حتى يمكن فهم مسألة حقوق الإنسان، والسعي من أجل ضمانها بالشكل الصحيح.
وهنا نصل الى السؤال الرابع والأخير وهو: ما العلاج؟
برأينا يكمن العلاج في جملة واحدة هي: العودة الى الإسلام والوحي الإلهي. إنها الوصفة الطبية النافعة للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء. إن على المجتمعات الإسلامية أن لا تفكر بغير هذا، عليها أن تحيي القرآن والفكر الإسلامي وتستنبط القوانين والأحكام من المصادر الإسلامية (القرآن والسنّة) فذلك كفيل بتحديد معالم حقوق الإنسان ومصاديقها، ومساعدتنا في ضمان هذه الحقوق. ولأجل إعطاء الإنسان حقوقه علينا ترك التوصيات والنصائح، فهي عديمة الفائدة، {خذوا ما آتيناكم بقوة} فلقد أعطى الله هذه الحقوق للإنسان وعليه أخذها بكل قوة. على الشعوب أن تعتمد على الفكر الإسلامي في مواجهة الهيمنة والضغوط، وهذا الكلام لا يصدر من إنسان يجلس في زاوية المدرسة يفكر بالمسائل والنظريات الإسلامية، بل إنه صادر عن ثورة خاضت تجربة ناجحة ولمست حقائق عديدة، فثورتنا تجربة تقدم نفسها لكل الشعوب. أنا لا أقول إننا استطعنا حل كل مشاكلنا، فبسبب الثورة واتجاهنا نحو الإسلام اختلقوا لنا مشاكل عديدة، إلا أننا استطعنا إنهاء مشكلة الهيمنة، وشعبنا اليوم مستقل عن جميع القوى، ويمكنه اتخاذ أي قرار يريده بكل حرية واستقلالية. وطبيعي أن أمام شعب يريد التحرر من كل أنواع التبعية طريقاً طويلاً وشاقاً، لكن التبعية التي لا تقترن بالهيمنة هي أمر طبيعي يمكن تحمله، وواضح أن ثورتنا وجمهوريتنا الإسلامية قد ورثتا مجتمعاً مدمراً واقتصاداً منهاراً وثقافة منحطة، لقد ورثت ثورتنا. إيران كانت خلال الستين عاماً الأخيرة معرضة للغزو من كل صوب وعلى الأصعدة كافة، ولا يتوقع أحد أن الثورة ستستطيع التعويض عما فات إيران على الصعيد الثقافي والأخلاقي والإقتصادي والعلمي والصناعي في فترة وجيزة، ونحن أيضاً لا ندّعي ذلك.
إننا نعتقد أنه إذا استطاع شعبنا الوصول الى مستوى مادي عالٍ، فيجب أن يتم ذلك في ظل الإستقلال والإعتماد على النفس واستخدام جميع إمكاناته المادية والبشرية.
إن الذي يمكن أن ندّعيه بكل ثقة، هو أن الجمهورية الإسلامية لم تعد تخضع لأية هيمنة أو ضغوط سياسية من جانب أية قوة، وليس بإمكان الضغوط السياسية التي تمارس ضدها تغيير نهجها وخطها، ولا التعديل من مواقفها أو إجبارها على الإتجاه نحو إحدى القوى الكبرى، إننا حررنا أنفسنا من سلطة القوى الكبرى وهيمنتها، وهذا بحد ذاته تجربة غنية.
نحن نعتقد أن أفضل النماذج لحقوق الإنسان في الإسلام هو حق الحياة، وحق الحرية، وحق التمتع بالعدالة، وحق التمتع بالرفاهية، وسائر الحقوق الأساسية التي أعطاها الإسلام للإنسان قبل أن ينتبه لها المفكرون الغربيون.
إن علينا أن نعود الى الإسلام، وعلى المفكرين الإسلاميين الإضطلاع بمسؤولية البحث والدراسة في مجال حقوق الإنسان خاصة، والنظام الحقوقي بشكل عام، وهذا ما أخذه هذا المؤتمر على عاتقه والذي سيكون خطوة على هذا الطريق، وستستمر هذه الجهود إن شاء الله على مستوى عالٍ لتتمكن الشعوب من التمتع بهذه الحقوق، وطبيعي أن بإمكان الحكومات مساعدة شعوبها في هذا الأمر بشرط أن لا تراعي رغبات القوى الكبرى، وهذا ما لا نشاهده الآن بكل أسف، فأغلب الأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية تقع تحت تأثير القوى الكبرى، وأغلبها تحت تأثير الغرب وأميركا، ولهذا فإن جميع مواقفها وقوانينها لا تتماشى مع الموازين والأحكام الإسلامية وإرادة شعوبها، وهذا المؤتمر الذي عقد في الكويت مثال بارز على ذلك، فقد رأيتم كيف أنه لم يبحث القضايا الأساسية والمصيرية للمسلمين، بل ذهب الى طرح قضية وإصدار البيان الختامي بشأنها وهي لا تتفق والإسلام، فبدلاً من أن يدينوا العراق ويطردوه من المؤتمر بسبب اعتدائه على إيران ووقوفه بوجه بلد مسلم، وبدلاً من كشف دور القوى الكبرى في تأجيج هذه الحرب، فإنهم أبدَوا رضاهم عن العراق باعتباره - حسب قولهم - يلبي نداء السلام؛ متجاهلين بذلك واقع هذه القضية وحقيقتها، ومتناسين أن دفاع شعب عن حقوقه أحق أن يُشاد به، وامتثال نظام معين لرغبات الإستكبار العالمي في الوقوف بوجه ثورة شعبية إسلامية أحق أن يدان.
إن هذه البيانات والقرارات ووجهات النظر خاوية لا تستند الى المبادئ والقيم الإسلامية، كما أنها تفقد أية أهمية، فليس هناك شعب ينتظر ما ستتخذه قمة الكويت من قرارات لكي يفرح أو يحزن لها، أي أن هذه المؤتمرات وهذه القرارات بعيدة عن الواقع والأصالة الإسلامية وطموحات الشعوب لدرجة أنها تواجه بعدم اكتراث من قبل الشعوب، فليس هناك من شعب متعطش لما سيصدر عن القمة الإسلامية، ليحدد واجبه على غرارها. لماذا يصل تجمع يضم ستاً وأربعين دولة، على مستوى القمة، الى هذه الدرجة من الخواء والضعف؟ إن السبب يكمن في أن أغلب هؤلاء الرؤساء يقعون تحت تأثير القوى الكبرى، وما دام رعب هيمنة هذه القوى يسيطر على قلوبهم فلن تصلح حال المسلمين، ولو أردنا إصلاح هذه الحال التي نمر بها اليوم، لكان علينا أولاً طرد ما في القلوب من رعب من القوى الكبرى، وكما قال الباري عز وجل {فلا تخشَوا الناس واخشونِ}، وإذا ما حدث ذلك فسينصلح حال الشعوب الإسلامية.
هنا أصل الى نهاية حديثي، وآمل أن يتمكن هذا المؤتمر من قطع خطوات مؤثرة في طريق معرفة الحقائق الإسلامية في مجال حقوق الإنسان، كما آمل أن يؤدي التقاء الإخوة المؤتمرين الى توضيح تجارب الثورة الإسلامية للإخوة غير الإيرانيين ليتسنى لهم دراستها والإستفادة منها ولشعوبها، الإطلاع على ثورة إخوانهم في إيران باعتبارها قدوة ونهجاً يمكن اتباعه.والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
- قيادة الإمام الصادق (عليه السلام)
- قصة المحاضرة
قصة المحاضرة
لهذه المحاضرة قصة..
والقصة تبين مشهداً من مشاهد الساحة الايرانية قبل انتصار الثورة الإسلامية بكل ما كان فيها من نشاط إسلامي، ومن تحديات وعقبات.
في شهر شوال سنة 1353 هجرية شمسية (1394هــ.ق) دقّ جرس الهاتف في منزل الأستاذ المحاضر بمدينة مشهد. كان على الخط الأستاذ الشهيد الدكتور محمد مفتح من طهران. بعد تبادل التحايا طلب الشيخ مفتح من صاحب المحاضرة أن يقدم الى طهران في يوم 25 شوال (يوم وفاة الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام» ليلقي محاضرة عن الإمام الصادق.
كانت ظروف صاحب المحاضرة صعبة آنذاك، بسبب زحمة الأعمال والدروس وكثرة المراجعات من جميع أرجاء ايران. كان يلقي المحاضرات في مسجد (الإمام الحسن) ثم في مسجد (الكرامة) في مشهد الواقعة شرق ايران، وينتقل منها الى غرب ايران ليحاضر في همدان وكرمانشاه. وفي مشهد يدرس التفسير ونهج البلاغة والحديث.. اضافة الى دروس تخصصية في الفقه وأصول الفقه.
كل هذا كان يقوم به في ظروف ضاغطة جداً.. ظروف مالية صعبة، وظروف سياسية قاسية.. لقد كان يعيش في فقر مدقع دون أن يعلم بذلك أحد، ودون أن يشكو لأحد. والسلطة كانت تحصي عليه أنفاسه وتتابعه وتراقبه بشدة. اغلقت (مسجد الكرامة) في هذا العام بالذات، واكتفى بمسجده الصغير (مسجد الإمام الحسن) يواصل فيه نشاطه.. ثم اعتقلته في شتاء ذلك العام. وبذلك دخل سجنه الخامس في قصة يطول ذكرها.
في مثل هذه الظروف جاء طلب الشيخ مفتح لإلقاء محاضرة عن الإمام الصادق (عليه السلام)، في طهران بمسجد (جاويد) حيث كان الشيخ مفتح يؤم الناس فيه.
اعتذر صاحب المحاضرة عن الحضور للأسباب المذكورة، ولعلمه بوجود أساتذة يملأون الفراغ في طهران من مثل الشيخ مفتح نفسه، ولكن الشيخ اصرّ.. وأصرّ.. وما كان من المحاضر إلاّ الامتثال.
بعد أيام دقّ جرس الهاتف ثانية، وكان الشيخ مفتح على الخط من طهران وقال:
إن الشرطة منعت المحاضرة!
تنفس الأستاذ المحاضر الصعداء، وأحس بالراحة وحمد الله على ذلك.
ولكن الأستاذ مفتح ما لبث أن اتصل ثالثة وقال:
لقد رُفع المنع والحمد لله، ولابد ان تحضر في الوقت المقرر. حاول السيد المحاضر أن يعتذر ولكن الشيخ قال له: لقد أعلنا نبأ المحاضرة في الجامعات. حاول المحاضر أن يتعلل بصعوبة الحصول على تذكرة الطائرة. لكن الشيخ أبدى استعداده لتوفيرها.. لابد من السفر إذن!
في يوم القاء المحاضرة نفسه غادر مشهد، وقبل ساعات من بدئها وصل طهران واتجه مباشرة الى المسجد.
فرح الشيخ كثيراً حينما رآه، وكان هو وما يقرب من مائتي شاب مستعدين للصلاة. وفي اثناء الصلاة التحق عدد آخر من الشباب فأصبحوا بضع مئات. وبعد دقائق تدفقت أفواج الطلبة فجأة على المسجد، بعد انتهاء الدروس في الجامعة.
غصّ المسجد وفناؤه والزقاق المجاور له بالناس.. بدأ السيد الأستاذ يلقي محاضرته وبيده أربعون ورقة كتب فيها مذكرات ترتبط بالمحاضرة. واستمر يتحدث ويتحدث والجالسون منشدّون اليه، وكأن على رؤوسهم الطير. واستمرت المحاضرة 3 ساعات، وخلالها تناول بالبحث بضعاً من الورقات الأربعين التي أعدها مذكرات لمحاضرته. واختتم المحاضرة رافعاً الأوراق الأربعين الى الحاضرين مشيراً الى انه بيّن قليلاً من كثير مما أعدّه.
ولم يمض طويلاً على هذه الحادثة اذ اعتقل الشيخ مفتح ومنع من الصلاة في مسجد (جاويد) فانتقل بعد الافراج عنه الى الصلاة في مسجد (قبا).
وهنا لابد من التنويه الى أمر هام وهو: إن السيد الأستاذ حفظه الله ألقى هذه المحاضرة قبل عشرين عاماً، وبعدها كانت له مطالعات ودراسات واسعة في حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وربما عنّت له نظرات جديدة، او تغير رأيه في مسألة معينة من المسائل المطروحة في المحاضرة. وكم كنّا نودّ ان نرى رأيه فيها لنحصل على آخر نظراته قبل أن نقدم على نقلها الى اللغة العربية. ولكن عظم المسؤوليات وزحمة الأعمال وتراكمها حال دون ذلك، لذلك نقدمها الى القارئ الكريم كما هي، ففيها من الجديد الشيء الكثير، وفيها من تراثيات الفكر الإسلامي المطروح في ايران قبل انتصار الإسلام ما يهم كل متتبع.
ويلاحظ في المحاضرة أن السيد الأستاذ يواجه تيارين طالما واجههما في محاضراته ودروسه وهما: التيار اليساري المتحامل على الإسلام وعلى رموز الإسلام، والذي يصف رجال الإسلام بأنهم لم يتصدوا للدفاع عن المحرومين والمظلمين بل كانوا سنداً للظالمين والمترفين، والتيار المهزوم المتقاعد الذي يحاول أن يجد في حياة أئمة الإسلام ما يبرر قعوده وسكونه. وهذان التياران كان لهما ثقلهما في الساحة الايرانية قبل تنامي الثورة الإسلامية، وكانا يشكلان عقبة أمام العاملين نحو دفع المجتمع على المسيرة الإسلامية.بسم الله الرحمن الرحيم
{من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاّ}
{وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين} - نظرتان خاطئتان
نظرتان خاطئتان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن اهتدى بهداه.
ثمة نظرتان خاطئتان بشأن الإمام الصادق (عليه السلام)، ناشئتان عن لونين من التفكير؛ ومن الغريب أنهما على اختلافهما تتقاربان في الشكل والمحتوى والمنشأ، بل يمكن القول إن النظرتين تشتركان في بعض المحاور اشتراكاً تاماً:
النظرة الأولى: نظرة مدافعة يبديها أولئك الذين يخالون أنهم من أتباع الإمام ومواليه.. إنها نظرة شيعة الإمام الصادق (عليه السلام) بالقول، لا بالعمل، وتتلخص بما يلي:
إن الإمام الصادق (عليه السلام) توفرت له ظروف لم تتوفر لإمام من قبله ولا من بعده، استطاع أن يستغلها لنشر أحكام الدين، وأن يفتح أبواب مجلسه لطلاب العلم. جلس في بيته، وفتح صدره للمراجعين، وتصدى للتدريس ونشر المعارف، وارتوى كل من قصده من طلاب العلم وناشدي الحقيقة. اشترك في مجلس درسه أربعة آلاف تلميذ، وعن طريق هؤلاء التلاميذ انتشرت علوم الإمام الصادق، منها العلوم الدينية: كالفقه والحديث والتفسير، ومنها العلوم الانسانية: كالتاريخ والأخلاق وعلم الاجتماع.
وتصدى الإمام لمناقشة المنتمين الى الأفكار الدخيلة، والردّ على الزنادقة والماديين والملحدين، مباشرة او عن طريق تلاميذه، وقارع أصحاب النحل المنحرفة بقوة. ولكل مجال من مجالات الدين، ربّى كوكبة من الطلبة والمتخصصين.
ويقول أصحاب هذه النظرة أيضاً: إن الإمام ــ وحرصاً على استمرار هذا المشروع العلمي ــ اضطر الى عدم التدخل في السياسة، فلم يّقدم على أي عمل سياسي، بل وأكثر من ذلك فإنه سلك طريقاً يتماشى مع سياسة خلفاء زمانه لاسترضائهم، ولاستبعاد أية شبهة يمكن أن تحوم حول نشاطه. لذلك لم يجابههم، ومنع ايضاً أن يجابههم أحد. وقد تستلزم الظروف أن يذهب اليهم وينال جائزتهم وحظوتهم، وإن حدث أن أساء الحاكم به الظن ــ نتيجة حدوث حركة ثورية أو تهمة لفّقها نمّام ــ يتجه الإمام (عليه السلام) الى استمالة الحاكم ومجاملته.
ويورد أصحاب هذه النظرة شواهد تاريخية، من ذلك رواية ربيع الحاجب وأمثالها، التي تصور الإمام في مجلس المنصور وهو يبدي الاعتراف بالتقصير واعلان الندم، وتنقل عن الإمام عبارات مدح وثناء يبديها تجاه الخليفة المنصور، مما لا يشك الانسان في كذب صدورها عن الإمام الصادق (عليه السلام) تجاه طاغية كالمنصور. هذه العبارات تصور المنصور بأنه كيوسف وسليمان وأيوب، وتطلب منه أن يصبر على ما يرى من إساءات الإمام او إساءات بني الحسن: (إن سليمان أعطى فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، وأنت من ذلك السنخ..).
هذه نظرة تصور الإمام عالما، باحثاً، وأستاذاً كبيراً انتهل من بحر علمه أبو حنيفة ومالك و... لكنه كان بعيداً كل البعد عن كل مقاومة لعدوان السلطة على الدين، وعن كل ما تتطلبه مهمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام السلطان الجائر.. كان بعيداً كل البعد عن الثوار من أمثال: زيد بن علي ومحمد بن عبد الله والحسين بن علي شهيد الفخ، بل عن الجنود المقاتلين من هؤلاء الثوار، ولم يكن يبدي أي رد فعل تجاه ما يحل بالمجتمع الإسلامي، ولا يكترث بما كان يكتنزه المنصور من أموال طائلة، ولا بما كان يعاني منه أبناء رسول الله في جبال طبرستان ومازندران وفي رساتيق العراق وايران من جوع، بحيث لا يجدون ما يسد رمقهم، ولا ما يسترهم اذا أرادوا الصلاة جماعة. ولا يهتم بما كان يتعارض له أتباعه من قتل وتعذيب وتشريد وهم صفر اليدين من كل متاع يتنعم به الأفراد العاديون من أبناء المجتمع آنذاك!!
في ظن أصحاب هذه النظرة أن الإمام الصادق لم يبدِ أية حساسية تجاه هذا الوضع، بل كان قانعاً بأن يأتيه من مثل ابن أبي العوجاء، فيقارعه بالحجج والبراهين ويغلبه، ويخرج من بيته مهزوماً.. دون أن يؤمن طبعاً.
هذه هي صورة الإمام الصادق كما يرسمها أصحاب النظرة الأولى.
النظرة الثانية: يحملها أولئك الذين لا يعترفون بإمامة الصادق، وهي نظرة متحاملة على الإمام ترى أنه (عليه السلام) وقف تجاه ما كان يحيق بالمجتمع من ظلم موقف عدم الاكتراث. فالمجتمع في زمانه كان يضج بالمظالم الطبقية والطغيان السياسي والسيطرة المقيتة على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم، واكثر من ذلك على عقولهم ونفوسهم وتفكيرهم ومشاعرهم. حتى لم تعد الأمة تتمتع بأبسط الحقوق الانسانية، بما في ذلك القدرة على الانتخاب. مقابل هذا كان الطواغيت يتلاعبون بمقدرات الناس كيف ما شاءوا، ويبنون القصور الفارهة، مثل قصر الحمراء جوار آلاف الخرائب التي تعيش فيها البؤساء من عامة الشعب.. في مثل هذا المجتمع المليء بألوان التعسف والاضطهاد يتجه الصادق الى البحث والدراسة وتربية الطلبة، ويصبّ اهتمامه على تخريج الفقهاء والمتكلمين..!!.
إن كلا النظرتين مجحفتان، لا تقومان على أساس ولا تستندان الى دليل واقعي. غير أن النظرة الأولى أشد اجحافاً واكثر ظلماً للإمام الصادق (عليه السلام) لأنها صادرة عن لسان من يدعي أنه من شيعته وأتباعه.
لا أريد أن أنهج هنا اسلوب البحث العلمي المتداول في الدراسات بعرض جميع النصوص الواردة عن حياة الإمام الصادق (عليه السلام) وأقارن بينها من حيث المتن والسند لأخرج بنتيجة، فذلك له مجاله في مجالس البحث العلمي.
أريد أن أطرح هنا نظرة ثالثة مقابل تينِك النظرتين.. وأقرن هذه النظرة بأدلة مستقاة من مصادر موجودة بين أيديكم، لكي تستطيعوا ــ مثل حَكَم محايد ــ أن تتطلعوا من خلالها الى الوجه الحقيقي للإمام (عليه السلام).
وقبل أن أدخل في صميم البحث يلزمني أن أشير الى أن كلا النظرتين لا يقومان على أساس صحيح موثوق به.
فكما ذكرت أن النظرة الأولى تستند الى عدد من الروايات (أوضحت وضع اسنادها في الهامش). وهذه الروايات تنسجم طبعاً مع طالبي الراحة ومحبّي العافية، فيتذرعون بها باعتبارها حجة قاطعة. إنها كافية لأن تكون مبرّراً للانتهازيين من ذوي النفوس الضعيفة المهزوزة.
فهذه الروايات تصور الإمام بأنه راح يتملق المنصور لحفظ حياته، مع أنه كان قادراً أن يحتوي الموقف باسلوب حكيم. واذا كان ذلك شأن القدوة فما بالك بالمقتدي؟
نعتقد أن نص هذه الروايات كافٍ لإثبات زيفها. فالإمام كان قادراً على دفع شر المنصور عنه بطرق أخرى كما حدث في مواقف عديدة تنقلها روايات موثوقة، فلا دليل إذن على أن يعمد الإمام الى هذا الملق الزائف والثناء الكاذب ليضفي على المنصور خصالاً ليست فيه ومكانة لا يستحقها. فمكانة الإمامة أرفع من ذلك بكثير دون شك، وأسمى من أن تتلوث بمثل هذه المواقف المنحطة.
ومن حيث السند، فإن تحري الدقة في الرواة يكشف لنا عن أشياء كثيرة. ففي عدد من هذه الروايات نرى الاسناد ينتهي بالربيع الحاجب. الربيع حاجب المنصور! وما أعدله من راو؟! ويظهر من المصادر أن الربيع كان أقرب الناس الى المنصور، واكثرهم زلفة لديه. استوزره المنصور سنة 153هــ (5 سنوات بعد وفاة الإمام الصادق)، أي نال رفعة في المقام.. (ولعله نال هذا الترفيع ثمناً لما نسبه للصادق (عليه السلام) من أكاذيب).
مثل هذا الشخص الذي ثبت إخلاصه ووفاؤه لجهاز الخلافة لا يستبعد منه أن يختلق الأكاذيب، فينسب كلام الملق الى الإمام الصادق او يغيّر كلاماً حاداً قاله الإمام الى كلام تضرع والتماس. هذا ليس بغريب على هذا الحاجب، لكن الغريب أن يصدق عاقل قول أحد بطانة الخليفة بشأن عدو الخليفة، ومقولة تشيع هذا المفتري، وهي مقولة تشكل جزءً من المؤامرة الخبيثة.
والنظرة الثانية ايضاً واهية بالدرجة نفسها وغير علمية. إنها تشبه أحكام المستشرقين المنطلقة عن غرض او جهل، ومن روح مادية محضة لا تنسجم اطلاقاً مع طبيعة الأحداث الإسلامية. ولقد شاهدنا تلك الأحكام الفجة التافهة التي تصدر عن بعض المستشرقين تجاه الإسلام وأئمة أهل البيت (عليهم السلام). كقول أحدهم عن الإمام الحسن المجتبى أنه باع الخلافة بالمال! وقضى عمره بين العطر والمرأة والترف! وقول مستشرق آخر: إن الإسلام نقل الإسلام من مرحلة الرقّية الى مرحلة الاقطاع!!
والنظرة الثانية التي نتحدث عنها تشترك مع أقوال هؤلاء المستشرقين في السطحية والتسرع والمنطلق المادي.
والطريف أن الوثائق التي يعتمد عليها أصحاب النظرة الثانية ليست سوى ما يلفّقه أصحاب النظرة الأولى من أحكام!! - النظرة الصحيحة
النظرة الصحيحة
النظرة الثالثة: والآن نبدأ بالنظرة الثالثة بشأن الإمام الصادق، وهي نظرة يمكن ان يستنبطها كل ثاقب نظر بالرجوع الى المصادر والمراجع. وهذا الاستنباط لا يختص بزمان الإمام الصادق وحده، بل يشمل كل أئمة أهل البيت، مع الفارق في خصائص عمل كل منهم حسب ما تقتضيه ظروف الزمان والمكان، وهذا الاختلاف في الخصائص لا يتنافى مع وحدة روح العمل المشترك وحقيقته ومع وحدة الهدف والمسير.
من أجل أن نفهم طبيعة المسيرة العامة لحياة الأئمة، علينا أولاً أن نتبين فلسفة الإمامة. التيار الذي عرف في مدرسة أهل البيت باسم الإمامة، والذي تتكون عناصره الأصلية من أحد عشر شخصاً توالوا قرنين ونصف القرن تقريباً، إنما هو في الواقع امتداد للنبوة.
فالنبي يبعثه الله سبحانه بمنهج جديد للحياة، وبعقيدة جديدة، وبمشروع جديد للعلاقات البشرية، وبرسالة الى الانسانية، ويطوي حياته في جهاد مستمر، وجهد متواصل، ليؤدي مهمة الرسالة الملقاة على عاتقه قدر ما يسمح له عمره المحدود.
وعملية الدعوة يجب أن تستمر بعده؛ كي تبلغ الرسالة أعلى الدرجات المتوخاة في تحقيق الأهداف. ويجب أن يحمل أعباء المواصلة من هو أقرب الناس إلى صاحب الرسالة في جميع الأبعاد؛ كي يبلغ بالأمانة إلى محطة آمنة وقاعدة رصينة ثابتة مستمرة.
هؤلاء هم الأئمة وأوصياء النبي. وكل الأئمة العظام وأصحاب الرسالات كان لهم أوصياء وخلفاء. ومن أجل أن نعرف مهمة الإمام، لابد أن نعرف مهمة النبي. والمهمة يبيّنها القرآن الكريم إذ يقول: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}.
هذه إحدى الآيات التي تبين علّة النبوة، وتبين من جهة أخرى مهمة الأنبياء. فالأنبياء ابتعثوا لبناء مجتمع جديد، ولاقتلاع جذور الفساد، ولإعلان ثورة على جاهلية زمانهم، وقلب مجتمعاتهم. وعملية التغيير هذه يعبّر عنها الإمام علي (عليه السلام) في مطلع استلام مهام حكومته بقوله: «..حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم..».
إنها عملية صناعة مجتمع على أساس التوحيد والعدل الاجتماعي وتكريم الإنسان، وتحريره، وتحقيق المساواة الحقوقية والقانونية بين المجموعات والأفراد، ورفض الاستغلال والاستبداد والاحتكار، وإفساح المجال للطاقات والكفاءات الإنسانية، وتشجيع التعلّم والتعليم والفكر والتفكير.. إنها عملية إقامة مجتمع تنمو فيه كل عوامل سموّ الإنسان في جميع الأبعاد الأساسية، ويندفع الكائن البشري فيه باتجاه مسيرته التكاملية على ساحة التاريخ.
هذه هي المهمة التي بعث الله الأنبياء من أجلها، ونستنتج من ذلك أن الإمامة، باعتبارها امتداد لمهام النبوة، تتحمل نفس هذه الأبعاد. لو أن رسوله الله (صلّى الله عليه وآله) عاش 250 عاماً، فماذا كان يفعل يا ترى، وكيف كان يتحرك على طريق الدعوة؟ نفس هذه العملية نهض بها الأئمة. هدف الإمامة هو نفس هدف النبوة، والطريق هو الطريق، أي إيجاد مجتمع إسلامي عادل، والسعي لصيانة مسيرته الصحيحة.
مقتضيات الزمان مختلفة طبعاً، وبنفس النسبة يختلف التكتيك والاسلوب. النبي (صلّى الله عليه وآله) نفسه كان يعمل في بداية الدعوة باسلوب يختلف عن اسلوبه حين قطع شوطاً من الطريق نحو تحقيق هدفه المنشود.
حين كانت الدعوة في بداية الطريق، وكانت محفوفة بألوان التهديدات والتحديات تطلّب الأمر تدبيراً خاصاً لمواصلة حمل الرسالة، وحين ترسّخت قواعد النظام الإسلامي، وضرب الإسلام بجرانه في الجزيرة العربية اختلف التدبير والاسلوب.. والثابت والباقي هو الهدف الأسمى الذي أنزلت الرسالة من اجله.. وهو السعي لإيجاد مجتمع يستطيع الإنسان فيه أن يطوي مسيرته التكاملية في جميع الأبعاد، وأن تتفجر فيه الطاقات الخيّرة والقوى الكامنة الإنسانية، ومن ثم صيانة هذا المجتمع ونظامه الإسلامي.
كان أئمة الشيعة يتجهون ــ كالنبي ــ نحو هذا الهدف نفسه، نحو إقامة نظام عادل إسلامي بنفس الخصائص وعلى نفس المسير. وفي حالة قيام هذا النظام تتجه الجهود نحو صيانة مسيرته واستمرارها.
ما الذي تتطلبه إقامة نظام اجتماعي أو مواصلة مسيرة هذا النظام؟ تتطلب أولاً ايديولوجية موجهّة وهادية ينبثق عنها ذلك النظام وتصوغه بصياغتها. ثم تحتاج ثانياً إلى قوة تنفيذية تستطيع أن تشق الطريق وسط الصعاب والمشاكل والعقبات نحو تحقيق الهدف. نعرف أن ايديولوجية الأئمة هي الإسلام. والإسلام رسالة البشرية الخالدة.. رسالة تحمل في مضمونها عناصر بقائها وخلودها.
وبملاحظة هذه الأمور، نستطيع بسهولة أن نفهم المنهج العام لأئمة أهل البيت وأوصياء النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله).
هذا المنهج ذو جانبين متلازمين: الأول يرتبط بالعقيدة، والثاني بتوفير القدرة التنفيذية والاجتماعية. ففي الجانب الأول تتجه جهودهم وهممهم إلى نشر مفاهيم الرسالة وبلورتها وترسيخها، والكشف عن الانحرافات التي تصدر عن المغرضين والمنحرفين، وبيان الأطروحة الإسلامية لما يستجدّ من أمور، وإحياء ما اندثر من معالم الرسالة بسبب اصطدامها مع مصالح ذوي القدرة والنفوذ، وتوضيح ما خفي على الأذهان العاديّة من كتاب الله عزيز وسنّة نبيّه.. فمهمة الجانب الأول تتلخص إذن بصيانة الرسالة الإسلامية حيّة بنّاءة متحركة على مرّ الأجيال.
وفي الجانب الثاني، كانوا يسعون، وفقاً لما تقتضيه الظروف السياسية والاجتماعية والعالمية في المجتمع الإسلامي، الى إعداد المقدمات اللازمة لاستلام زمام قيادة الحكم في المجتمع بأنفسهم بشكل عاجل، او التمهيد لكي يستلمها على المدى البعيد من يواصل مسيرتهم في المستقبل.
هذا موجز هدف حياة الأئمة الأطهار، وهذه هي الخطوط العامة لأهدافهم. من أجلها عاشوا، ومن أجلها استشهدوا.
واذا كان ما وصلنا من تاريخ حياة الأئمة لا يثبت ما ذهبنا اليه، فإن عقيدتنا في الأئمة كافية لأن تصور حياتهم بهذا المنظار لا غير، فما بالك اذا كان التاريخ يشهد بما يقنع كل باحث أن حياة أئمة آل البيت كانت في هذا الاتجاه! - مراحل مسيرة الإمامة
مراحل مسيرة الإمامة
استمرت مسيرة الإمامة منذ رحلة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في شهر صفر سنة 11 هجرية، حتى وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في ربيع الأول سنة 260 هــ. وخلال هذه السنين طوت المسيرة أربع مراحل كان للأئمة في كل منها موقف متميز تجاه حكام المجتمع الإسلامي:
المرحلة الأولى: مرحلة السكوت، أو مرحلة التعاون مع الحاكم.
تميزت هذه المرحلة بأن المجتمع الإسلامي الوليد كان محفوفاً بأخطار الأعداء الذين تربّصوا بالإسلام من الخارج بعد أن أحسّوا بخطر الرسالة عليهم، وكان هناك أعداد غفيرة من جماعات حديثة العهد بالإسلام لا تطيق أن ترى تشتتاً في المجتمع الإسلامي، وكل ثغرة في جسد الأمة تشكل تهديداً لأساس المجتمع الإسلامي ووجوده.
ومن جانب آخر لم يكن منحنى الانحراف قد ارتفع بحيث لم يعد قابلاً للتحمّل بالنسبة لشخص مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هو أحرص الناس على سلامة الرسالة وسلامة المجتمع الإسلامي. ولعل هذه الحالة التي حدثت في المجتمع الإسلامي هي التي أشار اليها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين أوصى تلميذه الفذّ بالصبر عند وقوعها.
لقد استوعبت هذه المرحلة حياة الإمام علي (عليه السلام) منذ وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى توليّه الخلافة. وقد شرح الإمام موقفه في هذه المرحلة خلال الكتاب الذي وجهه إلى أهالي مصر مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارتها إذ جاء فيه:
«فأمسكت يدي، حين رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد (صلّى الله عليه وآله) فخشيت إن لم انصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم.. فنهضت في تلك الأحداث..».
حين عزفت عنه الولاية سكت في سبيل الإسلام، وحين واجه المجتمع أخطار جسيمة، قام ينافح عن الإسلام والمجتمع الإسلامي هادياً وموجهاً وعاملاً في المجالات السياسية والعسكرية والاجتماعية. وفي نهج البلاغة وسيرة علي (عليه السلام) ما يدل بيقين على طبيعة تحرك الإمام خلال هذه الفترة.
المرحلة الثانية: مرحلة استلام الحكم. وهذه استغرقت أربعة أعوام وتسعة أشهر من خلافة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وبعضة أشهر من خلافة ولده الحسن (عليه السلام). ومع كل ما اكتنف هذه المرحلة من آلام وهموم ومشاكل ومصاعب تكتنف عادة كل حكومة ثائرة، فأنها سجلت أنصع الصفحات وأروعها في تاريخ الحكومة الإسلامية، بما قدمته من طريقة إنسانية في التعامل، ومن عدل والتزام دقيق بأحكام الإسلام بأبعاده المختلفة في إدارة المجتمع الإسلامي، هذا إلى جانب الحزم والصراحة والجرأة في التطبيق واتخاذ المواقف.
هذه المرحلة من تاريخ الإمامة كانت النموذج الذي دعا أئمة أهل البيت (عليه السلام) خلال القرنين التاليين إلى تطبيقه في الحياة السياسية والاجتماعية. وأتباع مدرسة أهل البيت منشدّون باستمرار إلى تلك الفترة التاريخية، ينشدون استعادتها في حياتهم، ويتخذونها أساساً في تقويم أنظمة زمانهم.
وبهذا المعيار يدينون الأنظمة المنحرفة عن النهج الإسلامي، كما كانت هذه الفترة تجربة ودرساً لحكومة إسلامية ثورية تماماً في مجتمع عصفت به الأهواء والانحرافات. وكانت حالة المجتمع هذه قد ألقت عبئاً ثقيلاً ومسؤولية كبيرة على الأئمة التالين.
المرحلة الثالثة: هي التي استوعبت السنوات العشرين بين صلح الإمام الحسن (عليه السلام) سنة 41 هــ، وشهادة الإمام الحسين (عليه السلام) سنة 61هــ.
بعد صلح الحسن (عليه السلام) بداً نوع من العمل شبه سرّي، هدفه إعادة القيادة الإسلاميّة إلى أصحابها الحقيقيين، إذ كان الأمر يتطلّب التريّث ريثما تنتهي مدة حكم معاوية، وخلال هذه المدة القصيرة توجهت الجهود البناءة للتمهيد إلى المرحلة التالية.
المرحلة الرابعة: هي التي نحتاج إلى أن نقف عندها ولو قليلاً، لأنها هي التي تعنينا في دراسة الإمام الصادق (عليه السلام). في هذه المرحلة التي استمرت قرابة قرنين، تواصلت مسيرة الإمامة ضمن خطة بعيدة المدى لتغيير المجتمع وفق نظرة الإسلام في جميع المجالات، بما في ذلك القيادة السياسية. كانت مفعمة بالانتصارات والانتكاسات، ومقرونة بنجاح باهر في مجال العمل الفكري والعقائدي، وممتزجة بألوان الأساليب الرائعة في العمل التكتيكي المناسب، ومزدانة بأسمى وأروع مظاهر الإخلاص والتضحية والتفاني والعظمة الإنسانية على الطراز الإسلامي.
هذه المرحلة بدأت من محرم سنة 61 هجرية، بعد استشهاد الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) وبدء إمامة على بن الحسين (عليه السلام). وفي هذه المرحلة نشط الأئمة ــ كما ذكرنا ــ في الحقل الايديولوجي ومكافحة الانحرافات والتحريفات التي خلّفتها مراكز القدرة والأذهان الجاهلية، إلى جانب العمل على المدى البعيد لإقامة حكم إسلامي ينتهج القرآن وسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويتمثّل نموذج حكومة علي (عليه السلام).
واضح أن تنفيذ منهج ثوري أصيل عميق في مجتمع مرّت عليه سنون من الانحراف الفكري والعملي يستدعي تكتيكاً دقيقاً وتخطيطاً أساسياً. فالمجتمع الإسلامي آنئذ قد مرّت عليه فترة حكومة معاوية بكل ما فيها من تخدير وتحريف وتزييف وابتعاد عن الروح الرسالية وحرمان من القيادة المبدئية، مما أدّى إلى تفاقم خطر الانحراف، حتى إنّ الأمر آل إلى مقتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في كربلاء على مسمع ومرأى من هذا المجتمع المرعوب المشلول المهزوم أمام الارهاب الأموي.
لابّد إذن من عمل كبير يعيد إلى هذا المجتمع معنوياته المفقودة وشخصية المسحوقة، انها لعملية تغيير كبرى يحتاجها هذا المجتمع كي يعود مرّة أخرى مؤهلاً لحمل الرسالة والنهوض بأعباء المسؤولية الثقيلة. لابد من ثورة كالتي أعلنها رسول الله في المجتمع الجاهلي، ثم تولّي قيادة هذا المجتمع انطلاقاً من هذه الثورة.
أن إعادة الحياة الثورية وتجديدها عملية لا تقّل صعوبة وأهمية عن خلق الثورة وإيجادها. عملية التجديد الثوري بحاجة إلى إيمان عميق، وعزم راسخ، وعقل مدبر، وفكر يقظ وواع وفعّال. فمن الذي يحمل عبء هذه المسؤولية؟!
تلك الفئة التي ما استطاعت أن تسير وراء الإمام الحسن (عليه السلام) وما ارتفعت إلى مستوى مناصرة الإمام الحسين (عليه السلام) غير قادرة دون شك على عملية الإحياء هذه. والاعتماد على هذه الفئة ليس وراءه إلا الفشل والخسران.
إن تجربة «التوابين» ثم قيام المختار وإبراهيم بن مالك خير دليل على ما ذهبنا إليه. - موقف الإمام السجاد (عليه السلام)
موقف الإمام السجاد (عليه السلام)
والإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) يقف الآن بعد حادثة عاشوراء على مفترق طريقين:
إما أن يعمد إلى دفع أصحابه نحو حركة عاطفية هائجة، ويدخلهم في مغامرة، لا تلبث شعلتها ــ بسبب عدم وجود المقومات اللازمة فيهم ــ أن تخمد وجذوتها أن تنطفئ، وتبقى الساحة بعد ذلك خالية لبني أمية، يتحكّمون في مقدّرات الأمة فكرياً وسياسياً.. أو أن يسيطر على العواطف السطحية والمشاعر الفائرة، ويعد المقدمات للعملية الكبرى، المقدمات المتمثلة في الفكر الرائد والطليعة الواعية الصالحة لإعادة الحياة الإسلامية إلى المجتمع، وأن يصون حياته وحياة المجموعة الصالحة لتكون النواة الثورية للتغيير المستقبلي، ويبتعد عن أعين بني أمية، ويواصل نشاطه الدائب على جبهة بناء الفكر وبناء الأفراد.
وبذلك يقطع شوطاً على طريق الهدف المنشود، ويكون الإمام الذي يليه أقرب إلى هذا الهدف.
فأي الطريقين يختار؟
لا شك أن الطريق الأول هو طريق التضحية والفداء، لكن القائد الذي يخطط لحركة التاريخ، ولمدى أبعد بكثير من حياته، لا يكفي أن يكون مضحّياً فقط، بل لابد أيضاً أن يكون عميقاً في فكره، واسعاً في صدره، بعيداً في نظرته، مدبّراً وحكيماً في أموره.. وهذه الشروط تفرض على الإمام انتخاب الطريق الثاني.
والإمام علي بن الحسين (عليه السلام) اختار الطريق الثاني مع كل ما يتطلبه من صبر ومعاناة وتحمّل ومشاق، وقدّم حياته على هذا الطريق (سنة 95 هجرية).
وقد صوّر الإمام الصادق (عليه السلام) وضع الإمام الرابع ودوره الرائد بقوله:
«ارتدّ الناس بعد الحسين (عليه السلام) إلا ثلاثة: أبو خالد الكابلي، ويحيى بن أم الطويل، وجبير بن مطعم، ثم أن الناس لحقوا وكثروا، وكان يحيى بن أم الطويل يدخل مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويقول:{كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء}».
هذه الرواية تصّور حالة المجتمع الإسلامي بعد مقتل الحسين (عليه السلام).
إنها حالة الهزيمة النفسية الرهيبة التي عمّت المجتمع الإسلامي ابان وقوع هذه الحادثة. فمأساة كربلاء كانت مؤشّراً على هبوط معنويات هذا المجتمع عامة، حتى شيعة أهل البيت. هؤلاء الشيعة الذين اكتفوا بارتباطهم العاطفي بالأئمة، بينما ركنوا عملياً إلى الدنيا ومتاعها وبريقها.. ومثل هؤلاء كانوا موجودين على مرّ التاريخ، وليسوا قليلين حتى يومنا هذا.
فمن بين الآلاف من مدّعي التشيّع في زمن الإمام السجاد (عليه السلام) بقي ثلاثة فقط على الطريق.. ثلاثة فقط لم يرعبهم الارهاب الأموي ولا بطش النظام الحاكم، ولم يثن عزمهم حبّ السلامة وطلب العافية، بل ظلّوا ملبّين مقاومين يواصلون طريقهم بعزم وثبات.
هؤلاء لم ينجرفوا مع تيار المجتمع المنجرّ كالرعاع وراء إرادة الحاكم الظالم، بل كان يقف الواحد منهم وهو يحيى بن أم الطويل في مسجد المدينة ويخاطب مدّعي الولاء لأهل البيت، معلناً براءته منهم ــ كما مرّ ــ ويستشهد بما قاله إبراهيم (عليه السلام) واتباعه لمعارضي زمانه:{كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء}.
أراد ابن أم الطويل بتلاوته هذه الآية المباركة أمام مدّعي الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) أن يعلن الانفصال التام بين الجبهتين: جبهة الرساليين الملتزمين، وجبهة الخلود الى الأرض والانحطاط الى الأماني الرخيصة والانشدادات المادية التافهة. وهو انفصال يرافق كل الدعوات الإلهي. والإمام الصادق (عليه السلام) عبّر عن هذه الانفصال بين الجبهتين بقوله: «من لم يكن معنا كان علينا» أي من لم يكن في جبهة التوحيد كان في جبهة الطاغوت، وليس ثمة منطقة وسط بين الاثنين، ولا معنى للحياد في هذا الانتماء.
إن يحيى ابن أم الطويل هذا المسلم والموالي الحقيقي لأهل بيت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بصرخته هذه يعلن الانفصال بين الذين يُرضون أنفسهم بالولاء العاطفي بينما هم قابعون في قوقعة مصالحهم الشخصية وغارقون في مستنقع ذاتياتهم الضيقة، وبين أولئك الملتزمين فكراً وعملاً بالإمام.
هذا الانفصال يعني ــ طبعاً ــ الترفع عن الانجرار وراء الاكثرية الضالة، ولا يعني اهمال هؤلاء الضالين. من هنا اتجهت هذه المجموعة الصالحة الى انتشال من له قابلية التحرر من الإصر والأغلال، وكثرت بالتدريج هذه الفئة المجاهدة الصابرة، والى هذا يشير الإمام الصادق (عليه السلام) في قولة المذكور آنفاً: «ثم إن الناس لحقوا وكثروا». وبذلك واصل الإمام السجاد (عليه السلام) نشاطه. وكان هذا النشاط وبعض المواقف الأخرى التي سنذكرها مما أدى الى استشهاده، واستشهاد بعض المقربين من أصحابه.
لم أر في حياة الإمام السجاد (عليه السلام) ما يدل على مواجهة صريحة مع الجهاز الحاكم، والحكمة كانت تقتضي ذلك ــ كما ذكرنا ــ لأنه لو اتخذ مثل تلك المواقف التي نشاهدها في حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وبعده من الأئمة تجاه حكام عصره لما استطاع أن يحقق ما حققه من دفع عملية التغيير دفعة استطاعت أن توفر للإمام الباقر (عليه السلام) فرصة نشاط واسع، بل لصُفّي هو والمجموعة الصالحة الملتفة حوله.
في مواقف نادرة نلمس من الإمام (عليه السلام) رأيه الحقيقي من السلطة الحاكمة، ولكن ليس على مستوى المواجهة، بل على مستوى تسجيل موقف للتاريخ وليجعل المحيط القريب منه على قدر من العلم بعمله وحركته.
من تلك المواقف، رسالة تقريع واسعة وجهها الإمام (عليه السلام) الى رجل دين مرتبط بجهاز بني أمية هو (محمد بن شهاب الزهري). ونستطيع أن نفهم من الرسالة أن الإمام يخاطب بها الاجيال على مر العصور، لا الزهري. لأن الزهري لم يكن بالشخص الذي يستطيع أن يتحرر من الأغلال التي تشدّه الى موائد بني أمية وقصاعهم ولهوهم ومناصبهم وجاههم. ولم يستطع بالفعل. لقد قضى عمره في خدمتهم، ودوّن كتاباً ووضع حديثاً ليتزلف اليهم.
هذه الرسالة اذن وثيقة توضح موقف الإمام من أوضاع زمانه. ونصها موجود في كتاب (تحف العقول).
وثمة وثيقة أخرى هي عبارة عن رسالة جوابية وجهها الإمام (عليه السلام) الى عبد الملك بن مروان بعد أن أرسل الثاني رسالة يعيّر فيها الإمام بزواجه من أمته المحررة، وقصد ابن مروان بذلك أن يبين للإمام (عليه السلام) أنه محيط بكل ما يفعله حتى في أموره الشخصية، كما أراد ايضاً أن يذكّر الإمام بقرابته منه طمعاً منه في استمالته.
والإمام (عليه السلام) في رسالته الجوابية يوضح رأي الإسلام في هذه المسألة، ويؤكد أن امتياز الايمان والإسلام يلغي كل امتياز آخر. ثم باسلوب كناية في غاية الروعة يشير الإمام الى جاهلية آباء الخليفة، بل لعله يشير ايضاً الى ما عليه الخليفة بالذات من جاهلية اذ يقول له: «فلا لؤم على امرئ مسلم، انما اللؤم لؤم الجاهلية».
وحين قرأ الخليفة الأموي عبارة الإمام (عليه السلام) أدرك معناها تماماً، كما أدرك معنى ابنه سليمان اذ قال: «يا أمير المؤمنين لَشَدَّ ما فخر عليك علي بن الحسين!!».
والخليفة بحنكته السياسية يرد على ابنه بما يوحي أنه أعرف من الابن بعاقبة الاصطدام مع إمام الشيعة فيقول له: «يا بني لا تقل ذلك فإنها ألسن بني هاشم التي تفلق الصخر وتغرف من بحر، إن علي بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتصنّع الناس».
ونموذج آخر من هذه المواقف رد الإمام (عليه السلام) على طلب تقدم به عبد الملك بن مروان. كان عبد الملك قد بلغه أن سيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عند الإمام. فبعث اليه من يطلب منه أن يهب السيف للخليفة، وهدده إن أبى بقطع عطاء بيت المال عنه.
فكتب اليه الإمام (عليه السلام):
«أما بعد فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جل ذكره: {إن الله لا يحب كل خوان كفور} فانظر أيّنا أولى بهذه الآية».
وفي غير هذه من المواقف نرى الإمام السجاد (عليه السلام) يتحرك بهدوء وباستتار في اتجاه تربية الأفراد وصنع الشخصية الإسلامية وفق مدرسة أهل البيت ومحاربة الانحرافات و.. وبذلك قطع في الواقع الخطوة الأولى على تحقيق هدف مدرسة أهل البيت المتمثل بإقامة المجتمع الإسلامي المستظل بحكومة إسلامية صالحة على نموذج حكومة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام). وكما ذكرنا من قبل لم يسلم الإمام (عليه السلام) وأتباعه رغم هذا النهج ــ المسالم على الظاهر ــ من بطش الجهاز الأموي وتنكيله. فمن أتباعه من قتل بشكل فظيع، ومنهم من سجن، ومنهم من تشرّد بعيداً عن الأهل والديار، والإمام (عليه السلام) نفسه في مرة واحدة على الأقل سيق مقيداً بالاغلال في حالة مؤلمة من المدينة الى الشام، وتعرض مرات لألوان الأذى والتعذيب. ثم دسّ الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك له السمّ واستشهد سنة 95 هجرية. - حياة الإمام الباقر (عليه السلام)
حياة الإمام الباقر (عليه السلام)
استمرار منطقي لحياة الإمام السجاد (عليه السلام)
أصبح أتباع أهل البيت مجموعة متميزة ذات وجود مستقل، ودعوة أهل البيت التي اعترتها وقفة واحتجبت وراء ستار سميك بسبب حادثة كربلاء وما أعقبها من حوادث دموية كوقعة الحرّة وثورة التوابين وبسبب بطش الأمويين، قد أصبح لها وجود منتشر وواضح في كثير من الأقطار الإسلامية خاصة في العراق والحجاز وخراسان، وأصبح لها «تنظيم» فكري وعملي. وولّت تلك الأيام التي قال الإمام السجاد (عليه السلام) عنها: إن أتباعه ما كانوا يزيدون فيها على عشرين شخصاً. وأضحى الإمام الباقر (عليه السلام) يدخل مسجد النبي (صلّى الله عليه وآله) في المدينة فيلتف حوله جمع غفير من أهل خراسان وغيرها من أصقاع العالم الإسلامي، يسألونه عن رأي الإسلام في مختلف شؤون الحياة. ويفد عليه أمثال طاووس اليماني وقتادة بن دعامة وأبو حنيفة وآخرون من أئمة المذاهب الفقهية لينتهلوا من علم الإمام أو ليحاجّوه في أمور مختلفة. وبرز شعراء يدافعون عن مدرسة أهل البيت، ويعبّرون عن أهدافها، منهم الكميت الذي رسم في هاشمياته أروع لوحة فنية في تصوير الولاء الفكري والعاطفي لآل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله). وتناقلت الألسن هذه الروائع الأدبية وحفظتها الصدور.
ومن جهة أخرى فإن خلفاء بني مروان أحسّوا خلاٍل هذه الفترة بنوع من الطمأنينة، وشعروا بالاستقرار بعد أن استطاع عبد الملك بن مروان (ت86 هــ) خلال فترة حكمه التي استمرت عشرين عاماً أن يقمع كل المعارضين. وقد يعود شعور الخلفاء المروانيين في هذا العصر بالأمن والاطمئنان إلى أن الخلافة وصلتهم غنيمة باردة، لا كأسلافهم الذين كدحوا من أجلها مما أدّى إلى انشغالهم باللهو والملذات التي تصاحب الشعور بالاقتدار والجاه والجلال.
مهما يكون الأمر حساسية خلفاء بني مروان تجاه مدرسة أهل البيت قد قلّت في هذا العصر، وأصبح الإمام وأتباعه في مأمن تقريباً من مطاردة الجهاز الحاكم.
وكان من الطبيعي أن يقطع الإمام خطوة رحبة في ظل هذه الظروف على طريق تحقيق أهداف مدرسة أهل البيت، ويدفع بالتشيع نحو مرحلة جديدة. وهذا ما يميّز حياة الإمام الباقر (عليه السلام).
ويمكن تلخيص حياة الإمام الباقر (عليه السلام) خلال الأعوام التسعة عشر من إمامته (95ــ114هــ) بما يلي:
إن أباه الإمام السجاد (عليه السلام) عندما حضرته الوفاة أوصى أن يكون ابنه محمداً إماماً من بعده في حضور سائر أبنائه وعشيرته وسلّمه صندوقاً.. تذكر الروايات أنه مملوء بالعلم.. وتذكر أن فيه سلاح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال له: «يا محمد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك. ثم قال: أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم، ولكنه كان مملوءاً علماً». لعل هذا الصندوق يرمز إلى أن الإمام السجاد سلّم ابنه محمداً مسؤولية القيادة الفكرية والعلمية (فالصندوق مملوء بالعلم) وسلّمه مسؤولية القيادة الثورية (سلاح النبي).
ومع بدء الإمام وأتباعه بنشاطهم الواسع في بث تعاليم أهل البيت (عليهم السلام)، يتسع نطاق انتشار الدعوة، ويتخذ أبعاداً جديدة تتعدى مناطقها السابقة في المدينة والكوفة، وتجد لها شيوعاً في أصقاع بعيدة عن مركز السلطة الأموية، وخراسان في مقدمة تلك البقاع كما تحدثنا الروايات التاريخية.
إن الواقع الفكري والاجتماعي المزري للناس كان يدفع الإمام وأتباعه نحو حركة دائبة لا تعرف الكلل والملل من أجل تغيير هذا الواقع والنهوض بالواجب الإلهي إزاء هذا الانحراف.
إنهم يرون غالبية الناس قد خضعوا للجو الفاسد الذي أشاعه بنو أمية، فغرقوا إلى الأذقان في مستنقع حياة آسنة موبوءة، حتى أضحوا كحكّامهم لا يفقهون قولاً، ولا يصيخون لنصيحة سمعاً «إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا».
ومن جهة أخرى يرون دراسات الفقه والكلام والحديث والتفسير تنحو منحى استرضاء الطاغوت الأموي وتلبية رغباته. ومن هنا فإن كل أبواب عودة الناس إلى جادة الصواب كانت موصدة لولا نهوض مدرسة أهل البيت بواجبها «وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا».
اتجهت مدرسة أهل البيت فيما اتجهت إلى تقريع أولئك الذين باعوا ذممهم من العلماء والشعراء، في محاولة إلى ايقاظ ضمائرهم أو ضمائر اتباعهم من عامة الناس.
نرى الإمام يقول للكميت الشاعر مؤنباً:
«امتدحت عبد الملك؟» قال: ما قلت له يا إمام الهدى، وإنما قلت يا أسد، والأسد كلب، ويا شمس، والشمس جماد، ويا بحر، والبحر موات، ويا حيّة، والحيّة دُويبة منتنة، ويا جبل، وإنما هو حجر أصمّ. فتبسم الإمام وأنشد الكميت بين يديه:
من لقلب متيم مستهام غير ما صبوة ولا أحلام
بهذه الميمية يضع الحدّ الفاصل بين الاتجاه العلوي والاتجاه الأموي في المكانة والسيرة في صورة فنية رائعة خالدة.
وعكرمة تلميذ ابن عباس المعروف وصاحب المكانة العلمية المرموقة في المجتمع آنذاك، يذهب لمقابلة الإمام، فيؤخذ بهيبة الإمام وشخصيته ووقاره ومعنويته وفكره، فيقول له: «يا بن رسول الله لقد جلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره، فما أدركني ما أدركني آنفاً».
فقال له الإمام: «إنك بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه».
ومن الأبعاد الأخرى لنشاط مدرسة أهل البيت في هذه المرحلة سرد ما أحاط بأهل البيت رسول الله وأتباعهم من ظلم واضطهاد وقتل وتشريد وتعذيب في محاولة لاستثارة عواطف الناس الميتة، وتحريك ضمائرهم الرخوة، واستنهاض عزائمهم الراكدة، وتوجيهم وجهة ثورية حركية.
عن المنهال بن عمر قال: كنت جالساً مع محمد بن علي الباقر (عليه السلام) إذ جاءه رجل فقال له: كيف انتم؟ فقال الإمام الباقر:
«أوما آن لكم أن تعلموا كيف نحن؟ إنما مثلنا في هذه الأمة مثل بني إسرائيل، كان يذبّح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم، ألا وإن هؤلاء يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا. زعمت العرب أن لهم فضلاً على العجم، فقالت العجم: وبما ذلك؟ قالوا: كان محمد منا عربياً. قالوا لهم: صدقتم. وزعمت قريش أن لها فضلاً على غيرها من العرب، فقالت لهم العرب من غيرهم: وبما ذلك؟ قالوا: كان محمد قرشياً. قالوا لهم: صدقتم. فإن كان القوم صدقوا فلنا فضل على الناس لأنا ذرية محمد، وأهل بيته خاصة وعترته، لا يشركنا في ذلك غيرها. فقال له الرجل: والله إني لأحبكم أهل البيت. قال: فاتخذ للبلاء جلباباً، فوالله إنه لأسرع الينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي، وبنا يبدو البلاء ثم بكم، وبنا يبدو الرخاء ثم بكم».
فما إن بدت على الرجل علامات الهياج جرّاء استثارات الإمام حتى سارع الإمام إلى رسم الطريق أمامه. إنه طريق مفروش بالدماء والدموع، والإمام رائد على هذا الطريق يصيبه البلاء أولاً قبل أن يصيب شيعته.
وفي دائرة أضيق نرى أن علاقة الإمام بشيعته تتخذ خصوصيات متميزة، نراه بين هؤلاء الاتباع كالدماغ المفكر بين أعضاء الجسد الواحد، يغذيهم ويمدهم بالحيوية والحركة والنشاط باستمرار.
وتتوفر بأيدينا وثائق تبين هذه الارتباط متمثلاً بإعطاء المفاهيم والتعاليم الصريحة لهؤلاء الاتباع، وبتنظيم مترابط محسوب بينهم.
منها وصية الإمام الباقر (عليه السلام) لجابر الجعفي في أول لقاء بالإمام أن لا يقول لأحد انه من الكوفة، وليظهر بمظهر رجل من أهل المدينة. وبذلك يعّلم هذا التلميذ الجديد، الذي لمس الإمام فيه قدرة على حفظ الأسرار، درس الكتمان.. وهذا التلميذ الكفوء أصبح بعد ذلك صاحب سرّ الإمام. ويبلغ به الأمر مع الجهاز الحاكم أن يقول عنه النعمان بن بشير:
«كنت ملازماً لجابر بن يزيد الجعفي، فلما أن كنّا بالمدينة، دخل على أبي جعفر (عليه السلام) فودّعه وخرج من عنده وهو مسرور، حتى وردنا الأخيرجة (من نواحي المدينة) يوم جمعة فصلّينا الزوال فلما نهض بنا البعير إذا أنا برجل طوال آدم (أسمر) معه كتاب فناوله، فقبّله ووضعه على عينيه، وإذا هو من محمد بن علي (الباقر) إلى جابر بن يزيد وعليه طين أسود رطب. فقال له: متى عهدك بسيّدي؟ فقال: الساعة، فقال له: قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ فقال: بعد الصلاة. قال: ففكّ الخاتم وأقبل يقرأه ويقبض وجهه حتى أتى على آخره، ثم امسك الكتاب فما رأيته ضاحكاً ولا مسروراً، حتى وافى الكوفة.
يقول النعمان بن بشير: فلما وافينا الكوفة ليلاً بتّ ليلتي، فلما أصبحت أتيت جابر الجعفي إعظاماً له فوجدته قد خرج عليّ وفي عنقه كعاب قد علّقها وقد ركب قصبة (كما يفعل المجانين) وهو يقول: أجد منصور بن جمهور.. أميراً غير مأمور، وأبياتاً من نحو هذا، فنظر في وجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئاً، ولم أقل له، وأقبلت أبكي لما رأيته، واجتمع عليّ وعليه الصبيان والناس، وجاء حتى دخل الرّحبة، وأقبل يدور مع الصبيان، الناس يقولون: جنّ جابر بن يزيد. فوالله ما مضت الأيام حتى ورد كتاب هشام بن عبد الملك الي وإليه أن أنظر رجلاً يقال له: جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه. فالتفت إلى جلسائه فقال لهم: من جابر بن يزيد الجعفي؟ قالوا، أصلحك الله كان رجلاً له علم وفضل وحديث، وحجّ فجنّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم. قال: فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يعلب على القصب. فقال: الحمد الله الذي عافاني من قتله».
هذا النموذجّ من نماذج الارتباط بين الإمام وخاصة أتباعه، يوضّح دقّة التنظيم والارتباط، ويبين كذلك نموذجاً لموقف السلطنة الحاكمة من هؤلاء الاتباع، ويؤكّد أن الجهاز الحاكم لم يكن غافلاً تماماً عن علاقة الإمام بأتباعه المقربين، بل كان يراقب هذه العلاقات ويحاول اكتشافها ومجابهتها.
وبالتدريج يبرز جانب المجابهة في الحياة الإمام الباقر (عليه السلام) وفي حياة الشيعة ليسجل فصلاً آخر في حياة الأئمة أهل البيت (عليهم السلام).
النصوص التاريخية الموجودة بين أيدينا وهكذا الروايات الحديثية لا تتحدث بصراحة عن حركة مقاومة سياسية حادة ينهض بها الإمام. وهذا يعود إلى عوامل كثيرة منها جوّ البطش والتنكيل المهيمن على المجتمع مما يفرض عنصر التقية بيت اتباع الإمام الذين هم المطلعون الوحيدون على حياة الإمام السياسية.. ولكن ردود الفعل المتشددّة التي يبديها العدو تبين عمق العمل الجهادي. فحين يتخذ جهاز حاكم مقتدر كجهاز عبد الملك بن مروان، الذي يعتبر أقوى حاكم أموي، ضد الإمام الباقر (عليه السلام) كل أسباب الشدّة والحدّة، فإن ذلك يدل دون شك على إحساس الخليفة بالمخاطر التي تواجهه جرّاء حركة الإمام وأتباعه. لو كان الإمام منهمكاً فقط بنشاط علمي، لا ببناء فكري وتنظيمي، فإن الجهاز الحاكم لم يكن من مصلحته أن يتشدّد مع الإمام، لأن ذلك يدفع بالإمام وبأتباعه إلى موقف ساخط متشدّد كالذي اتخذه الثائر العلوي شهيد فخ الحسين بن علي من السلطنة.
باختصار، موقف السلطنة المتشدّد من الإمام الباقر (عليه السلام) يمكن فهمه على أنه رد فعل لما كان يمارسه الإمام من عمل معارض للسلطة.
من الأحداث الهامة في أواخر حياة الإمام الباقر (عليه السلام) استدعاء الإمام إلى الشام عاصمة الخلافة الأموية. فالخليفة الأموي أراد أن يستوثق من موقف الإمام تجاه الجهاز الحاكم فأمر باعتقاله وإرساله مخفوراً إلى الشام. (وفي بعض الروايات أن الحكم هذا شمل ابنه الشاب أيضا جعفراً الصادق).
يؤتى بالإمام إلى قصر الخليفة. وهشام أملى على حاشيته طريقة مواجهة الإمام لدى وروده. تقرر أن يبتدئ الخليفة ثم تليه الحاشية بإلقاء سيول التهم على الإمام، وكان يستهدف في ذلك أمرين: أولهما إضعاف معنويات الإمام وخلق حالة من الانهيار النفسي فيه. والثاني: محاولة إدانة الإمام في مجلس يضم زعيمي الجبهتين (جبهة الخلافة وجبهة الإمامة)، ثم نقل هذه الإدانة عن طريق أبواق البلاط كالخطباء ووعاظ السلاطين والجواسيس وبذلك يسجل لنفسه انتصاراً على خصمه.
يدخل الإمام مجلس الخليفة، وخلاف ما اعتاده الداخلون من السلام على الخليفة بإمرة المؤمنين، يتوجه إلى كل الحاضرين، ويشير إليهم جميعاً ويقول: السلام عليكم.. ودون أن ينتظر الأذن بالجلوس يأخذ مكانه في المجلس. وهذا الموقف من الإمام أضرم نار الحسد والحقد في قلب هشام.. وبدأ هشام على الفور يقول: يا محمد بن علي، لا يزال الرجل منكم قد شقّ عصا المسلمين، ودعا إلى نفسه، وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم، وجعل يوبّخه.
وبعد هشام أخذ أفراد بطانته يرددون مثل هذه التهم والتوبيخ.. والإمام ساكت في كل هذه المدّة ومطرق بوقار ينتظر فرصة الإجابة.. وحين أفرغت البطانة ما في كنانتها وخيّم السكوت على المجلس، نهض الإمام وتوجه إلى الحاضرين، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه، خاطب المجلس بعبارات قصيرة قارعة بيّن تفاهة هذه البطانة وانقيادها البهيمي كما بيّن فيها مكانته ومكانة أهل البيت وفق معايير إسلامية، واستخف بكل ما يحيط بالخليفة وحاشيته من هيل وهيلمان ومكانة وسلطان، فقال:
«أيها الناس! أين تذهبون؟ وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أولكم، وبنا يختم آخركم، فإن يكن لكم ملك معجّل، فإن لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأنّا أهل العاقبة. يقول الله عزّ وجلّ: والعاقبة للمتقين».
عبارات تظلّم وتهكّم وتبشير وتهديد وإثبات وردّ جمل موجزة ذات وقع مثير تفرض على سامعها الإيمان بحقّانية قائلها.. ولم يكن أمام هشام سبيل سوى الأمر بسجن الإمام.
الإمام في سجنه واصل علمه التغييري فأثّر على من معه في السجن. بلغ الأمر هشاماً فكبُر عليه أن يرى حدوث مثل ذلك في عاصمته المحصّنة من التأثير العلوي. فأمر أن يؤخذ السجين ومن معه على مركب سريع (البريد) ويرسل إلى المدينة حيث مسكنه ومحل إقامته، وأمر أن لا يتعامل أحد في الطريق مع هذه القافلة المغضوب عليها ولا يزودها بماء أو طعام.
مرت ثلاثة أيام من السير المتواصل انتهى خلالها ما في القافلة من ماء وطعام. ووصلوا (مدين). وأغلق أهل المدينة حسب ما لديهم من أوامر أبواب مدينتهم، وأبوا أن يبيعوا متاعاً. واشتد على أتباع الإمام الجوع والعطش. صعد الإمام على مرتفع يطل على المدينة ونادى بأعلى صوته:
«يا أهل المدينة الظالم أهلها. يقول الله: {بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ}».
يقول الراوي: وكان بين أهل المدينة شيخ كبير فأتاهم فقال: يا قوم هذه والله دعوة شعيب (عليه السلام). والله لئن لم تخرجوا الى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذن من فوقكم ومن تحت أرجلكم فصدّقوني وأطيعوني.. فإني لكم ناصح.
استجاب أهل المدينة لدعوة الشيخ فبادروا وأخرجوا الى أبي جعفر وأصحابه الأسواق.
وآخر فصل في هذه الرواية يبين ايضاً بطش الخليفة العباسي وتجبّره. فبعد أن فتح أهل المدينة أبوابها للإمام وصحبه، كُتب بجميع ذلك الى هشام. فكتب هشام الى عامله على مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيقتله رحمة الله عليه وصلواته.
ومع ذلك، يتجنب الإمام أي مواجهة حادة ومجابهة مباشرة مع الجهاز الحاكم، فلا يعمد الى سيف، ولا يسمح للأيدي المترعة الى السلاح أن يشهره، ويوجهها توجيهاً حكيماً، وسيف اللسان ايضاً لا يشهره اذا لم يتطلب عمله التغييري الأساسي الجذري ذلك. ولا يسمح لأخيه زيد، الذي بلغ من الغضب مبلغه وثارت عواطفه أيما ثورة، أن يخرج (يثور) بل يركز نشاطه العام على التوجيه الثقافي والفكري.. وهو بناء أساس ايديولوجي في اطار مراعاة التقية السياسية.
ولكن هذا الاسلوب لم يكن يمنع الإمام ــ كما أشرنا ــ من توضيح (حركة الإمامة) لأتباعه الخلّص. وإذكاء عمل الشيعة الكبير، وهو إقامة النظام السياسي الصحيح العلوي في قلوب هؤلاء، بل يعمد أحياناً الى اثارة عواطفهم بالقدر المطلوب على هذا الطريق. والتلويح بمستقبل مشرق هو أحد من السبل التي مارسها الإمام الباقر (عليه السلام) مع أتباعه. وهو يشير الى تقويم الإمام (عليه السلام) لمرحلة التي يعيشها من الحركة.
يقول الحكم بن عيينة: بينا أنا مع أبي جعفر (عليه السلام) والبيت غاص بأهله اذ أقبل شيخ يتوكّأ على عنزة (عكازة) له حتى وقف على باب البيت، فقال: السلام عليك يا بن رسول الله ورحمة الله وبركاته. ثم سكت. فقال أبو جعفر: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال: السلام عليكم، ثم سكت حتى أجابه القوم جميعاً، وردّوا عليه السلام. ثم أقبل بوجهه على الإمام وقال: يا بن رسول الله أدنني منك جعلني الله فداك. فوالله إني لأحبكم وأحب من يحبكم، ووالله ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في دنيا، وإني لأبغض عدوكم وأبرأ منه، ووالله ما أبغضه وأبرأ منه لوترٍ كان بيني وبينه. والله إني لأحلُّ حلالكم وأحرّم حرامكم وانتظر أمركم، فهل ترجو لي جعلني الله فداك؟ فقال الإمام: إليّ إليّ، حتى أقعده الى جنبه، ثم قال:
«أيها الشيخ، إن أبي علي بن الحسين (عليه السلام) أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه، فقال له أبي (عليه السلام): إن تمت ترد على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلى علي والحسن والحسين وعلى علي بن الحسين، ويثلج قلبك، ويبرد فؤادك، وتقرّ عينك، وتستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين.. وإن تعش ترى ما يقرّ الله به عينك، وتكون معنا في السنام الأعلى». قال الشيخ وهو مندهش من عظمة البشرى: كيف يا أبا جعفر. فأعاد عليه الكلام، فقال الشيخ: الله أكبر يا أبا جعفر، إن انا متّ أرد على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلى علي والحسن والحسين وعلى علي بن الحسين وتقرُ عيني ويثلج قلبي ويبرد فؤادي واستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين لو قد بلغت نفسي ههنا، وإن أعش أرى ما يقرّ الله به عيني، فأكون معكم في السنام الأعلى؟ ثم أقبل الشيخ ينتحب حتى لصق الأرض. وأقبل اهل البيت ينتحبون لما يرون من حال الشيخ. ثم رفع الشيخ رأسه وطلب من الإمام أن يناوله يده فقبلها ووضعها على عينه وخدّه، ثم ضمّها الى صدره، وقام فودّع وخرج، والإمام ينظر اليه ويقول: «من أحب أن ينظر الى رجل من أهل الجنة فلينظر الى هذا».
مثل هذه التصريحات، تذكي الأمل في قلوب تعيش جوّ الاضطهاد والكبت، فتكسبها زخماً ودفعاً نحو الهدف المنشود المتمثل في إقامة النظام الإسلامي العادل.
تسعة عشر عاماً من إمامة الباقر (عليه السلام) تواصلت على هذا الخط المستقيم المتماسك الواضح.. تسعة عشر عاماً من التعليم الأيديولوجي، والبناء، والتكتيك النضالي، والتنظيم، وصيانة وجهة الحركة، والتقية، واذكاء روح العمل.. تسعة عشر عاماً من مسير شائك وعر يتطلب كثيراً من الجد والجهد. وحين أشرقت هذه الأعوام على الانتهاء وأوشكت شمس عمره المبارك على المغيب، تنفس أعداؤه الصعداء، لأنهم بذهاب هذا القائد الموّجه سوف يتخلصون من مصدر إثارة طالما قضّ مضاجعهم وسرق النوم من عيونهم. لكن الإمام خيّب آمالهم وفوّت عليهم هذه الفرصة، حين جعل من وفاته مصدر عطاء، ومنطلق إثارة، ووسيلة توعية مستمرة! لقد وجّه ولده الصادق (عليه السلام) في اللحظات الأخيرة من حياته توجيهاً يمثل نموذجاً رائعاً من نماذج التقية التي مارسها الإمام الباقر (عليه السلام) والاسلوب الذي استعمله في مرحلته الزمنية الخاصة. في الرواية عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا النوادب تندبني عشر سنين بمنى ايام منى».
وهذه الرواية لم يقف عندها من بحث حياة الإمام الباقر وغفلوا عما فيها من دلالات كبيرة. لقد خلّف الإمام (800) درهم، وأوصى أن يخصص جزء منها لمن يندبه في منى.. وندب الإمام في منى له معنى كبير. إنه عملية إحياء ذلك المصدر الذي كان يشعّ دائماً بالتوعية والإثارة وخلق روح الحماس والمقاومة.
واختيار منى بالذات يعني مواصلة العمل في وسط تمركز الوافدين من كل أرجاء العالم الإسلامي، خلال فترة الاستقرار الوحيدة في موسم الحج. فكل مناسك الحج يمر بها الحاج وهو في حركة دائبة مستمرة، إلاّ في منى، حيث يبيت الليلتين او الثلاث، فيتوفر لديه الوقت الكافي لكي يسمع ويطّلع. وندب الإمام في هذا المكان سيثير التساؤل عن شخصية هذا المتوفّى، من هو؟ فيحصلون الجواب من أهل المدينة الذين عاصروه. إنه من أبناء رسول الله، وأستاذ الفقهاء والمجتهدين. ولماذا يندب في هذا المكان؟ لم يكن موته طبيعياً؟ من الذي قتله أو سمّه؟ هل كان يشكل خطراً على الجهاز الأموي؟ و.. وعشرات الأسئلة التي كانت تثار حين يندب الإمام في هذا المكان ثم يحصل السائلون على الاجابة.. وتنتشر الأخبار في أطراف البلاد وأكنافها بعد عودة الحجيج الى أوطانهم. وكان هناك في مواسم الحج من يأتي من الكوفة والمدينة ليجيب عن هذه التساؤلات مغتنماً فرصة تجمع المسلمين، وليبثّ روح التشيع من خلال أعظم قناة إعلامية آنذاك.
هكذا عاش الإمام، وهكذا خطط لما بعد وفاته، فسلام عليه يوم ولد ويوم جاهد ويوم استشهد في سبيل الله ويوم يبعث حياً.
توفى الإمام الباقر (عليه السلام) وهو في السابعة والخمسين من عمره، وعلى عهد هشام بن عبد الملك، وهو من أكثر ملوك بني أمية اقتداراً. ورغم ما كانت تحيط بالحكومة الأموية آنذاك من مشاكل ومتاعب، فإن ذلك لم يصرفها عن التآمر على القلب النابض للشيعة، أي الإمام الباقر، فأوعز هشام الى عملائه أن يدُسّوا السم للإمام، وحقق بذلك انتصاره في القضاء على أخطر أعدائه. - قيادة الإمام الصادق (عليه السلام)
قيادة الإمام الصادق (عليه السلام)
وتحمّل الإمام الصادق (عليه السلام) مسؤولية مواصلة المسيرة في ظروف معقّدة وصعبة للغاية.
فالانتفاضات تنشب في طول البلاد وعرضها، والولاة منهمكون بجمع الأموال والثروات الطائلة، والطاعون والقحط يضرب مناطق واسعة منها خراسان والعراق، والجهاز الحاكم يبطش دون رحمة، ويخلق حالة من الذل والخنوع بين الناس. والمنشغلون بالعلوم الإسلامية من فقه وحديث وتفسير لم يكن خطرهم غالباً يقلّ عن خطر الساسة والحكّام، وهم الذين يفترض بهم أن يكونوا ملاذ الناس وملجأهم، كثير من هؤلاء كانوا يدبّجون الفتاوى ليرضوا السلطان والولاة. وكثير منهم كانوا يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بتوافه الأمور، ويثيرون النزاعات الكلامية الفارغة التي لا تمتّ بصلة إلى الإسلام وإلى معاناة الجماهير.مهمة الإمام الصادق (عليه السلام) في هذه الظروف المظلمة هي ما ذكرناه بشأن مهمة الإمامة، وتتلخص في طرح الفكر الإسلامي الصحيح، أي تبيين الإسلام كما جاء في القرآن وسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مع مكافحة كل الانحرافات والتشويهات الجاهلة والمغرضة، وكذلك التخطيط لإقامة نظام العدالة الإسلامية، وصيانة هذا النظام في حالة إقامته.
كلا المهمتين: المهمة الفكرية والمهمة السياسية، تشكّلان خطراً كبيراً على النظام الحاكم. ليست المهمة السياسية وحدها تثير سخط السلطة، فالمهمة الفكرية أيضاً تلغي تلك الأفكار والمفاهيم المنحرفة التي قدمها السلطان و وعّاظه باسم الدين إلى المجتمع. من هنا فإن العملية الفكرية لها الأولوية، لأنها تقضي على الزيف الديني الذي يستند إليه الجهاز الحاكم في مواصلة ظلمه. من جهة أخرى فإن الأوضاع السائدة مستعدة للفكر الشيعي الثوري، والحرب والفقر والاستبداد عوامل تغذّي روح الثورة، أضف إلى ذلك عامل الأجواء التي وفّرها نشاط الإمام الباقر (عليه السلام) في المناطق القريبة والنائية.
إن الاستراتيجية العامة للإمامة هي النهوض بثورة توحيدية علوية. ومتطلّباتها هي:
أولاً: إيجاد تحمل فكر الإمامة وتهضمه، وتتطلع بشوق إلى تطبيقه.
وثانياً: إيجاد مجموعة منظّمة مجاهدة مضحّية.
وهذه المتطلّبات تستلزم بدورها نشر الدعوة في جميع أرجاء العالم، وإعداد الأرضية النفسية لتقبّل الفكر الإسلامي الثائر في جميع الأقطار، وتستلزم أيضاً دعوة أخرى لإعداد افراد مضحّين متفانين يشكلون التنظيم السرّي للدعوة.
وهذا هو سرّ صعوبة الدعوة على طريق الإمامة الحقّة. فالدعوة الرسالية التي تستهدف القضاء على الطاغوت، وعلى التفرعن والتجبّر والعدوان والظلم في المجتمع، وتلتزم بالمعايير الإسلامية، لابدّ أن تستند إلى إرادة الجماهير وقوّتها وإيمانها ونضجها. خلافاً لتلك الدعوات التي ترفع شعار محاربة الطغاة، وهي تمارس في الوقت نفسه أعمال الطغاة والظلمة في حركتها، دون أن تتقيّد بمبادئ أخلاقية واجتماعية. فمثل هذه الدعوات لا تواجه صعوبات الدعوات الرسالية الهادفة، وهذا هو سرّ عدم تحقق أهداف حركة الإمامة على المدى العاجل، وهو أيضاً سرّ الانتصار السريع للحركات الموازية لحركة الإمامة (مثل حركة العباسيين).
الظروف المساعدة والأرضية المناسبة التي وفّرها نشاط الإمام السابق ــ الباقر (عليه السلام) ــ أدّت إلى أن يظهر الإمام الصادق (عليه السلام) ــ في جوّ العذاب الطويل الذي عانى منه الشيعة ــ بمظهر الفجر الصادق الذي ينتظره أتباع أهل البيت في أيامهم. والإمام الباقر (عليه السلام) ذكر بالإشارة والتصريح ما يركز هذا المفهوم.
عن جابر بن يزيد الجعفي: «سئل الإمام الباقر (عليه السلام) عن القائم فضرب يده على أبي عبد الله (عليه السلام) وقال: هذا والله ولدي قائم آل بيت محمد (صلّى الله عليه وآله»).
والقائم هنا طبعاً غير قائم آل محمد في آخر الزمان، وهو المهدي (عليه السلام) الذي تواترت الروايات لدى كل المسلمين أنه يظهر في آخر الزمان، وأنه الخليفة الثاني عشر من خلفاء رسول الله. القائم هنا بمعناه اللغوي ينطبق على كل من ينهض بوجه الظلم والاستبداد، وهو اصطلاح معروف في مدرسة أهل البيت، ولا يعني ذلك أن يكون القائم بالسيف بالضرورة. بل إنه يقوم بهجوم ثقيل خطير، سواء في اسلوب النشاط الفكري أو التنظيمي أو بأية صورة أخرى تستهدف مقارعة الظالمين ومهاجمتهم. فالإمام الباقر (عليه السلام) يركّز هنا على مفهوم نهوض الإمام الصادق (عليه السلام) بمسؤولية كبيرة تجاه السلطة القائمة، ولا يركّز على النتيجة.. بل في رواية أخرى يتحدّث بلغة تكاد تكون يائسة من إمكان انتصار حركة الإمامة على الوضع السياسي القائم.
ومن الروايات التي يركّز الإمام الباقر (عليه السلام) على الدور الذي سينهض به الإمام الصادق (عليه السلام) ما رواه أبو الصباح الكناني قال: «نظر أبو جعفر إلى ابنه أبي عبد الله فقال: ترى هذا؟ هذا من الذين قال الله تعالى: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}».
ولعل تصريحات الإمام هذه هي التي أشاعت فكرة قيام الإمام الصادق وخلافته بين الشيعة، وجعلت أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام) يترقبون ساعة الصفر بين آونة وأخرى.
في رجال الشيخ الكشي رواية يمكن أن نفهم منها هذه الحالة السائدة بين أتباع أهل البيت آنذاك:
روى ابن مسكان عن زرارة، أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل من أصحابنا مختفٍ عن غرامة. فقال: أصلحك الله، إن رجلاً من أصحابنا كان مختفياً من غرامة، فإن كان هذا الأمر قريباً صبر حتى يخرج مع القائم، وإن فيه تأخير صالح غرامةً؟ فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): يكون، فقال زرارة: يكون الى سنة؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يكون إن شاء الله، فقال زرارة: يكون الى سنتين؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يكون إن شاء الله، فخرج زرارة فوطّن نفسه على أن يكون الى سنتين فلم يكن، فقال: ما كنت أرى جعفراً إلاّ أعلم مما هو.
وعبارة «هذا الأمر» في عرف أتباع اهل البيت كناية عن المستقبل الموعود لهم، أي استلزام زمام الحكم او القيام بما يقرّبهم من ذلك كالثورة المسلحة مثلاً. والقائم هو الذي يقود تلك العلمية.
وفي رواية أخرى يذكر هشام بن سالم، وهو ايضاً من وجوه الشيعة المعروفة، أن زرارة قال له: لا ترى على أعوادها غير جعفر، قال: فلما توفي أبو عبد الله (عليه السلام) أتيته فقلت له: تذكر الحديث الذي حدّثتني به؟ وذكرته له، وكنت أخاف أن يجحدنيه، فقال: إني والله ما كنت قلت ذلك إلاّ برأيي.
من مجموع ما تقدم نفهم ان الإمام الصادق (عليه السلام) كان في نظر أبيه وفي نظر الشيعة مظهر آمال الإمامة والتشيع. وكأن سلسلة الإمامة قد ادّخرته ليجسد مساعي الإمام السجاد والإمام الباقر (عليهما السلام). كأنه هو الذي يجب أن يعيد بناء الحكومة العلوية والنظام التوحيدي، يجب أن ينهض نهضة إسلامية أخرى. الإمامان السابقان طويا المراحل الصعبة الشاقة لهذا الطريق اللاحب، وعليه أن يقطع المرحلة الأخيرة، والظروف ــ كما ذكرنا ــ قد تهيّأت، والإمام استثمر هذه الظروف لينهض برسالته الجسيمة.
منذ استلام المسؤولية حتى الوفاة، قضى 33 عاماً في جهاد متواصل، وخلال هذه الأعوام كانت الظروف في مد وجزر، مرة تتجه لصالح مدرسة أهل البيت، ومرة أخرى تعاكسها، مرة تبعث على التفاؤل وعلى أن النصر قريب، ومرة أخرى تشتد الضغوط وتختنق الأنفاس، فيخيّل الى أصحاب الإمام أن كل الآمال قد تبدّدت. والإمام الصادق (عليه السلام) في كل هذه الأحوال ماسك بدفة القيادة بعزم وتصميم، يجتاز بالسفينة عبر هذه الأمواج المتلاطمة الممزوجة بالأمل واليأس، لا يفكر إلاّ بما يجب قطعه في المستقبل من أشواط، باعثاً الجد والنشاط والايمان في اتباعه للوصول الى ساحل النجاة.
ويلزمنا أن نشير هنا الى ظاهرة مؤسفة تواجه كل الباحثين في حياة الإمام الصادق (عليه السلام)، وهي الغموض الذي يكتنف السنين الأولى لبدايات إمامة الصادق (عليه السلام) التي اقترنت بأواخر أيام بني أمية. كانت حياة صاخبة متلاطمة مليئة بالحوادث الجسام، يمكن أن نفهم بعض ملامحها من خلال مئات الروايات. غير أن المؤرخين والمحدثين لم يعرضوا لنا هذه الفترة بشكل مرتّب منسجم مترابط، ولابد للباحث أن يعتمد على القرائن، وأن يلاحظ التيارات العامة في ذلك الزمان، ويقرن كل رواية بما حصل عليه من معلومات مسبقة، ليفهم محتوى الرواية وتفاصيلها.
ولعل أحد أسباب هذا الابهام يكمن في سرية حركة الإمام وأتباعه.. فالتنظيم السري القائم على أسس صحيحة يجب أن تبقى المعلومات عنه سرية مخفية، وأن لا يطّلع عليها من هو خارج التنظيم. ولا تنتشر هذه المعلومات إلاّ بعد أن تحقق الحركة انتصارها. ومن هنا تتوفر لدينا معلومات وافية عن تفاصيل الاتصالات السرية في حركة العباسيين، لأن حركتهم انتصرت. ولا شك أن حركة أهل البيت لو قدّر لها أن تنتصر وتستلم زمام الأمور، لأطّلعنا على أسرار تنظيمها الواسع.
وثمة سبب آخر يمكن أن يكون عاملاً في هذا الغموض، هو أن المؤرخين كانوا يدوّنون عادة ما يرضي السلطان، ولذلك نرى في كتبهم تفاصيل حياة الخلفاء ولهوهم ولعبهم وسهراتهم ومجالس طربهم، بينما لا نرى شيئاً يؤبه له بشأن الثائرين والمظلومين والمسحوقين، لأن مثل هذه المعلومات تحتاج من الباحث أن يتحرّى ويبحث ويخاطر، بينما حياة الخلفاء مادة جاهزة، وغنيمة باردة تكسب الرضا وتستدر العطاء.
والمؤرخون الخاضعون للخلافة العباسية استمروا يكتبون على هذا المنوال مدة خمسمائة سنة بعد حياة الإمام الصادق (عليه السلام)، ومن هنا لا يمكن أن نتوقع العثور على شيء معتدّ به من المعلومات عن حياة الإمام الصادق (عليه السلام) او أي إمام من أئمة الشيعة في مثل هذه المصادر.
الطريق الوحيد الذي يستطيع أن يهدينا الى الخط العام لحياة الإمام الصادق (عليه السلام) هم اكتشاف المعالم الهامة لحياة الإمام من خلال الأصول المتناثرة العامة لفكر الإمام وأخلاقه. ثم نبحث في القرائن والأدلة المتناثرة التاريخية والقرائن الأخرى غير التاريخية لنتوصل الى التفاصيل. - معالم حياة الإمام الصادق (عليه السلام)
- تبيين مسألة الإمامة والدعوة إليها
1ــ تبيين مسألة الإمامة والدعوة إليها
هذا الموضوع يشكل أبرز خصائص دعوة أئمة أهل البيت، منذ السنوات الأولى التي أعقبت رحيل النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله). كانت مسألة إثبات إمامة أهل البيت (عليهم السلام) تشكّل طليعة الدعوة في كل أعصار الإمامة.. هذه المسألة نشاهدها أيضاً في ثورة الحسين بن علي (عليهما السلام)، ونشاهدها بعد ذلك أيضاً في ثورات أبناء أئمة أهل البيت، مثل زيد بن علي. ودعوة الإمام الصادق (عليه السلام) لم تخرج عن هذا النطاق أيضاً.
قبل أن نستعرض وثائق هذا الموضوع، يجب علينا أن نعرف أولاً مفهوم «الإمامة» في الفكر الإسلامي. وما معنى الدعوة إلى الإمامة؟
كلمة «الإمامة» تعني في الأصل القيادة بمعناها المطلق، وفي الفكر الإسلامي تطلق غالباً على مصداقها الخاص، وهو القيادة في الشؤون الاجتماعية، الفكرية منها والسياسية.
وأينما وردت في القرآن مشتقات لكلمة الإمامة (إمام، أئمة)، فيراد بها هذا المعنى الخاص لقيادة الأمة. ففي بعض المواضع يقصد بها القيادة الفكرية، وفي مواضع أخرى يراد بها القيادة السياسية، أو الاثنتين معاً.
بعد رحيل النبي (صلّى الله عليه وآله) وظهور الانشقاق الفكري والسياسي بين المسلمين اتخذت كلمة الإمامة والإمام مكانة خاصة، لأن مسألة القيادة السياسية شكّلت المحور الأساس للاختلاف. والكلمة كان لها في البداية مدلولها السياسي أكثر من أي مدلول آخر، ثم انضمّت إليها بالتدريج معانٍ أخرى، حتى أصبحت مسألة «الإمامة» تشكّل في القرن الثاني أهم مسائل المدارس الكلامية ذات الاتجاهات الفكرية المختلفة، وكانت هذه المدارس تطرح آراءها بشأن شروط الإمام وخصائصه، أي شروط الحاكم في المجتمع الإسلامي، وهو معنى سياسي للإمامة.
إن الإمامة في مدرسة أهل البيت ــ التي يرى أتباعها أنهم يمثلون أنقى تيار فكري إسلامي ــ لها المعنى نفسه، ونظرية هذه المدرسة بشأن الإمامة تتلخص فيما يلي:
الإمام والزعيم السياسي في المجتمع الإسلامي يجب أن يكون منصوباً من الله، بإعلان من النبي. ويجب أن يكون قائداً فكرياً ومفسّراً للقرآن وعالماً بكل دقائق الدين ورموزه، ويجب أن يكون معصوماً مبرّأً من كل عيب خلقي وأخلاقي وسببي. ويجب أن يكون من سلالة طاهرة نقية و…
وبذلك فإن الإمامة كانت في العرف الإسلامي خلال القرنين الأول والثاني تعني القيادة السياسية، وفي العرف الخاص بأتباع أهل البيت تعني، إضافة إلى القيادة السياسية، القيادة الفكرية والأخلاقية أيضاً.
فالشيعة تعترف بإمامة الفرد حين يكون ذلك الفرد متمتعاً بخصائص هي ــ إضافة إلى قدرته على إدارة الأمور الاجتماعية ــ مقدرته على التوجيه والإرشاد والتعليم في الحقل الفكري والديني، والتزكية الخلقية. وإن لم تتوفر فيه هذه المقدرة لا يمكن أن يرقى إلى مستوى «الإمامة الحقة». وليس بكافٍ ــ في نظرهم ــ حسن الإدارة السياسية والاقتدار العسكري والفتوحات وأمثالها من الخصائص التي كانت معياراً كافياً لدى غيرهم.
فمفهوم الإمامة لدى اتباع أهل البيت ــ إذن ــ يتجه إلى إعطاء إمامة المجتمع صفة قيادة ذلك المجتمع في مسيرته الجماعية والفردية. فالإمام رائد مسيرة التعليم والتربية وقائد المسيرة الحياتية. ومن هنا كان «النبي» (صلّى الله عليه وآله) إماماً أيضاً، لأنه القائد الفكري السياسي للمجتمع الذي أقام دعائمه. وبعد النبي تحتاج الأمة إلى إمام يخلفه ويتحمل عبء مسؤولياته، (بما في ذلك المسؤولية السياسية). ويعتقد الشيعة أن النبي نصّ على خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ثم تنتقل الإمامة بعده إلى الأئمة المعصومين من ولده.
ولابدّ من الإشارة إلى أن تداخل المهام الثلاث للإمامة: القيادة السياسية، والتعليم الديني، والتهذيب الأخلاقي والروحي في الإمامة الإسلامية ناشئ من عدم وجود تفكيك بين هذه الجوانب الثلاثة في المشروع الإسلامي للحياة البشرية. فقيادة الأمة يجب أن تشمل قيادتها في هذه الحقول الثلاثة أيضاً، وبسبب هذه السعة وهذه الشمولية في مفهوم الإمامة لدى الشيعة كان لابد أن يعيّن الإمام من قبل الله سبحانه.
نستنتج مما سبق أن الإمامة ليست، كما يراها أصحاب النظرة السطحية، مفهوماً يقابل «الخلافة» و «الحكومة» أو منصباً منحصراً بالأمور المعنوية والروحية والفكرية، بل إنها في الفكر الشيعي «قيادة الأمة» في شؤون دنياها، وما يرتبط بذلك من تنظيم للحياة الاجتماعية والسياسية (رئيس الدولة). وأيضاً في شؤون التعليم والإرشاد والتوجيه المعنوي والروحي، وحلّ المشاكل الفكرية وتبيين الإيديولوجية الإسلامية. «قيادة فكرية».
وهذه المسالة الواضحة أضحت ــ مع الأسف ــ غريبة على أذهان اكثر المعتقدين بالإمامة، ولذلك نرى من الضروري عرض بعض النماذج من مئات الوثائق القرآنية والحديثية في هذا المجال:
في كتاب «الحجة» من «الكافي» حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يذكر فيه بالتفصيل ما يرتبط بمعرفة الإمام ووصف الإمام، ويتضمّن معاني عميقة ورائعة.
من ذلك ما ورد بشأن الإمامة بأنها: «هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إن الإمامة خلافة الله، وخلافة الرسول، ومقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وميراث الحسن والحسين (عليه السلام)، إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين، إن الإمامة أسّ الإسلام النامي، وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزّكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف».
وحول الإمام أنه:
«النجم الهادي، والماء العذب، والمنجي من الردى، والسحاب الماطر، ومفزع العباد في الداهية، وأمين الله في حلقه، وحجّته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذاب عن حرم الله، ونظام الدين، وعزّ المسلمين، وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين».
كل ما كان يمارسه النبي (صلّى الله عليه وآله) من مسؤوليات ومهام يتحملها علي (عليه السلام) والأئمة من ولده.
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) نرى تأكيداً على إطاعة «الأوصياء» وتوضّح الرواية أن الأوصياء هم أنفسهم الذين عبّر عنهم القرآن بأولي الأمر.
مئات الروايات المتفرقة في الأبواب المختلفة تصرّح أن مفهوم الإمام والإمامة في الفكر الشيعي ما هو إلا القيادة وإدارة شؤون الأمة المسلمة، وأن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هم الأصحاب الحقيقيون للحكومة. وتدل جميعاً بما لا يقبل الشك على أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في ادّعائهم الإمامة كانوا لا يقتصرون بالمطالبة على المستوى الفكري والمعنوي، بل كانوا يطالبون بالحكومة أيضاً. ودعوتهم على هذا النطاق الواسع الشامل إنما هي دعوة لحركة سياسية عسكرية لاستلام السلطة.
هذه الحقيقة ظلت خافية على الباحثين في العصور التالية، بينما كانت في فهم أصحاب الأئمة والمعاصرين لهم من أوضح الحقائق، حتى أن «الكميت» في إحدى قصائده الهاشميات يصف أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم ساسة يقودون الناس بطريقة تختلف تماماً عن الطريقة التي يمارسها الحكام الظلمة الذين يعاملون الناس كالبهائم.
نعود إلى الموضوع الأصلي وهو أن بيت القصيد في دعوة الإمام الصادق (عليه السلام) وسائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كان يدور حول «الإمامة». ولإثبات هذه الحقيقة التاريخية، أمامنا روايات متضافرة تنقل بوضوح وصراحة عن الإمام الصادق (عليه السلام) ادّعاءه الإمامة. وكما سنوضح فيما بعد، أن الإمام حين يعلن دعوته هذه كان يرى نفسه في مرحلة من الجهاد تستدعي أن يرفض بشكل مباشر صريح حكّام زمانه، وأنه يعلن نفسه بأنه صاحب الحق الواقعي، وصاحب الولاية والإمامة. ومثل هذه التصّدي يعني عادة اجتياز سائر المراحل الجهادية السابقة بنجاح. ولابدّ أن يكون الوعي السياسي والاجتماعي قد انتشر في قاعدة واسعة، وأن الاستعداد محسوس بالقوة في كل مكان، وأن الأرضية الإيديولوجية قد توفرت في عدد ملحوظ من الأفراد، وأن جمعاً غفيراً آمن بضرورة إقامة حكومة الحق والعدل، وأن يكون القائد ــ أخيراً ــ قد اتخذ قراره الحاسم بشأن هذه المواجهة الساخنة. وبدون هذه المقدمات فإن إعلان إمامة شخص معين وقيادته الحقة للمجتمع أمر فيه تعجّل ولا جدوى منه.
المسألة الأخرى، التي لابدّ من التركيز عليها في هذا المجال، أن الإمام ما كان يكتفي في بعض الموارد بإثبات إمامته وحسب، بل يذكر إلى جانب اسمه أسماء أئمة الحق من أسلافه أيضاً، أي إنه يطرح في الحقيقة سلسلة أئمة أهل البيت بشكل متصل غير قابل للتجزئة والانفصال.
هذا الموقف يشير إلى ارتباط جهاد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وتواصله من الأزمنة السابقة إلى عصر الإمام الصادق (عليه السلام). إن الإمام الصادق (عليه السلام) يقرر إمامته باعتبارها النتيجة الحتمية المترتبة على إمامة أسلافه، وبذلك يبين جذور هذه الدعوة وعمقها في تاريخ الرسالة الإسلامية، وارتباطها بصاحب الدعوة الرسول الأكرم (عليه أفضل الصلاة والسلام). ولنعرض بعض نماذج دعوة الإمام:
أروع رواية في هذا الباب عن «عمرو بن أبي المقدام»، وفيها تصوير لواقعة عجيبة.
في يوم التاسع من ذي الحجة إذ اجتمع الحجاج في عرفة لأداء منسك الوقوف، وقد توافدوا على هذا الصعيد من كل فج عميق.. من أقصى خراسان حتى سواحل الأطلنطي.. والموقف حساس وخطير، والدعوة فيه تستطيع أن تجد لها صدى في أقاصي العالم الإسلامي. انضمّ الإمام (عليه السلام) إلى هذه الجموع الغفيرة المحتشدة، ليوصل إليها كلمته، يقول الراوي: رأيت الإمام قد وقف بين الجموع ورفع صوته عالياً ليبلغ أسماع الحاضرين ولينتقل إلى آذان العالمين وهو ينادي:
«أيها الناس، إن رسول الله كان الإمام ثم كان علي بن أبي طالب، ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم…» فينادي ثلاث مرات لمن بين يديه، وعن يمينه وعن يساره ومن خلفه، اثني عشر صوتاً.
ورواية أخرى عن «أبي الصباح الكناني» أن الإمام الصادق (عليه السلام) يصف نفسه وأئمة الشيعة بأن لهم «الأنفال» و«صفو المال»..
عن أبي الصباح قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا أبا الصباح، نحن قوم فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال الله في كتابه».
و «صفو المال» هو من الأموال ذات القيمة الرفيعة في غنائم الحرب، وكان لا يقسم كما تقسم الغنائم بين المجاهدين، كي لا يستأثر به أحد دون آخر ويكون كرامة كاذبة لأحد من الناس، بل إنه يبقى لدى الحاكم الإسلامي يتصرف به لما يحقق مصلحة عامة المسلمين. وكان الحكام الظلمة يستأثرون بهذا المال ويجعلونه مختصاً بهم غصباً. والإمام يصرّح بأن «صفو المال» يجب أن يكون لهم، وهكذا الأنفال. وهذا يعني أنه يعلن نفسه بصراحة حاكماً شرعياً للمسلمين مسؤولاً عن استثمار هذه الأموال وفق ما يراه تحقيقاً لمصلحة الأمة.
وفي حديث آخر يذكر الإمام الصادق (عليه السلام) أسماء أسلافه من الأئمة (عليهم السلام) واحداً واحداً، ويشهد بإمامتهم ووجوب طاعتهم، وحين يصل إلى نفسه يسكت، والمخاطبون يعلمون جيداً أن ميراث العلم والحكم بعد الإمام الباقر (عليه السلام) وصل إلى الإمام الصادق. وبذلك يعلن الإمام (عليه السلام) حقه في قيادة الأمة باسلوب يجعله مرتبطاً بجدّه علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وفي أبواب كتاب الحجة من «الكافي» وكذلك في الجزء 47 من «بحار الأنوار» أحاديث كثيرة من هذا القبيل، تتحدث بصراحة أو بكناية عن ادّعاء الإمامة والدعوة إليها.
ولإثبات هذه الحقيقة التاريخية أمامنا شواهد عن شبكة منظمة لدعوة الإمام (عليه السلام) في جميع أرجاء العالم الإسلامي، والوثائق الكثيرة المتوفرة في هذا المجال تجعل وجود هذه الشبكة أمراً حتمياً لا مراء فيه. وهذه الشواهد تبلغ من الكثرة والوثوق بحيث يمكن أن نستدل بها على موضوعنا استدلالاً قاطعاً، ولو لم يتوفر حديث صريح واحد في هذا المجال.
نحن في هذا المجال أمام ظواهر تاريخية ثابتة:
1ــ ثمة ارتباط منظم فكري ومالي بين الأئمة (عليهم السلام) وأتباعهم، وكانت الأموال تحمل من أطراف العالم إلى المدينة كذلك والأسئلة الدينية تتقاطر عليها.
2ــ اتساع الرقعة الموالية لآل البيت (عليهم السلام) خاصة في البقاع الحساسة من العالم الإسلامي.
3ــ تجمّع عدد غفير من المحدثين والرواة الخراسانيين والسيستانيين والكوفيين والبصريين واليمانيين والمصريين حول الإمام (عليه السلام).
فهل أن هذه الظواهر المنسجمة المتناسبة مع بعضها قد حدثت بالصدفة؟
ولابد أن نضيف أن هذه الظواهر حدثت في ظل سيطرة سياسية كانت جادةً كل الجد في إلغاء حتى اسم علي وآل علي (عليه السلام)، بل سبّ علي على المنابر، وتسليط أنواع البطش والارهاب على اتباعهم. فكيف أمكن في مثل هذا الجو خلق قاعدة شعبية عريضة موالية لآل البيت تطوي آلاف الأميال للوصول الى الحجاز والمدينة لتُتَلمذ على أئمة أهل البيت (عليه السلام) وتأخذ عنهم فكر الإسلام في الحياة الفردية والاجتماعية، وتتحدث معهم في موارد كثيرة وعن مسائل الثورة على الوضع الفاسد، او بعبارة الروايات، تتحدث معهم عن مسائل القيام والخروج؟!!
فلو كان دعاة أهل البيت يقتصرون في حديثهم على علم الأئمة (عليهم السلام) وزهدهم، فلماذا يدور الحديث في وسط هؤلاء الاتباع دائماً عن الثورة المسلحة؟
ألا يدل كل ذلك على وجود شبكة منظمة للدعوة الى إمامة أهل البيت (عليه السلام) بالمعنى الكامل للإمامة، أي الفكرية والسياسية؟
وهنا يطرح سؤال عن سبب سكوت التاريخ عن وجود مثل هذه الشبكة المنظمة في دعوة أهل البيت (عليه السلام)، ولماذا لم يذكر التاريخ صراحة شيئاً عنها؟
والجواب ما أشرنا اليه مسبقاً، يكمن في التزام أصحاب الأئمة بالمبدأ الحركي الحكيم المسمّى بالتقية، الذي يحول دون نفوذ أي عنصر أجنبي في تنظيم الإمام. كما يكمن ايضاً في عدم استطاعة الحركة الجهادية الشيعية من تحقيق أهدافها ومن استلام زمام الحكم.
لو أن بني العباس لم يستولوا على السلطة لبقيت دون شك كل نشاطاتهم السرية وذكريات دعوتهم، مرّها وحلوها، حبيسة في الصدور، دون أن يعلم بها أحد ودون أن يسجلها التاريخ.
ومع ذلك، ليست قليلة هي الروايات التي تصرح الى حدّ ما بوجود دعوة واسعة لإمامة أهل البيت (عليهم السلام). ونكتفي برواية تقول:
قدم رجل من أهل الكوفة الى خراسان، فدعا الناس الى ولاية جعفر بن محمد (عليهما السلام)، ففرقة أطاعت وأجابت، وفرقة جحدت وأنكرت، وفرقة ورعت ووقفت.. ثم تقول الرواية: فخرج من كل فرقة رجل فدخلوا على أبي عبد الله (عليه السلام) فكان المتكلم منهم، الذي ورع ووقف. فقال: أصلحك الله، قدم علينا رجل من اهل الكوفة فدعا الناس الى طاعتك وولايتك، فأجاب قوم وأنكر قوم وورع قوم ووقفوا. قال الإمام (عليه السلام): فمن أي الثلاث أنت؟ قال: من الفرقة التي ورعت ووقفت. قال: فأين كان ورعك ليلة كذا وكذا (وذكّره بسقوطه في موقف شهواني)، فارتاب الرجل.
الداعية كما ترى من أهل الكوفة، ومنطقة الدعوة خراسان، واسم الرجل مكتوم، ودعوته الى إمامة جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) وولايته وطاعته.
ثمة وثائق أخرى تبين محتوى دعوة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم الى الإمامة، تعرضها المناقشات والمجادلات بينهم وبين خصومهم السياسيين (الأمويين والعباسيين). هذه المنازعات كانت تدور أحياناً بلغة الاستدلال الكلامي والديني، وأحياناً بلغة الأدب الرفيع المتمثل بالشعر. وكان كل الحِجاج يقوم على أساس اثبات حق الإمامة السياسية والحكم لأئمة اهل البيت (عليهم السلام)، ومقارعة المتربّعين ظلماً وغصباً على كرسي حكومة المسلمين. إن عصر الإمام الصادق (عليه السلام) ــ لمعاصرته حركة بني العباس وانتصار هذه الحركة ــ كان مفعماً بهذا اللون من الحِجاج.
كان شعراء بني العباس يحاولون اثبات حق الحكم لبني العباس استناداً الى الأدلة نفسها التي يقدمها عادة الطامعون الى السلطة والمتشبثون بكرسي الحكم. ويقف شعراء الشيعة مقارعين لحججهم مستدلين على زيف الحكم العباسي من منطق إسلامي، يقوم على أساس رفض الظلم والاجرام والخيانة بحق الأمة الإسلامية.
وللحِجاج الشعري بين العباسيين والعلويين أهمية في هذا المجال، لما كان ينهض به الشعر آنئذ من دور كبير في التعبير عن العواطف والأفكار، ولما كان يؤديه في القاعدة الشعبية من تأثير. يذكر صاحب كتاب «العباسيون الأوائل» دور الأدب في القرنين الأول والثاني فيقول:
«.. كان الأدب يؤثر في النفوس ويكسب عواطف الناس وميولهم الى هذه الفئة او تلك، وكان الشعراء والخطباء بمثابة جريدة العصر، يعبر كل منهم عن رأي سياسي ويدافع عن حزب معين، مبرزاً الدليل تلو لدليل على صحة دعواه، مفنّداً آراء الخصوم بكلام مؤثر واسلوب بليغ».
شعراء البلاط العباسي كانوا يجتهدون في اثبات حق العباسيين في الخلافة باعتبار ارتباطهم بالنبي عن طريق العمومة، مستدلين على ذلك بأن الارث لا ينقل الى أبناء البنت مع وجود الأعمام، فالخلافة بعد النبي من حق العباس عم النبي ومن بعده أبناؤه من بني العباس:
قال مروان بن أبي حفصة:
أنّى يكون وليس ذاك بكائــن لبني البنــات وراثــة الأعمــام
وقال ابان بن عبد الحميد اللاحقي:
فأبنــاء عــباس همُ يرثونــه كما العمُ لابن العم في الارث قد حجب
منطلقين من عاطفة الشعور بالظلم للرد على هذه الأدلة، بالمنطق نفسه، وأحياناً بمنطق آخر للاستدلال على حق أئمة أهل البيت في الإمامة. من ذلك استدلالهم بحديث غدير خم كقول السيد الحميري:
من كنــت مولاه فهــذا لــه مولى فلم يرضوا ولم يقنعــوا
ويردّ محمد بن يحيى بن أبي مرّة التغلبي على استدلال الشاعر العباسي بشأن وراثة الاعمام فيقول:
لِمَ لا يكون وإن ذاك لكــائــن لبنــي البنات وراثة الاعمــام
للبنت نصف كامل من مــــاله والعــم متروك بغير سهــــام
مــا للطليــق وللتراث وإنمــا صلّى الطليق مخافة الصمصام
ويرى دعبل أن كل ما حلّ بأهل البيت (عليهم السلام) من مصائب إنما هو لأنهم ورثوا النبي، فتكالب على الارث الطامعون، واضرّوا بمن له الحق في الإمامة:
أضرّ بهــم ارث النبــي فأصــبحوا تساهم فيهم خــيفة ومنــون
دعتهم ذئــــاب من أمية وانتــحت عليهم دراكاً ازمة وسنــون
وعــاثت بنو العباس في الدين عيثة تحكّم فيــها ظالــم وخؤون
وسَمّوا رشيــداً ليــس فيــهم لرشده وها ذاك مأمــون وذاك أمين
فمــا قبلت بالرشد منهــم رعــــاية ولا للولــي بالأمــانة ديــن
وليس من العسير على الباحث في العصر العباسي الأول أن يجد مئات النماذج من المحاورات والمناظرات السياسية بلغة الشعر في هذا المجال. وكان شعراء الشيعة وخصومهم يقيمون الحجج على دعواهم. وليس من المهم أن نعرف في هذه المواجهة مقدار صحة هذه الحجج واستقامتها، ولكن من المهم أن نعرف المحور الذي يدور حوله النزاع، والحق الذي يدعيه الجانبان.
هناك حق يدعيه كل جانب، وهذا الحق هو وراثة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الحكم وفي قيادة المسلمين.
ليس النزاع بين الجانبين العلوي والعباسي في وراثة الخصال الأخلاقية والمعنوية والفكرية للنبي (صلّى الله عليه وآله). ليس الخلاف في أحقية هذا او ذاك في وراثة هذه الخصال. لأن هذه الخصال لا تشكل حقاً يتنازع عليه الفريقان. النزاع حول «حق» يدّعيه الجانبان. وقد رأينا أن الشعراء في زمن الإمام الصادق (عليه السلام) يدافعون عن حق الإمام في قيادة الأمة المسلمة وفي حكم المجتمع الإسلامي، ويخوضون حرباً ضد من ليست لهم صلاحية حكومة المسلمين، ولذلك شواهد كثيرة في شعر القرن الثاني الهجري.
وقبل أن نختتم هذا القسم من المناسب أن نشير الى لغة حِجاج أخرى، هي لغة الرسائل. هذه الرسائل الاحتجاجية كانت تتضمن من جهة أهداف الفرقاء بشكل واضح دون لبس، وكانت تجد لها من جهة أخرى صدىّ شعبياً بعد انتشار مضمونها، وتأثيراً قوياً على الأنصار والخصوم. نذكر من ذلك رسالة محمد بن عبد الله بن الحسن ذي النفس الزكية الى المنصور العباسي. هذا العلوي الثائر يذكر بصراحة ووضوح أنه يطلب نزع الخلافة من خصومه لتكون في أبناء علي (عليه السلام)، يقول:
«وإن أبانا علياً كان الوصي وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟!».
ويبدو أن هذه الاستدلال أورده العلوي ردّاً على استدلال العباسيين في وراثتهم الخلافة، لأن بني العباس لم تكن لهم حجة سوى هذا الارث المزعوم، فأراد عليهم الطريق ويردّ عليهم بنفس منطقهم. ويلاحظ في العبارة أن ذا النفس الزكية يركز على إمامة علي (عليه السلام) انطلاقاً من فهمه لمعنى الإمامة، ثم يركز على طبيعة دعوة البيت العلوي التي يمثلها هذا الثائر. - بيان الأحكام وتفسير القرآن وفق ما ورثته مدرسة أهل البيت عن رسول الله (عليهم السلام):
2ــ بيان الأحكام وتفسير القرآن وفق ما ورثته مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
هذا النشاط يمكن ملاحظته في حياة الإمام الصادق (عليه السلام) بشكل متميّز عما نراه في حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، حتى سمّي فقه الشيعة باسم «الفقه الجعفري». حتى الذين يغضّون الطرف عن النشاط السياسي للإمام الصادق (عليه السلام) يجمعون على أن الإمام كان يدير أوسع، او واحدة من أوسع الحوزات الفقهية في زمانه. والذي بقي مستوراً عن أعين أغلب الباحثين في حياة الإمام، هو المفهوم السياسي ومفهوم المواجهة لهذا اللون من نشاطات الإمام، وهذا ما سنتعرض له الآن.
لابد أن نذكر أولاً، أن منصب الخلافة في الإسلام له خصائص متميزة تجعل الحاكم متميزاً عن الحكام في أنظمة الحكم الأخرى. فالخلافة ليست جهازاً سياسياً فحسب، بل هي جهاز سياسي وديني. وإطلاق لقب الخليفة على الحاكم الإسلامي يؤيد هذه الحقيقة، فهو خليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في كل ما كان يمارسه الرسول من مهام دينية ومهام قيادية سياسية في المجتمع.
والخليفة في الإسلام يتحمل المسؤوليات السياسية والمسؤوليات الدينية معاً. هذه الحقيقة الثابتة دفعت الخلفاء الذين جاءوا بعد الخلفاء الأولين والذين كانوا ذوي حظ قليل في علوم الدين، او لم يكن لهم منه حظ أصلاً، دفعتم الى سدّ هذا النقص عن طريق رجال دين مسخّرين لهم. فاستخدموا فقهاء ومفسرين ومحدثين في بلاطهم، ليكون جهازهم الحاكم جامعاً ايضاً للجانبين الديني والسياسي.
والفائدة الأخرى من وجود وعاظ السلاطين في الجهاز الحاكم، هي إن الحاكم الظالم المستبد كان قادراً متى ما أراد أن يغيّر ويبدّل أحكام الدين وفقاً للمصالح. وكان هؤلاء المأجورون يقومون بهذه العملية ارضاءً لأولياء نعمتهم، تحت غطاء من الاستنباط والاجتهاد ينطلي على عامة الناس.
الكتّاب والمؤرخون المتقدمون ذكروا لنا نماذج فظيعة من اختلاق الحديث ومن التفسير بالرأي كانت يد القوة السياسية فيها واضحة، وسنشير الى جانب منها في أقسام حديثنا التالية. هذا العمل الذي اتخذ غالباً في البداية (حتى أواخر القرن الهجري الأول) شكل وضع رواية او حديث، راح تدريجياً يأخذ طابع الفتوى. ولذلك نرى في أواخر عصر بني أمية وأوائل عصر بني العباس ظهور فقهاء كثيرين استفادوا من أساليب رجراجة في أصول الاستنباط، ليصدروا الأحكام وفق أذواقهم التي كانت في الواقع أذواق الجهاز الحاكم.
هذه العملية نفسها أُنجزت ايضاً في حقل تفسير القرآن. فالتفسير بالرأي اتجه غالباً الى إعطاء مفاهيم عن الإسلام لا تقوم على أساس سوى ذوق المفسّر ورأيه المستمدّ من ذوق الجهاز الحاكم وإرادته.
من هنا انقسمت العلوم الإسلامية: الفقه والحديث والتفسير منذ أقدم العصور الإسلامية الى تيارين عامين:
التيار الأول: تيار مرتبط بجهاز الحكومة الظالمة الغاصبة، ويتميز بتقديم الحقيقة في موارد متعددة قرباناً على مذبح «المصالح» التي هي في الواقع مصالح الجهاز الحاكم، ويتميز ايضاً بتحريف أحكام الله لقاء دراهم معدودات.
والتيار الثاني: التيار الأصيل الأمين الذي لا يرى مصلحة أرفع وأسمى من تبيين الأحكام الإلهية الصحيحة، وكان يصطدم ــ شاء أم أبى ــ في كل خطوة من خطواته بالجهاز الحاكم ووعاظ السلاطين، ولذلك اتجه منذ البدء اتجاهاً شعبياً في إطار من الحيطة والحذر.
انطلاقاً من هذا الفهم نعرف بوضوح أن اختلاف «الفقه الجعفري» مع الفقهاء الرسميين في زمن الإمام الصادق لم يكن اختلافاً فكرياً عقائدياً فحسب، بل كان يستمد وجوده من محتواه الهجومي المعارض ايضاً.
أهم أبعاد هذا المحتوى اثبات خواء الجهاز الحاكم، وفراغه من كل مضمون ديني، وعجزه عن إدارة الشؤون الفكرية للأمة، وبعبارة أخرى، عدم صلاحيته للتصدي لمنصب «الخلافة». والبعد الآخر تشخيص موارد التحريف في الفقه الرسمي.. هذه التحريفات القائمة على أساس فكر «مصلحي» في بيان الأحكام الفقهية ومداهنة الفقهاء للجهاز الحاكم. والإمام الصادق (عليه السلام) بنشاطه العلمي وتصدّيه لبيان أحكام الفقه والمعارف الإسلامية، وتفسير القرآن بطريقة تختلف عن طريقة وعاظ السلاطين قد اتخذ عملياً موقف المعارضة تجاه الجهاز الحاكم. الإمام (عليه السلام) بنشاطه هذا قد يلغي كل الجهاز الديني والفقهي الرسمي الذي يشكل أحد أضلاع حكومة الخلفاء، ويفرّغ الجهاز الحاكم من محتواه الديني.
ليس بأيدينا سند ثابت يبيّن التفات الجهاز الأموي الى هذا المحتوى المعارض لما قام به الإمام الصادق (عليه السلام) من نشاط علمي فقهي، ولكن أغلب الظن أن الجهاز الحاكم العباسي ــ وخاصة في زمن المنصور الذي كان يتمتع بحنكة ودهاء وتجربة اكتسبها من صراعه السياسي الطويل مع الحكم الأموي قبل وصوله الى السلطة ــ كان يعي المسائل الدقيقة في نشاطات البيت العلوي. وكان الجهاز الحاكم العباسي يفهم الدور الفاعل الذي يستطيع أن يؤديه هذا النشاط العلمي بشكل غير مباشر.
والتهديدات والضغوطات والمضايقات التي كانت تحيط بنشاطات الإمام الصادق (عليه السلام) التعليمية والفقهية من قبل المنصور المنقولة الينا في روايات تاريخية كثيرة ناتجة من هذا الالتفات الى حساسية المسألة. وهكذا اهتمام المنصور بجمع الفقهاء المشهورين في الحجاز والعراق في مقر حكومته ــ كما تدل على ذلك النصوص التاريخية العديدة ــ فإنه ناشئ عن هذا الالتفات ايضاً.
في حديث الإمام (عليه السلام) وتعاليمه لأصحابه ومقرّبيه كان يستند الى «خواء الخلفاء وجهلهم» ليستدل على أنهم في نظر الإسلام لا يحق لهم أن يحكموا. ونحن نشهد هذه الصيغة من الهجوم على الجهاز الحاكم بوضوح وصراحة في دروسه الفقهية.
يروى عنه قوله (عليه السلام): «نحن قوم فرض الله طاعتنا وأنتم تأتمّون بمن لا يُعذر الناس بجهالته».
أي أن الناس انحرفوا بسبب جهل حكامهم وولاة أمورهم، وسلكوا سبيلاً غير سبيل الله. وهؤلاء غير معذورين لدى الله. لأن إطاعة هؤلاء الحكام كانت عملاً انحرافياً، فلا يبرّر ما يستتبعها من وقوع في الانحرافات.
في تعليمات الأئمة (عليهم السلام) قبل الإمام الصادق (عليه السلام) وبعده نرى ايضاً تركيزاً على ضرورة اقتران القيادة السياسية بالقيادة الفكرية والايديولوجية. ففي رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن جدّه الإمام محمد الباقر (عليه السلام) قال: «إنما مثل السلاح فينا مثل التابوت في بني اسرائيل، أينما دار التابوت دار الملك (تأمل بدقة المعنى الرمزي في التعبير) وأينما دار السلاح فينا دار العلم.. وفي رواية أخرى: حيثما دار السلاح فينا فثمَّ الأمرُ (الحكم»).
ويسأل الراوي الإمام: فيكون السلاح مزايلاً (مقارناً) للعلم؟
قال الإمام: لا. أي أن قيادة المجتمع المسلم يجب أن تكون في من بيده السلاح والعلم معاً.
الإمام (عليه السلام) إذن يرى أن علم الدين وفهم القرآن بشكل صحيح شرط من شروط الإمامة، ومن جهة أخرى فهو بنشاطه العلمي، وجمع عدد غفير من مشتاقي علوم الدين حوله، وتعليمه الدين بشكل يختلف تماماً عن الطريقة المعتادة لدى العلماء والمحدثين والمرتبطين بجهاز الخلافة، يثبت عملياً أصالة المحتوى الديني لمدرسته، وزيف الظاهر الديني الذي يتقمّصه جهاز الخلافة ومن لفّ لفّه من علماء بلاطه. وعن هذا الطريق المهاجم المتواصل العميق الهادئ يضفي على جهاده بعداً جديداً.
وكما ذكرنا من قبل، فإن الحكام العباسيين الأوائل الذين قضوا سنين طوالاً قل تسلّمهم السلطة في نفس أجواء الجهاد العلوي والى جانب أنصار العلويين، كانوا على علم بكثير من الخطط والمنعطفات، وكانوا متفهّمين لدور الهجوم والمواجهة الذي يؤديه هذا النشاط في الفقه والحديث والتفسير أكثر من أسلافهم الأمويين. وقد يكون هذا السبب هم الذي دفع المنصور العباسي في مواجهاته مع الإمام الصادق (عليه السلام) أن يمنع الإمام زمناً من الجلوس في حلقات التدريس وعن تردّد الناس عليه. حتى أن المفضل بن عمر يقول: «إن المنصور قد كان همّ بقتل أبي عبد الله (عليه السلام) غير مرة، فكان اذا بعث اليه ودعاه ليقتله فاذا نظر اليه هابه ولم يقتله، غير أنه منع الناس عنه ومنعه من القعود للناس، واستقصى عليه أشد الاستقصاء، حتى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه في نكاح او غير ذلك فلا يكون علم ذلك عندهم، ولا يصلون اليه فيعتزل الرجل وأهله، فشق على شيعته وصعب عليهم..». - إقامة تنظيم سري ايديولوجي ــ سياسي
3ــ إقامة تنظيم سري ايديولوجي ــ سياسي
مرّ بنا أن الإمام الصادق (عليه السلام) قاد في أواخر العصر الأموي شبكة اعلامية واسعة استهدفت الدعوة الى إمامة آل علي (عليهم السلام) وتبيين مسألة الإمامة بشكلها الصحيح. وهذه الشبكة نهضت بدور مثمر وملحوظ في أقاصي بقاع العالم الإسلامي، وخاصة في العراق وخراسان لنشر مفاهيم الإمامة.
ونشير هنا الى جانب صغير من هذه المسألة. مسألة التنظيمات السرية في الحياة السياسية للإمام الصادق (عليه السلام) وباقي الأئمة من أهم المسائل وأكثرها حساسية، وهي في الوقت نفسه من أغمض فصول حياتهم وأشدها ابهاماً. وكما ذكرنا، لا يمكن أن نتوقع وجود وثائق صريحة في هذا المجال، حيث لا يمكن أن نتوقع من الإمام او أحد أصحابه أن يعترف صراحة بوجود هذه التنظيمات ــ السياسية ــ الفكرية.
فهذا مما لا يمكن الكشف عنه. الشيء المعقول هو أن الإمام ينفي بشدة وجود مثل هذا التنظيم السري، وهكذا أصحابه، ويعتبرون ذلك تهمة وسوء ظن فيما لو تعرضوا لاستجواب جهاز السلطة. هذه هي خاصية العمل السري، والباحث في حياة الأئمة (عليهم السلام) ايضاً من حقه أن لا يقتنع بوجود مثل هذا التنظيم دون دليل مقنع. اذن فلابد أن نبحث عن القرائن والشواهد والحوادث التي تبدو بسيطة لا تلفت نظر المطالع العادي، لنبحث عن دلالاتها في هذا المجال. بهذا اللون من التدقيق في حياة الأئمة (عليهم السلام) خلال قرنين ونصف القرن من حياتهم يستطيع الباحث أن يطمئن الى وجود مثل هذه التنظيمات التي تعمل تحت قيادة الأئمة (عليهم السلام).
ما المقصود بالتنظيم؟ ليس المقصود به طبعاً حزباً منظماً بالمفهوم المعروف اليوم، ولا يعني وجود كوادر منظمة ذات قيادات اقليمية مرتبطة هرمياً، فلم يكن شيء من هذا موجوداً ولا يمكن أن يوجد. المقصود بالتنظيم وجود جماعة بشرية ذات هدف مشترك تقوم بنشاطات متنوعة تتجه نحو ذلك الهدف، وترتبط بمركز واحد وقلب نابض واحد ودماغ مفكر واحد، تسود بين أفرادها روابط عاطفية مشتركة.
هذه الجماعة كانت في زمن الإمام علي (عليه السلام) (أي خلال السنوات الخمس والعشرون بين وفاة الرسول الأكرم وبيعته للخلافة) كان يجمعها الايمان بأحقية الإمام علي (عليه السلام) في الخلافة، وكانت تعلن وفائها الفكري والسياسي للإمام، غير أنها كانت تحذو حذو الإمام علي (عليه السلام) في عدم إثارة ما يزلزل المجتمع الإسلامي الوليد، كما كانت تنهض بما كان ينهض به الإمام علي (عليه السلام) في تلك السنوات من مهام رسالية تستهدف صيانة الإسلام ونشره، ومحاولة الحدّ من الانحرافات. واتخذت لولائها هذا اسم «شيعة علي»، ومن وجوههم المشهورة: سلمان وعمار وأبو ذر وأبي بن كعب والمقداد وحذيفة وغيرهم من الصحابة الأجلاء.
ولدينا شواهد تاريخية تثبت أن هؤلاء كانوا يشيعون بين الناس فكرهم بشأن إمامة علي (عليه السلام) بشكل حكيم. وعملهم هذا كان مقدمة لالتفاف الناس حول الإمام وإقامة الحكم العلوي.
بعد أن استلم الإمام علي (عليه السلام) مقاليد الأمور سنة 35 هجرية، كان حول الإمام علي صنفان من الناس: صنف عرف الإمام ومكانته وفهم معنى الإمامة وآمن بها، وهم شيعته الذين تربّوا على يد الإمام بشكل مباشر او غير مباشر. وعامة الناس الذين عاشوا أجواء تربية الإمام ونهجه ولكنهم لم يكونوا مرتبطين فكرياً وروحياً بالجماعة التي ربّاها الإمام تربية خاصة.
ولذلك نجد بين أتباع الإمام صنفين من الأفراد بينهما تفاوت كبير: صنف يضم عماراً ومالكاً الأشتر وحجر بن عدي وسهل بن حنيف وقيس بن سعد وأمثالهم، وصنف من مثل أبي موسى الأشعري وزياد بن أبيه نظرائهم.
بعد حادثة صلح الإمام الحسن (عليه السلام) كانت الخطوة الهامة التي اتخذها الإمام لنشر فكر مدرسة أهل البيت، ولمّ شتات الموالين لهذا الفكر، اذ اتيحت الفرصة لحركة أوسع بسبب اضطهاد السلطة الأموية. وهكذا كان دائماً، فالاضطهاد يؤدي الى انسجام القوى المضطهدة وتلاحمها وتجذّرها بدل تبعثرها وتشتّتها. واتجهت استراتيجية الإمام الحسن (عليه السلام) الى تجميع القوى الأصيلة الموالية، وحفظها من بطش الجهاز الأموي، ونشر الفكر الإسلامي الأصيل في دائرة محدودة، ولكن بشكل عميق، وكسب الأفراد الى صفوف الموالين، وانتظار الفرصة المواتية للثورة على النظام وتفجير أركانه، وإحلال الحكم العلوي مكانه.. وهذه الاستراتيجية في العمل هي التي جعلت الإمام الحسن (عليه السلام) أمام خيار واحد وهو الصلح.
ومن هنا نرى أن جمعاً من الشيعة برئاسة المسيب بن نجية وسليمان بن صرد الخزاعي يقدمون على الإمام الحسن (عليه السلام) بعد حادثة الصلح في المدينة، حيث اتخذها الإمام قاعدة لعمله الفكري والسياسي بعد عودته من الكوفة، ويقترحون عليه إعادة قواهم وتنظيماتهم العسكرية والاستيلاء على الكوفة والاشتباك مع جيش الشام، الإمام يستدعي هذين الاثنين من بين الجمع، ويختلي بهما ويحدثهما بحديث لا نعرف فحواه، يخرجان بعده بقناعة تامة بعدم جدوى هذه الخطة. وحين يعود الاثنان الى من جاء معهما يفهمانهم باقتضاب أن الثورة المسلحة مرفوضة، ولابد من العودة الى الكوفة لاستئناف نشاط جديد فيها.
هذه حادثة مهمة لها دلالات كبيرة حدث ببعض المؤرخين المعاصرين الى اعتبار ذلك المجلس الحجر الأساس في إقامة التنظيم الشيعي.
والواقع أن الخطوة الأولى لإقامة التنظيم الشيعي لو كانت حقاً قد اتخذت في ذلك اللقاء بين الإمام الحسن (عليه السلام) والرجلين القادمين من العراق، فإن مثل هذه الخطوة قد أوصى بها الإمام علي (عليه السلام) من قبل حين أوصى المقربين من أصحابه بقوله: «لو قد فقدتموني لرأيتم بعدي أشياء يتمنّى أحدكم الموت مما يرى من الجور والعدوان والأثَرَة والاستخفاف بحق الله والخوف على نفسه، فاذا كان ذلك:
ــ فاعتصموا بالله جميعاً ولا تفرقوا.
ــ وعليكم بالصبر والصلاة.
ــ والتقية.
واعلموا أن الله عز وجل يبغض من عباده (التلوّن). لا تزولوا عن (الحق وأهله) فإن من استبدل بها هلك، وفاتته الدنيا وخرج منها آثماً».
هذا النص الذي يرسم بوضوح الوضع المأساوي في العصر الأموي، ويوجه المؤمنين الى التلاحم والتعاضد والتنسيق والانسجام، يعتبر أروع وثيقة من وثائق الجهاز التنظيمي في حركة أهل البيت (عليهم السلام). وهذا المشروع التنظيمي يتبلور في شكله العملي في اللقاء بين الإمام الحسن (عليه السلام) واثنين من الشيعة الخلّص. ومما لاشك فيه أن أتباع أهل البيت لم يكونوا جميعاً مطّلعين على هذا المشروع الدقيق. ولعل هذا يبرّر ما كان يصدر من بعض صحابة الإمام الحسن (عليه السلام) من اعتراض وانتقاد. وكان المعترضون يواجهون قول الإمام الذي مضمون: «.. من يدري، لعل اختبار لكم ونفعٌ زائلٌ لأعدائكم ..».
وفي هذه الاجابة إشارة خفية الى سياسة الإمام وتدبيره.
خلال الأعوام العشرين من حكومة معاوية بكل ما أحاط فيها البيت العلوي من إعلام مكثّف مضاد، بلغ درجة لعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على منابر المسلمين، وبكل ما شهدتها من انسحاب الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) من ساحة النشاط العلني المشهود، لا نرى سبباً في انتشار فكر أهل البيت واتساع القاعدة الشيعية في الحجاز والعراق سوى وجود هذا التنظيم.
ولنلقِِ نظرة على الساحة الفكرية في هذه المناطق بعد عشرين عاماً من صلح الإمام الحسن (عليه السلام).
في الكوفة نرى رجال الشيعة من أبرز الوجوه وأشهرها. وفي مكة والمدينة بل وفي المناطق النائية نرى أتباع أهل البيت مثل حلقات مترابطة يعرف بعضها ما يلمّ بالبعض الآخر.
حين يستشهد بعد أعوام أحد رجال الشيعة وهو «حجر بن عدي» ترتفع أصوات الاعتراض في مناطق عديدة من البلاد الإسلامية، على الرغم الارهاب المفروض على كل مكان، ويبلغ الحزن والأسى بشخصية معروفة في خراسان ان يموت كمداً بعد إعلان الاعتراض الغاضب.
وبعد موت معاوية ترد على الإمام الحسين (عليه السلام) آلاف الرسائل تدعوه أن يأتي الكوفة لقيادة الثورة. وبعد استشهاد الإمام يلتحق عشرات الآلاف بمجموعة «التوابين»، او ينخرطون في جيش المختار وابراهيم بن مالك ضد الحكم الأموي.
ومن حق الباحث في التاريخ الإسلامي أن يسأل عن العوامل الكامنة وراء شيوع هذا الفكر والتحرك الموالي لآل البيت (عليهم السلام). هل يمكن أن تتم دون وجود نشاط مكثف محسوب منظّم متحد في الخطة والهدف؟!
الجواب: لا طبعاً. فالإعلام الهائل، الذي وجهته السلطة الأموية عن طريق مئات القضاة والولاة والخطباء، لا يمكن إحباطه وإفشاله دون إعلام مخطط مرسوم، ينهض به تنظيم منسجم موحّد غير مكشوف. وقبيل وفاة معاوية تزايد نشاط هذه الجهاز العلوي المنظّم وتصاعدت سرعة عمله. حتى أن والي المدينة يكتب الى معاوية ما مضمونه: «أما بعد، فإن عمر بن عثمان ــ عين والي المدينة على الحسين (عليه السلام) ــ أخبرنا بأن رجالاً من العراق وبعض شخصيات الحجاز يترددون على الحسين بن علي، وتدور بينهم أحاديث حول رفع راية التمرد والعصيان.. فاكتبوا لنا ماذا ترون».
بعد واقعة كربلاء وشهادة الإمام الحسين (عليه السلام) تضاعف النشاط التنظيمي لشيعة العراق على أثر الصدمة النفسية التي أصيبوا بها من مقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث بوغتوا بهذه الجريمة التي سلبتهم قدرة الالتحاق بركب الحسين وأهل بيته في كربلاء. وكان هذه التحرك مؤطّراً بالألم والحسرة والأسف.
يقول الطبري: فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ودعاء الناس في السر من الشيعة وغيرها الى الطلب بدم الحسين، فكان يجيبهم القوم بعد القوم والثغر بعد الثغر، فلم يزالوا كذلك حتى مات يزيد بن معاوية.
وحقاً ما تقوله مؤلّفة جهاد الشيعة اذ تعلّق على قول الطبري بالقول:
وظهرت جماعة الشيعة بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) كجماعة منظمة، تربطها روابط سياسية وآراء دينية، لها اجتماعاتها وزعماؤها، ثم لها قواتها العسكرية، وكانت جماعة «التوابين» أول مظهر لذلك كله.
ويبدو من دراسة أحداث التاريخ ورأي المؤرخين في تلك البرهة الزمنية، أن الشيعة كانوا يتولّون مسؤولية القيادة والتخطيط، أما القاعدة العريضة الساخطة على بني أمية، فكانت أوسع من المجموعة الشيعية المنظمة، وكانت هذه القاعدة تنضم الى كل حركة ذات صبغة شيعية.
من هنا فإن المتحركين ضدّ بني أمية، وإن رفعوا شعارات شيعية، لا ينبغي أن نتصورهم جميعاً بأنهم في عداد الشيعة، أي في عداد الجهاز التنظيمي لأئمة أهل البيت (عليهم السلام).
انطلاقاً مما سبق، أودّ التأكيد على أن اسم الشيعة بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) أُطلق فقط على المجموعة التي كانت لها علاقة وثيقة بالإمام الحق، تماماً كما كان الحال في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام).
هذه المجموعة هي التي عمدت بعد صلح الإمام الحسن (عليه السلام) إلى تأسيس التنظيم الشيعي بأمر الإمام، وهي التي نشطت في كسب الأفراد إلى التنظيم ودفع أفراد أكثر، لم يرتفعوا في الفكر والنضج العملي إلى مستوى الانخراط في التنظيم، نحو التيار العام للحركة الشيعية.
والرواية التي أوردناها عن الإمام الصادق (عليه السلام) في بداية هذا الحديث، والتي تذكر أن عدد المؤمنين بعد حادثة عاشوراء لم يتجاوز الثلاثة أو الخمسة، إنما تقصد أفراد هذه المجموعة الخاصة.. أي هؤلاء الذين كان لهم الدور الرائد الواعي في مسيرة حركة التكامل الثورية العلوية.
وعلى اثر النشاط المتستر الهادئ الذي قام به الإمام السجاد (عليه السلام) توسعت قاعدة هذه المجموعة، وإلى هذا يشير الإمام الصادق (عليه السلام) في الرواية المذكورة: «ثم لحق الناس وكثروا». وسنرى أن عصر الإمام السجاد والإمام الباقر والإمام الصادق (عليهم السلام) شهد تحرّك هذا الجمع تحرّكاً أثار الرعب والفزع في قلوب الحكام الظالمين، ودفع هؤلاء الحكام إلى ردود فعل قاسية.
وبعبارة موجزة، فإن اسم الشيعة في القرنين الأول والثاني الهجريين وفي زمن الأئمة (عليهم السلام) ما كان يُطلق على الذين يحبّون آل بيت النبي (عليهم السلام) أو المؤمنين بحقهم وبصدق دعوتهم فقط، من دون اشتراك في مسيرتهم الحركية. بل إن الشيعة كانوا يتميزون بشرط أساسي وحتمي، وهو عبارة عن الارتباط الفكري والعملي بالإمام، والاشتراك في النشاط الفكري والسياسي، بل والعسكري الذي يقوده لإعادة الحق إلى نصابه، وإقامة النظام العلوي الإسلامي. هذا الارتباط هو نفسه الذي يطلق عليه في قاموس التشيع اسم «الولاية».
جماعة الشيعة كانت تطلق في الواقع على أعضاء حزب الإمامة.. هذا الحزب الذي كان يتحرّك بقيادة الإمام (عليه السلام) وكان يتخذ من الاستتار والتقية خندقاً له مثل كل الأحزاب والتنظيمات المضطهدة التي تعيش في جو الإرهاب. هذه خلاصة النظرة الواقعية لحياة الأئمة (عليهم السلام)، وخاصةً الإمام الصادق (عليه السلام). وكما ذكرنا من قبل لا يمكن أن يكون لمثل هذه المسألة دلائل صريحة، إذ لا يمكن أن نتوقع من بيت سرّي أن يحمل لافتة تقول: «هذا بيت سرّي»! وكذلك لا يمكن أن نطمئن إلى النتيجة دون قرائن حاسمة.
من هنا ينبغي أن نتتبّع القرائن والشواهد والإشارات.
من العبارات العميقة التي تلفت نظر الباحث المدقق في الروايات المرتبطة بحياة الأئمة (عليهم السلام)، أو في كلام مؤلّفي القرون الإسلامية الأولى، عبارة «باب» و«وكيل» و«صاحب السر» وهي عبارات تطلق على بعض أصحاب الأئمة. فمثلاً، يقول ابن شهرآشوب المحدث الشيعي الشهير في سيرة الإمام السجاد (عليه السلام): «وكان بابه يحيى بن أم الطويل»، وفي سيرة الإمام الباقر (عليه السلام) يقول: «وكان بابه جابر بن يزيد الجعفي»، وفي ترجمة الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «وكان بابه محمد بن سنان». وفي «رجال الكشي» ترد حول زرارة وبريد ومحمد بن مسلم وأبي بصير عبارة: «مستودع سرّي». وفي كتب الحديث تروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) عبارة «وكيل» بشأن المعلّى بن خنيس. وكل واحد من هذه التعبيرات، إن لم تكن صادرة عن الإمام، فإنها دون شك حصيلة دراسة موسعة في حياة الأئمة، نهض بها المؤلفون الشيعة القدامى. واختبار هذه التعبيرات العميقة على أي حال ينطلق من معالم بارزة في حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام). ولو تأملنا في هذه التعبيرات لألفينا أن كل واحد منها يدل على وجود جهاز فعّال مستتر وراء النشاط الظاهري للأئمة (عليهم السلام).
مستودع السر
إذا لم يكن لأحدٍ «سرّ» فليس له مستودع سر. فما هو هذا السر في حياة الأئمة؟ ما هذا الذي لا يتحمله أصحاب الأئمة عامة، بل ثمة نفر معدود له لياقة وصلاحية تحمّله، وبذلك نال شرف اسم «مستودع السر»؟!
ولقد راحت الذهنية المتأخرة البعيدة عن واقع الأحداث وتمحيصها تفسّر هذا السر بأنه «سر الإمامة». كما راحت تفسّر سرّ الإمامة بأنه الأسرار الغيبية والقدرة على الخوارق والمعاجز.
أنا أؤمن بقدرة هذه الصفوة المقدسة من أهل البيت، الذين اختارهم الله لمواصلة مهمة حمل الرسالة وتبليغها بعد رسول الله، أن يحملوا مثل هذا القدرة ومثل هذه العلوم، كما أؤمن بأن تحلّيهم بهذه القوى والعلوم لا يتنافى أصلاً مع نظرة الإسلام إلى الإنسان والنواميس الطبيعية وسنن الكون. ولكن هذه القوى والعلوم ليست هي «سر الإمام». فمثل هذه القوى والعلوم أوضح دليل على الإمامة وعلى صدق دعوى الإمام. لماذا يكتم الإمام هذه الأمور ويوصي أصحابه بكتمانها في روايات كثيرة، تضافرت حتى أصبحت الكتب الحديثية الشيعية تتضمن باباً يحمل عنوان: «باب الكتمان»؟ لابدّ أن يكون هذا السرّ مما لو شاع لشكل خطراً كبيراً على الإمام وأصحابه، وهذا شيء غير الغيبيات والخوارق.
هل السر هو معارف أهل البيت؟ هل هو رؤية مدرسة أهل البيت للإسلام وفقهها وأحكامها؟ لا ننكر أن معارف مدرسة أهل البيت كانت تنشر في عصر الاضطهاد الأموي والعباسي وفق منهج الحكمة والتدبير، لكي لا يخوض فيها كل من هبّ ودبّ، ولكن هذه المعارف لا يمكن أن تكون هي سر الإمام. فمع كل ما أحاط بهذه المعارف من اختصاص، كانت تدرس في مئات الحوزات الفقهية والحديثية في عدد من كبريات مدن الصقع الإسلامي آنذاك، كان الشيعة يتناقلون هذه المعارف ويشرحونها ويتداولونها. بعبارة أخرى كانت هذه المعارف خاصة لا سرية.
واختصاصها يعني أن رواجها كان محدوداً بالدائرة الشيعية، لكنها كانت تصل الى غير الشيعة ايضاً في ظروف خاصة. لم تكن أبداً محدودة بأفراد معدودين من أصحاب الأئمة وخافية على غيرهم.
الحق إن الأسرار هي ما يتعلق بالمعلومات المرتبطة بالجهاز التنظيمي للإمام.. بالجهاز الذي يخوض معتركاً سياسياً باتجاه هدف ثوري.. بالتكتيك الذي ينتهجه الجهاز.. بالعمليات التي ينفذها.. بأسماء ومهام أعضاء الجهاز.. بمصادر التمويل.. بالأخبار والتقارير المتعلقة بالأحداث الهامة.. هذه وأمثالها من الأسرار التي لا يجوز أن يطّلع عليها سوى القائد والكوادر المسؤولة. ربما تحين الظروف المناسبة عاجلاً أم آجلاً لإعلان هذه الأسرار وكشفها، ولكن قبل أن تحين تلك الظروف لا يمكن أن يطلع على هذه الأسرار سوى من يرتبط عمله مباشرة بها، وهم «مستودع السر». وكل تسريب لهذه المعلومات الى أوساط الشيعة فإنه يفتح ثغرة تسرّبها الى الأعداء، وهو خطأ كبير لا يغتفر، خطأ قد يؤدي الى انهدام الجهود والأعمال والمجموعة المنتظمة. ومن هنا نفهم ما يعنيه الإمام (عليه السلام) اذ قال: «ليس الناصب لنا حرباً بأعظم من المذيع علينا سرّنا. فمن أذاع سرّنا الى غير أهله لم يفارق الدنيا حتى يعضهُ السلاح».الباب والوكيل
في الارتباطات السرية بين الإمام (عليه السلام) والشيعة قد يتطلب الأمر ايصال بعض المعلومات الى الشيعة عن طريق «واسطة»، وهذا تدبير معقول وطبيعي. العيون المتلصصة على كشف ارتباطات الإمام (عليه السلام) تترصد التقاءاته بأتباعه في موسم الحج في مكة والمدينة حين تؤمها القوافل من أقاصي العالم، لذلك نرى أن الإمام (عليه السلام) كان يُبعد عنه بعض الأفراد بلهجة لينة أحياناً، ومعاتبة تارة أخرى. يقول لسفيان الثوري مثلاً: «أنت رجل مطلوب وللسلطان علينا عيون فاخرج عنا غير مطرود».
ويترحم الإمام (عليه السلام) على شخص صادفه في الطريق وأعرض بوجهه عنه، ويذم شخصاً آخر رآه في ظروف مشابهة فسلّم عليه باحترام واجلال.
مثل هذه الظروف تستلزم وجود فرد يكون واسطة بين الإمام (عليه السلام) وبين من يحتاج الى معلومات تصل اليه من الإمام، وهذا الواسطة هو «الباب»، ويجب أن يكون من أخلص أتباع الإمام، وأقربهم اليه، وأغناهم بالمعلومات والخطط. يجب أن يكون مثل «نحلة» اذا عرفت الحشرات المضرّة ما تحمله من عسل قطّعتها وأغارت على شهدها. وليس صدفة أن نرى تعرض هؤلاء «الأبواب» غالباً للمطاردة وأقسى ألوان البطش والتنكيل.
إن يحيى بن أم طويل «باب» الإمام السجاد (عليه السلام) يقتل بشكل شنيع. وجابر بن يزيد الجعفي باب الإمام الباقر (عليه السلام) يتظاهر بالجنون ويشيع عنه ذلك فينجّيه من القتل الذي صدر الأمر به من الخليفة قبل أيام من اشتهار جنونه. ومحمد بن سنان باب الإمام الصادق (عليه السلام)، يتعرّض لطرد ظاهري من الإمام رغم أن الإمام أبدى رضاه عنه في مواضع أخرى وأثنى عليه، وما ذلك إلاّ لتعرّض محمد بن سنان لمثل هذه الأخطار. كما أن إعلان الإمام براءته من راوٍ معروف ومشهور حظي بإعلان رضا الإمام (عليه السلام) مراراً يعود على الأقوى الى تكتيك تنظيمي.
مثل هذا المصير يواجهه «الوكيل» ايضاً. مسؤول جمع الأموال المرتبطة بالإمام وتوزيعها، يملك ايضاً كثيراً من الأسرار وأقلها أسماء الدافعين والقابضين، وليست هذه المعلومات بالتي يستهين بها أعداء الإمام، وأفضل دليل على ذلك مصير المعلّى بن خنيس وكيل الإمام الصادق (عليه السلام) في المدينة، وتعبيرات الإمام القائمة على أساس التقية بشأن المفضل بن عمر وكيل الإمام في الكوفة.
هذه العناوين الثلاثة (الباب، الوكيل، صاحب السر) التي نجد مصاديقها في وجوه بارزة من رجال الشيعة تلقي ظلالاً على واقع الشيعة وارتباطهم بالإمام والحركة التنظيمية الشيعية.
يمكننا بهذه النظرة أن نفهم الشيعة بأنهم مجموعة من العناصر المنسجمة الهادفة النشطة المتمركزة حول محور مقدس يشعّ بتعاليمه وأوامره على القاعدة، والقاعدة ترتبط به وتنقل اليه المعلومات وتضبط مشاعرها وتسيطر على عواطفها بتوصياته الحكيمة، وتلتزم التزاماً دينياً العمل السري، مثل حفظ الأسرار، وقلة الكلام، والابتعاد عن الأضواء والتعاون الجماعي والزهد الثوري.
-
-