تحميل:
سائر الكتب
- الفكر الأصيل
- ضَرورة العَودة إلى القرآن
- العودة إلى نهج البلاغة
- روح التوحيد رفض عبودية غير الله
روح التوحيد رفض عبودية غير الله
آية الله العظمى السيد علي الخامنئي (دام ظله)
بسم الله الرحمن الرحيم
يوم نهض نبي الإسلام لحمل رسالة تحرير الإنسان، وأعلن شعار "لا إله إلا الله" واجه معارضة حادة ومقاومة عنيفة؛ وكان في مقدمة هذه الجبهة المضادة رؤساء القبائل ووجهاؤها، وكان بقية المعارضين تابعين ومطيعين لهؤلاء السادة والكبراء.
هؤلاء واجهوا الرسول، واجهوا الفئة المؤمنة ـ في البداية ـ بأبسط الأسلحة العدوانية، بالهمز واللمز والاستهزاء، ثم عمدوا إلى أسلحة أشد وأفتك كلما ازدادت الحركة التوحيدية قوة وبلورة. وهكذا كررت هذه الجبهة المضادة خلال الأعوام الثلاثة عشر قبل الهجرة تلك المشاهد المخزية في تاريخ الصراع بين الحق والباطل.
هذه الحقيقة التاريخية تستحق مزيداً من الدقة والإمعان لأنها تشكّل مؤشراً هاماً للتعمق في فهم الإسلام، وفي فهم التوحيد الذي يشكّل العمود الفقري للإسلام.
إنه لمؤسف جداً، بل إنها لمأساة، لكل دعاة تحرير الإنسان أن نشهد انحراف مفهوم التوحيد في عصرنا، فهذا المفهوم يشكّل أعمق أسس محتوى الأديان، ولا يناظره مفهوم آخر في عمق اتجاهه نحو تحرير الإنسان وإنقاذ البشرية المعذبة على مسرح التاريخ.
الرسالات الإلهية عامة عملت خلال التاريخ ـ على ما نعلم ـ على تغيير المجتمع، ودفعه في اتجاه يخدم مصالح الإنسان وينقذ المستضعفين والمسحوقين، ويقضي على كل مظاهر الظلم والتمييز والعدوان. المحتوى الأخلاقي لكل الأديان الكبرى، كما يقول "أريش فروم"، يتكون من التطلع نحو: العلم، والحب الأخوي، والتخفيف من الآلام، والاستقلال، والشعور بالمسؤولية (وهناك طبعاً تطلعات سامية شريفة أخرى لا نتوقع من باحث مادي أن يدركها).
كل هذه التطلعات والآمال تتلخص في مبدأ التوحيد. والأنبياء كانوا يطرحون كل أهدافهم من خلال شعار التوحيد، كما كانوا يحققون تلك الأهداف أو يمهدون لتحقيقها في أعقاب كفاح ينشب تحت راية هذا الشعار.
إنه لمؤسف حقاً، لا للموحدين فحسب بل كل المتبنّين لهذه الآمال والأهداف، أن يبقى محتوى التوحيد مجهولاً أو محرَّفاً أو سطحياً لا يتجاوز الإطار الذهني، خاصة في عصر تتصاعد فيه ضرورة الاتجاه نحو تلك الأهداف أكثر من أي وقت مضى.
ذكرنا أن المجابهات التي شهدها عصر فجر الإسلام تستطيع أن توضّح حقيقة هامة بشأن مفهوم التوحيد.
هذه الحقيقة هي أن شعار "لا إله إلا الله" اتجه أولاً لمقارعة أولئك الذين حاربوه وعادَوه، وهم: أفراد الطبقة المسيطرة المقتدرة في المجتمع.
رد الفعل الذي يبديه خصوم كل حركة في المجتمع يعـبّر دوماً بوضوح عن الاتجاهات الاجتماعية لتلك الحركة، ومدى عمق تأثير هذه الاتجاهات؛ كما يمكن فهم الاتجاه الطبقي والاجتماعي للحركة من خلال دراسة طبيعة أعدائها وانتماءاتهم الطبقية، ويمكن قياس عمق تأثيرها عن طريق فهم مدى تصلّب الأعداء تجاهها.
من هنا، فإن دراسة جبهة أتباع الدعوات الإلهية وجبهة أعدائها، واحدةٌ من الطرق الموثوقة في فهم هذه الدعوات بشكل صحيح.
حين تشاهد أن الفئات المقتدرة كانت دوماً سبّاقة في محاربة الرسالات الإلهية، نفهم بوضوح أن هذه الرسالات تعارض بطبيعتها هذه الفئات، تعارض تجـبّرها وترفها، بل تعارض أساساً هذه الطبقية التي جعلت هذه الفئات متميزة عن غيرها.
قبل أن ندرس التوحيد من هذا المنظار، منظار مقارعته لكل ألوان السيطرة الاجتماعية، لابد من الإشارة أولاً إلى أن التوحيد لا ينحصر في إطار نظرية فلسفية ذهنية ـ كما هو شائع ـ بل هو نظرية أساسية حول الإنسان والعالم، ومنهج اجتماعي واقتصادي وسياسي للحياة.
يندر أن نجد في قواميس الألفاظ، الدينية وغير الدينية، لفظة مثل لفظة "التوحيد" في استيعابها للمفاهيم الثورية البنّاءة، ولأبعاد الحياة الاجتماعية والتاريخية للإنسان، لم يكن من الصدفة أن تبدأ كل الدعوات والحركات الإلهية في التاريخ بـإعلان توحيد الله وحصر الربوبية والألوهية به.
أبعاد محتوى التوحيد نلخصها فيما يلي:
أ/ التوحيد على صعيد التصور (النظرة العامة للكون والحياة):
يعني وحدة جميع العالم وانسجامه وائتلاف أجزائه وعناصره
مبدأ الخلقة واحد، وجميع المخلوقات من ذلك المبدأ الواحد، وليس هناك آلهة متعددة في خلق العالم وإدارته، وهذا يستتبع وحدة جميع أجزاء العالم في التكوين والاتجاه.
{ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (المُلك:3).
{أوَ لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى} (الروم:8).
العالم المتحرك ـ انطلاقاً من هذا التصور ـ قافلة متصلة الأجزاء، كاتصال حلقات السلسلة الواحدة، وكارتباط أجزاء الجهاز الواحد العاملة في اتجاه واحد، وكل جزء من هذه الأجزاء يكتسب معناه الواقعي ويتضح واجبه من خلال فهم مكانته في مجموع هذا التركيب، كل الأجزاء يعاون بعضها الآخر، ويكمّل بعضها الآخر في هذا السير التكاملي الحثيث، وكل واحد منها آلة ضرورية في هذه المجموعة، وكل توقف وفساد وركود وانحراف في أي واحد من هذه الأجزاء يؤدي إلى بطء وفساد وانحراف في جميع الجهاز، وبهذا الشكل ترتبط جميع الذرات مع بعضها برباط معنوي عميق.
ويعني أن للعالم هدفاً ويقوم على أساس حساب وانضباط دقيق، وأن لكل واحد من الأجزاء روحاً ومعنى
العالم له خالق حكيم، وبناءاً على هذا فإن لأصل الوجود ـ كما لكثير من أجزائه ـ حكمة وغاية واتجاه وهدف.
{وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين...} (الأنبياء:16).
العالم بمجموعه ـ انطلاقاً من هذا التصور ـ ليس بالحائر العابث، بل هو مثل ماكينة مصنوعة ومرصودة للعمل من أجل هدف معيّن، يمكن السؤال عن هدفه ولا يمكن السؤال عن أصل هذا الهدف. إنه قصيدة ذات مضمون ينبغي التأمل والتدبر فيها لفهم مضمونها، ولا يمكن اعتبارها إطلاقاً صوتاً منطلقاً من حركة عشوائية.
ويعني أبعد من ذلك خضوع كل عناصر العالم وكل الأشياء لله
فلا يوجد بين هذه المجموعة عنصر شاذ متمرد، كل قوانين الطبيعة وكل ما يخضع لسيطرة هذه القوانين منصاع لله وعبد له. فوجود القوانين التكوينية والطبيعية على ساحة الكون لا يعني نفي ربوبية الله ومبدئيته.
{إن كل مَن السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} (مريم:93).
{بل له ما في السماوات والأرض كلٌ له قانتون} (البقرة:117).
{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويّات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} (الزمر:67).
ب/ التوحيد على صعيد فهم الإنسان:
يعني وحدة أبناء البشر وتساويهم في ارتباطهم بالله
إنه رب جميع الناس، وليس لأحد ـ بسبب طبيعته الإنسانية ـ علاقة خاصة متميزة به، ولا لأحد معه قرابة، ليس إله شعب خاص أو قبيلة معيّنة، ولم يختر شعباً معيّناً ليكون ذلك الشعب سيداً والباقي مَسُودين. كل الناس أمام الله سواسية، وليس لأحد عند الله كرامة خاصة، إلا بالعمل الصالح، أي بالسعي والمثابرة على طريق خدمة الناس والعمل بأحكام الله المؤدية إلى سمو الإنسان.
{وقالوا اتخذ الله ولداً، سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون} (البقرة:117).
{فمَن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون} (الأنبياء:94).
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لِتَعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13).
ويعني وحدة أبناء البشر وتساويهم في الخلقة والتكوين الإنساني.
الإنسانية عنصر واحد يسري في جميع أفراد النوع البشري بشكل متساوٍ، ليس هناك آلهة متعددة خلقت فئات بشرية متعددة. ولذلك فلا توجد ثمة اختلافات وفواصل منيعة في الخلقة، كما أن إله الطبقة الاجتماعية العليا ليس بأقوى من إله الطبقة الاجتماعية السفلى. كل الناس مخلوقات الإله الواحد الأحد، وكلهم متشابهون في جوهر خلقتهم.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} (النساء:1).
ويعني تساوي أبناء البشر في الإمكانات المتاحة لهم من أجل السمو والتكامل.
البشر متشابهون في جوهرهم الإنساني وطبيعتهم الإنسانية، وهذه الطبيعة الإنسانية جُبِلت بيد بارئ حكيم؛ فليس هناك إذاً فرد عاجز ذاتياً عن ارتقاء مدارج الصراط المستقيم نحو السمو والتكامل.
من هنا، فدعوة الله دعوة عامة ولا تختص بشعب معيّن أو فئة خاصة.
الظروف المختلفة لها آثارها المختلفة على الإنسان، لكن هذه الظروف الطارئة لم تستطع أن تصنع من الإنسان بشكل دائم شيطاناً أو مَلَكاً، وتغلّ يديه، وتسلب اختياره، وتسدّ الطريق أمام انتخابه وتغيّره.
{وما أرسلناك إلا كافة للناس} (سبأ:28).
{وأرسلناك للناس رسولاً} (النساء:79).
{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً * فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيُدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً} (النساء:174ـ175).
ويعني حرية جميع الناس من قيود الأسر ومن قيود العبودية لغير الله وهو تعبير آخر عن ضرورة العبودية لله
أفراد البشر الراضخون بشكل من الأشكال تحت سيطرة غير الله (سيطرة فكرية وثقافية، أو اقتصادية، أو سياسية) هم مستعبدون لعباد من أمثالهم بالمفهوم الواسع للعبادة. هؤلاء قد اتخذوا لله أنداداً. والتوحيد يرفض هذا الشكل من الحياة، ويعتبر الإنسان عبداً لله فقط، ويحرره من العبودية والرضوخ لكل نظام، بل لكل عامل مسيطر يضع نفسه مكان الله. فالتوحيد يعني التسليم لله وحده، ويستتبع ذلك رفض كل سلطة غير سلطة الله مهما كان شكلها ونوعها.
{إنِ الحكم إلا لله، أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّم} (يوسف:40).
{وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} (الإسراء:23).
والتوحيد بالمعنى المتقدم يعني تكريم الإنسان وتثمينه.
فالعنصر الإنساني السامي أعظم من أن يخضع ويرضخ لأحد غير الله؛ فالوجود المطلق والجمال المطلق هو وحده الذي يستحق عبادة الإنسان وثناءه وتعشّقه. وهذا النزوع المتسامي هو درجة من درجات السمو.
لا شيء ـ غير ذات الله تعالى ـ يتمتع بمنزلة يستحق فيها عبادة الإنسان ودعاءه. كل الأصنام الجامدة والمتحركة التي فرضت نفسها على فكر الإنسان وقلبه وجسمه، واغتصبت حاكمية الله في حياة إنسان هي رجس وأوثان تُبعد الكائن البشري عن طهره ونقائه الفطري، وتذلّه وتصدّه عن حركته. ولابد للإنسان ـ إن أراد استعادة مكانته السامية ـ أن يجتنب هذه الأوثان ويغسل عن وجوده عار التلوث بعبوديتها.
{فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به ومَن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح من مكان سحيق} (الحج:30 ـ31).
{لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً} (الإسراء:22).
{ولا تجعل مع الله إلهاً آخر، فتُلقى في جهنم ملوماً مدحوراً} (الإسراء:39).
يعني وحدة وانسجام حياة الإنسان ووجوده.
حياة الإنسان مركّبة من الذهن والواقع، من الفكر والعمل؛ وإذا خضع واحد من هذين الجانبين ـ بأجمعه أو بقسم منه ـ لأعداء الله، أي إذا أصبح الذهن إلهياً والواقع غير إلهي، أو أصبح الواقع إلهياً والذهن بعيداً عن الله.
الإنسان في مثل هذه الحالة كمؤشر مغناطيسي ظهر في مجاله المغناطيسي عنصر غريب. المؤشر عندئذ إما أن ينحرف عن اتجاهه الطبيعي انحرافاً تاماً، أو يبقى يتأرجح يمنة ويسرة. أي سوف ينحرف الإنسان عن الصراط المستقيم المتناسب مع طبيعته الإنسانية، ينحرف عن الله.
{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء مَن يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردّون إلى أشد العذاب..} (البقرة:58).
ويعني انسجام الإنسان مع العالم المحيط به.
الساحة الكونية الفسيحة تزخر بقوانين الخليقة، ولا تغرب أدنى ظاهرة طبيعية عن إطار هذه القوانين. وبانسجام هذه القوانين وتعاضدها والتقائها ينتظم شكل الكون ويسود في العالم هذا النظام الرائع المشهود. الإنسان جزء من هذه المجموعة وتتحكم فيه قوانينها العامة، إضافة إلى قوانين خاصة. غير أن هذه القوانين الخاصة متناسبة ومنسجمة أيضاً مع قوانين الظواهر الأخرى.
أما الإنسان، خلافاً لسائر الظواهر الأخرى المسخّرة للحركة على طريقها الطبيعي الفطري، يتمتع بقوة إرادة وقدرة اختيار. وعليه أن يطوي طريقه الفطري الطبيعي عن اختيار، لأنه طريق سموّه وكماله. وهذا يعني أنه قادر على الانحراف عن هذا الطريق الطبيعي.
{فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر} (الكهف:29).
التوحيد يدعو الإنسان إلى السير على طريقه الطبيعي الفطري المنسجم مع كل الكون، وبذلك يربط الكائن البشري ـ باعتباره عضواً أصلياً من أعضاء هذا الكون ـ في عمله وسعيه بسائر أجزاء الكون، ويخلق بذلك وحدة وانسجاماً تامـّين.
{أفغير دين الله يبغون وله أسلم مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون} (آل عمران:78).
{ألم تر أن الله يسجد له مَن في السموات ومَن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} (الحج:18).
ج/ التوحيد على صعيد المناهج الاجتماعية (الاقتصادية والسياسية...):
يسلب من كل مصدر غير الله صلاحية الانفراد بوضع مناهج مستقلة لشؤون الحياة والإنسان.
فالله خالق الإنسان والكون والمصمم لهذا النظام الكوني المنسجم، والعالم بـإمكانات الإنسان واحتياجاته.
الله يعلم بما ينطوي عليه الكائن البشري من ذخائر دفينة وطاقات مكنوزة، وبما ينطوي عليه الكون من كنوز وإمكانات، ويعلم ميزان وأبعاد استثمار هذه الكنوز والإمكانات، ويعلم كيف تلتقي هذه جميعاً مع بعضها.
من هنا فهو وحده القادر على وضع منهج لطريقة الحياة، ولعلاقات الإنسان، ومنهج حركته في إطار نظام التكوين. وهو وحده القادر على وضع قوانين الحياة وتعيين شكل النظام الاجتماعي.
اختصاص هذا الأمر بالله نتيجة طبيعية ومنطقية للخالقية والألوهيـة. فكـل تدخـل مـن الآخريــن ـ إذاً ـ لتعيين المسيرة العملية للبشرية هو تدخل في حاكمية الله، وادّعاءٌ للألوهية، وباعثٌ على الشرك.
{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً} (النساء:65).
{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم ومَن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} (الأحزاب:36).
يسلب حق الولاية على المجتمع وحياة الإنسان من غير الله.
ولاية الإنسان على الإنسان لو قامت على أساس حق مستقل وبدون مسؤولية، لاستلزمت الظلم والطغيان والعدوان. الفرد الحاكم والجهاز الحاكم لا يستطيع أن يتخلص من الانحراف والطغيان والإفراط إلا إذا كانت زمام الأمور معطاة بيد هذا الفرد أو هذا الجهاز من قبل سلطة عليا ضمن إطار مسؤوليات متناسبة. وهذه السلطة العليا في المدرسة الدينية هي الله المحيط بكل شيء علماً.
{لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} (سبأ:3).
{ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} (الحاقة:44).
هذه السلطة العليا لا تنطلي عليها خدعة كما قد تنطلي على الجماهير، ولا يمكن اتخاذها وسيلة للسيطرة والتجبّر كما تُتخذ الأحزاب، ولا يمكن المساومة معها كما يمكن مع علّية القوم وزعمائهم.
وبنظرة أعمق: لو استلزم نظم الحياة انتهاء كل أجهزة الحياة الاجتماعية بنقطة واحدة، وتفرد قوة مسيطرة بمسك زمام جميع الأمور، لما كانت تلك القوة المسيطرة سوى خالق الكون والإنسان.
فالحكم حق خاص بالله، ينفّذه مَن عيّنهم الله، أي أولئك الذين تتجسّد فيهم أكثر من غيرهم تلك المعايير والخصال المحددة في الإيديولوجية الإلهية. وهؤلاء منفّذون وحفَظَة للقوانين الإلهية.
{قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض وهو يُطعِم ولا يُطعَم قل إني أُمرت أن أكون أول مَن أسلم ولا تكونن من المشركين} (الأنعام:14).
{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} (المائدة:55).
{قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس} (الناس:1ـ 4).
ويعني اختصاص المُلكية المطلقة الأصلية لكل نِعَم الكون وذخائره بالله.
ليس لأحد أن يملك ويتصرف مباشرة ومستقلاً؛ كل شيء أمانة بيد الإنسان لاستثماره والاستعانة به على طريق السمو والتكامل. ليس للإنسان المنـعَّم أن يفسد ويتلف نِعَم هذا العالم التي هي ثمرة سعي آلاف الظواهر والعناصر في هذا العالم، أو أن يهمل هذه النِعَم أو يستثمرها في طريق غير طريق السمو الإنساني. ما في يد الإنسان، وإن كان ملكاً له، فهو عطاء إلهي. من هنا، ينبغي أن يتجه استثمار هذا العطاء على الطريق الذي عيّنه الله، أي في طريقه الطبيعي الأساسي، في الطريق الذي خُلِق من أجله في الحقيقة. واستثمار هذا العطاء الإلهي في غير هذا الطريق انحراف عن اتجاهه الطبيعي، إنه الفساد.
دور الإنسان إزاء هذه النِعَم الإلهية المتنوعة هو استثمارها بشكل صحيح، وفتح مغاليق كنوزها، وقبل ذلك إحياؤها والبلوغ بها إلى درجة الكمال طبعاً.
{قل لمن الأرض ومَن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكّرون} (المؤمنون:86 ـ87).
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (البقرة:29).
{اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} (هود:61).
{والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصَل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة} (الرعد:28).
ويعني أن أفراد البشر متساوون في حق استثمار نِعَم الحياة.
الإمكانات والفرص متكافئة أمام جميع البشر ليستثمر كلٌ منهم هذه النِعَم قدر حاجاته وضمن إطار سعيه وعمله. هذه الساحة الكونية لا توجد فيها منطقة خصوصية محصورة بفئة معيّنة. الجميع يستطيعون أن يستثمروا نِعَم الحياة المتنوعة قدر همّتهم وإرادتهم، دون تمايز بينهم في العنصر أو الموقع الجغرافي والتاريخي، بل وحتى في الانتماء الإيديولوجي.
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً}.
{والأنعام خلقها لكم}.
{لكم فيها جمال}.
{تحمل أثقالكم}.
{أنزل من السماء ماءاً لكم}.
{ينبت لكم به الزرع}.
{وما ذرأ لكم في الأرض}.
{لتركبوها}.
{لتأكلوا منه}.
وكل هذه الآيات، من مطلع سورة "النحل" تخاطب جميع البشر دون أن تتجه في خطابها إلى فئة خاصة أو طائفة خاصة، وهي جاءت في سياق آيات أخرى تخاطب جميع البشر أيضاً مثل:
{ولو شاء الله لهداكم أجمعين}.
{وإلهكم إله واحد}.
هذا جانب من المحتوى العميق الواسع للتوحيد. ومن خلال هذا الاستعراض السريع يتضح بجلاء أن التوحيد ليس بالنظرية الفلسفية الذهنية غير العملية المعزولة عن الحياة وعما يرتبط بحركة المجموعات البشرية وبحركة الفرد ونشاطه. التوحيد لا يكتفي باستبدال معتقد بمعتقد آخر..
بل إنه من جهة: نظرة عامة للكون والحياة، تشتمل على مفهوم خاص للعالم وللإنسان ولمكانة الإنسان بين ظواهر العالم ومكانته في التاريخ، ولإمكاناته واحتياجاته ومتطلباته الذاتية، ولاتجاهه ومراحل سموّه وكماله.
ومن جهة أخرى: منهج اجتماعي شامل متناسب مع طبيعة الإنسان، ويستطيع الكائن البشري في إطاره أن يسمو على مدارج كماله بسهولة وسرعة. إنه أطروحة خاصة للمجتمع تتضح فيها الخطوط العامة والأساسية للكيان الاجتماعي.
من هنا، حين يرتفع نداء التوحيد في المجتمعات الجاهلية (المجتمعات القائمة على أساس الجهل بحقيقة الإنسان) والمجتمعات الطاغوتية (القائمة على أساس المعاداة للقيم الإنسانية الحقة) فإنه يحدث تغييراً شاملاً، ينير القلوب المظلمة، ويحيي النفوس الهامدة، ويبعث هزة في جسد المجتمع الراكد، وينظم الشؤون المبعثرة المتناقضة لذلك المجتمع. يحدث التوحيد تغييراً في المحتوى النفسي، والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وفي القيم الأخلاقية والإنسانية.
وبعبارة قصيرة: يهاجم التوحيد الوضع الجاهلي القائم، والسلطة التي تحمي هذا الوضع، والجو الذي يغذي هذا الوضع ويمدّه بالحياة.
التوحيد ـ إذاً ـ ليس فقط أطروحة ترتبط بمسألة نظرية محضة أو مسألة ذات إطار عملي محدود، بل إنه أيضاً طريق جديد أمام الإنسان، يستهدف تقديم أسلوب آخر للعمل والحياة، وإن استند إلى تحليل ذهني ونظري.
انطلاقاً من هذا الفهم لمحتوى التوحيد، نعتقد أن هذا الأصل يشكّل حجر البناء في صرح الدين، ومحتواه الأساس، والقاعدة التي يقوم عليها. فهم التوحيد على أنه نظرة لما وراء الطبيعة، أو أنه على أحسن الأحوال أطروحة أخلاقية عرفانية، هذا الفهم لا يتناسب إطلاقاً مع الإيديولوجية الإسلامية الحية التي تنطوي على أطروحة كاملة للحياة الاجتماعية.
كان هناك على مر التاريخ طبعاً أفراد ـ مع إيمانهم بالله وبالتوحيد ـ غفلوا أو تغافلوا عن المحتوى العيني والعملي ـ وخاصة الاجتماعي ـ لهذه العقيدة. هؤلاء وطّنوا أنفسهم على المعيشة في كل زمان ومع كل الظروف بحيث لا تكاد تميّزهم عن الكافر بالتوحيد؛ أي أن هذه العقيدة لم تبعث فيهم شعور التعارض مع الوضع غير التوحيدي القائم، ولم يثقل كاهلهم عبء الشرك المستفحل في مجتمعهم.
في مطلع الإسلام، كان هناك مجموعة من الحنفاء يعيشون في مكة مركز الوثنية وعاصمة أصنام العرب الكبرى. لكن وجودهم لم يكن له أدنى تأثير على الجو الفكري والاجتماعي، لأن مفهوم هؤلاء الحنفاء عن التوحيد لم يتعدّ أذهانهم وقلوبهم وإطار حياتهم الخاصة، ولم يكن له أدنى تواجد في تلك المتاهات الجاهلية، ولا أقلّ تأثيراً على الحياة المؤسفة القائمة هناك. هؤلاء الذين يُسمَّون بـ"الموحدين" كانوا يعيشون مع غيرهم على ساحة واحدة ويطوون مسيرة تلك الحياة بنفس طريقة غيرهم دون أن يزعجهم شيء. هذا الفهم الذهني للتوحيد يتميز بهذه الصفة من الخمول والانعزال عن الحياة، وخاصة الحياة الاجتماعية.
في مثل هذه الأجواء، أعلن الإسلام مفهوم التوحيد باعتباره عقيدة ملتزمة وتنظيماً للحياة وأطروحة جديدة للمجتمع. وبهذا الشكل أعلن هويته باعتباره دعوة انقلابية لكل مخاطبيه، المؤمنين منهم والكافرين، فكل مَن سمع نداء الإسلام علم أنه نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي جديد لا يتلاءم إطلاقاً مع الأوضاع التي كانت قائمة في العالم آنذاك، بل إنه يستهدف إزالة الوضع القائم وإبداله بوضع آخر.
بسبب هذه الأطروحة، اندفع المؤمنون صوب الدعوة باشتياق ولهفة وولع شديد وأسلموا لها، ولهذا السبب أيضاً هبّ المعارضون والكافرون ليقاوموا نداء التوحيد بوحشية وضراوة، وليصعّدوا عداءهم يوماً بعد يوم.
هذه الحقيقة التاريخية، بمقدورها أن تكون معياراً لتقييم صحة أو عدم صحة ادّعاء التوحيد في كل زمان ومكان. من الصعب أن نصدّق وجود التوحيد في نفوس قوم يشبهون موحدي مكة قبل ظهور الإسلام.
التوحيد المهادن.. التوحيد المداهن مع كل الأنداد والآلهة المزيفة.. التوحيد الذي لا يعدو أن يكون فرضية ذهنية، ليس إلا نسخة ممسوخة لتوحيد الأنبياء.. ومن الطبيعي أن يخلو مثل هذا التوحيد من ديناميكية دعوة الأنبياء.
من خلال هذه الرؤية نستطيع أن نفهم سبب انتشار نور الإسلام وتقدّمه في العصور المتقدمة، وسبب تراجعه وتقهقره وضعفه في العصور المتأخرة.
إسلام رسول الله (ص) كان يضع التوحيد أمام الناس باعتباره طريقاً ومسلكاً، وإسلام العصور التالية طرح التوحيد باعتباره نظرية يدور حولها البحث والجدل في المجالس والمحافل. كان الكلام هناك يدور حول تصور جديد للعالم ونظرية جديدة لحركة الحياة، وهنا الكلام يدور حول مسائل كلامية فرعية خالية من كل عطاء حي. كان التوحيد هناك يشكّل الهيكل العظمي للنظام القائم، والمحور لكل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ وهنا يتمثل في لوحة فنية جميلة معلّقة في صالة، الهدف منها إكمال مظاهر الزينة في الصالة. وأي دور فعال يمكن أن نتوقعه من مثل هذه الظاهرة الكمالية؟!
مما تقدّم يتضح أن التوحيد من منظار عملي أطروحة للمجتمع ومنهج للحياة وقاعدة للنظام الذي اعتبره الإسلام متناسباً مع طبيعة الإنسان ونموّه وسموّه؛ وهو من منظار نظري يشكّل القاعدة الفكرية الفلسفية لذلك النظام.
بعد هذه التمهيدات، نستطيع أن نعود إلى بداية المقال، وندرس المسألة من الزاوية الخاصة التي استهدفناها فيه.
قلنا: إن المجابهات الأولى التي واجهها نداء التوحيد انطلقت من ذوي القدرة والسلطة في المجتمع، وهذا مؤشر يثبت أن الضربة التي وجهها هذا الشعار اتجهت أول ما اتجهت وأكثر ما اتجهت نحو تلك الفئة المقتدرة المسلّطة، أو نحو الفئة المستكبرة على حد التعبير القرآني.
وقلنا: إن الدعوات التوحيدية في مختلف عصور التاريخ، ما أن انطلقت في المجتمع حتى اتخذت موقفها الواضح من المستكبرين. وعلى أثر هذا الموقف، انقسم المجتمع إلى فئتين متناقضتين: الفئة المعارضة المستكبرة والفئة المؤمنة المستضعفة.
وقلنا أخيراً: إن رد الفعل الذي تبديه هاتان الفئتان تجاه رسالة التوحيد هي الخاصة التي تميـّز التوحيد الحقيقي الأصيل. أي أن التوحيد ـ متى ما أُعلن بمفهومه الأصيل وبشكله الصحيح ـ يواجه هذه المجابهات وردود الفعل الاجتماعية.
والآن علينا أن نتفحص أبعاد التوحيد لنرى أي بُعد من هذه الأبعاد يتعارض مباشرة مع مصالح الطبقة المستكبرة ويصطدم مع وجودها. بعبارة أخرى: علينا أن نفهم تلك النظرة التوحيدية التي تستثير المستكبرين وتدفعهم إلى اتخاذ موقف المجابهة الحادة.
تفهّم شخصية المستكبر في القرآن الكريم تعيننا كثيراً على فهم هذا الموضوع.
القرآن الكريم يعطي في أكثر من أربعين موضعاً صورة عن المستكبر، وخصائصه النفسية، ومكانته الاجتماعية، وأهدافه، وأطماعه التوسعية الاستئثارية. وبشكل عام نجد القرآن يحدد للمستكبر الخصائص التالية:
يرفض الله بالمفهوم الذي تعبّر عنه عبارة "لا إله إلا الله" (أي حصر الحاكمية والمالكية المطلقة به تعالى)، وإن لم يرفض الله كحقيقة ذهنية تشريفاتية محدودة الإطار.
{إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} (الصافات:35).
{فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا مَن أشد منا قوة} (فصّلت:15).
{وإذا تتلى عليه آياتنا ولّى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً فبشّره بعذاب أليم} (لقمان:7).
ويتخذ موقف الجاحد والمكذب تجاه دعوة النبي التغييرية التحررية، ويجابهها بحجة أنه أقدر من غيره على فهم الطريق الصحيح، وبحجة أن الله ينبغي أن يخاطبه مباشرة.
{وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه} (الأحقاف:11).
{وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} (الأنعام:124).
ويتهم المستكبرون صاحب الدعوة بأنه يستهدف الحصول على الجاه والمنزلة، كما يتذرعون بالتقاليد البالية السائدة لنظامهم المسيطر للحد من انتشار الدعوة في المجتمع.
{قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين} (يونس: 78).
ويستعينون بالقوة والتزوير وبمختلف سبل الخداع والتضليل لإبقاء الناس تحت سيطرتهم وعبوديتهم، ويدفعونهم إلى مجابهة كل دعوة تحررية.
{وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا} (الأحزاب:67).
{فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مُغْنون عنا نصيباً من النار} (المؤمن:47).
{قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون} (الأعراف:108ـ109).
وأخيراً يعرّضون النبي وأتباعه، الثائرين على النظام المسيطر وعلى الاتجاه الفكري السائد، لأقسى الحملات وأشد أنواع التعذيب والأذى والتنكيل.
{قُتِل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود...} (البروج:3ـ7).
{وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد} (غافر:46).
هذه هي باختصار الخصائص التي يذكرها القرآن الكريم للمستكبرين. وهناك مواضع أخرى تجاوز فيها القرآن رسم الصورة إلى وضع الإصبع على أفراد مشخّصين ينتمون إلى اتجاهات معيّنة.
{ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون ومَلَئه بآياتنا فاستكبروا..} (يونس:75).
{وقارون وفرعون وهامان، ولقد جاءهم موسى بالبيّنات فاستكبروا في الأرض} (العنكبوت:39).
فرعون معروف، وهامان مستشار فرعون الخاص والشخصية الأولى في جهاز فرعون. طبعاً و"ملأ فرعون" هم علّية القوم في هذا الجهاز، والسائرون في ركاب فرعون، ومشاوروه ومساعدوه (راجع الآية 126 من سورة "الأعراف"). وقارون هو صاحب الثروات الطائلة والكنوز التي {مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة}.
وباستعراض عشرات الآيات من كلام الله العزيز بشأن الاستكبار، نستطيع أن نفهم المستكبر على النحو التالي: الجناح المسيطر في المجتمع الجاهلي، الماسك ـ دون استحقاق ـ بزمام السلطة السياسية والاقتصادية. واستمراراً لاستثماره وتسلّطه الجائر، يمسك أيضاً بزمام الأفكار والمعتقدات المسيطرة على الأذهان، ويعمل بأساليب متنوعة على ملء الأذهان بأفكار تدفع الأفراد إلى الاستسلام له وإلى الانسجام مع الأوضاع القائمة. وهذا المستكبر يهبّ لمقارعة كل دعوة إلى التوعية، فما بالك إذا كانت الدعوة انقلابية تغييرية!! حفاظاً على مصالحه بل على وجوده.
والآن نعود إلى موضوعنا الأساسي: كيف عرض الأنبياء عقيدة التوحيد؟
الجواب على هذا السؤال يوضح مواضع الحساسية التي تستثير المستكبر في هذه العقيدة، وسبب حساسيته من هذه المواضع، وسبب عدم قدرة المستكبر على تحمّل عقيدة التوحيد حين تطرح بهذه الكيفية. وجدير بالذكر أن الجواب على هذا السؤال يوضح لنا من جانب آخر أهمية التوحيد باعتباره القاعدة الأساس التي تقوم عليها الرسالة.
نعلم أن شعار التوحيد هو أول نداء يرفعه النبي في المجتمع. النبي الخاتم رفع في مكة شعار: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".
والقرآن الكريم نقل عن أنبياء كرام مثل: نوح وهود وصالح وشعيب و... خطابهم لأممهم، وكان الخطاب يدور حول محور التوحيد.
{يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (الأعراف:59).
هذه الشعارات ـ كما ترى ـ تستند بالدرجة الأولى إلى رفض كل عبودية لغير الله. النبي بهذه الشعارات يهيب بالجهَلَة، الغافلين المنغمسين في أوحال النظام الجاهلي الطاغوتي، أن يكفّوا عن عبودية كل قطب وقدرة غير الله. وهذا يعني أن النبي يبدأ دعوته بـإعلان الحرب على كل الذين يجعلون من أنفسهم آلهة من دون الله.
مَن هم أدعياء الألوهية في المجتمع؟ وما معنى إعلان الحرب على الآلهة المزيفة؟ وما هو الوضع الذي تريد دعوة الأنبياء أن توجده في المجتمع؟
عبارة "أدعياء الألوهية" توحي إلى الأذهان عادة أولئك الذين جعلوا من أنفسهم "إلهاً"، أي أولئك الذين ادّعَوا لأنفسهم تلك القدرة الخارقة التي كان البشر يؤمن بها على مر التاريخ بشكل من الأشكال. وهذا فهم سطحي للعبارة.
كان هناك طبعاً في التاريخ مجرمون تافهون استغلّوا قدرتهم السياسية والاجتماعية، فأوحَوا إلى أفراد أتفه منهم أنهم آلهة، بالمعنى المتقدم، أو أنهم يحملون جانباً من روح الإله؛ ولكن لو ألقينا نظرة على المعنى الواسع لألفاظ "العبادة" و"الربوبية" و"الألوهية" في القرآن، لاستنتجنا أن إطار مفهوم "أدعياء الألوهية" أوسع من ذلك الفهم بكثير.
استعمال مادة "العبادة" في القرآن الكريم يفيد أن العبادة تعني التسليم والطاعة المطلقة تجاه إنسان أو أي موجود آخر. حين نستسلم استسلاماً أعمى لشخص، ونتحرك وفقاً لرغباته وأهوائه وأوامره فقد عبدناه؛ وكل قوة تستطيع أن تخضعنا لها، وتسيطر على أجسامنا ونفوسنا، وتسخّر طاقاتنا وفقاً لرغباتها، فإنها تصيّرنا عبيداً لها سواء كانت هذه القوة داخل أنفسنا، أم في محيطنا الخارجي. ومن أمثلة هذه الاستعمالات القرآنية:
موسى يخاطب فرعون في بداية دعوته معاتباً يقول:
{وتلك نعمة تمـنّها عليّ أن عبّدت بني إسرائيل} (الشعراء:22).
فرعون وبطانته يخاطب بعضهم بعضاً فيقولون:
{أنؤمن لبشرَين مثلنا وقومهما لنا عابدون} (المؤمنون:49).
إبراهيم يخاطب أباه قائلاً:
{يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً} (مريم:44).
رب العالمين يخاطب البشرية:
{ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنـه لكـم عــدو مبين} (يس:60).
الله تعالى يَعِدُ عباده الصالحين:
{والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابـوا إلى الله لهـم البشـرى} (الزمر:17).
وحول أولئك الذين يعيبون على المؤمنين إيمانهم يقول تعالى:
{مَن لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القِرَدة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل} (المائدة:65).
هذه الآيات عـبّرت عن الطاعة لفرعون ولبطانته وللطاغوت وللشيطان بكلمة "عبادة". ومن خلال دراسة جميع آيات القرآن في هذا المجال نخلص إلى أن العبادة في المفهوم القرآني هي: الاتباع والتسليم والطاعة المطلقة أمام قدرة واقعية أو وهمية، طوعاً ورغبة أو كرهاً وإلزاماً، مع الشعور بالتقديس والثناء المعنوي أو بدونه.. هذه القدرة هي "المعبود" وهذا المطيع هو "العبد" و"العابد".
من خلال الإطار العام للمفاهيم المتقدمة يتضح معنى لفظة "الألوهية" ولفظة "الله" باعتبارهما تعبيراً آخر عن كلمة "المعبود":
في النظام الجاهلي المنحرف المنقسم إلى طبقتين: مستكبرة ومستضعفة، أي المنقسم إلى طبقة مسيطرة ماسكة بزمام جميع الأمور، ومترفة طبعاً، وطبقة مهملة مسخّرة ومحرومة لزاماً، وأبرز مظاهر الألوهية والعبودية هي هذه العلاقة غير المتعادلة بين الطبقتين.
من العبث أن نبحث وراء موجود مقدس بشري أو حيواني أو جامد، في دراسة آلهة المجتمعات الجاهلية على مر التاريخ. فأبرز مظهر للمعبود والإله في هـذه المجتمعـات، هـو تلـك الفئـة الـتي تمـارس ـ اعتماداً على ارتباطها بالطبقة المستكبرة ـ عملية إخضاع وارضاخ الجماهير المستضعفة، ودفعها على طريق إشباع نهمها وجشعها.
الدين الواقعي في هذه المجتمعات هو "الشرك"، لأن الآلهة فيها متعددة بتعدد مراكز القوة المسيطرة التي تستثمر الناس على طريق أهوائها.
الشرك هو تأليه أفراد إلى جانب الله أو بدلاً من الله. وبتعبير آخر وهو: إيكال أمور الحياة إلى غير الله. وهو الاستسلام أمام كل قدرة غير الله، والاتجاه نحو هذه القدرة لدى الحاجة، والسير على طريقها.
التوحيد يقع في النقطة المقابلة للشرك تماماً: يرفض كل هذه الآلهة، ويرفض التسليم لها، ويقاوم سيطرتها، ويحصّن القلوب من الركون إليها، ويدفع إلى إزالتها وطردها، ويشد الكائن الإنساني بكل وجوده إلى الله.
أول شعار رفعه رسل الله هو ذلك الرفض وهذا التسليم:
{ولقد بعثنا في كل أمّـة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36).
{وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبياء:25).
الأنبياء إذاً أعلنوا زوال النظام الجاهلي الفاسد المنحط بهذا الشعار. وبهذا الشعار أيضاً دَعَوا إلى كفاح مرير للطواغيت، أي لحماة هذا النظام وللمستهينين بالقيم الإنسانية الأصيلة ولأصحاب تلك القيم التافهة المساندة للظلم والظالمين.
رفض الشرك هو في الواقع رفض لكل الكيانات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المقوِّمة للمجتمع الجاهلي، والمتخذة من مذهب الشرك غطاءاً وتبريراً لوضع المجتمع المهزوز.
رفض الآلهة المزيفة، يعني طرد كل الذين دأبوا على استضعاف الجماهير، واستغلالها عن طريق القوة والتزوير، من أجل إشباع غرائزهم وأهوائهم الجامحة.
موسى اتجه إلى حرب فرعون بهذا الشعار.. نعم لقد تردد على ألسن بطانة فرعون مسألة رفض موسى لآلهتهم التقليدية:
{وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك} (الأعراف:127).
غير أن فرعون ومَن لفّ لفّه كانوا يعلمون جيداً أن تلك "الآلهة"، أي الأصنام الجامدة ليست إلا غطاءاً وتبريراً لألوهية فرعون وأتباعه. الصنم الجامد كان في الحقيقة تبريراً لتأليه الأصنام الحية، لذا كان من المنطقي تماماً أن يقف فرعون من دعوة موسى، أي من الدعوة إلى الله الواحد الأحد بارئ السماوات والأرض، موقف المهدد بالسجن وبقتل مَن آمن به وتعذيبهم:
{قال لئن اتخذتَ إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} (الشعراء:29).
{قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون} (الأعراف:126).
{لأُقطّعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأُصلّبنّكم أجمعين} (الأعراف:123).
كل هذا التعنت والتصلب أمام اسم "الله" ودعوة التوحيد، يعود إلى أن هذا النداء لا يعني إلا:
الإيمان بحاكمية الله وحدها على الحياة...
ورفض الآلهة المزيفة...
والارتباط به وحده وتمزيق كل قيود العبودية الأخرى...
وهذه هي روح التوحيد وأبعاده البنّاءة النابضة بالحياة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته - دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)
دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (علیه السلام)
بحث لسماحة ولي أمر المسلمين (دام ظله)
بسم الله الرحمن الرحيم
… ليس علي بن أبي طالب بالشخصية التاريخية فحسب، وإنما هو أمير المؤمنين، أي بالنسبة لنا الأسوة والقدوة والنموذج، ونموذج للحكومة التي ينبغي على حكامها وقادتها أن يقتدوا بسلوكه ومنهجه، وعلى الإسلاميين أن يتخذوا سلوك ومنهج علي بن أبي طالب قدوة ونموذجاً لهم. واليوم حيث أنعم الله علينا بقيام الجمهورية الإسلامية والتي أثبتت جديتها في العالم وذلك بفضل جهود المسلمين والتضحيات الجسام التي بذلت، على الأشخاص الذين يمسكون زمام أمور الحكومة الآن والذين سوف يتولون ذلك في المستقبل أن يعملوا وأن يخططوا لأجل تحقيق هذا النموذج؛ فالقدوة في المجتمع هي لأجل صنع وإحياء الفرد المسلم، وهذا ما كنا نفتقده طوال زمان النظام الشاهنشاهي المشؤوم الذي لم يتح مجالاً لهذا العمل، بحيث نحيا حياة إسلامية ونبقى مسلمين، أما اليوم فعلينا أن نغتنم هذه الفرصة في ظل وجود نظام الجمهورية الإسلامية.
إن شخصية علي (ع) مؤهلة لأن تكون القدوة لصنع وإحياء الفرد المسلم، وكذلك لنعلم كيف يحيا المسلم، وبناء على هذا فإذا أردنا أن نتحدث عن أمير المؤمنين لا ينبغي أن يكون للتيمن والتبرك بذكره فقط، بل للتعلم منه والاستفادة من مشعل نوره لحل المشكلات ولإزالة العوائق التي تمس الآن بالجمهورية الإسلامية، حيث الآن تواجه مشكلة في مواجهتها للقوى الاستكبارية في الشرق والغرب وعدم انسجامها مع الأطماع الإمبريالية والاشتراكية.
إن كل المتتبعين والعارفين بالمسائل والأحداث السياسية في العالم يعرفون أن الثورة تبتلى بمشاكل وتواجه صعوبات، هذا أمر طبيعي، لكن على كل الأحوال يجب علينا في مقابل هذه المشاكل أن نجد طريق الحل، فعندها يصبح للمشاكل نهاية وللعقد حلول ميسرة. ولكي نهتدي إلى سبيل النجاة نرجع إلى حياة أمير المؤمنين التي سوف تفتح لنا باب الحل.
أتعرض هنا إلى ما يتعلق بجوانب شخصية أمير المؤمنين، إلى شكل حكومته وقيادته، ثم علينا فيما بعد أن نطابق حياتنا ومنهجنا في العيش مع علي (ع). والآن إذا أردنا أن نقف على المحطات البارزة واللامعة في حياة مولى المتقين وأن نتعرف على شخصيته وحكومته، أظن أنه علينا أن ندرس نقطتين أساسيتين وحساستين، وأتصور أن شخصية أمير المؤمنين (ع) بعنوان أنه الحاكم وخليفة رسول الله (ص) تدخل في صلب هذه النقاط. طبعاً لن نتعرض في هذا البحث إلى شخصية علي (ع) المعنوية والعرفانية، تلك الشخصية التي كانت دائماً مرتبطة بالفيض واللطف الدائم لله سبحانه، بل سنتحدث عن علي (ع) كحاكم إسلامي حكم الأمة الإسلامية لفترة من الزمن؛ ولكي نتعرف على شخصية وأسلوب هذا الحاكم بشكل واقعي سأتحدث اولاً بشكل كلي ومجمل، أشرع بالتفصيل.
النقطة الأولى: البارز في حياة أمير المؤمنين كحاكم هو التزامه وتعبده الكامل بما جاء به الإسلام وما ورد في شريعته؛ فأمير المؤمنين تربى في كنف الإسلام، وفي الوقت الذي كان الرسول يتولى الحكومة ويتحمل الأذى والمصاعب في سبيل الإسلام كان علي (ع) الشاب المقاتل المقدام الذي لم يجلس في بيته وينتظر وقوع الحوادث، بل كان حاضراً في كل المواجهات والتحديات؛ فلقد سخر كل إمكاناته وكمالاته الإنسانية في خدمة الإسلام، حيث شارك في كل الحروب والغزوات التي جرت في زمن رسول الله (ص) باستثناء حرب واحدة لم يشارك فيها بناءً على طلب الرسول، حيث طلب منه البقاء في المدينة. فقدم حياته للإسلام، وكان حاضراً دائماً ليضحي بروحه دفاعاً عن الإسلام.
وفي ذلك اليوم الذي اجتمع فيه المسلمون على شخص غير علي (ع) ليسلموه الإمرة والخلافة، حيث اتبع جمع الناس مجموعة صغيرة انسلخت لتبايع غير علي (ع)؛ وعلي الذي كان يرى ويعلم بأن الخلافة من حقه وهو اللائق بها، وكان يستطيع إن أراد أن يواجه أولئك ويقوم بدعوة الناس وتحريضهم، لم يقم بذلك وضحى لمصلحة الإسلام. وكذلك فَعَلَ أيضاً بعد وفاة الخليفة الثاني، حيث قال له أعضاء الشورى الستة اقبل بالعمل طبق سنة النبي وسيرة الشيخين حتى نبايعك، ولكنه (ع) رفض ذلك؛ فهذا مخالف لما يؤمن به ويتعارض مع تكليفه والتزامه. وأدى هذا الرفض به إلى أن يتأخر عن تسنّم الخلافة 12 عاماً أخرى. وطوال فترة حياته التي سبقت تسنّمه الخلافة كان دائماً يجاهد ويتحرك في سبيل خدمة الإسلام والشريعة، لذا فمن الطبيعي أن يعمل على تطبيق الأحكام الإسلامية حين تسنمه للخلافة وعلى تحكيم الثوابت الإسلامية، وهذه الخصوصية الأولى للأمير (ع). وأنتم إذا أردتم أن تقارنوا بين علي وبين الأشخاص الذين وقفوا في وجهه، ستجدون فرقاً أساسياً؛ فعلي (ع) لم يكن حاضراً إلا ليتحرك ويعمل لأجل الإسلام الذي قد عرفه وآمن به.
النقطة الثانية: ـ والتي أتمنى أن تلتفتوا لها جيداً وقد كررتها مراراً ـ هي أننا اليوم بحاجة أكثر من أي يوم مضى لمعرفة المباني الإسلامية والقرآنية والدينية. فنحن علينا جميعاً اليوم أن نتعلم ونفهم الإسلام ماذا يريد وكيف يطرح فكره في كل الميادين والمجالات. إن المسألة الأساسية اليوم هي التعرف على الإسلام، وإحدى الطرق التي نفهم من خلالها الإسلام ونستطيع أن ندرك ما يريده منا هي معرفة سيرة ومنهج الإلهيين ومن جملتهم أمير المؤمنين (ع)، لذا نتحدث اليوم عن أمير الؤمنين لا لنبين مزايا هذه الشخصية التاريخية الإسلامية فقط، بل لأجل معرفة وبيان الإسلام، فإننا نعرف الإسلام من خلال علي (ع).
ننتقل الآن إلى النقطة الثانية في شخصية أمير الؤمنين والتي ترتبط بكونه حاكماً إسلامياً؛ فعلي الحاكم لم يكن مستعداً على الإطلاق أن يهادن ويصالح الأشخاص الذين لم يكونوا يتحركون في ضمن خطه ومسيرته، أي الذين لم يتحركوا في خط الإسلام وفي سبيل الله، وحياة علي تشير إلى ذلك؛ فعلي ـ تلميذ النبي ـ لم يكن مستعداً للمسايرة، كالنبي نفسه، الذي كان يتحرك في سبيل تحقيق الأهداف المقدسة. وحياة النبي كلها شاهدة على رفض المهادنة والأهواء والأنانيات، ولو كان أمير المؤمنين (4) مستعداً أن يهادن لكان استطاع أن يحد من نفوذ القادة والشخصيات المعادية له والبارزة في وسط الناس والتي تتمتع بقدر من الاحترام لديهم، وأن يخرس ألسنه الذين انتقدوه، ولو كان أيضاً مستعداً أن يخفف من مواجهته لأعداء الإسلام والحكومة الإسلامية، فمن المؤكد لم تكن لتواجهه كل هذه المشاكل والمصاعب. وهنا كان امتياز علي (ع) الحاكم، عن غيره من الحكام، فأولئك كانوا مستعدين أن يتخالفوا مع أي طرف ضد عدوهم؛ فنرى معاوية وعمرو بن العاص المتنافسين والمتخالفين مع بعضهما، يقفان جنباً إلى جنب لمواجهة علي (ع). وكذلك إذا نظرنا إلى طلحة والزبير من جهة وإلى معاوية من جهة أخرى، فلقد كانوا متعادين، لكنهم كانوا مستعدين أن يتحدوا وأن يقفوا جنباً إلى جنب لمحاربة علي بن أبي طالب (ع)، بينما رفض علي (ع) أن يتحالف مع طلحة والزبير ضد معاوية. فبالنسبة لأمير الؤمنين هذا التحالف مخالف للنهج الإسلامي، معاوية عدو ومخالف وبنفس الدليل فطلحة والزبير أعداء لا يمكن مسايرتهم والتحالف معهم. هذه أيضاً من خصوصيات علي (ع).
قال أمير الؤمنين (ع):
"فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ، ينثالون عليَّ من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم"! وفي مكان آخر يقول: "والله لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما آخذ الله على العلماء من أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت أخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز".
إن علينا اليوم أن نأخذ الدروس والعبر من سيرة أولئك المعلمين للبشرية، الأئمة بالحق (ع)، ننهل من كلماتهم الهادية والمضيئة دروس الحياة والإخلاص والتضحية كي يعم عدل الإسلام في هذا العالم.
ما أريد أن أتناوله هنا هو خطبة أمير الؤمنين التي ذكرتها في المقدمة والمسماة بالخطبة الشقشقية، لكن قبل ذلك أود أن أنقل حادثة، ولعلكم سمعتموها عن أمير الؤمنين (ع)؛ ففي إحدى الحروب التي خاضها (ع) وفي وقت هدنة قصيرة، جلس (ع) في خيمته مشغولاً بتجهيز نفسه للهجوم المقبل، فدخل عليه ابن عباس فوجده منهمكاً بخصف نعله، فالنعل يجب أن يكون محكماً بشدة للتحرك بسهولة وسرعة في الحرب، وأمير المؤمنين (ع) كان قد انتهز هذه الفرصة كي يصلح نعله المقطع، مع العلم بأنه كان حينها حاكماً للبلاد الإسلامية المترامية الأطراف والقائد العام للجيش الإسلامي الكبير. هذا الحاكم الذي كانت تحت ولايته إيران وأفغانستان والعراق ومصر واليمن، ما عدا الشام، هذا الإمام كان منشغلاً بخصف نعله! تأمل ابن عباس ملياً في المشهد الذي يحمل لشخصٍ متيقظ القلب مثله الكثير من الدلالات والمعاني.
التفت الإمام (ع) إلى ابن عباس ليسأله: ما قيمة هذه النعل؟ وبالطبع لم يكن لها قيمة وهي جديدة، فكيف وهي بالية، يصلحها من لا شأن له بهذه المصلحة (الأسكافية)؟! أجاب ابن عباس: لا قيمة لها.
فعندها قال أمير المؤمنين (ع):
"والله لهي أحب إليَّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً وأدفع باطلاً".
فما معنى هذا؟! إنه يعني أنها إمرةٌ وولاية ذات هدف، هي حكومة الدين؛ فالإمام يقصد أني لست مولعاً بالرئاسة ولا أريدها، ولكن هذا القبول بمقام الخلافة والإمارة لا أتركه كوني بواسطته أرتقي بالمجتمع الإسلامي وأديره لأقيم فيه الحق وأدفع الباطل… وهكذا كان…
فلنعد الآن إلى الخطبة الشقشقية التي يبين فيها الأمير (ع) مجرى الأحداث المتعلقة بالخلافة منذ وفاة النبي (ص)، إلى أن وصلت هذه الخلافة إليه (ع)، فيقول:
"وما راعني إلا والناس… حتى وطئ الحسنان…"
يعني كان إلحاح الناس واحتشادهم علي، رغبة بي، إلى هذا الحد، وذلك كي يقبل بالخلافة، ويقبل أخيراً، ولكن لماذا؟
يوضح الإمام علي (ع) هدفه الذي قبل لأجله حيث يقول:
"والله لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها…".
فالحكومة بحسب الرؤية الإٍسلامية ليست سوى عبادة في هدفها ومنطلقاتها؛ فأمير المؤمنين (ع) قبل بالخلافة لعدة أمور:
أولاً: طلب الشعب وإصراره على ذلك. وهو عامل أساسي ومصيري في تسنّم الخلافة.
ثانياً: قيام الحجة بوجود الناصر، فهو (ع) يرى دعماً ومساندة يستطيع بواسطتها أن يحقق أهدافه، ولو لم ير ذلك لما قبل.
ثالثاً: ما أخذ الله على العلماء؛ فأمير المؤمنين لكونه عالماً فهو مسؤول أمام الله سبحانه وتعالى أن لا يرضى بالظلم وأن ينصر المظلوم.
تلك هي المعايير التي جعلت أمير المؤمنين (ع) يقبل بتولي الخلافة.. واليوم فإن من لا يؤمن بالله ولا يقبل بالإسلام كبرنامج للحياة وتكون أفكاره وآراؤه مستوردة من الأفكار القومية أو المادية الإلحادية أو ما يمكن تسميته بالإسلام الالتقاطي، مثل هكذا شخص ممن ليس لديه فكر إسلامي إلهي لن يكون قادراً على تشكيل حكومة إلهية، والتي إن لم توجد فلن يوجد مجتمع إسلامي أبداً. هنا أطلب منكم أن تتحلوا بالوعي واليقظة في النظر للأمور، فأنتم اليوم عندما تنظرون عن بعد إلى تاريخ صدر الإسلام تشاهدون بأم العين علي بن أبي طالب كرجل عظيم وصاحب حق، بينما معاوية يظهر كشخص وضيع… أما في تلك الأيام التي جرت فيها الحرب بين أمير المؤمنين (ع) ومعاوية فقد كان هناك أشخاص من صحابة النبي (ص) ممن لايزال يقاتل مع معاوية، ولعل بعضهم كان من المؤمنين. من كان يظن بأنه يقوم بعمل جيد وصالح بحيث كان يقول: معاوية خال المؤمنين! ففي ذلك الوقت كان الوعي والدقة أمراً مطلوباً بشدة، فمن كان يملك الوعي؟
عمار بن ياسر نموذج من أولئك الذين تمتعوا بالوعي؛ فقد جمع بعض الذين اشتبهت عليهم الأمور فقال لهم: "أقسم بالله أني رأيت هذه الراية، نفسها التي يقف تحتها اليوم معاوية ضد علي (ع)، في معركة بدر حيث كانت يومها مع أبي سفيان". فإن الوعي والدقة ما يلزمنا دائماً.
إن روح تاريخنا إنما هي في ذكر سيرة أئمتنا، فلو لم يكن في تاريخ التشيع هذه الشخصيات العظيمة كأمير الؤمنين والحسنين والزهراء (ع)، لما بقي أثر للتشيع يذكر في أيامنا هذه، بل ولا أثرٌ للإسلام نفسه، اللهم إلا في طيات بعض الكتب.. هذا الإسلام، إنما حُفظ لنا بذكر علي، وبجهاد هؤلاء العظام وشهادتهم (ع).
وكما تعلمون فإن مشاعر الناس وأحاسيسهم المنبعثة من حبهم لأهل بيت النبوة (ع) تتفجرلتصل إلى ذروتها ذكرى أفراح أو أحزان آل محمد (ص)، ويُصادف اليوم الذكرى الدامية لضرب الرأس الشريف لأمير المؤمنين، هذه الليلة الحزينة.. المظلمة في الكوفة، لن تتصوروا كيف كانت هذه المدينة في تلك الليلة؛ كل الناس كانوا أصحاب العزاء فقد رحل المواسي، المؤنس، كان علي هو من يعزيهم في الماضي، ذاك الذي كتب يوماً إلى أحد ولاته "… أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر". كان الإمام شريك الناس في كل الآمهم وهمومهم، مذكراً في وصيته "الله الله في الأيتام". كان (ع) السباق في رعاية الأيتام؛ فاليتيم أشد حاجة للعطف والحنان، محروم من تلك البسمة الأبوية العامرة بالمحبة، محروم من مداعبة أبيه له، فمن يملأ هذا الفراغ؟
علي (ع)، يسير ليلاً بين تلك المنازل التي كان يعرفها ويعرف أحوال أهلها، حاملاً إليهم الطحين والأرز والزيت، ومساعداً لهم، بإشعال التنور أحياناً.. ملاطفاً الأيتام؛ يجلسهم في حضنه، يلاعبهم كي لا يشعروا بالحزن والكآبة. عظمة علي معروفة ومشهورة في الحرب وساعات الوغى، لكن الأهم والأعظم مواساته وخدمته للأيتام والمحرومين، في دموعه المليئة عطفاً وحناناً.
في تلك الليلة.. في ليلة العشرين من شهر رمضان، انتظره الأطفال الذين كان يجلسهم على ركبته ويمسح على رؤوسهم بكل لطف، يطعمهم بيده.. انتظروا ذلك الرجل.. لكنه لم يأت… في تلك الليلة عرفوا من هو… ولعلكم سمعتم بما جرى عندما طلب الطبيب المعالج للأمير (ع) إحضار الحليب لعله يدفع أثر السم كيف أن عشرات الأطفال الأيتام أتوا من كل أنحاء الكوفة يحمل كل منهم كوباً فيه حليب واندفعوا نحو منزل الإمام يريدون رد الجميل وشكره على محبته ورعايته وحنانه… ولعلكم سمعتم أيضاً عن ذلك العجوز الأعمى الذي كان في تلك الليلة يئن من الوحدة وألم الجوع فسأله بعضهم: فكيف كنت تصنع في الأيام السابقة؟! فذكر لهم أن رجلاً كان يأتي إليه يواسيه ويطعمه بيده.. وأخبرهم بمواصفات ذاك الرجل.. الذي ما كان سوى علي (ع)… هذا الإنسان المتعدد الأبعاد، والذي كان حقاً كما وصفه الرسول الأكرم "ياعلي أنت فاروق الحق والباطل"؛ فكان الملجأ والحامي لكل من يشعر بالضعف والحاجة الوحشة؛ هذا الإنسان الذي كان يقع مغشياً عليه في محراب العبادة من خشية الله، هو نفسه الحاكم الذي لم يتحمل وجود والٍ ظالم كمعاوية، وهو نفسه من وبخ أحد الولاة وكان من أصحابه، لأنه أسرع في تلبية دعوة أحد الأشراف إلى الضيافة والولائم.
وهو الحافظ لبيت المال، بحيث أنه وفي الليلة الأولى لاستلامه الخلافة يطفئ المصباح كي لا يصرف من بيت مال المسلمين، وكي ينبه بعض الصحابة المدعين ويحذرهم من سوء أعمالهم.
هذا الإمام كان مظهراً للدفاع عن البشر وحقوق الإنسان واحترامه، وهذا هو الإسلام الذي يتجلى بالتوحيد بكل أبعاده وإكرام الإنسان وعزته، وبالمساواة وروح الأخوة بين جميع الناس.
ومن يخرج عن هذا النهج فلا يعدّ مسلماً حقاً وإن لم يخرج ظاهراً، فإن قلبه لم يؤمن بعد بالله والقرآن إيماناً كاملاً.
ومن يكن أسيراً للآمال والأهواء والانجذاب نحو حياة الترف والوجاهة المليئة بالزبارج والزخارف ويطلب من المسؤولية والسلطة المال فقط ويرغب في المظاهر الفارغة (سيارة من طراز السنة…) وإظهار القوة والقدرة… مثل هكذا شخص لا يمكن أن يدعي بأنه خليفة لعلي (ع).. يجب علينا جميعاً أن نحفظ هذا المعيار دائماً كوننا ننادي بعلي ونبحث عن نهجه.
كان هذا كلامنا وخطابنا وقد سمعتوه منّا منذ عشرين أو ثلاثين سنة، لم يتبدل ولم يتغير.. والآن يظهر جلياً أنه لم يكن ادعاءً أو شعارات فارغة، وما زلنا أمام امتحان واختبار، ونحن الذين حتى الأمس القريب كنا نقول لكم أظهروا ما تعتقدون به وتعلّموا واعلموا بكل هذا في ساحة حياتكم الفردية؛ فاليوم أيضاً نعيد نفس الكلام ونذكركم بنفس المطالب كي يصبح مجتمعنا مقتدياً بمثال علي بن أبي طالب (ع). فهذا ذكر علي (ع) ومن عنده نبدأ ونتقدم، فالإسلام إنما ينبع منه (ع).
ذلك اليوم الذي كنا نعيش فيه تحت ظل الحكم الطاغوتي، لم تكن الأعمال ذات الطابع الفردي ذات تأثير أو أن تأثيرها في تغيير الأوضاع كان ضعيفاً، وقد كنا حينها (أنا وكثير من العلماء المنسجمين بالمنهج والفكر) على هذا الاعتقاد وهو أن لا نحدث الناس ولا ندعوهم بدون وعي إلى الأخلاق بل إلى الأخلاق التي تدفع الناس إلى حمل السيف لمقاتلة أسرة بهلوي. فالأخلاق هي ذلك الشيء الذي يدفع الناس للجهاد والمواجهة وتحفيزهم للقيام ولاقتلاع غدة الفساد. وهذا الوضع يشبه الجسم، حيث إذا بقي جهازه الهضمي مريضاً فإن كل ما يتناوله من غذاء أو أدويه لا ينفع ولا يجدي، فلا بد من العمل الجراحي مهما رافقه من ألم ونزيف ومعاناة. فإن النهاية سيعقبها الصحة والعافية والسلامة، وما لم يقم الإنسان بهذه العملية فصحيح بأنه لن يتألم من العملية، ولكنه في الحقيقة سوف يتجه نحو الضعف الكلي والموت. بهذا المنطق كنا نعمل ونتكلم، والآن هذا التوجه نفسه ما زلنا ندعو إليه.. فقد أُجريت العملية وزال وجعها وحان وقت تناول الغذاء المفيد والأدوية المقوية لجسم مجتمعنا، في ذاك الوقت كنا نطلب منكم الجهاد والمواجهة الثورية، واليوم بعد أن هزمتم الطاغوت الحاكم، صارت ساحة جهادكم هي الساحة الأخلاقية والاهتمام بتقوية العبادات والفرائض والاطلاع على المعارف الإسلامية؛ مجتمعنا اليوم بحاجة ماسة للجانب الأخلاقي (وهذا لا يعني إهمال الشأن السياسي) بل ان العمل السياسي يبقى واجباً، ولكن عليكم عدم الاكتفاء بهذا وعدم الغفلة عن الاهتمام بالأخلاق والعبادة وتعلم القرآن والمعارف الإسلامية، وإحياء مثل هذه الليالي (من شهر رمضان) بأدعية أبي حمزة الثمالي ودعاء الافتتاح.
إذن فاليوم هو يوم الاهتمام والتوجه لمثل هذه الأمور؛ ففي مجتمعنا الآن مشاكل كثيرة في سلوك الناس، إحداها أن الآباء والأمهات لا يلتفتون إلى مسألة إعطاء القيمة والتشجيع لأبنائهم الشباب والفتيان…
ونقول لهؤلاء الأهل دعوا أولادكم، ليتعلموا المعارف الإسلامية وليشاركوا في الأنشطة الإسلامية، فالمئات من الشباب وخاصة من الفتيات كتبوا إليَّ يشكون من أن أهاليهم أنهم لا يسمحون لهم بالذهاب إلى صلاة الجمعة! مع أن هذه الصلاة هي مناسبة لتلاحم ووحدة هذه الأمة وليس عبثاً تأكيد الإمام المتكرر على ضرورة المشاركة فيها، بحيث إن المؤمنين الصادقين كانوا يأتون إليها ويفرشون سجادات الصلاة على الثلج في الشوارع شتاءً، وعلى الإسفلت الحار صيفاً، ولا يتركون هذه الصلاة بأي حال.
إذن دعوا شبابكم ليأتوا ويتعلموا، وإن رغبوا مثلاً بالانضمام إلى قوات الحرس الثوري، دعوهم واسمحوا لهم ليلتحقوا بالحرس ويكونوا في خدمة الإسلام.
هذا واجب الأهل، ولكن ما هو واجب الأبناء؟ ان عليهم احترام آبائهم وأمهاتهم، ولأهمية هذه المسألة نلاحظ كيف أن كثيراً من التفاصيل في المسائل الأخلاقية لم تُذكر في القرآن، أما مسألة احترام الأهل فقد ذكرت مراراً وهذا يدل على مدى أهميتها… لذا نوصي الشباب: أن احترموا أهاليكم، وإن رأيتم أن مستوى فهمكم للأمور أعلى من مستواهم فلا تغتروا بذلك، لأن هذا الفهم والوعي الذي لديكم الآن لم يكن ليحصل لولا التحولات التي أوجدتها الثورة، وكونوا على ثقة بأن أولادكم أنتم سوف يصيرون أيضاً أفضل منكم وأكثر وعياً ولن تكونوا حينها في مستوى فهمهم، وسوف ترون اللامبالاة والفتور تجاهكم.
فيجب أن يكون هناك التفاهم والانسجام سائداً بين الأهل والأبناء… فالأبناء يعاملون أهلهم بالحسنى، والأهل بدورهم يفسحون المجال أمام أبنائهم للتكامل والنضج، وأود أن ألفت النظر في هذا المجال أن خاطفي الأولاد من أهلهم اليوم كثر، وطبعاً لا أعني الخطف والسرقة للأطفال الصغار، وإنما أعني أولئك الذين يسلبون عقول وقلوب شبابكم.
واليوم أيضاً نرى في مجتمعنا بعض الوقاحات التي زادت، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن ينالوا من مقام إمام هذه الأمة وقلب العالم الإسلامي النابض وأعظم ثوريي في هذا العصر رغم ادعائهم الثورية.. أولئك هم سارقو عقول وقلوب شبابكم فاحذروهم وراقبوهم. أريد أن أسال من هو ذاك الذي كان يقاتل في كردستان؟ هو نفسه الذي كان يتكلم اللهجة الطهرانية أو الأصفهانية أو المشهدية ثم يرمي القنابل والقذائف الصاروخية على قوات الحرس، من أين أتى هذا الشاب؟! من بيتي ومن بيوتكم!! ومن الذي جعله ينفر من الإسلام؟! من الذي أبعده عن الإسلام وإيران والاستقلال والثورة والجمهورية الإسلامية؟! دققوا وابحثوا كي تعرفوا من. وإن لم تعرفوا فالإمام قد عرفه لنا… هو عبارة عن تلك المجموعات من المنافقين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "مجاهدي خلق"، فكونوا على حذر منهم وراقبوهم كي تبعدوا أولادكم عنهم، وهذا لا يكون بإخفاء الأولاد وإبعادهم عن الساحة، أو بمنعهم عن المطالعة وقراءة الكتب؛ فهذه الأساليب غير ناجحة.. بل اسعوا لتعرفوا أبناءكم وبناتكم ولترشدوهم إلى النهج الحقيقي والصحيح للفكر الإسلامي والقرآني، إلى التيار المتعمق والمتخصص بذلك الفكر، أصحاب الفهم العميق بالقرآن والإسلام، أولئك الذين أمضوا أعمارهم في البحث والتدقيق والدراسة، هم الذين يستطيعون أن يمنعوا سارقي العقول من أن يعبثوا بأفكار أبنائكم ويحرروهم منهم، فهؤلاء المدعون لا يطرحون سوى "إسلام" التقاطي مقطع أربعين قطعة وكالأكلة المخبوصة، مؤلف من أفكار ملتقطة من كل مدرسة في هذا العالم أو تيار في الدنيا.
ولهذا ترون أن هذه المجموعات الفاسدة والمنحرفة أشد عداوة للتيار العلمائي ولا تواجه فئة بالقدر الذي تواجه فيه فئة العلماء. واليوم في إيران فإن بعض العملاء والخونة والجناة يقولون انهم يريدون اقتلاع العلماء من الجذور! وأكثر من هذا فإن بعض الشباب الذين قاموا لمواجهة أمريكا والشاه، أيضاً فإنهم صاروا يتفوهون بنفس هذا المنطق! فما السبب الذي جعل هؤلاء يشنون الحملات على العلماء ويوهنون مقام "العالم"؟! السبب هو أن العالم العارف بالهداية ونشر الأصالة الإسلامية يستطيع بسرعة أن يفضح هؤلاء ويكف أيديهم وتأثيرهم فيقول لذلك الشاب ويؤكد له أن ما تسمونه "توحيد" مثلاُ وتعتقدون أنه صحيح يشبه كل شيء إلا التوحيد! وإن ما ابتدعتموه من فلسفة وأفكار لا شأن لها بالإسلام. لذلك كله فإن هؤلاء العملاء يشوهون صورة العالم في أعين الناس.
وهنا أشير إلى مسألة بخصوص العلماء ويعرفها الذين سمعوا خطاباتي وعرفوا أفكاري منذ سنوات عديدة، بأنني كنت من أوائل المنتقدين لبعض العلماء وأساليبهم الخاطئة وللمتظاهرين بذلك، وقد رفعت صوت النقد لهم في قلب الحوزة العلمية في مشهد أمام مئات الطلبة والفضلاء والمدرسين، ففي درس التفسير ذكرت هذا كي أؤكد بأني لا أريد أن أدعم وأروج بشكل مطلق لكل من وضع على رأسه العمامة، لكني أشعر بخطر كبير، هذا الخطر نفسه الذي ذكره الإمام وقلب الأمة الناطق الذي لا يرد عليه أحد. وقد أكد مراراً كثيرة هذا المطلب، وأنتم تعلمون أن هذه الثورة قد اشتعلت شراراتها الأولى على يد العلماء الذين هم محل ثقة الشعب، وانتشرت من مركز الحوزات العلمية إلى سائر أنحاء إيران. وهؤلاء العلماء هم الذين حفظوا فكر الثورة وحماسة الناس وثوريتهم ونهوضهم. إن فراشات شمعة هذه الثورة هي نفسها الخطب النارية التي أرشدت الشباب وحركتهم وانطلقت بهذه المسيرة فكانت محرك الثورة، كان هؤلاء العلماء يعبئون الجماهير ويشعلون حماسهم بآيات القرآن وخطب نهج البلاغة وبيانات الإمام، وكما تعلمون فإنه وبعد انتصار الثورة قد استلم بعض العلماء مسؤوليات ومهام حكومية بأمر من الإمام، وانطلقوا ليأخذوا المواقف الصلبة في مواجهة أمريكا وروسيا والتيارات الرجعية الوافدة إلينا من الخارج. ولو لم يؤد هؤلاء العلماء المجاهدون تكليفهم في هذه المواقع لما رأينا اليوم كيفية النظر إلى مسألة رهائن السفارة الأمريكية مثلاً بهذا النحو، وكذا مسألة التعاطي مع أمريكا. لو لم يتصد العلماء لرأيتم اليوم المستشارين الأمريكيين يتجولون في الشوارع عندكم بحرية، هم وقتلة إخوانكم المظلومين، الذين مازالوا إلى الآن يتآمرون.
فعليه، من قاوم منذ البداية هو العالم، ومن صمد قبل الجميع هو العالم. ولا أتعرض هنا لأحد، ولكن أذكر أين كانت مواقع الآخرين في هذه المواجهة. ما أقصده أن العلماء في هذا المجال كان لهم الموقع الحساس والمصيري، والأعداء أنفسهم يعرفون هذا، لذلك يريدون القضاء على العلماء. هل تعرفون من أطلق على حكومة الجمهورية الإسلامية اسم حكومة الملالي؟!عملاء الـ C.I.A. هم الذين قاموا بذلك من خلال المحطات الإعلامية في أوربا وأمريكا، فهؤلاء هم من وضع هذه التسمية المختلفة، وبعدها رأينا هذا الكلام نفسه يتكرر على ألسنة عناصر المجموعات في الداخل التي تسمي نفسها "الشعب" وأحياناً "الشعب الإسلامي" فانظروا وانتبهوا إلى طريقة ارتباط هذه الظواهر ببعضها. فعلينا أن نملك الوعي، وعلينا هداية شبابنا كي يتجهوا لطلب العلم ومعرفة الدين ونهج القرآن الصحيح ومطالعة الكتب. كل الدعايات والحملات الإعلامية التي بدأت بعد شهرين من انتصار الثورة واستهدفت الشخصيات العلمائية والتجمعات المرتبطة بالعلماء، كانت لهذه الأسباب التي ذكرتها، فلو كان الحزب الجمهوري معادياً للعلماء، ولم يكن العلماء عاملين فيه، لما تم محاولة تشويه صورته والتهجم عليه بهذا الشكل.
أمام هذا الواقع، يجب على الآباء والأبناء والأمهات والبنات أن يعرفوا كيف يواجهون وكيف يتّحدون أمام هذه الأحداث الجارية في حياتهم. في الماضي كان الخلاف سائداً بين هذين الجيلين، اليوم عليهم أن يتفقوا ويقفوا صفاً واحداً لمواجهة العدو بسلاح القرآن والإسلام. فعندما تضيعون الإسلام مثلاً (طبعاً هذه الأمة لن تفقد الإسلام على الإطلاق) عندها لن تكونوا قادرين على مقاومة أمريكا وقوتها، بل إن العدو يبدأ عندها بالنفوذ والغزو شيئاً فشيئاً، ولا يقول للأمة أنا أريد ظلمك وأن أكون دكتاتورياً عليك فاستعدي، بل ان ظلمه يتدرج بهدوء.. أنقل لكم، لأخذ العبرة، مقطعاً من تاريخ صدر الإسلام؛ فبعد زمن خلافة أمير المؤمنين وخاصة بعد شهادة الإمام الحسن (ع) أصبحت مدينة الكوفة دائماً مركزاً للاضطرابات والفوضى بالنسبة للحكم الأموي، الذي عجز عن مواجهة الأمر (مثلما عجز نظام الشاه أمام مدينة قم، مدينة الدم والثورة)، فكان بنو أمية كلما عينوا والياً لهم على الكوفة تمرد عليه الناس، فيجد نفسه مضطراً أن يعود للخليفة الأموي خالي الوفاض، كي يقول له لا أستطيع أن أنفذ سياستكم وأنا مضطر أن أتوافق مع زعماء الشيعة كي تهدأ الأحوال.. أمام هذا الواقع انبرى الحجاج بن يوسف سفاح بني أمية المشهور وطلب من الخليفة عبد الملك بن مروان أن يوليه الكوفة، متعهداً له أن يحل المشاكل ويجعل الكوفة خالية آمنة من التوتر، فولاه الخليفة كما أراد، وكتب له كتاباً بذلك، فطلب الحجاج منه أن يخفي هذا الكتاب ولا يطلع عليه أحداً حتى يصل للكوفة ويرسله بذلك. فبقيت هذه المسألة سرية ولم ينتشر الخبر… رحل الحجاج إلى الكوفة مع عشرين فارساً مسلحاً من المحاربين الأشداء، دخلوا الكوفة خلسة قبل أذان الفجر، وتوجهوا إلى المسجد حيث كان الناس يتهيئون لصلاة الصبح وأكثرهم مشغول بالدعاء وقراءة القرآن، نشر الحجاج رجاله على أبواب المسجد ومداخله وطلب منهم أن يبقوا على استعداد دون أن يثيروا أي حركة.
أما الحجاج فقد وضع عمامة حمراء على رأسه وتلثم، ثم دخل المسجد بدون أن يعرفه أحد، واعتلى المنبر بهدوء وجلس بدون أن يتكلم شيئاً وانتظر حتى احتشد المسجد بالمصلين الذين انتبهوا فجأة إلى وجود هذا الرجل الملثم الذي لم يعرفوه، (ولو كان ظاهراً لعرفوا كونه سبق أن حكم الكوفة)، فتوجهت الأنظار إليه بدهشة واستغراب، وغلامه واقف أسفل المنبر، وصاروا يتساءلون عن سر هذا الجالس الملثم الذي تدل علامات عينيه على القسوة والغضب، وكيف أنه يضع سيفه دون غمد على ركبتيه، ولم يكن إمام الجماعة قد وصل بعد… ولما رأى الحجاج أن الوقت صار مناسباً فالأنظار كلها متوجهة إليه باهتمام، رفع عمامته وأسدل اللثام عن وجهه وأنشد الشعر المشهور معرفاً بنفسه:
أنا ابن جلى وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
فعرفه الناس في المسجد، وبدأ الرعب يدب في نفوسهم والأنفاس تتقطع.. أمر الحجاج عندها غلامه أن يقرأ على الملأ كتاب التنصيب للحجاج كوالٍ على الكوفة من قبل الخليفة.. بدايةً، الناس لم تأخذ هذه الرسالة على محمل الجد، فعاد الغلام ليصعد إلى الدرجة الأعلى من المنبر ويعيد القراءة مثبتاً التعيين ومعرفاً الناس على القرار… هكذا تسلل الحجاج بهدوء وتسلل هذا الدكتاتور شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى ما اراد.
واليوم على الأمة الإسلامية أن تنتبه وتفتح عينيها جيداً حتى لا تتكرر هذه الحوادث التاريخية مرة أخرى، فالديكتاتورية تأتي بالتدريج، وفي ذلك الزمان لو قاوم أهل الكوفة رجال الحجاج العشرين لمنعوا فيما بعد قتل آلاف الناس الأبرياء وزج الآلاف من الشيعة وذرية أمير المؤمنين في سجون الحجاج.
الآن ما هو الشيء الذي نقوم به لمنع عودة التسلط الأمريكي في بلادنا؟!
هل لدينا مناعة أو لقاح ضد هذا الميكروب كي لا يعود إلينا؟
ألم تشاهدوا ما جرى في الثورة الفرنسية الكبرى، فبعد انتصارها وتخلص الشعب من "سجن الباستيل" الذي كان رمز الظلم والاستبداد، وتحرر المعتقلون السياسيون وأعدام الملك والملكة الظالمين ومصاصي الدماء وأصبحت الحكومة بيد الشعب الفرنسي. ولكن لم تمض عدة سنوات حتى عادت الدكتاتورية مجدداً، ولكن بواسطة "نابليون بونابرت" الذي كان جنرالاً عسكرياً فحكم بالحكم العسكري القاسي بعد أن كانت فرنسا مهد الحرية، وبعد هزيمة "نابليون" عادة مرة أخرى حكومة متسلطة، فحكم أبناء لويس السادس عشر (الملك المخلوع والمقتول) لأربعين سنة.
هذا التاريخ أمامنا، احذروا ولو قليلاً أن يحدث ذلك معكم أيضاً؟ كونوا متيقظين، فما الذي يمنع ويضمن أن لا يتكرر هذا الأمر معنا؟! هناك عدة أشياء تستطيع أن تحفظنا، أهمها أن لا تضعوا في حسابكم إلا المقاييس والمعايير الإسلامية.
إن أردتم أن تمنعوا عودة الظلم والتسط إلى هذا البلد عليكم دوماً أن تراعوا وتحفظوا المعايير والضوابط الإسلامية، هذا أولاً.
ثم عليكم أن تنهضوا وتتجهوا لفهم الإسلام ومعرفته وكذلك لمواجهة أعداء الثورة في جميع مجالات أعمالكم جماعة أو أفراداً، ثم التفطن والوعي العميق لكل ما يجري حولكم. - الامام الرضا(ع) وولاية العهد
بسم الله الرحمن الرحيم
علينا الاعتراف بأن حياة الأئمة(ع) لم تُعرف وتفهم بالشكل المطلوب والكامل، حتى أن مقامهم وموقعهم الجهادي في الحياة قد بقي مخفياً حتى عن الشيعة أنفسهم. وعلى رغم وجود آلاف الكتب الكبيرة والصغيرة، قديماً وحديثاً تتناول سيرة وحياة الأئمة(ع)، فإن قسماً كبيراً ومهماً من سيرة أولئك العظام ما زال محجوباً بأستار الغموض والإجمال، كما أن الحياة السياسية لأبرز وجوه آل بيت النبوة التي امتدت لقرنين ونصف وكانت تشكل أهم مراحل تاريخ الإسلام ابتليت بكثير من المحققين والكتّاب الذين كانوا ينطلقون في دراستهم من خلفيات مسبقة، أو من تقصير في التدقيق، أو أنهم أصلاً من ذوي الانحرافات، مع افتقارنا إلى التاريخ المدون والموثق لحياة الأئمة المليئة بالأحداث والتطورات.
إن حياة الإمام الثامن علي الرضا(ع) السياسية والتي استمرت عشرين سنة تقريباً من هذه الحقبة (القرنين ونصف) كإمام هي جديرة بالتحقيق والدراسة المعمقة وذلك لأنها كانت من جملة المحطات الحساسة والبارزة لتلك الحقبة.
والآن عندما ندقق النظر لنعرف ما هو أهم شيء لم تتم دارسته بالشكل المطلوب والمناسب في حياة الأئمة(ع) نجد أنه عنصر المواجهة السياسية القاسية والعنيفة؛ فمنذ بداية النصف الثاني من القرن الأول الهجري وحيث تحولت الخلافة الإسلامية بشكل واضح وفاضح إلى سلطنة بكل معنى الكلمة في جميع الجوانب وتبدلت الحكومة (أمانة الله) إلى حكومة متسلطة (ملكية) كانت المواجهة السياسية لأهل البيت(ع) تشتد وتتطور بأسلوب يتناسب مع الأوضاع والظروف المستجدة. وهذه المواجهة كان هدفها الأساسي تشكيل النظام الإسلامي وبناء الحكومة على أساس مبدأ الإمامة، ومن دون شك كان أيضاً تبيين وشرح الدين من وجهة نظر أهل بيت الوحي، ورفع الشبهات ومواجهة الانحرافات، ونشر المعارف والأحكام الإسلامية، من جملة الأهداف المهمة لجهاد أهل البيت(ع).
لكن بعد الاطلاع على حركة اهل البيت نرى قرائن لا تقبل الشك تدل على أن جهاد أهل البيت لم يكن محدوداً وناظراً فقط لتحقيق هذه الأمور، بل نرى أن الهدف الأسمى لذلك الجهاد لم يكن إلا تشكيل الحكومة العلوية وبناء النظام الإسلامي العادل؛ فكل المصاعب والآلام والمرارات والتضحيات في حياة الأئمة وأصحابهم كانت في سبيل هذا الهدف. والأئمة، بدءاً من زمان الإمام السجاد، أي بعد حادثة عاشوراء، ووصولاً إلى آخرهم، كانوا ينهضون لأجل تهيئة الأرضية اللازمة لتصبح على المدى البعيد مستعدة لتحقيق هذا الهدف (الحكومة العلوية). فعلى مدى الفترة الممتدة من حادثة عاشوراء إلى استلام الإمام الثامن(ع) ولاية العهد (140 سنة) كانت نشاطات أئمة اهل البيت والأحداث المتعلقة بهم دائماً من أخطر ما تواجهه أنظمة الخلافة المتعاقبة من خطر يهدد كيانها، وفي هذه المدة (140 سنة) تهيأت عدة فرص للتعبير عن أن جهاد التشيع ونضاله والذي يجب أن يطلق عليه اسم الثورة العلوية، اقترب من تحقيق انتصارات كبرى، لكن في كل مرة كانت تظهر موانع وعوائق تقف في طريق تحقيق الانتصار النهائي (إقامة الحكومة العلوية)، بحيث أنه غالباً ما كانت تتلقى هذه الحركات ضربات قاسية ومميتة، وذلك من خلال الحصار والهجوم على المحور الأساسي والأصلي للثورة والذي يمثل شخص الإمام المعصوم(ع).
فالإمام المعصوم في كل زمان غالباً ما كان يحاصر أو يزجّ به في السجن أو يقتل، وعندما يصل الدور إلى الإمام الذي يليه، كان يواجه جواً شديد القمع مليئاً بالضغوط والصعوبات إلى حد انه كان يحتاج إلى فترة طويلة لتهيئة الأرضية من جديد. والأئمة(ع) في هذا الخضم من المصاعب كانوا بفطنتهم وشجاعتهم يعبرون بالتشيع من هذه المحطات الصعبة والخطرة بسرعة وثبات، وبذلك لم يتمكن الخلفاء الأمويون والعباسيون من أن يقضوا على فكر الإمامة وتأثيره وفاعليته من خلال القضاء على شخص الإمام. فبقي هذا الفكر وهذا الجهاد جرحاً عميقاً في خاصرة النظام، ومصدر تهديد يسلب من هؤلاء الخلفاء الراحة، ولما استشهد الإمام موسى بن جعفر(ع) مسموماً بعد سنوات أمضاها في سجن هارون، ساد الجو من التوتر والضغط في جميع أرجاء السلطنة العباسية، وفي هذا الجو الضاغط يذكر أحد أصحاب الإمام علي بن موسى(ع) قائلاً: "في الوقت الذي كانت الدماء تقطر من سيف هارون كانت براعة الإمام المعصوم، حيث استطاع أن يحفظ ويصون شجرة التشيع من خطر الأحداث الجارفة، ويمنع تفرق أصحاب والده(ع) ويحافظ على حماستهم وروحيتهم"، وتمكن من خلال سلوك طريق التقية أن يحافظ على حياته التي كانت محوراً وروحاً لوحدة وتجمّع الشيعة، وكذلك استمرت المواجهات الأساسية والصلبة من قبل خط الإمامة رغم قوة ونفوذ الخلفاء العباسيين في تلك المرحلة التي نعم فيها النظام الحاكم بجو من الاستقرار والثبات النسبي، حيث كان الخليفة العباسي في تلك الفترة أقوى وأقدر من أسلافه، مع أن التاريخ لم يستطع أن يحدد لنا بشكل واضح حدود ومعالم تلك الفترة من العشر سنوات لحياة الإمام الرضا(ع) في زمان هارون وما بعده من الخمس سنوات التي وقعت فيها حروب وتزاعات داخلية بين خراسان وبغداد ضمن السلطنة العباسية.
لكن عند التأمل والتدبر في تلك الفترة ندرك أن الإمام الثامن(ع) قام في تلك الفترة بنفس المواجهة الناظرة إلى المدى البعيد، والتي انتهجها أهل البيت في كل المراحل التي تلت حادثة عاشوراء ومضى للوصول إلى الأهداف نفسها. ولما فرغ المأمون في سنة 198هـ من حربه ضد أخيه الأمين واستولى على الخلافة من دون منازع، كان أول ما قام به وعمل عليه هو حل مشكلة العلويين وثورات التشيع، ولقد أخذ بعين الاعتبار تجارب أسلافة لتحقيق ذلك، وواقع هذه الحركة، والتي كانت تدل على صلابة هذه الثورة يوماً بعد يوم، وعلى عجز وضعف الأنظمة الحاكمة عن اقتلاع جذورها أو حتى تحجيمها وإيقافها عن التكامل والنمو.
فالمأمون رأى أن قوة نفوذ هارون وسطوته التي وصلت إلى حد أسر الإمام السابع وسجنه لتلك المدة الطويلة ومن ثم قتله بالسم، لم تُجد نفعاً ولم تمنع التحركات السياسية والعسكرية والإعلامية والفكرية لتيار التشيع، فكيف به إذا أراد أن ينتهج هذه الطريقة، وهو لم يكن يتمتع بما تمتع به أبوه! فهو، إضافة إلى الحروب الداخلية التي ابتلي بها بنو العباس وورث هو مخلفاتها وآثارها، كان يعاني من مشاكل كبرى تهدد السلطنة العباسية. ومن دون شك فقد كان من اللازم عليه أن ينظر بجدية إلى خطر ثورة العلويين، ولعل المأمون في تقييمه لخطر الشيعة على نظامه كان ينظر ببصيرة، لذا فهناك ظن كبير بأن الفترة الفاصلة والتي تقدر بخمسة عشر سنة، أي من بعد شهادة الإمام السابع حتى ذلك اليوم الذي جعلت فيه ولاية العهد للإمام الثامن(ع)، بالأخص فرصة الخمس سنوات التي سادت فيها الحروب الداخلية، كان تيار التشيع أكثر جهوزية واقتداراً لرفع راية الحكومة العلوية. ولقد تنبه المأمون إلى هذا الوضع الخطر وهبّ لمواجهته من خلال ما كان يراه مناسباً بعد تقييمه لتجارب المواجهات السابقة؛ فقام بدعوة الإمام الرضا(ع) إلى مدينة خراسان وعرض عليه عرضاً ملزماً بتسلم ولاية العهد، حيث لم يسبق في كل المراحل السابقة للإمامة أن حدث مثل هذا الأمر، وسنتحدث عنه بشيء من الاختصار، حيث إن ولاية العهد التي سُلمت للإمام الثامن علي بن موسى الرضا(ع) والتي تعد تجربة تاريخية عظيمة كانت في حقيقة الأمر حرباً سياسية خفية بحيث كان الانتصار أو الهزيمة فيها يمكن أن يحدد مصير التشيع؛ والطرف المقابل في هذه الحرب كان المأمون الذي تسلّح بكل إمكاناته وقدراته.
فالمأمون بحنكته وتدبيره ودرايته للأمور التي لم يسبقه لها أحد من أقرانه فكر بأنه لو انتصر في هذه الحرب وتمكن من تحقيق مخططه إلى النهاية، لكان من المؤكد حقق الهدف الذي سعى وجهد الخلفاء الأمويون والعباسيون لتحقيقه من بعد شهادة علي بن أبي طالب(ع) ولم يتمكنوا من ذلك؛ أي أنه كان استطاع أن يقتلع شجرة التشيع من جذورها، فهذا هو الهدف، ولكان استطاع أن يقلع تلك الشوكة التي كانت دائماً في عين الملوك الظالمين والطواغيت إلى الأبد، لكن الإمام الثامن علي بن موسى الرضا(ع) وبالتدبير الإلهي استطاع أن يتغلب على المأمون الذي مُني بهزيمة نكراء، مع أنه هو الذي جهز نفسه وأعد العدة لهذه الحرب السياسية، وهو لم يفشل في أضعاف التشيع أو القضاء عليه فحسب، بل إن السنة التي تسنّم فيها الإمام ولاية الفقيه العهد (201هـ) كانت واحدة من أعظم البركات التاريخية على التشيع، حتى إنها نفخت روحاً جديدة في نضال وكفاح العلويين. وهذا كله كان من بركات التدبير الإلهي لللإمام الثامن(ع) وأسلوبه الحكيم.
ولقد كان للمأمون اهداف أساسية من وراء دعوة الإمام إلى خراسان، أولها وأهمها تحويل ساحة المواجهات الثورية العنيفة للشيعة إلى ساحة التحرك السياسي الهادئ والذي لا يشكل خطراً، لأنه ـ وكما ذكرت ـ لم يكن الشيعة يعرفون التعب أو الملل في المواجهة ولم تكن ثورتهم لتقف عند حد. هذه المواجهات كان لها خاصيتين، الأولى: المظلومية، والثانية: القداسة، حيث كانتا تمثلان عنصر قوة يعتمد عليه الشيعة لإيصال الفكر الشيعي ـ الذي هو نفس شرح وبيان الإسلام من وجهة نظر أئمة أهل البيت(ع) ـ إلى عقل وقلب جمهورهم، بحيث ان كل شخص لديه أدنى استعداد كان إما أن يؤمن بهذا الفكر أو أنه يميل إليه. وبهذا الشكل صارت دائرة التشيع تزداد سعة وانتشاراً يوماً بعد يوم، وبنفس المظلومية والقداسة اللتين كانتا الداعم لحركات النهوض والتحرر من ظلم الخلافة.
كان المأمون يريد أن يواجه هذا الاستتار الشيعي العميق والمؤثر دفعة واحدة، فأراد أن يحيد الإمام من ساحة المواجهة الثورية وينقله إلى الميدان السياسي، وأن يقضي بهذه الوسيلة على فعالية الثورة الشيعية والتي كانت تتكامل يوماً بعد يوم بفعل العمل السري والمركز. وبهذه الطريقة يكون المأمون قد انتزع من الشيعة العلويين الخاصيتين: المظلومية والقداسة، اللتين تشكلان عامل نفوذ قوي لهم في الساحة؛ وذلك لأن قائدهم ـ وهو الشخص العالي المقام عندهم ـ قد أصبح في صفوف جهاز الخلافة، فهو ولي العهد للملك المطلق العنان في التصرف في أمور البلاد ، إذن فهو لم يعد لا مظلوماً ولا مقدساً.
وهذا التكتيك الذي قام به المأمون كان يأمل بواسطته أن يحول الفكر الشيعي إلى فكر مشابه لبقية الأفكار والعقائد والتيارات التي لها مؤيدون في المجتمع، فيخفف من وهجه وإشراقه ويخرجه من كونه فكراً معارضاً للنظام الحاكم، وذلك لأن غالباً ما يكون مرفوضاً من الجهاز الحاكم ومخالفاً له يكون مرغوباً عند الناس المستضعفين ومورد اهتمامهم.
هذا هو الهدف الأول من وراء دعوة الإمام إلى خراسان ومن ثم تنصيبه لولاية العهد. أما الهدف الثاني فهو تخطئة الاعتقاد الشيعي القائل بأن الخلافة قد غُصبت من قبل الخلفاء الأمويين والعباسيين وإعطاء الشرعية لهذه الحكومات السابقة؛ فالمأمون كان يرمي بتعيين الإمام ولياً للعهد إلى أن يثبت ـ وبالقوة ـ لكل الشيعة أن ادعاء هم بغصب الخلافة وعدم شرعية الخلفاء الحاكمين (هذا الادعاء الذي كان دائماً يعتبر من ضمن الأصول العقائدية للشيعة) بأنه كلام لا أساس له. وأنه قد نشأ نتيجة الضعف والإحساس بالاستحقار. فلو كانت الحكومات السابقة غير شرعية ومتسلطة فبالتالي خلافة المأمون الذي هو خليفة لأولئك السابقين غير شرعية وغاصبة أيضاً. فكيف يدخل علي بن موسى الرضا(ع) في صفوف هذا النظام الحاكم ويقبل بخلافة المأمون؟ فهذا يعني أنها قانونية وشرعية ويترتب على هذا أن تكون خلافة الحكام السابقين شرعية أيضاً وليست غاصبة. وهذا الأمر ينقض كل ادعاءات الشيعة، وبذلك لا يكون المأمون فقط قد حصل على الاعتراف بشرعية حكومته أسلافه. بل يكون قد قضى على أحد الأركان العقائدية للتشيع والذي يعتبر أساساً أن أصل الحكومات السابقة هو الظلم وغصب الخلافة. إضافة إلى نقض الفكرة السائدة والمعروفة عن زهد وعدم اهتمام الأئمة بزخارف الدنيا ومقاماتها، ويُظهر بأن الأئمة فقط في الظروف التي لا تصل فيها أيديهم إلى الدنيا ـ أي أنهم عندما يمنعون عنها ـ يلجأون إلى الزهد. بينما عندما تفتح أمامهم أبواب جنة الدنيا يسرعون نحوها. وحالهم في هذا حال الآخرين. فهم يتنعمون بالدنيا إن أقبلت عليهم.
والهدف الثالث للمأمون هو أن يجعل الإمام المعصوم الذي كان دوماً ركيزة المعارضة والمواجهة في جهازه الحاكم وكذلك بقية القادة والأبطال العلويين الذين يتبعون الإمام فيدخلون تحت سيطرة المأمون. وهذا النجاح لم يتمكن أحد على الإطلاق أن يتحققه لا من العباسيين ولا من الأمويين.
والهدف الرابع هو أن يجعل الإمام الذي يمتلك العنصر الشعبي ويعد قبلة الآمال ومرجع الناس في كل أسئلتها من ضمن صفوف أجهزة الحكومة. وبذلك يفقد شيئاً فشيئاً الطابع الشعبي ويبني حاجزاً بينه وبين الناس حتى يضعف بالتالي الرابط العاطفي بينه بين الطبقة الشعبية.
الهدف الخامس للمأمون كان أن يكسب سمعة معنوية وصيتاً بالوقار والتقوى. فمن الطبيعي عندها أن يمدح الجميع ذلك الحاكم الذي اختار لولاية عهده ابن بنت النبي(ص)، وهو شخص مقدس وذو مقام معنوي. وفي المقابل يحرم أخوته وأبنائه من هذا المنصب. والمعروف دائماً أن التقرب من الصالحين والمتدينين من قبل طلاب الدنيا يذهُب ماء وجه الصالحين ويزيد من ماء وجه اهل الدنيا.
الهدف السادس كان باعتقاد المأمون أن الإمام بتسلمه لولاية العهد ستحول إلى حامي ومرشد للنظام. فمن البديهي بأن شخصاً كالإمام بما لديه من تقوى وعلم ومقام لا نظير لها فهو في أعين الجميع من أبناء النبي(ص)، وإذا قام بدور شرح وتبرير ما يقوم به جهاز الحكومة، فسوف يأمن النظام من أي صوت مخالف. وبذلك ايضاً لا يستطيع أحد أن ينكر شرعية تصرفات هذا النظام. فهذا الأمر كان عند المأمون حصانة ووقاية لحكمه. فمن خلال الإمام يستطيع أن يخفي كل أخطاء وعيوب نظامه وحكومته ولم يكن ليخطر ببال أحد سوى المأمون، هذا الدهاء السياسي والحنكة والمكر. حتى أن الأصدقاء والمقربين من المأمون لم يكن لديهم علم بأبعاد وجوانب هذه السياسة. ويظهر هذا الأمر من خلال بعض الوثائق التاريخية. حتى أن فضل بن سهل الوزير والقائد والذي هو من أقرب الأشخاص لجهاز الحكومة لم يكن يعلم حقيقة هذه السياسة. وذلك حتى لا تتعرض اهدافه في هذه الحركة الالتفافية إلى أن نكسة.
وحقاً يجب القول أن سياسة المأمون كانت تتمتع بتجربة وعمق لا نظير له. لكن الطرف الآخر الذي كان في ساحة الصراع مع المأمون هو الإمام علي بن موسى الرضا(ع). وهو نفسه الذي كان يحول أعمال وخطط المأمون الذكية والممزوجة بالشيطنة إلى أعمال بدون فائدة ولا تأثير لها وإلى حركات صبيانية. بينما المأمون الذي بذل كل جهوده وتحمل المصاعب من اجل مشروعه هذا، لا أنه فقط لم يحقق أي شيء من الأهداف التي كان يسعى لها، بل أن سياسته التي اتبعها انقلبت عليه. فالسهم الذي كان يريد أن يرمي به مقام ومكانة وطروحات الإمام علي بن موسى الرضا(ع) أصاب المأمون بحيث أنه وبعد مضي فترة قصيرة أصبح مضطراً إلى أن يعتبر كل تدابيره وإجراءاته الماضية هباءاً منثوراً كأنّ شيئاً لم يكن منها.
وفي نهاية المطاف عاد المأمون ليختار نفس الأسلوب الذي سلكه أسلافه من قبله وهو قتل الإمام. فالمأمون الذي قد سعى جاهداً لتكون صورته حسنة ومقدسة وليتصف بأنه خليفة طاهر عاقل، سقط في النهاية في الهوة التي قد سقط فيها كل الخلفاء السابقين له. أي انجر إلى الفساد والفحشاء ووسمت حياته بالظلم والقهر ويمكن مشاهدة نماذج من حياة المأمون خلال 15 عاماً بعد حادثة ولاة العهد تشكف ستار الخداع والتظاهر عند المأمون. فكان لديه قاضٍ للقضاة، فاسق وفاجر مثل يحيى بن الأكثم. وكان المأمون يحضر المغنيات أيضاً إلى قصره، وكان لديه مغنٍ خاص يدعى إبراهيم بن مهدي. وعاش مرفهاً مسرفاً حتى أن ستائر دار خلافته في بغداد كانت من الدارّ.
بعد هذا العرض لسياسة المأمون، نتعرض إلى السياسة والإجراءات التي قام بها الإمام علي بن موسى الرضا(ع) لمواجهة هذا الواقع… فعندما دعي الإمام لينتقل من المدينة إلى خراسان من قبل المأمون نشر في المدينة جواً يدل على انزعاجه وتضايقه من هذه الخطوة بحيث أن كل شخص كان حول الإمام تيقن أن المأمون يضمر سوءاً للإمام من خلال ابعاده عن موطنه. ولقد أعرب الإمام للجميع عن سوء ما يرمي إليه المأمون بكل الأساليب الممكنة، فقام بذلك عند توديع حرم النبي(ص) وعند توديع عائلته وأثناء خروجه من المدينة، وبكلامه وسلوكه ودعائه وبكائه، كان واضحاً للجميع أن هذا السفر هو رحلته الأخيرة ونهاية حياته(ع). وبناءً على ما كان يتصوره المأمون في أن يُنظر إليه نظرة حسنة، بينما يُنظر إلى الإمام الذي قبل بطلب المأمون نظرة سيئة، نرى أن قلوب الجميع ونتيجة لرد فعل الإمام الذي قام به في المدينة زادت حقداً على المأمون من اللحظة الأولى لسفر الإمام. فإمامهم العزيز(ع) قد أبعده المأمون عنهم بهذا الشكل الظالم ووجهه إلى مقتله… هذه الخطوة الأولى للإمام.
وعندما طرحت ولاية العهد على الإمام رفض الإمام هذا الطرح بشدة. ولقد انتشر في كل مكان رفض الإمام علي بن موسى الرضا(ع) لولاية العهد من قبل الخلافة، كما أن العاملين في الحكومة الذين لم يكونوا على علم بدقائق سياسة وتدابير المأمون قاموا وعن غباء بنشر رفض الإمام(ع) في كل مكان. حتى أن الفضل بن سهل صرح في جمع من العاملين في الحكومة أنه لم يرَ على الإطلاق خلافة بهذا القدر من المذلة، فالمأمون الذي هو أمير المؤمنين يقدم الخلافة أو لاية العهد لعلي بن موسى الرضا وهو يرفض ذلك. ولقد سعى الإمام(ع) في كل فرصة تتاح له أن يبين أنه مجبر على تسلم هذا المنصب (ولاية العهد) ودائماً كان يذكر أنه هُدد بالقتل حتى يقبل بولاية العهد. وكان من الطبيعي جداً أن يصير هذا الحديث الذي هو من أعجب الظواهر السياسية متناقلاً على الألسن، ومن مدينة إلى مدينة. فكل العالم الإسلامي في ذلك اليوم وفيما بعد فهم أن شخصاً مثل المأمون حارب أخاه الأمين حتى قتله لأجل أن يبعده عن ولاية العهد ووصل به الأمر من شدة غضبه على أخيه أن قام برفع رأسه على الرمح وطاف به من مدينة إلى مدينة. مثل هكذا شخص كان من الواضح أن أجبر الإمام الذي لم يكن مبالياً بولاية العهد.
على أن يقبل بها وإلا قتله. وعند المقارنة بين عمل المأمون والإمام المعصوم نرى أن كل ما جهد من أجل تحقيقه المأمون ووفر في سبيله كل ما لديه كانت نتيجته عكسية بالكامل. هذا هي الخطوة الثانية للإمام.
أما النقطة الثالثة في سياسته(ع) والتي واجه بها سياسة المأمون هي أنه مع كل الضغوطات والتهديدات التي مورست عليه، لم يقبل ولاية العهد إلا بشرط الموافقة على عدم تدخله في أي شأن من شؤون الحكومة من حرب وصلح وعزل ونصب وتدبير وإشراف على الأمور. والمأمون الذي كان يعتقد أن هذا الشرط ممكن قبوله وتحمله في بداية الأمر. حيث يستطيع فيما بعد أن يجر الإمام إلى ساحة أعمال ونشاطات الحكومة. وافق على قبول شرط الإمام(ع) الذي ينص على عدم التدخل بأي شيء مهما كان. ومن الواضح أن قبول المأمون بهذا الشرط جعل خطته كمن يكتب على وجه الماء. فأكثر أهدافه التي كان يرمي إلى تحقيقها من وراء هذه الخطوة (تسليم ولاية العهد للإمام) لم تتحقق من جراء موافقته على هذا الشرط. والإمام(ع) الذي كان يطلق عليه لقب ولي العهد ويتمتع بسبب موقعه من إمكانات جهاز الحكم كان دائماً يقدم نفسه على أنه مخالف وعلى خلاف معها. فهو لم يكن يأمر ولا ينهى، ولا يتصدى لأي مسؤولية ولا يقوم بأي عمل للسطلة، ولا يدافع عن الحكومة، ولا يقدم أي تبرير لأعمال النظام. لذا كان من الواضح أن هذا الشخص الذي يُعتبر عضواً في النظام الحاكم والذي أدخل إليه بالقوة وكان يتنحى عن كل المسؤوليات، لا يمكن أن يكون شخصاً محباً ومدافعاً عن هذا النظام. ولقد أدرك المأمون جيداً هذا الخلل والنقص. فحاول عدة مرات وباستخدام أكثر الحيل مكراً ليحمل الإمام على العمل خلافاً لما اشترطه سابقاً. فيجر بذلك الإمام إلى التدخل في إعمال الحكومة ويقضي أيضاً على سياسة الإمام المواجهة والرافضة. لكن الإمام كان في كل مرة يُحبط خطته بفطنته. وكنموذج على هذا الأمر يذكر معمر بن خلاد نقلاً عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) أن المأمون كان يقول للإمام أنه إذا أمكن أن تكتب شيئاَ لأولئك الذين يسمعون كلامك ويطعنونك حتى يخففوا التوتر والأوضاع المضطربة في مناطق وجودهم، لكن الإمام(ع) رفض ذلك وذكّره بشرطه السابق القاضي بعدم تدخله مطلقاً في أي من الأمور.
نموذج آخر مهم جداً وملفت وهو حادثة صلاة العيد حيث أن المأمون وبحجة أن الناس يعرفون قدر الإمام وقلوبهم تهفو حباً له . طب من الإمام أن يؤم الناس في صلاة العيد، رفض الإمام(ع) في البداية فكن بعد إصرار المأمون على طلبه وافق الإمام بشرط أن يخرج إلى الصلاة ويصلي بنفس طريقة النبي وعلي بن أبي طالب(ع).
فلما استفاد الإمام من هذه المناسبة وانتهزها كفرصة جيدة لصالح مشروعه ندم المأمون الذي كان قد أصر على ذلك وأرجع الإمام من منتصف الطريق قبل أن يصلي، مضطراً بفعله هذا أن تتلقى سياسة نظامه المخادعة والمتملقة ضربة أخرى في صراعه مع الإمام(ع).
النقطة الرابعة في سياسة الإمام(ع) ان استفادته الأساسية من مسألة ولاية العهد كانت أهم من كل من ذكر، فبقبوله لولاية العهد استطاع أن ينهض بحركة لا نظير لها في تاريخ حياة الأئمة (بعد انتهاء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سن 40 هجرية حتى آخر عهود الخلافة الإسلامية)، ولقد تمثل ذلك بظهور ادعاء الإمامة الشيعية على مستوى كبير في عالم الإسلام وخرق ستار التقية الغليظ في ذاك الزمان، حيث تم إيصال نداء التشيع إلى كل المسلمين، فمنبر الخلافة العظيم الذي سمح للإمام باعتلائه مكنه من أن يحدث بما لم يكن يقال طوال فترة 150 سنة إلا إلى الخواص والأصحاب المقربين وذلك بالسر والتقية، فخطب بالصوت العالي ليصل ذلك لجميع الناس، فاستفاد من هذه الفرصة ومن هذه الوسيلة (منبر الخلافة) التي لم تكن ميسرة في ذلك الزمان إلا للخلفاء أنفسهم أو المقربين من الدرجة الأولى. كذلك أيضاً مناظرات الإمام التي جرت بينه وبين جمع من العلماء في محضر المأمون حيث بين أمتن الأدلة على مسألة الإمامة، وهناك أيضاً رسالة جوامع الشريعة التي كتبها الإمام للفضل بين سهل حيث ذكر فيها كل أمهات المطالب العقائدية والفقهية للتشيع، وأيضاً حديث الإمامة المعروف الذي قد ذكره الإمام في مرو لعبد العزيز بن مسلم، إضافة إلى كل ذلك القصائد الكثيرة التي نظمت في مدح الإمام بمناسبة تسليمه ولاية العهد وقسم منها مثل قصيدة دعبل وأبو نواس تعد من أهم القصائد المخلدة في الشعر العربي.
إن كل ما ذكرناه من الاستفادة الأساسية للإمام(ع) من مسألة قبوله بولاية العهد يدل على مدى النجاح العظيم الذي حققه الإمام في صراعه ضد سياسة المأمون. وفي خطبته التي ألقاها من علي منبر الحكومة أورد فضائل أهل البيت الذين ظلوا يشتمون علناً على المنابر لمدة 90 سنة. فلسنوات طويلة لم يكن شخص ليجرؤ على ذكر فضائلهم، فعاد في زمانه(ع) ذكر عظمة وفضائل أهل البيت في كل مكان، كما أن اصحابهم ازدادو جرأة وإقداماً من هذه الحادثة (ولاية العهد وخطبة الإمام الجريئة) وتعرف الأشخاص الذين كانوا يجهلون مقام أهل البيت(ع) عليهم وصاروا يحبونهم وأحس الأعداء الذين أخذو على عاتقهم محاربة أهل البيت بالضعف والهزيمة. فالمحدثون الشيعة أصبحوا ينشرون معارفهم ـ التي لم يكونوا ليجرؤوا قبلاً على ذكرها إلا في الخلوات ـ في حلقات دارسية كبيرة وفي المجامع العامة علناً.
النقطة الخامسة التي قام بها الإمام تظهر عندما رأى المأمون أنه من المفيد فصل الإمام عن الناس. فهذا الفصل والإبعاد هو في النهاية وسيلة لقطع العلاقة المعنوية والعاطفية بين الإمام والناس. وهذا ما يريده المأمون… ولمواجهة هذه الخطوة لم يكن الإمام يترك أي فرصة تمكنه من الاتصال بالناس إلا يستفيد منها خلال تحركه ومسيره. مع أن المأمون كان قد حدد الطريق التي سيسلكها الإمام من المدينة وصولاً إلى مرو بحيث لا يمر على المدن المعروفة بحبها وولاءها لأهل البيت مثل قم والكوفة، لكن الإمام استفاد من كل فرصة في مسيره لإيجاد المودة ورابطة الحب بينه وبين أهل هذه المدن، فأظهر في منطقة الأهواز آيات الإمامة، وفي البصرة التي لم يكن أهلها من محبي الإمام سابقاً جعلهم(ع) من محبيه ومريديه وفي نيشابور ذكر حديث السلسلة الذهبية ليبقى ذكرى خالدة، إضافة إلى ذلك الآيات والمعجزات التي أظهرها. وقد اغتنم الفرصة لهداية وإرشاد الناس في سفره الطويل هذا. وعندما وصل إلى مرو التي هي مركز إقامة الخلافة كان(ع) كلما سنحت له الفرصة وأفلت من رقابة الجهاز الحاكم يسارع للحضور في جمع الناس. والإمام(ع) فضلاً عن أنه لم يحض ثوار التشيع على الهدوء أو الصلح مع جهاز الحكومة بل أن القرائن الموجودة تدل على أن الوضع الجديد للإمام المعصوم كان عاملاً محفزاً ومشجعاً لأولئك الذين أصبحوا بفعل حماية الإمام ومؤازرته لهم محل احترام وتقدير ليس فقط عند عامة الناس بل حتى عند العاملين وولاة الحكومة في مختلف المدن بعد أن كانوا ولفترات طويلة من عمرهم يعيشون في الجبال الصعبة والمناطق النائية البعيدة، فشخص مثل دعبل الخزاعي صاحب البيان الجريء لم يكن على الإطلاق يمدح أي خليفة أو وزير وأمير ولم يكن في خدمة الجهاز الحاكم، بل لم يسلم من هجائه ونقده أي شخص من حاشية الخلافة، وكان لأجل كل ذلك ملاحقاً دوماً من قبل الأجهزة الحكومية وظل لسنوات طوال مهاجراً ليس له موطن، فأصبح الآن يمكنه بوجود الإمام علي بن موسى الرضا أن يصل ويلتقي بمقتداه ومحبوبه بحرية، وأن يُوصل في فترة قصيرة شعره إلى كل أقطار العالم الإسلامي، ومن أشهر وأبهى قصائده تلك التي تلاها للإمام(ع) حيث اشتهر بها، والتي تبين ادعاء الثورة الحسينية على الأنظمة الأموية الحاكمة.
حتى أنه وفي طريق عودته من عند الإمام سمع تلك القصيدة نفسها يرددها قطاع الطرق. وهذا يدل على الانتشار السريع لشعره.
والآن نعود لنلقي نظرة عامة على ساحة الصراع الخفي الذي بدأ المأمون بالإعداد له، ودخل فيه الإمام علي بن موسى الرضا للدوافع التي قد أشرنا إليها، والآن لنرى كيف كان الوضع بعد مضي سنة على تسلم الإمام ولاية العهد.
المأمون، وفي رسالة أمر تسليم الإمام ولاية العهد، وبعدة كلمات ومحطات كان قد مدح الإمام بالفضل والتقوى والإشارة إلى مقامه الرفيع والأصيل. بحيث أصبح الإمام خلال سنة بعد أن كان قسم من الناس لا يعرفون سوى اسمه (حتى ان مجموعة من الناس كانت قد ترعرعت على بغضه) يُعرف عند الناس بأنه شخصية تستحق التعظيم والإجلال واللياقة لاستلام الخلافة حيث أنه أكبر من الخليفة المأمون سناً وأغزر علماً وتقوى وأقرب إلى النبي(ص) وأعظم وأفضل وبعد مضي سنة لم يكن الوضع على أن المأمون لم يستطع أن يكسب ود ورضا الشيعة المعارضين بجلب الإمام إلى قربه فحسب، بل ان الإمام قد قام بدور أساسي في تقوية إيمان وعزيمة وروحية أولئك الشيعة الثائرين.
وعلى خلاف ما كان ينتظره المأمون، ففي المدينة ومكة وفي أهم الأقطار الإسلامية لم يقذف الإمام علي بن موسى الرضا(ع) بتهمة الحرص على الدنيا وحب الجاه والمنصب ولم يخبُ نجمه الساطع. بل على العكس من ذلك تماماً حيث ازداد احترام وتقدير مرتبته المعنوية لدرجة فتح الباب امام المادحين والشعراء بعد عشرات السنين ليذكروا فضل ومقام آبائه المعصومين المظلومين. وخلاصة ما نريد قوله أن المأمون في هذا الصراع فضلاً عن أنه لم يحصل على شيء فإنه فقد مكاسب كثيرة، وكان على طريق خسارة ما تبقى لديه.
بعد مضي سنة على تسلم الإمام ولاية العهد، وأمام هذا الواقع الذي أشرنا إليه، شعر المأمون بالهزيمة والخسارة. ولكي يعوض عن هذه الهزيمة ويجبر أخطاء سياسته وجد نفسه مضطراً. بعد أن أنفق كل ما لديه واستنفذ كل الوسائل في مواجهة أعداء حكومته الذين لا يقبلون الصلح. أي أئمة أهل البيت(ع) ـ إلى أن يستخدم نفس الأسلوب الذي لجأ إليه دوماً أسلافه الظالمون والغادرون، وهو اغتيال الإمام المعصوم. لكن كان من الواضح عند المأمون أن قتل الإمام الذي يتمتع بهذه الموقعية العالية والمرتبة الرفيعة ليس بالأمر السهل. والقرائن التاريخية تدل على أن المأمون قام بعدة إجراءات وأعمال قبل أن يصمم على قتل الإمام لعله من خلالها يسهل أمر قتل الإمام ويحد من خطورته وحساسيته. ولأجل ذلك لجأ إلى نشر الأقوال والأحاديث الكاذبة على لسان الإمام كواحدة من هذه التحضيرات. وهناك ظن كبير بأن نشر الشائعة التي تقول أن علي بن موسى الرضا(ع) يعتبر كل الناس عبيداً له بهذا الشكل المفاجئ في مرو، لم يكن ممكناً، لولا قيام عمال المأمون بنشر هذه الافتراءات. وحينما نقل أبو الصلت هذا الخبر للإمام قال(ع) ما معناه: لا الله يا خالق السموات والأرض أنت الشاهد على أنه لا أنا ولا أحد من آبائي قد قلنا مثل هذا. وهذا واحدة من المظالم التي تأتي إلينا من هؤلاء القوم.
إضافة إلى هذا الإجراء كان تشكيل مجالس المناظرات مع أي شخص عنده أقل أمل في أن يتفوق على الإمام واحدة من هذه الإجراءات التي مارسها المأمون. ولما كان الإمام(ع) يتفوق ويغلب مناظريه من مختلف الأديان والمذاهب في كافة البحوث كان يذيع صيته بالعالم والحجة القاطعة في كل مكان، وفي مقابل ذلك كان المأمون يأتي بكل متكلم من أهل المجادلة إلى مجلس المناظرة مع الإمام لعل أحداً منهم يستطيع أن يغلب الإمام(ع) وكما تعلمون فإنه كلما كانت تكثر المناظرات وتطول كانت القدرة العلمية للإمام(ع) تزداد وضوحاً وجلاءاً. وفي النهاية يئس المأمون من تأثير هذه الوسيلة. وحاول أن يتآمر لقتل الإمام كما تذكر الروايات من خلال حاشيته وخدم الخليفة، وفي أحدى المرات وضع الإمام في سجن سرخس (منطقة شمال شرق إيران) لكن هذا لم يكن نتيجته إلا إيمان الجلاوزة والسجانين انفسهم بالمقام المعنوي للإمام. وهنا لم يجد المأمون العاجز والغاضب أمامه في النهاية وسيلة إلا أن يسم الإمام وبنفسه من دون أن يكلف أي أحد وقام بذلك فعلاً.. ففي شهر صفر من سنة 202 هـ أي تقريباً بعد سنتين من خروج الإمام(ع) من المدينة إلى خراسان وبعد سنة أو أقل من تسلمه ولاية العهد قام المأمون بجريمته العظيمة التي لا تنسى وهي قتل الإمام(ع).
إن ما ذكرناه من سيرة الأئمة هو مرور على إحدى المفاصل الأساسية للحياة السياسية للأئمة التي استمرت 250 عاماً وآمل أن ينهض المحققون والعلماء والباحثون في تاريخ القرون الأولى للإسلام بتنقيح وعرض ذلك أكثر. ومن المفيد أن تخصص الجامعة الرضوية الإسلامية التي تأسس اليوم ببركة الذكرى السنوية لولادة هذا الإمام العظيم علي بن موسى الرضا(ع) وتستضيء بأنوار فيوضات مرقده الطاهر والشريف، قسماً من جهودها وعملها في سبيل الإضاءة على هذا التاريخ المليء بالعبر والدروس، وأن توضح وترسم صورة لجيل اليوم والغد في العالم الإسلامي عن هذا التاريخ السياسي لحياة الأئمة مع التركيز على عامل الجهاد والمواجهة فهو المحور الأساسي لهذا التاريخ. - عنصر الجهاد في حياة الأئمة (عليهم السلام)
عنصر الجهاد في حياة الأئمة (ع)
بحث لسماحة ولي أمر المسلمين (دام ظله)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله وأشكره، ففي هذا الجمع المبارك تتحق إحدى الأمنيات القديمة المنسية وهي ذكر أهل البيت (ع).
إن غربة الأئمة (ع) لم تقتصر على الفترة الزمنية التي عاشوها في حياتهم، وإنّها استمرت ولعصور متمادية من بعدهم، والسبب في ذلك يرجع الى إهمال الجوانب المهمة، بل والأساسية من حياتهم.
من المؤكد أن هناك كتباً ومؤلفات كثيرة قد حَظِيت بمكانة رفيعة وقديرة، وذلك لما حملته بين طياتها من روايات تصف حال الأئمة (ع)، ولما نقلته للأجيال المتعاقبة من أخبار تصف سيرتهم، ولكن عنصر المواجهة والجهاد المرير والذي يمثل الخط الممتد للأئمة (ع) طوال 250 سنة من حياتهم كان قليل الذكر في هذه الروايات التي تضمنت فقط عناوين أخرى كالجوانب العلمية أو المعنوية من سيرتهم.
يجب علينا أن ننظر إلى حياة الأئمة (ع) كأسوة وقدوة نقتدي بها في حياتنا لا كمجرد ذكريات قيمة وعظيمة حدثت في التاريخ. وهذا لا يتحقق إلا بالاهتمام والتركيز على المنهج والأسلوب السياسي من سيرة هؤلاء العظماء (ع).
أنا شخصياً عندي رغبة شديدة للاطلاع على هذا الجانب المهم من حياتهم، وأول مرة شعرت بأهمية هذه المسألة كان عام 1350هـ.ش (1971م) وهي مراحل المحنة التي سبقت الثورة. ومع أنني قبل تلك الفترة كنت أنظر إلى الأئمة (ع) بعنوان أنهم شخصيات مجاهدة ومكافحة لإعلاء كلمة التوحيد وإقامة الحكومة الإلهية، إلا أنّ النقطة المهمة التي وصلت إليها في تلك الفترة هي أنه وعلى الرغم من الاختلاف الظاهري بين سيرهم (ع) (حتى إن البعض ليشعر بالاختلاف الشاسع والتناقض فيها)، إلا أنها عبارة عن مسيرة واحدة وحياة واحدة استمرت 250 سنة ابتداءً من سنة 11هـ إلى 260هـ؛ أي انتهت عام الغيبة الصغرى للإمام الحجة (عج).
إذن فالأئمة عليهم السلام جميعهم عبارة عن شخصية واحدة لها هدف واحد، ولذلك فإننا وبدل أن ندرس حياة كل من الإمام الحسن (ع) والحسين (ع) والسجاد (ع) بصورة منفصلة عن الأخرى، أو حتى لا نقع في خطأ ما اعتقده الآخرون بوجود عنصر التناقض بين حياتهم (ع)، فلندرس ذلك بصورة شمولية. فمن هذا المنظار تصبح كل حركات هذا الانسان العظيم المعصوم قابلة للفهم والإدراك.
إن أي إنسان يملك نوعاً من العقل والحكمة، ولا نقول يملك نوعاً من العصمة، تكون له خطط واختيارات موضوعية خاصة خلال حركته الطويلة المتتابعة. وقد يجد هذا الإنسان أنه من الضروري أن يُسرع في حركته مثلاً وأحياناً أخرى يُبطئ فيها، وحتى من الممكن أن يتراجع تراجعاً حكيماً في مواضع أخرى. والإنسان العاقل والحكيم والعارف سيرى ـ بالنظر لهدف هذا الإنسان ـ في هذا التراجع، حركة نحو الأمام وتقدماً.
من هذا المنظار تعتبر حركة الإمام أمير المؤمنين (ع) والإمام والمجتبى (ع) والإمام الحسين (ع) والأئمة الثمانية المعصومين (ع) من ولدهم حركة واحدة ومستمرة. فأنا ومن تلك السنة توصلت الى هذه الحقيقة التي ذكرتها، وبهذه النظرة نظرت إلى حياتهم (ع)، وكلما تقدمت في مسيرتي هذه تأكدت عندي هذه النظرة والعقيدة.
وطبعاً لا يمكن أن نوسع الكلام في هذا الباب خلال هذا اللقاء القصير، ولكن يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن حياة هؤلاء المعصومين من عظماء آل الرسول (ص) هي حياة ذات طابع سياسي، ويجب أن يُخصص لهذا الجانب دراسة خاصة. وأنا اليوم سأتطرق إلى هذا الجانب من خلال بحثنا هذا.
لقد تحدثت السنة الماضية عن نضال الإمام الرضا (ع)، وأود اليوم أن أبين هذا الموضوع بالتفصيل؛ أولاً ماذا نقصد عندما ننسب المواجهة السياسية أو النضال السياسي للأئمة (ع)؟ إن المقصود من هذا الكلام أن جهاد الأئمة (ع) لم يكن جهاداً علمياً من قبيل النزاعات التي تدور بين الكلاميين والتي نشاهدها عبر التاريخ، مثل النزاع بين المعتزلة والأشاعرة وغيرهم. فلم يكن هدف الأئمة (ع) من اجتماعاتهم العلمية وحلقات دروسهم والأحاديث نقل المعارف الإسلامية والأحكام فقط حتى يثبتوا مدرستهم الكلامية الفقهية، بل كان هدفهم يفوق هذا. وأيضاً لم تكن مواجهتهم مواجهة مسلحة كما كان في عهد زيد والذين جاؤوا من بعده أو كما كان في عهد بني الحسن وبعض آل جعفر وغيرهم من الذين عاصروا الأئمة (ع). وأريد أن أشير إلى هذا موضوع الذي سأتطرق إليه بصورة مفصلة فيما بعد وهو أن الأئمة (ع) لم يستنكروا مواقف هؤلاء أو يحكموا على مثل هذه الحركات بالخطأ بصورة مطلقة، وحكمهم على البعض منها بالخطأ لم يكن بداعي كونها حركات مسلحة، بل لأسباب أخرى مختلفة. فنجد مواقف الأئمة (ع) أحياناً أخرى مؤيدة لهذه الحركات، بل وحتى قد اشتركوا في بعضها بصورة غير مباشرة عن طريق المساعدات التي كانوا يقدمونها للثورة. ومن الجدير الالتفات إلى حديث الإمام الصادق (ع) الذي يقول "لوددت أن الخارجي يخرج من آل محمد (ص) وعليَّ نفقة عياله".. إلا أن الأئمة (ع) لم يخوضوا مثل هذا الثورات المسلحة ولم يشتركوا فيها بشكل مباشر.
إن مواجهة الأئمة (ع) كانت مواجهة ذات هدف سياسي؛ فما هو هذا الهدف إذن؟ الهدف هو عبارة عن تشكيل حكومة إسلامية، وبحسب تعبيرنا حكومة علوية. فكان سعي الأئمة (ع) ومنذ وفاة الرسول (ص) وحتى عام 260هـ هو إيجاد وتأسيس حكومة إلهية في المجتمع. ولا نستطيع أن نقول إن كل إمام كان بصدد تأسيس حكومة في زمانه وعصره، ولكن هدف كل إمام كان يتضمن تأسيس حكومة إسلامية مستقبلية، وقد يكون المستقبل البعيد أو القريب؛ فمثلاً كان هدف الإمام المجتبى (ع) تأسيس حكومة إسلامية لمستقبل قريب، فقوله (ع): "ما ندري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين" في جوابه للمسيب ابن نجيه ولآخرين عندما سألوه عن سبب سكوته هو خير دليل وإشارة إلى هذا المستقبل. وأما الإمام السجاد (ع)، وحسب اعتقادي، كان يهدف لتأسيس الحكومة الإسلامية في المستقبل الآتي من بعده؛ وفي هذا المجال لدينا شواهد سنذكرها فيما بعد. أما الإمام الباقر (ع) فقد سعى من أجل تأسيس حكومة إسلامية لمستقبل قريب منه، وفيما بعد الإمام الثامن (ع) كان كل إمام يهدف من تحركاته تأسيس الحكومة على المدى البعيد.
إذن هدف تأسيس الحكومة كان دائماً نصب أعين الأئمة (ع)، لكن الزمن المنشود لتأسيسها وقيامها يختلف من إمام إلى آخر. إن كل الأعمال التي كان يقوم بها الأئمة (ع)، بغض النظر عن الأمور المعنوية والروحية التي تهدف إلى تكامل ورقي النفس الإنسانية وقربها الى الله تعالى، كانت أعمالاً تهدف إلى تأسيس هذه الحكومة الإسلامية، فنشاطاتهم في نشر العلم والمناظرات التي كانوا يقومون بها ضد خصومهم في العلم والسياسة ومواقفهم إلى جانب جماعة ووقوفهم في وجه أخرى كلها تصب في هذا المجال، وهو تأسيس الحكومة الإسلامية.
إذن فنحن ندعي أن كل هذه الأمور كانت تأخذ منحى واحداً وتهدف إلى تأسيس الحكومة الإسلامية. وأقول ندعي لأنه، وكما قال السيد الطبسي، قد اختلف العلماء وسيختلفون في تفسيرهم لمواقف الأئمة (ع). وأنا شخصياً لا أصر على صحة اعتقادي واستنباطي للأمور، ولكن أصر على أن هذه المواقف هي محطة يجب أن نتوقف عندها ونبدأ منها لنستطيع أن نراجع تاريخ حياة الأئمة (ع).
خلال السنين الأخيرة سعينا للوصول إلى إدراك مدى علاقة هذا الموضوع (تأسيس الحكومة الإسلامية) بالأئمة (ع) ومدى ارتباطه بكل إمام منهم، محاولين الاعتماد في ذلك على أدلة منسدة، إضافة إلى أن هناك أدلة تعتبر أدلة كلية وعامة. فمثلاً ان إمامة الأمة هي النبوة، وأن النبي (ص) كان إماماً للأمة… ألخ كما جاء في حديث الإمام الصادق (ع).
إذن فالرسول (ص) نهض من أجل تأسيس حكومة حقة حيث بُني النظام الإسلامي وتأسس آنذاك نتيجة نضال وجهاد الرسول (ص). ومن بعدها جاهد الرسول (ص) أيضاً من أجل الحفاظ على هذا النظام واستمراره، ولا يُعقل أن يغفل الإمام الذي يأتي من أجل متابعة مسيرة الرسول (ص) عن مثل هذا الموضوع المهم. إذن فهذا دليل عام. وبالطبع فإن البحث الواسع والالتفات إلى النواحي المختلفة لهذا الدليل يجعلنا نفهمه أكثر، كذلك لدينا أدلة صادرة ونابعة من كلامهم (ع) أو مستنبطة من حياتهم العملية، إضافة إلى الظروف والأوضاع التي كانت حينها والتي تستطيع أن تبين لنا مواقف الأئمة، كأن نفهم ما تقصده هذه العبارات "السلام على المعذب في قعر السجون وظلم المطامير ذي الساق المرضوض بحلق القيود".
حول هذا الاتجاه سنتكلم اليوم، كما أريد أن أطرح بعض الاستنتاجات وما أفهمه في خصوص هذا الموضوع خلال اجتماعنا هذا.
إن المطلع على تاريخ الحركة العباسية في الفترة الزمنية من 100هـ إلى 132هـ ش بداية الحكم العباسي لربما يشبّه الحركة الجهادية والسياسية للأئمة (ع) بمثل الحركة التي قام بها بنو العباس، ولكننا نقول إن هذا التشبيه غير دقيق، لأنه ربما تشابه شكل الجهاد وخطته، لكن توجد فوارق جوهرية بين الحركتين: مثلاً هدف ومنهج بني العباس يختلف جوهرياً عن هدف ومنهج الأئمة (ع)، وكذلك الاختلاف الجوهري يُلاحظ في الشخصيات المجاهدة، فنجد بني العباس تقارب دعوتهم وإعلامهم واعمالهم دعوة وإعلام آل علي (ع)، فنجدهم يوحون في أعمالهم في بعض المناطق كالعراق والحجاز أنهم على خط آل علي (ع) فمثلاً نسبوا سبب ارتدائهم السواد الذي اتخذوه شعاراً في بداية دعوتهم في خراسان إلى الحزن على آل علي (ع) وما جرى في كربلاء وعلى زيد ويحيى، حيث كانوا يقولون "هذا السواد حداد آل محمد (ص) وشهداء كربلاء وزيد ويحيى". وحيث كان يخيل للبعض وحتى لرؤسائهم أنهم يعملون لآل علي (ع)، إلا أن الواقع لم يكن كذلك. إذن هناك ثلاثة فروق رئيسية بين الحركتين وهي: اختلاف الهدف واختلاف الوسيلة واختلاف الأشخاص.
الآن سوف أتطرق إلى الشكل العام لجهاد ونضال الأئمة (ع)، ومن ثم أشير إلى أبرز الجوانب الجهادية في حياتهم (ع)، إلا أن هذه الجوانب سأطوي الحديث عنها عند كل من الإمام علي (ع) والإمام الحسن (ع) والإمام الحسين (ع)، لأنه جرت بحوث عديدة ووافية في هذا المجال ولا أعتقد بأن هناك أية شبهة تحيط هذا المجال في حياتهم.
سوف نبدأ حديثنا من زمن الإمام السجاد (ع) إلى عصر غيبة الإمام المهدي (عج) وهي الفترة التي تمتد من (61) هـ إلى (260هـ)، يعني خلال مئتي سنة. هذه الفترة الزمنية تتضمن ثلاثة مراحل:
1 ـ المرحلة الأولى: من سنة 61هـ إلى سنة 135هـ (بداية حكم المنصور العباسي): مع بداية هذه الفترة الزمنية تبدأ الحركة الجهادية من نقطة ثم تأخذ عمقاً وشمولاً لتصل إلى أوجها في سنة 135هـ، وهي السنة التي مات فيها السفاح واستلم الخلافة المنصور العباسي، حيث تغير الوضع وظهرت بعض المشاكل التي أدت إلى الحد من التطورات التي كانت آخذة في مسيرتها آنذاك. وقد شاهدنا مثل هذه الأمور والظروف خلال قيامنا وثورتنا وجهادنا.
2 ـ المرحلة الثانية: تبدأ من سنة 135هـ إلى سنة 203هـ أو إلى 202هـ أي سنة شهادة الإمام الرضا (ع)؛ ففي هذه المرحلة وصلت المواجهة الجهادية إلى مرحلة أعمق وأوسع مما كانت عليه في سنة 61هـ. ولكنها تبدأ بمشكلات جديدة وتتوسع حتى تصل إلى أوجها متقدمة خطوات تجاه مرحلة النصر، حتى سنة شهادة الإمام الرضا (ع) حيث عادت لتتوقف عندها.
3 ـ المرحلة الثالثة: تبدأ من سنة 204هـ إلى سنة 260هـ السنة التي استشهد فيها الإمام العسكري (ع) وبدأت الغيبة الصغرى.. تبدأ المرحلة الثالثة بذهاب المأمون إلى بغداد سنة 204هـ،وفي بداية خلافته يبدأ فصل جديد في حياة الأئمة (ع)، ويبدأ عصر المحنة للأئمة (ع). ومع أن التشيع كان في وضع أفضل مما كان عليه في السابق، فقد أخذت مشكلات الأئمة تتفاقم وتتسع. وبرأيي ان هذه الفترة هي الفترة التي كان الجهاد والمواجهة فيها من أجل تأسيس حكومة إسلامية على المدى البعيد؛ يعني أن الأئمة (ع) لم يكن جهادهم من أجل عصر ما قبل الغيبة وإنما إلى ما بعد الغيبة.
إن لكل مرحلة من هذه المراحل الثلاثة مميزاتها الخاصة وأذكرها بصورة مختصرة:
1 ـ المرحلة الأولى وهي مرحلة الإمام السجاد (ع) والإمام الباقر (ع) وقسم من عصر الإمام الصادق (ع)؛ فبداية هذه المرحلة كانت مؤلمة جداً حيث جرت حادثة كربلاء، التي لم تهز كيان الشيعة فقط وإنما هزت الأمة الإسلامية بأجمعها. ومع أن القتل والأسر والتعذيب كان شائعاً آنذاك ولكن قتل أولاد الرسول (ص) وأسر العائلة النبوية ووضع رؤوس آل محمد (ص) على الرماح والاستهانة بمن كان الرسول (ص) يقبل ثناياه، كل هذا قد زلزل العالم الإسلامي وأدهشه. فلم يكن أحد يتوقع أن الأمر سوف يصل إلى هذه المرحلة. ولا أدري مدى صحة الشعر المنسوب للسيدة زينب (ع):
ما توهمت يا شقيق فؤادي كان هذا مقدراً مكتوباً
فهذا البيت يشير بلا شك إلى أن هذا الحدث كان غير متوقع آنذاك. فلهذا أخذ الهول والفزع ينتاب الأمة الإسلامية حيث شاهدت ورأت ما لم تكن تتوقعه وتظنه من التنكيل والتعذيب.. لذا انتشر الخوف في كافة المناطق الإسلامية إلا الكوفة (وهذا بفضل التوابين والمختار وثورتهم). أما المدينة وحتى مكة المكرمة فعاشت حالة الخوف هذه بسبب حادثة كربلاء المفجعة، وعلى الرغم من قيام ثورة عبد الله بن الزبير في مكة، فقد ظل الخوف يهدد هذه المدينة.
وأيضاً في الكوفة، وبالرغم من قيام التوابين في سنة 64و 65هـ (حيث كانت شهادة التوابين سنة 65هـ) وما أوجدته من جو "جديد" في البلاد، فإن ذلك لم يدم طويلاً حتى عاد الخوف ثانية بعدما استشهد كل التوابين حتى آخر شخص منهم.
بعد ذلك قاتل أعداء النظام الأموي بعضهم بعضاً؛ فهذا المختار حارب مصعب بن الزبير ولم يستطع عبد الله بن الزبير أن يتحمل المختار الموالي لأهل البيت (ع) في الكوفة ولذلك قُتِل المختار على يد مصعب! ومرة أخرى عم الرعب والفزع وخابت الآمال عند الناس. وعندها جاء عبد الملك بن مروان وتسلم سدة الحكم وبعد مدة قصيرة أصبح تمام العالم الإسلامي تحت سيطرة بني أمية وبقي عبد الملك بن مروان متسلطاً وفارضاً سلطته لمدة 21سنة. وهنا من الضروري الإشارة إلى واقعة (الحرة) التي جرت في سنة 64هـ وهي السنة التي هجم فيها مسلم بن عقبة على المدينة، مما أدى إلى زيادة الخوف والرعب في المدينة. واشتدت الغربة على أهل البيت (ع) آنذاك والحادثة هي كما يلي:
في سنة 62هـ عين يزيد أحد قواد الجيش الشباب حاكماً على المدينة، وكان شاباً فاقداً للتجربة، وقد دعا بعضاً من أهل المدينة لزيارة يزيد لعله يستطيع أن يحسن علاقتهم به (يزيد). وهيأ يزيد جوائز تناهز الـ 50 ألف و 100 ألف درهم وأعطاها لهم. ولكن هؤلاء، وحيث كان من بينهم الصحابة، وأبناء الصحابة عندما شاهدوا جاه ومقام يزيد اشتد استياؤهم وغضبهم، وعندما رجعوا إلى المدينة أعلن ابن عبد الله بن حنظلة (غسيل الملائكة) فصل المدينة عن الحكومة المركزية آنذاك. فأرسل يزيد مسلم بن عقبة لمعالجة الوضع، فحصلت الكارثة العظيمة، والتي تحدثت عنها كتب التاريخ وخصصت لها فصول تحكي الحوادث الدامية والكوارث المؤلمة التي حدثت آنذاك. هذه الحادثة أدت إلى زيادة الرعب والفزع بين الناس.
والعامل الثاني الذي زاد الرعب والفزع المنتشرين هو الانحطاط الفكري الذي كان يعم الناس في العالم الإسلامي، وهذا كان نتيجة للابتعاد عن التعاليم الدينية خلال عشرين سنة. ولشدة ضعف التعالم الدينية والإيمان والابتعاد عن الحقائق وتفسير القرآن عن لسان الرسول (ص) خلال العشرين سنة التي تلت عام 40 هـ ضعُف أساس الإيمان عند الناس وعم الخواء العقائدي في نفوسهم. فإذا وضع الإنسان حياة الناس في تلك الفترة تحت المجهر يجد ما ذكرناه واضحاً ويجده أيضاً من خلال قراءة التاريخ والروايات العديدة.
طبعاً كان للمجتمع آنذاك علماء وقرّاء ومحدثون، وسنذكر ما يتعلق بهم فيما بعد، ولكن عامة الناس كانوا يعانون من الاختلال العقائدي والضعف الإيماني، وقد وصل الوضع إلى أن بعض وجوه الخلافة قد ضعفوا من منزلة النبوة. وقد ذكر في الكتب أن خالد بن عبد الله القسري أحد علماء بني أمية كان يفضل الخلافة على النبوة حيث كان يقول: ان الخلافة أرفع من النبوة! وكان يستدل بقوله: "أيهما أفضل خليفة الرجل في أهله أو رسوله ألى أصحابه؟ وهل خليفتكم بين أهلكم أقرب إليكم أو رسولكم إليهم؟ طبعاً إن خليفتكم أقرب إليكم من الرسول. إذن خليفة الله أرفع من الرسول"! حيث كان يقول خليفة الله ولم يقل خليفة رسول الله. وأيضاً إذا لاحظنا شعر شعراء الفترة الأموية وبني العباس نجد أنه ومن عهد خلافة عبد الملك استُعملت كلمة خليفة الله، حيث كُرِرَت في الأشعار آنذاك، بحيث قد ينسى الإنسان أن هناك خليفة لرسول (ص). واستمر استعمال وذكر هذا اللفظ إلى زمان بني العباس، وقد هجا الشاعر بن برد يعقوب بن داود والمنصور بهذا التعبير:
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا خليفة الله بين الرق والعبد
فنلاحظ أنهم عندما يريدون هجاء الخليفة يقولون خليفة الله. وقد تكرر هذا اللفظ في أشعار عدد من الشعراء المعروفين مثل الجرير والفرزدق ونصيب، والمئات من عظماء شعراء ذاك الزمان، حيث كانوا يذكرون كلمة خليفة الله في مدائحهم للخلفاء آنذاك.
هذا نموذج من بعض العقائد التي كانت لدى الناس ومستوى إيمانهم، ولم يضعف أساس الإيمان في نفوسهم وحسب، بل انهارت عندهم القيم الأخلاقية. ومن خلال مطالعتي لكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وجدت أنه وفي حدود سنة 80 ـ 90هـ وإلى ما بعد 50 ـ 60سنة كان أعظم المطربين والعازفين والمترفين وعبيد الدنيا يتواجدون في مكة والمدينة، وكلما رغب الخليفة في الشام بسماع الغناء والعزف أو طلب مغنياً أو عازفاً يبعثون له بهم من مكة والمدينة، حيث كان مركز الغناء والطرب! فأسوأ أنواع الشعر وأكثره مجوناً كان في هاتين المدينتين اللتين كانتا مهبط الوحي ومسقط رأس الإسلام، واللتان تحولتا إلى مركز للفساد والمجون!
ومن المفيد أن نعرف هذه الحقائق المؤلمة والمرة لأن التاريخ والكتب التاريخية المتوفرة بين أيدينا فاقدة لمثل هذه الأخبار والحقائق.
لقد كان في مكة شاعر معروف بعمر بن أبي ربيعة، حيث كان يعتبر من شعراء الشعر الخلاعي الفارغ، حيث شهد التاريخ وشهدت المشاهد المقدسة كالطواف ورمي الجمرات وغيرها من المشاهد الأخرى عبثه ودناءته في الشعر حيث قال مرة:
بدا لي منها معصم حيث جمّرت وكفّ خضيب زُينت ببنان
فوالله ما أدري وإن كنت دارياً بسبع رمين الجمر أم بثمان
فالمعنى يبين تلك الأوضاع. وعندما مات عمر بن أبي ربيعة يُروى أنه عم العزاء في المدينة وكان الناس يبكون في أزقة المدينة وشوارعها، وأينما ذهبت تجد مجموعة من الشباب يبكون تأسفاً عليه. ويقول الراوي رأيت جارية ماضية في طلب حاجة وفي طريقها كانت تسكب الدموع من عينيها، حتى وصلت إلى مجموعة من الشباب سألوها عن سبب بكائها وذرفها للدموع، أجابت أبكي لأننا فقدنا عمر بن أبي ربيعة. فقال أحد الشباب اهدأي ولا تحزني، يُقال إن هناك شاعر آخر في مكة وهو الحارث بن خالد المخزومي يقول الشعر ويرويه مثل عمر بن أبي ربيعة وقرأ لها أحد أشعاره، وعندما سمعت الجارية بهذا الخبر مسحت دموعها وقالت "الحمد لله الذي لم يخل حرمه"! فهذا كان الوضع الأخلاقي في المدينة، حيث تسمعون الكثير من هذه القصص. سهرات مكة والمدينة لم تقتصر على الطبقة الفاسدة في المجتمع، بل كانت تعم كل الناس كالجائع والفقير والمسكين مثل "أشعب" هذا الشاعر والمهرج المعروف وغيره من عامة الناس وساداتهم من قريش، وهذه الظاهرة عمت أيضاً بني هاشم ولا أحب أن أذكر أسماءهم.. إذن وجهاء قريش من الرجال والنساء غرقوا في الفحشاء الذي عم آنذاك.
يروى أن الحارث بن خالد كان يعشق عائشة بنت طلحة، ففي زمن إمارة الحارث كانت عائشة بنت طلحة في حالة طواف بيت الله الحرام وحان وقت الأذان فأمرت هذه المرأة أن لا يؤذن المؤذن إلا بعد انتهائها من الطواف، فأمر الحارث بتأخير وقت الأذان، فاعترض الناس وانتقدوا الحارث لتأخيره وقت الصلاة لأجل شخص واحد فقال مجيباً: "فوالله لو طال طوافها إلى صباح الغد لأمرت بتأخير الأذان حتى الصباح"! هكذا كان وضع الفساد الفكري والأخلاقي السائد بين الناس.
العامل الآخر هو الفساد السياسي. فما ذكرنا كان وضع كبار الشخصيات الذين تشبثوا بفضلات الحياة المادية لرجال الحكومة آنذاك، وأمثال هؤلاء محمد بن شهاب الزهري؛ فهذه الشخصية كانت تعتبر من العظماء ومن تلامذة الإمام السجاد (ع) فالإمام (ع)، استطاع أن يفضح حقيقة هؤلاء من خلال رسالة كتبها لتكون حجة للتاريخ وتبين العلائق المادية التي كانوا يتمسكون بها.
وهناك الكثير من أمثال محمد بن شهاب، حيث نقل العلامة المجلسي عن بن أبي الحديد ما يثير ويهز المشاعر؛ فقد نقل في البحار عن جابر أن الإمام السجاد (ع) قال: "ما تدري كيف نثق بالناس، إن حدثناهم بما سمعنا من رسول الله (ص) ضحكوا (فإنهم لا يكتفون بالرفض وإنما يضحكون استهزاءً) وإن سكتنا لا يسعنا". ومن ثم يذكر ابن أبي الحديد أسماء عدد من الشخصيات ورجال ذلك الزمان من الذين كانوا من أتباع أهل البيت (ع) ثم انحرفوا فيما بعد، وبعدها ينقل رواية عن الإمام السجاد (ع): "ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبوننا"! هكذا كان الوضع في زمان الإمام السجاد (ع).
وفي ظل هذه الظروف بدأ الإمام (ع) بعمله وبتحقيق هدفه العظيم، وهو ذات الوقت الذي أشار فيه الإمام الصادق (ع) قائلاً: "ارتد الناس بعد الحسين (ع) إلا ثلاثة، وهم: أبو خالد الكابلي ويحيى ابن أم طويل وجبير بن مطعم".
في ظل ذاك الوضع وعلى هذه الأرض الصحراوية بدأ الإمام السجاد (ع) بعمله. فماذا يجب على الإمام السجاد (ع) فعله ليحقق هدفه؟ كانت تقع على عاتق الإمام السجاد ثلاث مسؤوليات:
أولاً: يجب على الإمام (ع) أن يُعرف الناس على العلوم والمعارف الإسلامية التي لا يمكن بدونها أن نقيم حكومة إسلامية؛ فعندما نعمل على تعريف الناس على المعارف الدينية يصح أن نأمل بإقامة مثل تلك الحكومة.
ثانياً: ان مسألة الإمامة كانت قد ابتعدت عن أذهان الناس، لذا كان من الضروري توضيحها لهم لتقبلها أذهانهم. فماذا تعني الإمامة؟ وما هي شروط الإمامة؟ إن توضيح هذا الأمر ضروري لأن الناس آنذاك كانوا يرون في عبد الملك بن مروان إماماً، حيث كان زعيم المجتمع.
وسأذكر لاحقاً وفي بحث (الإمام) أن استنباطنا وفهمنا لمعنى الإمام خلال القرون الأخيرة يختلف تماماً عن معنى ومفهوم الإمام الذي كان سائداً في صدر الإسلام وكما هو سائد الآن في ظل الجمهورية الاسلامية في إيران؛ ففي ذلك الزمان (صدر الإسلام) كان كلا الموافقين والمخالفين للأئمة (ع) يقولون في الإمام أنه قائد الأمة، يعني حاكم الدين والدنيا، بينما لم يُفهم موقع الإمام كذلك خلال القرون الثلاثة الأخيرة، فقد كان حينها للجمتمع وللأمة فرد مسؤول عن جباية الأموال والحروب وتأمين الاستقرار وإدارة أمور الشعب ودوائر ومؤسسات الدولة، وهو الذي يشكل الحكومة ويدعى بالحاكم، وأيضاً لها (أي للأمة) شخص آخر يحل ويفصل في أمور الناس الدينية ويصحح عقائد الشعب ويعلمهم دينهم وصلاتهم وغيرها من قبيل هذه الأمور، وهو ما يسمى بالعالِم، وأصبح الإمام بمثابة العالم في المراحل القريبة. فالخليفة هو الذي يفصل بين الناس، والإمام هو الذي يصلح دينهم وأخلاقهم.. هكذا كان فهم الإمامة خلال القرون الأخيرة. ولكن هذا المعنى كان يختلف عن معناه خلال فترة صدر الإسلام؛ فكان الإمام يعني قائد الأمة وزعيمها الديني والدنيوي، فبنو أمية ادعوا هذا المنصب وكذلك من بعدهم بنو العباس، حيث كانوا يدعون أن الإمامة لهم.
إذن فالأمة وفي زمن الإمام السجاد (ع) كان لها إمام وهو عبد الملك بن مروان، لذلك كان على الإمام السجاد (ع) آنذاك أن يُبين للناس معنى الإمامة وشروطها وجهتها، وما هي الأمور المفروض توفرها في الإمام، وما هي الأمور التي بفقدانها لا يمكن أن يكون الشخص إماماً.
ثالثاً: الذي يجب أن يفعله الإمام (ع) هو أن يعلن نفسه إماماً للأمة؛ وقد انصب جهد الإمام وعمله على الأمر الأول، لأن الظروف لم تكن تسمح لإعلان الإمام السجاد (ع) إمامته. كان يجب أن يُصلح دين الأمة، ويجب أن تُهذب أخلاق الناس، ويجب أن يُخلص الشعب من الفساد الذي كان سائداً آنذاك، ويجب أن تُوجه الأمة معنوياً ليرجع أساس الدين إلى الأمة والمجتمع.. ولذا ترون أن أكثر الكلام المنقول عن الإمام السجاد (ع) في الزهد، وحتى في بداية كلامه وخطبه التي تتضمن معنى سياسياً، نجده يبدأها بالكلام حول الزهد، حيث يقول (ع): "إن علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين عنها في الآخرة…إلخ". وفي كلام آخر يصف الدنيا قائلاً: "أولا حر يدع هذه اللماظة لأهلها، فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، ألا فلا تبيعوها بغيرها".
كلمات الإمام (ع) كلها كانت تحمل بين طياتها الزهد والمعارف الإسلامية وكان يطرح المعارف الإسلامية ويبينها من خلال الدعاء، وذلك لأن الظروف الصعبة والاختناق الذي كان مسيطراً على الشعب لم يكن يسمح للإمام السجاد (ع) أن يتكلم ويطرح آراء بصورة صريحة وواضحة، فليست السلطة وحدها كانت مانعة وإنما الناس أنفسهم كانوا يرفضون هذا؛ المجتمع كان قد أصبح مجتمعاً ضائعاً وكان من الواجب إصلاحه.
من عام 61هـ إلى 95هـ كانت حياة الإمام السجاد (ع) على ما ذكرنا، وكلما كان يمضي الوقت كان الوضع يتحسن، حتى قال الإمام الصادق (ع)، كما ذكرناه سابقاً، "ارتد بعد الحسين…" إلى أن قال "ثم أن الناس لحقوا وكثروا".
وفي زمن الإمام الباقر كان الوضع قد تحسن عما كان عليه في زمن السجاد (ع)، وهذا بفضل سعي الإمام السجاد خلال 35سنة.
كذلك نجد أن الإمام السجاد (ع) قد ذكر مسألة بناء الكوادر وتهيئتها خلال كلامه وأحاديثه؛ ففي الكتاب الشريف (تحف الحعقول) نُقل حديث طويل عن الإمام السجاد (ع) حول هذا الموضوع؛ أني آسف لأنني لم أستطع أن أبحث في بقية الكتب الأخرى حول الكلام الذي نقل عن الإمام (ع) وذلك لضيق الوقت، ولكني لا أعتقد أن هناك ذكر لغير هذا الحديث أو بمقدار طوله، نعم توجد كلمات قصار عنه أما أحاديث وخطب طويلة فلا أعتقد بوجودها، إلا التي نقلت في كتاب "تحف العقول".
إن مضمون الأحاديث وطريقة الخطاب (في هذا الكتاب) تبين ما كان يقصده ويفعله الإمام السجاد (ع)، وسنرى من خلال هذه الأحاديث الثلاثة التي سأذكرها أن الإمام السجاد (ع) عندما كان يخاطب عامة الناس كان يبدأ بعبارة: "يا أيها الناس" ومن خلال حديثه كان يشير إلى جُملة من العلوم والمعارف الإسلامية (فقد ذكر فيها موت الإنسان والسؤال في القبر وعن الرب والإمام) في هذا الخطاب نوع من الرفق والرقة وهو يناسب عوام الناس المراد تبليغهم آنذاك. هناك حديث آخر يبدأ بنوع آخر من الألفاظ ويُفهم من مضمونه أن الخواص هم المقصودون فيه حيث بدأه (ع) بـ "كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبارين، لا يفتنكم الطواغيت"، فلا يخاطب الحديث هنا عامة الناس وإنما فئة خاصة من الناس. هناك نوع ثالث يبين أن المقصودين به هم خاصة الخواص من الناس وزبدتهم، ويمكن أن يكون المخاطبون هم الأصحاب المطلعين على أسرار الإمامة وهدف مساعي الإمام (ع) آنذاك ومن زمرة المحافظين على أسرار الإمامة، حيث يبدأ الخطاب بهذه الألفاظ: "إن علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة تركهم كل خليط وخليل ورفضهم كل صاحب لا يريد ما يريدون".ويمكن أن نحتمل ونقدر أن الإمام السجاد (ع) وخلال هذه المدة كان له نوعان أو ثلاثة أنواع من الأحاديث التي تتضمن قيماً وتعاليم إسلامية؛ ففي بعضها أشار إلى النظام الحاكم وطواغيت ذلك الزمان، وفي بعضها الآخر اكتفى بالإشارة إلى المسائل والمفاهيم الإسلامية؛ هكذا كانت حياة الإمام السجاد (ع) حيث استطاع، وخلال 35 سنة، أن يخلص وينُجي الناس الجهلة من براثن شهواتهم من جانب، ومن تسلط النظام الحاكم المتجبر وشباك علماء السوء وعملاء البلاط الحاكم من جانب آخر. واستطاع كذلك أن يوجد ثلة مؤمنة وصالحة تصلح لأن تكون قاعدة وأساساً للعمل في المستقبل. وطبعاً الجزئيات المتعلقة بحياة الإمام السجاد (ع) تحتاج إلى حديث يطول.
الآن يأتي دور الإمام الباقر (ع)، حيث نجد في عهد الإمام الباقر (ع) الاستمرار على هذا الخط والمنهج، ولكن الوضع في زمن الإمام الباقر (ع) كان قد تحسن، وهنا أيضاً كان التركيز على المعارف الإسلامية وعلومها.
الناس في هذا العصر لم يعودوا متصفين بعدم الاكتراث وعدم الولاء لأهل البيت (ع) كما كانوا عليه؛ فعندما كان يدخل الإمام الباقر (ع) إلى المسجد كان الناس يجلسون حوله ويحيطون به ليستفيدوا منه. ويروي الراوي قائلاً: "رأيت الإمام الباقر (ع) في مسجد المدينة وحوله أهل خراسان وغيرهم"؛ يعني يحيط به أناس من أقصى البلاد كخراسان ومناطق أخرى، وهذا يدل على أن أمواج التبليغ كانت قد عمت العالم بأجمعه، وأصبحت قلوب الناس ومن أقصى العالم تقترب من أهل البيت (ع). وفي رواية أخرى ذكر "احتوشه أهل خراسان" يعني جلسوا حوله وأحاطوه. وكان الإمام الباقر (ع) يعلمهم مسائل الحلال والحرام، حيث كان كبار العلماء يأتون إليه ويتلقون علومهم عنده، ومن بينهم عكرمة، الذي يعتبر شخصية معروفة ومن تلامذة ابن عباس؛ فعندما أتى إلى الإمام الباقر (ع) أصابته رجفة وسقط في حضن الإمام (ع) وقال: "يا بن رسول الله، أصابني أمامك ما لم يصبني من قبل أمام أحد من الناس". فأجابه الإمام (ع) قائلاً: "ويحك يا عُبيد أهل الشام! إنك بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه". وأيضاً شخص آخر مثل أبي حنيفة، والذي كان يعتبر من عظماء فقهاء ذاك الزمان، كان يأتي ويتلقى علومه على يد الإمام الباقر (ع). وغيره من بقية العلماء كانوا يتلقون علومهم على يده (ع)، حتى وصلت شهرته العلمية إلى كل أرجاء العالم وعُرف بباقر العلوم.
تلاحظون أن الوضع الاجتماعي والعاطفي واحترام الناس للأئمة (ع) قد تغير في عهد الإمام الباقر (ع)، وبهذا نجد أن الحركة السياسية للإمام الباقر (ع) أصبحت أشد وضوحاً. وإننا لا نجد في خطاب الإمام السجاد (ع) لعبد الملك بن مروان ما يُشير صراحة وبشكل واضح إلى الاعتراض عليه، فعندما كان عبد الملك بن مروان يكتب الى الإمام السجاد (ع) عن موضوع معين كان الإمام (ع) يجيبه (طبعاً جواب ابن رسول الله دائماً قوي ومحكم) بطريقة لا تحتوي على العداء الصريح. أما الإمام الباقر (ع) فقد غير حركته لتغير الوضع آنذاك، بحيث أصبح هشام بن عبد الملك يحس بالرعب والفزع من وجوده (ع)، وكان هشام يرى أنه من الضروري أن يضع الإمام (ع) تحت المراقبة، وكان ينوي أن ينقل الإمام (ع) إلى الشام. طبعاً، الإمام السجاد (ع) وفي عهد إمامته (بعد المرحلة الأولى التي بدأت من كربلاء) قُيّدَ بالأغلال وحُمِلَ إلى الشام! لذا فالوضع في زمن الإمام الباقر (ع) قد تغير، ونجد أن أسلوب الكلام أصبح أكثر حدة. رأيت عدة روايات تصف مباحثات الإمام الباقر مع أصحابه حول مسألة الخلافة والإمامة ويلاحظ فيها الأمل بالمستقبل؛ وإحدى هذه الروايات هي رواية في بحار الأنوار مضمونها" كان منزل أبي جعفر (ع) مزدحماً بالناس وجاء رجل مسنّ يستند بعصاه وسلم مظهراً محبته وجلس إلى جانب الإمام الباقر (ع) وقال: "فوالله إني لأحبكم وأحب من يحبكم؛ فوالله ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في الدنيا. وأنني لأبغض عدوكم وأبرأ منه، فوالله ما أبغضه وأبرأ منه، لوترٍ كان بيني وبينه. والله إني لأحلّ حلالكم وأحرم حرامكم وأنتظر أمركم، فهل ترجو لي جعلني الله فداك؟". يعني هل تأمل أن يأتي يوم وأرى نصركم. فأنا منتظر أمركم، يعني منتظر وصول عصر حكومتكم وولايتكم؟
وتعبير "أمر، وهذا الأمر أمركم" إشارة إلى الحكومة، فالحكومة آنذاك كان يعبر عنها بالأمر، سواء في تعابير الأئمة (ع) وأصحابهم أو عند مخالفيهم؛ فمثلاً في كلام هارون إلى المأمون جاء "والله لو تنازعت معي في هذا الأمر" تعبير هذا الأمر يعني الخلافة والإمامة.
أنتظر أمركم يعني أنتظر خلافتكم. وهنا يسأل هل تأملون أن أدرك ذاك اليوم؟ فأجابه أبو جعفر (ع) أي أي… حتى أقعده على جنبه ثم قال: "أيها الشيخ، إن علي بن الحسين (ع) أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه".
يعني سُئِل الإمام علي بن الحسين (ع) نفس هذا السؤال، ولكننا لا نجده خلال الروايات التي نقلت عنه، ونفهم من هذا أن الإمام (ع) لو كان قد قالها في جمع من الناس فهذا يعني أنه قد سمعها الآخرون، وكان لا بد أن تصلنا، لذا فالاحتمال القوي هو قولها سراً. وهنا يقول الإمام الباقر (ع) علناً: "إن تمُت ترد على رسول الله (ص) وعلى علي والحسن والحسين وعلى علي بن الحسين يثلج قلبك ويبرد فؤادك وتقر عينك وتستقبل الروح والريحان مع الكرام الكاتبين، وإن تعش ترى ما يقر الله به عينك وتكون معنا في السنام الأعلى".
إذاً، الإمام (ع) لا يُدخل اليأس على قلبه بل يقول: إذا مُت فسوف تُحشر مع الرسول (ص) وأوليائه وإذا بقيت تكون معنا. فهذا المعنى في كلام الإمام الباقر يعطي للشيعة الأمل بالمستقبل. وفي رواية أخرى بين فيها زمان النهضة، وهذا لشيء عجيب جداً؛ فعن أبي الحمزة الثمالي وبسند قوي ـ كما جاء في الكافي ـ قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: "يا ثابت، إن الله تبارك وتعالى قد وقت هذا الأمر في السبعين، فلما أن قتل الحسين (ع) اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخره إلى أربعين ومائة، وحدثناكم الحديث فكشفتم قناع الستر، ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً عندنا، ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب". بعدها يقول أبو حمزة: فحدثت بذاك أبا عبد الله (ع) فقال: قد كان كذلك. وواقعاً لو لم تحدث تلك التحولات بعد سنة 135هـ وقد ذكرت أهميتها، ففي ذلك الوقت أتى المنصور على رأس الحكم، فلو لم تأتِ حادثة بني العباس، كأن التقديرات الإلهية كانت تكشف على أنه ستقام الحكومة الإلهية الإسلامية في سنة 140. وهناك بحث آخر وهو هل كان الأئمة فعلاً متوقعين حدوث هذا الأمر أم أنهم كانوا قد عرفوا أن القضاء الإلهي على خلاف ذلك؟ اللافت أن من خصوصيات زمان الإمام الباقر هي هذه الآمال والوعود.
وللتعرف على حياة الإمام الباقر (ع) نحتاج إلى ساعات طويلة متمادية لتكوين صورة عن حياته (ع)، وأنا قد تطرقت إلى هذا الموضوع سابقاً وبصورة عامة.
إن عنصر الجهاد السياسي في حياة الإمام الباقر (ع) أكثر وضوحاً، ولا نقصد هنا الجهاد العنيف أو المسلح؛ فعندما جاء زيد بن علي أخو الإمام الباقر (ع) وسأل الإمام الإذن بالنهوض والقيام، أمره الإمام الباقر (ع) بعدم القيام فأطاعه زيد بن علي. والبعض اتهموا زيداً ووجهوا له الإهانة لعدم إطاعته الإمام الباقر (ع) عندما قال له لا تنهض، فهذا اعتقاد وتصور خاطئ، لأن زيد أطاع الإمام (ع) في عدم نهوضه، ولكنه في عهد الإمام الصادق (ع) أستأذن زيد ثانية في قيامه ونهضته، ولم يمنعه الإمام الصادق (ع) آنذاك، بل شجعه عليه. وبعد شهادة زيد تمنى الإمام قائلاً: يا ليتني كنت من زمرة الذين قاموا ونهضوا مع زيد، لذا يجب أن لا يُلام زيد. في هذه الحالة.
نعم الإمام الباقر (ع) لم يرض بالجهاد المسلح في عهده، ولكن عنصر الجهاد السياسي كان واضحاً في عهده؛ فعنصر الجهاد البارز في حياة الإمام الباقر (ع) لم نكن نراه في عهد الإمام السجاد (ع)، وعند انتهاء عهد الإمام السجاد نجد أن الإمام الباقر استمر في جهاده، وذلك في إقامة مجالس العزاء في منى. وحتى إنه أوصى أن يقام له العزاء، ولمدة عشر سنوات في منى (تندبني النوادب بمنى عشر سنين) فهذا استمرار للنضال.
لماذا البكاء على الإمام الباقر في منى، وما هو الهدف منه؟ فمن خلال حياة الأئمة (ع) نلاحظ التأكيد والحث على مسألة البكاء، ولقد ظهر هذا التأكيد في الروايات التي ذكرت فضل وأهمية البكاء على ما جرى في حادثة كربلاء.
ولدينا روايات صحيحة ومعتبرة في هذا المجال، ولا أذكر أنه قد أكد على البكاء في حادثة اخرى غيرها، إلا في زمن الإمام الرضا (ع)، عندما عزم الإمام الرضا (ع) على الرحيل واقتربت منيته قام بجمع أهله ليبكوا عليه، فهذه الحركة لها دلالة ومعنىً سياسياً يتعلق بالفترة التي سبقت سفره وشهادته (ع). وفقط زمن الإمام الباقر (ع) أمَرَ بالبكاء وحتى إنه وصى به بعد شهادته، ووضع 800 درهم من ماله لإنجاز هذه الوصية في "منى". "فمنى" تختلف عن منطقة عرفات والمشعر وحتى مكة؛ ففي مكة الناس متفرقون وكل واحد منهم مشغول بعمله، وعرفات لا يكون المكوث فيها إلا من الصباح حتى وقت (بعد الظهر)، وعندما يأتي الناس إلى عرفات يأتون بعجلة ويسرعون بالرحيل بعد الظهر أيضاً، وذلك ليلتحقوا بأعمالهم. وأما المشعر فلا يدوم المكوث فيه إلا عدة ساعات، فهو ليس إلا ممراً في طريق منى. أما في منى فالمكوث يدوم فيه ثلاث ليالٍ متتالية؛ فقليل من الناس خلال هذه الليالي الثلاث من يذهب إلى مكة ويرجع ثانية، بل أكثر الناس يمكثون الأيام الثلاثة وبصورة مستمرة في منى، وخاصة في ذلك الزمان ومع بساطة الوسائل المتوفرة؛ حيث يجتمع الآلاف من الناس الذين يأتون من جميع أنحاء العالم ويمكثون ثلاث ليال، وكل شخص يعلم أن هذا المكان هو الأنسب لإيصال أي نداء إلى العام، وخاصة في تلك الأيام، حيث تنعدم وسائل الإعلام كالراديو والتلفزيون والجرائد وغيرها من الوسائل الأخرى، فعندما يبكى جماعة على آل الرسول (ص) فمن المؤكد أن يسأل الجميع عن سبب البكاء؛ فلا أحد (عادة) يبكي على ميت عادي وبعد مرور سنين طويلة. إذن فهل ظُلِمَ؟ أو قُتِلَ؟ ومَن الذي ظلمه؟ ولماذا ظُلِمَ؟ تُطرَح أسئلة كثيرة من هذا القبيل؛ إذن فهذه حركة جهادية دقيقة ومخطط لها.
ولقد لفتت نظري نقطة في الحياة السياسية للإمام الباقر (ع) هي أن الأدلة والحجج التي جاءت على لسان أهل البيت (ع) في النصف الأول من القرن الهجري حول باب الخلافة هي نفسها التي كررها الإمام الباقر (ع) وهي إن العرب قد تفاخروا على العجم لأن النبي (ص) منهم، وتفاخرت قريش على غيرها لأن النبي منها، وإذا كان هذا صحيحاً، فأهل بيت النبي (ص) أولى بالتفاخر من الآخرين. ولكن هؤلاء يضعون كل ذلك جانباً ويرون أنفسهم ورثة الحكومة. فإذا كان النبي هو أساس التفاخر في قريش على غيرها وتفاخر العرب على العجم، فالأولى أن نتفاخر نحن آل الرسول (ص) على غيرنا.
فهذا الاستدلال ذُكر مراراً في الفترة الأولى من القرن الهجري من قبل أهل البيت (ع)، فنجد أن الإمام الباقر (ع) وبين عام 95إلى 114هـ ـ فترة إمامته ـ يُبين هذه الكلمات، واحتجاج الإمام (ع) في ذلك العصر بشأن الخلافة شيء له دلالة كبيرة.
فعندما ينتهي عصر الإمام الباقر (ع) يبدأ عصر الإمام الصادق (ع) من عام 114 إلى عام 148هـ، والإمام الصادق عاصر مرحلتين في هذه الفترة: الأولى تمتد من عام 114هـ إلى 132 أو 135هـ ـ يعني إلى سنة انتصار بني العباس واستلام المنصور للخلافة ـ وكانت تعتبر مرحلة هدوء وسعة، وذلك بسبب النزاع الذي كان دائراً بين بني أمية وبني العباس، فوجد الإمام (ع) في تلك فرصة لنشر العلوم الإسلامية، ولم يمرّ الإمام الباقر (ع) بمثل هذه الظروف لأنها كانت خاصة بعصر الإمام الصادق (ع)؛ ففي عهد الإمام الباقر (ع) كانت الفترة فترة غطرسة بني أمية، وكان حكم هشام بن عبد الملك الذي قيل فيه: "كان هشام رجلهم"، حيث كان أكبر شخصية بعد عبد الملك، وكانت فترة حكمه في عهد الإمام الباقر (ع)، ولم يكن في عهده اختلاف أو قوى ليستطيع الاستفادة منها؛ فالحروب الداخلية والاختلافات السياسية كانت في عهد الإمام الصادق (ع) وفي المرحلة الأولى من عهده (ع)، ولكن بالتدريج اتسعت دعوة بني العباس، وفي نفس الوقت كانت الدعوة الشيعية في العالم الإسلامي قد وصلت إلى أوجها، وهذا مما لا نقف عنده الآن. وعندما بدأت مرحلة إمامة الإمام الصادق (ع) كانت الصدامات والحروب منتشرة في العالم الإسلامي كإفريقيا وخراسان وفارس وبلاد ما وراء النهر ونقاط أخرى من العالم الإسلامي، مما سبب مشكلات كثيرة لبني أمية. وهكذا استطاع الإمام الصادق (ع) في هذه المرحلة أن يستفيد من هذه الفرصة وقام بالتركيز على نفس النقاط الثلاث التي أشرنا إليها في حياة الإمام السجاد (ع)، وهي: مسألة نشر العلوم الإسلامية، ومسألة الإمامة، وخاصة التأكيد على إمامة أهل البيت (ع)؛ وعلى سبيل المثال: يروي عمر بن المقدام قائلاً: "رأيت أبا عبد الله يوم عرفة بالموقف وهو ينادي بأعلى صوته"، فكان يقول جملة ثم يلتفت إلى الطرف الآخر ويكررها ومن ثم إلى الطرف الآخر.. وهكذا إلى أربعة أطراف، وكل مرة يكررها ثلاثاً، والجملة هي" أيها الناس، إن رسول الله (ص) كان هو الإمام".
التفتوا إلى نفس استعمال كلمة إمام، كان هذا لأجل لفت انظار الناس إلى حقيقة الإمامة ولإشاعة هذه الفكرة حتى يُصار إلى التساؤل: هل هؤلاء الحكام المتسلطين على الحكم لائقون بالإمامة أم لا؟
فينادي ثلاث مرات لمن بين يديه ولمن خلفه وعن يساره... اثنا عشر صوتاً: "أيها الناس، رسول الله كان هو الإمام، ومن بعده علي بن أبي طالب، وبعده الحسن، وبعده الحسين، ومن ثم علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وبعدها هاه".. ويكرر الكلمات اثنا عشر مرة.
يقول الراوي سألت ما معنى هاه. قال معناها في لغة (لهجة) بني فلان (أنا) كناية للإشارة عن نفسه (ع)؛ يعني بعد محمد بن علي (ع) أنا الإمام.
ونشير إلى نموذج آخر، قال: قدم رجل من أهل الكوفة إلى خراسان فدعا الناس إلى ولاية جعفر بن محمد (ع) يعني إلى حكومته.
ونحن، حتى استطعنا أن ندعو لقيام "الجمهورية الإسلامية" خلال فترة جهادنا، فطوال سنوات الجهاد والكفاح لم نستطع أن نقول أكثر من رأي الإسلام في الحكومة وحدودها؛ يعني استطعنا أن نحدد القواعد الأولى التي حددها الإسلام للحكومة والشروط التي وضعها للحكام. فهذه حدود ما استطعنا أن نبينه آنذاك، حيث لم يكن الوقت مناسباً أبداً للدعوة إلى الحكومة الإسلامية أو الإعلان عن شخص معين ليكون الولي؛ ففي سنة 1357هـ.ش (1979م) أو في سنة 1356هـ.ش، وفي اجتماعاتنا الخاصة، استطعنا أن ندعو إلى الحكومة الإسلامية وطبعاً من دون أن نذكر اسم قائدها.
بينما ترون أن رجلاً وفي زمن الإمام الصادق (ع) يذهب إلى أقصى نقاط العالم ويدعو الناس لحكومة الإمام الصادق (ع)، ماذا يعني هذا؟ هل له معنى سوى حلول الزمان الموعود؟ فهذا هو عام 140هـ وهذا هو نفس الشيء الذي كان يتحرك لأجله الأئمة بشكل طبيعي، وهو الذي أدى إلى أن يقوم هذا الرجل بما فعل. فالنهوض الطبيعي للأئمة (ع) هو الذي أدى إلى هذا، كما أنه أعطى الأمل في تشكيل الحكومة الإسلامية في ذلك الزمان.
إذن، فقد كانت الدعوة للناس إلى حكومة وولاية الإمام جعفر بن محمد (ع).. ونحن اليوم نفهم الولاية بمعناها الحقيقي والواقعي، ولكن سابقاً كانوا يفسرون الولاية بالمحبة؛ وهذا يعني أنهم كانوا يدعون الناس إلى الولاية، أي إلى محبة الإمام جعفر بن محمد (ع)، فهل يصح هذا؟! فهذا ليس من شؤون الدعوة، فالمحبة لفرد ليست هي بالشيء الذي يُدعى إليه المجتمع، إضافة إلى أنه إذا فسرنا الولاية بالمحبة لا يكون لبقية الحديث معنى، حيث قال (ع): "ففرقة أطاعت وأجابت، وفرقة جحدت وأنكرت ـ ومن الذي ينكر ويرد محبة أهل البيت في العالم الإسلامي ـ "وفرقة ورعت ووقفت". وإذا فسرت الولاية بالمحبة فلا تتناسب هنا مع مسألة التورع والتوقف. وهذا قرينة إلى أن الولاية لها معنى آخر غير المحبة، بل هي الحكومة. وبقية الحديث، يقول: "فخرج من كل فرقة رجل فدخلوا على أبي عبد الله (ع)" فكانوا يأتون إلى الإمام ويتكلمون معه، حيث يرد على واحد من الذين تورعوا وتوقفوا كما يلي: "تورعت في هذا العمل، فلماذا لم تتورع عند النهر الفلاني في اليوم الفلاني حيث ارتكبت العمل المخالف الفلاني"؟ فهذا الكلام يبين بوضوح أن الشخص الذي ذهب إلى خراسان ودعا الناس لولاية الإمام قد قام بهذا برضا الإمام، ولعل الإمام (ع) هو الذي أرسله.
فهذا كله يتعلق بالمرحلة الأولى من حياة وعصر الإمام الصادق (ع)، وتوجد حوادث أخرى من هذا القبيل في حياته (ع)، وعلى الأكثر تتعلق هذه الحوادث بالمرحلة الأولى من حياته (ع) حتى وصول المنصور إلى سدة الحكم والخلافة، فتتبدل الأوضاع وتبدأ المشاكل والمصاعب في حياة الإمام الصادق (ع). ولربما هذه الفترة من حياة الإمام الصادق (ع) تشبه الفترة التي مرت على الإمام الباقر (ع)، حيث ساد جو القمع وممارسة الضغوط على الإمام حتى إنه (ع) أُحضر ونُفي لعدة مرات إلى الحيرة وواسط والرميلة ومناطق أخرى. وكان الخليفة يخاطب الإمام الصادق (ع) بقساوة وغضب حيث قال له مرة: "قتلني الله إن لم أقتلك"! ومرة من المرات خاطب الخليفة والي المدينة قائلاً له: "أن أحرق على جعفر بن محمد داره"! وحينما أُحرق داره أظهر الأمام الغربة والوحدة التي ألمّت به آنذاك وذلك خلال حركاته وسكناته وهو يعبر النار المضرمة، حيث قال: "أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن محمد المصطفى". وهذا مما أدى إلى زيادة سخط أعدائه أكثر.
إن معاملة المنصور للإمام الصادق (ع) كانت معاملة صعبة جداً وقاسية للغاية، ولطالما هدد المنصور الإمام (ع). وهناك روايات تنقل أن الإمام (ع) كان يتذلل ويظهر الخضوع للمنصور! وبالتأكيد أن هذه الروايات لا أساس لها من الصحة؛ فأنا بحثت حول هذه الروايات ولم يكن لأي منها أساس وسند صحيح ومعتبر، وغالباً من تنتهي في سندها إلى ربيع الحاجب هذا المقطوع بفسقه، الذي كان من المقربين للمنصور. ومن العجب أن البعض نقل أن الربيع كان يعتبر من الشيعة المحبين لأهل البيت (ع)، فأين التشيع من ربيع؟!
إن الربيع كان يعتبر الخادم المطيع والمخلص لأوامر المنصور، ومنذ طفولته استطاع أن يجد طريقاً ومكاناً في الحكومة العباسية، وخدم بني العباس حتى أصبح حاجب المنصور، وقدم له الخدمات الكثيرة حتى استطاع أن يتسنّم الوزارة، ولو لم يكن الربيع موجوداً لخرجت الحكومة والخلافة من آل المنصور بعد موته، ولربما كان قد تسنّمها أعمامه من بعده، فعند احتضار المنصور لم يكن عنده سوى الربيع، تسنّم ولهذا كتب الوصية بنفسه عن المنصور زوراً وجعل الخلافة باسم المهدي بن المنصور.
والفضل بن ربيع الذي تسنّم الوزارة في عهد هارون والأمين هو ابن هذا الشخص، فهذه العائلة عرفت بوفائها لبني العباس، ولم يكن لهم أي ولاء لأهل البيت (ع).. وما نُقل عن الربيع حول الإمام فهو كذب وبهتان، ولم يرد من كذبه هذا إلا أن يُظهر الإمام (ع) للمسلمين آنذاك الإنسان المتذلل والخاضع أمام الخليفة! حتى يعتبر الآخرون أن تكليفهم هو أيضاً مثل تكليف الإمام، أي التذلل والخضوع للخليفة!
وكما قلنا، فقد كانت معاملة المنصور للإمام الصادق (ع) معاملة قاسية جداً حتى انتهت بشهادة الإمام (ع) وذلك في عام 148هـ.
وبدأ عصر الإمام موسى الكاظم (ع) فكانت حياته مليئة بالأحداث المهمة والمثيرة وأعتقد أن الجهاد والمواجهة قد بلغا أوجهما في عهد هذا الإمام (ع). ومع الأسف لا يوجد بين أيدينا تقرير ونص واضح وصريح حول حياة الإمام الكاظم (ع)؛ مثلاً جاء في بعض الروايات أن الإمام بقي ولفترة مخفياً عن أنظار الحكومة آنذاك وكان هارون وأزلامه يبحثون عنه ولم يستطيعوا أن يجدوه، وكان الخليفة يقبض على بعض الأفراد ويعذبهم ليعترفوا ويخبروه عن مكان الإمام (ع)! ولأول مرة يحدث مثل هذا الأمر في حياة الأئمة (ع).
ونقل ابن شهر أشوب في المناقب ما يفيد ما ذكرناه حيث قال: "دخل موسى بن جعفر (ع) بعض قرى الشام متنكراً هارباً"! ولم يُنقل عن أي من الأئمة هذا الوضع.
وهذه الأحداث تعبير عن الشرارة والالتهاب الذي ميز حياة الإمام.. وسجن الإمام المؤبد هو خير دليل على الوضع الذي كان قائماً، مع أن هارون كان يعامل الإمام الكاظم (ع) معاملة جيدة وحسنة وذلك خلال المرحلة الأولى من تصديه الحكم.
والقصة التي ينقلها المأمون حول الإمام الكاظم (ع) معروفة؛ وملخصها أن الإمام (ع) كان يمتطي دابة وجاء إلى المكان الذي كان يجلس في هارون، وأراد الإمام (ع) أن يترجل ولكن هارون لم يرضَ بذلك وأقسم عليه أن يبقى راكباً ويأتي بدابته إلى بساطه، وعندما جاء الإمام (ع) راكباً إلى بساط الخليفة احترمه هارون وبقيا مدة بتبادلان الحديث. فعندما عزم الإمام (ع) الرحيل طلب هارون مني (أي من المأمون) ومن الأمين أن نأخذ بركاب أبي الحسن، إلى آخر القصة. والشيء اللافت في هذه القصة هو ما نقله المأمون عن أن أبيه هارون أنه أعطى لجميع الذين كانوا حاضرين في المجلس 5 الآف دينار و 10 الآف دينار (أو درهم) كهدية وجائزة ولكن أعطى لموسى بن جعفر 200 دينار، علماً بأنه عندما كان الخليفة يسأل عن وضع الإمام (ع) كان الإمام (ع) يجيبه مبيناً له المشكلات والأوضاع المعيشية السيئة وكثرة العيال. فهذا الكلام من الإمام يحمل بين طياته معنى دقيقاً؛ فأنا وبقية الذين عاشوا تجربة التقية في زمان مواجهة الشاه نستطيع أن نفهم وندرك لماذا ذكر الإمام (ع) ولمثل هارون وضعه المعيشة، فهذا الكلام لا يحتوي على التذلل، لأن الكثير منكم وفي عهد القمع والظلم قد فعلتم مثل ما فعل الإمام (ع) لأن الإنسان ومن خلال هذا الكلام يستطيع أن يبعد نظر العدو عن أعماله ونشاطاته.
وطبيعي أن هارون وبعد استماعه إلى مثل هذا الكلام كان ينبغي أن يعطي للإمام مبالغ طائلة مثلاً 50 ألف دينار (أو درهم)، ولكنه رغم هذا كله لم يعطه أكثر من 200 دينار!
يقول المأمون سألت أبي عن سبب إعطائه القليل فأجابني إذا أعطيته ما في ذمتي من المبلغ لخرج، وبعد فترة وجيزة، مئة ألف فارس من الشيعة يقومون ضدي، فهذا كان استنتاج وفهم هارون، وحسب رأيي أن هارون كان صائباً في فهمه. والبعض يعتقد أن تصور هارون هذا كان نتيجة لما بُلغ به من سوء عن الإمام (ع)، ولكنه واقع الأمر وحقيقته، لأنه لو كان الإمام (ع) يملك من الأموال الكافية في زمان جهاده ونضاله ضد هارون لاستطاع استقطاب الكثير ليحاربوا إلى جانبه. وهذا الوضع لاحظناه في زمان أبناء الأئمة (ع). وبالتأكيد أن الأئمة لو كانوا يملكون المال الكافي لاستطاعوا جمع عدد أكبر من الناس حولهم. وعلى هذا نجد أن عهد الإمام الكاظم (ع) كان عهداً وصل فيه الجهاد والكفاح إلى أوجه حتى انتهى باعتقال الإمام (ع) وسجنه. وعندما جاء عهد الإمام الثامن (ع) بدأ الوضع يتحسن بالنسبة للأئمة (ع) وانتشر الشيعة في كل البقاع وتوفرت لهم الإمكانيات اللازمة حتى انتهى الأمر إلى ولاية العهد للإمام الرضا (ع). وعاش الإمام الرضا في عهد هارون الرشيد مراعياً للتقية في حياته، يعني كان يسعى في حركته ونشاطاته بسرية وتقية؛ فمثلاً دعبل الخزاعي الذي كان يتكلم بحق الإمام الرضا (ع) بهذا الشكل المعروف في زمن ولاية عهده (ع) لم يظهر إلى الوجود فجأة، فالمجتمع الذي يُربي مثل دعبل الخزاعي أو إبراهيم بن العباس الذي كان يعتبر من المادحين لعلي بن موسى الرضا (ع) أو غيره من الموالين، هذا المجتمع لا يُخرج مثل هؤلاء من لا شيء؛ فهذا الولاء يجب أن يكون قد بدأ من سنين وله سابقة في ثقافة المجتمع، فليس من الممكن أن يحتفل الناس في خراسان وري ومناطق أخرى بمناسبة تعيين الإمام الرضا (ع) ولياً للعهد من دون أن يكون لهم في ولايتهم هذه سابقة وتاريخ.
وما حدث في عهد ولاية العهد للإمام الرضا (ع) دليل على مدى ولاء الناس ومحبتهم لأهل البيت (ع).
وبعد ذلك ظهر الاختلاف بين الأمين والمأمون واستمر الخلاف والجدل بين خراسان وبغداد لمدة خمس سنوات، وهذا مما ساعد الإمام الرضا (ع) لأن يوسع من نشاطاته وحركته حتى انتهت إلى تعيينه ولياً للعهد. ولكن ـ ومع الأسف ـ انتهى الوضع بشهادته وبداية عهد جديد حاملاً بين طياته المحن والمشاكل لأهل البيت (ع). وحسب رأيي أن المحن والمشكلات التي واجهت أهل البيت (ع) بلغت ذروتها في زمن الإمام الجواد (ع) وشملت عصور الأئمة الذين جاؤوا من بعده.
كان هذا شرحاً مجملاً ونظرة عامة إلى المحن والمشاكل التي واجهت الأئمة (ع) وتحليلاً مختصراً لحياتهم السياسة.
وكما ذكرت سابقاً أنني قد قسمت البحث إلى قسمين. القسم الأول هو عرض مجمل، وقد انتهى إلى هنا، والقسم الثاني هو التعرض إلى أبرز التحركات الجهادية في حياة الأئمة (ع).
كل ما سأذكره هو بعض العناوين والتي استطعت خلال اليومين الماضيين أن استخرجها من بين ملاحظاتي التي كنت قد سجلتها قديماً، وطبعاً المواضيع التي يمكن البحث فيها لا تقتصر على التي سأذكرها، ولكن أذكر بعضاً منها ليستطيع من يريد البحث والدراسة أن يتخذها محوراً في بحثه.
من المسائل والمواضيع المهمة هي ادعاء الإمامة والدعوة إلى الإمامة.
وتعتبر هذه المسألة حركة جهادية في كل المراحل التي مرت بحياة الأئمة (ع)، وذكرت حولها روايات في فصول واسعة، ومن جملتها روايات أن الأئمة "نور الله" التي وردت في الكافي، ورواية الإمام الثامن (ع) حول الإمامة، وروايات عديدة أيضاً حول حياة الإمام الصادق (ع) ومحاورات ومناظرات أصحابه في ظروف مختلفة، وأيضاً روايات حول حياة الإمام الحسين (ع) عند دعوته لأهل العراق وروايات أخرى.
والمسألة الأخرى هي فهم وإدراك لما يقوم به الأئمة من أعمال وتبليغ؛ فأنه ـ وكما تلاحظون ـ أن فهم الخلفاء لأهداف الأئمة (ع) متشابه من زمان عبد الملك بن مروان إلى زمان المتوكل؛ أي كان فهمهم وإدراكهم لما يدور حولهم متشابهاً، فمعاملتهم للأئمة (ع) كانت تتشابه من حيث القهر والاضطهاد. فهذه مسألة مهمة لا يمكن أن نمر عليها بشكل عابر.
لماذا كانوا يفهمون ويدركون من حياة الأئمة (ع) هذا الفهم والإدراك؟!
فمثلاً جملة "خليفتان يجبى إليهما الخراج" حول الإمام موسى بن جعفر (ع)، أو "هذا على ابنه قد تعدوا وادعى الأمر لنفسه" حول الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، أو جملات أخرى مشابهة لهذه الجمل حول الأئمة (ع).
والمسألة المهمة الأخرى هي أن الخلفاء كانوا يسعون لينسبوا الإمامة إليهم. توجد أمثلة كثيرة حول ما قلناه، ونذكر منها مثالاً؛ فكُثير هو شاعر بارز عاصر المرحلة الأولى من الخلافة الأموية ويعتبر من الموالين لأهل البيت (ع)، وكان على على مستوى الفرزدق وجرير والأخطل وجميل ونصيب وغيرهم؛ جاء يوماً من الأيام إلى الإمام الباقر (ع) حيث قال له الإمام (ع) معترضاً "امتدحت عبد الملك"! أجاب مضطرباً "يا بن رسول الله، ما قلت يا أمام الهدى، وإنما قلت له أسد والأسد كلب، ويا شمس والشمس جماد، ويا بحر والبحر موات). يعني أراد الشاعر أن يبرر عمله. فتبسم الإمام (ع)، وحينها قام الكميت الأسدي وأنشد هذه القصيدة:
من لقلبٍ متيم مستهام غير ما صبوة ولا أحلام
حتى وصل إلى البيت
ساسة لا كمن يرى رعيه الناس سوا ورعيه الأنعام
فهذا يدل على أن الأئمة (ع) كانوا شديدي الحساسية من جهة مدح عبد الملك وأصحابه، وكانت اهتماماتهم وحساسيتهم في إطلاق كلمة إمام الهدى عليه، حيث قال: لم أقل له إمام الهدى. وهذا يدل على مدى رغبة الخليفة في إطلاق عبارة إمام الهدى عليه. وكانت هذه الرغبة أشد في زمن بني العباس.
ومروان بن أبي حفصة كان شاعراً أموياً وعميلاً للبلاط الأموي والعباسي (والعجب في هذا أنه كان شاعر البلاط الأموي في الخلافة الأموية، وبعد أن جاء بنو العباس إلى سدة الحكم أصبح شاعر البلاط العباسي، حيث كان شاعراً قوياً عذب البيان فاشتروه بالمال)! وعندما كان يمتدح بني العباس لم يكن يكتفي بذكر كرمهم وشجاعتهم وبقية خصالهم، بل كان ينسبهم إلى رسول الله (ص) وينسب إليهم منزلته، حيث قال:
أنى يكون وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام
يعني كيف يمكن أن يرث أبناء البنات ما ترك الأعمام؟ فعم رسول الله (ص) هو العباس وله وارث، فكيف يمكن أن يرث ما ترك العباس أبناء فاطمة (ع)!
إذن، فالدعوى حول الخلافة والحرب حرب ثقافية وسياسية، وفي مقابل هذا الشعر قال الشاعر الطائي الشيعي المعروف، يعني جعفر بن عفان الطائي:
لم لا يكون وإن ذاك لكائن لبني البنات وراثة الأعمام
للبنت نصف كامل من ماله والعم متروك بغير سهام
يعني البنت ترث نصف مال أبيها والعم لا يرث من مال أخيه، إذن فليس لكم إرث لتطالبوا به!
فهذا من موقف أصحاب الأئمة (ع) مقابل ما يدعيه الخلفاء في الإمامة.
والمسألة الأخرى هي تأييد الأئمة (ع) وحمايتهم للحركات الثورية التي كانت آنذاك، فهذه من البحوث المثيرة من حياة الأئمة (ع) وتدل على منهجية الجهاد أيضاً، ككلام الإمام الصادق (ع) حول المعلى بن خنيس عندما قتل على يد داود بن علي، وكلماته حول زيد وحول الحسين بن علي شهيد فخ وغيرهم.
وقد رأيت رواية عجيبة في نور الثقلين عن علي بن عقبة حيث قال إن أبي قال : دخلت أنا والمعلى على أبي عبد الله (ع) فقال: "أبشروا، أنتم على إحدى الحسنيين، شفى الله صدوركم واذهب غيظ قلوبكم وأنالكم من عدوكم ـ وهو قول الله تعالى: {ويشف صدور قوم مؤمنين} ـ وإن قضيتم قبل أن تروا ذلك مضيتم على دين الله الذي رضيه لنبيه (ص) ولعلي (ع)".
هذه الرواية مهمة كونها تتحدث عن الجهاد والنصر "أبشروا، أنتم على إحدى الحسنين" وعن النيل من العدو والشهادة "وأنالكم من عدوكم… وإن قضيتم قبل أن تروا ذلك".
وتزيد الأهمية كون المخاطب في هذه الرواية هو المعلى بن خنيس الذي عرفنا كيف كان مصيره (التنكيل والقتل)، ونلاحظ أن الإمام المعصوم في هذه الرواية بدأ بمخاطبة الصاحبين مباشرة دون أي مقدمة. ويستدل من خلال سياق الرواية أن الحديث كان يتناول موضوعاً محدداً لكنه لم يُذكر، أما قوله (ع): "شفى الله صدوركم" فمن الممكن أن يكون دعاءً، ولكن يوجد احتمال آخر، وهو أقوى، وهو إخباره عن أمر ما قد حصل أو أنجز، فهل كان الداخلان على الإمام قد عادا من عمل أو مواجهة ما؟ غير معلوم، أو أنهما مكلفان بمهمة معينة من قبل الإمام؟
لم تفصح الرواية عن شيء كهذا، لكن على كلا الاحتمالين فإن سياق الحديث يفصح عن مساندة وحماية الإمام (ع) للتحركات الثورية التي تحكي عنها الحياة اليومية لمعلى بن خنيس. ومن المهم في حديثنا عن هذا الصاحب أن نلتفت إلى أنه كان "باب" الإمام الصادق (بتعبير الروايات)، ومن المهم أن نتعرض لهذا المصطلح بالبحث؛ فالذين ذُكروا في أحاديث أهل البيت (ع) بعنوان "الباب" من كانوا؟ فإن أغلبهم قد قُتل أو هُدد بالقتل، أمثال يحيى ابن أم الطويل، ومعلى بن خنيس، وجابر بن يزيد الجعفي، وغيرهم..
بحث آخر في حياة الأئمة (ع) حول سجنهم ونفيهم وملاحقتهم…
وأرى أنه يجب أن نتتبع هذا البحث بدقة، وهناك الكثير من المسائل التي تحتاج إلى التدقيق والتحليل، منها أيضاً ما يتعلق بخطابات أهل البيت (ع) التي تميزت بالصراحة وبمواجهاتهم الحادة لحكام زمانهم. وهي نفطة ينبغي الوقوف عندها ملياً؛ فهؤلاء العظام (ع) لو كانوا من الصنف المحافظ والمسالم المهادن لسلكوا نفس منهاج الزهاد والعلماء في ذلك العصر، من الذين لا تزعج خطاباتهم السلطة، ولا تقترب من المعارضة، وهؤلاء كانو كثر، حتى إن السلاطين والحكام كانوا على علاقة معهم ويحبون بعضهم، لدرجة ان هارون كان يقول بحق أحدهم:
كلكم يمشي رويداً كلكم يطلب صيداً
وهؤلاء الزهاد كانوا يعظون الحكام حتى إنهم كانوا يبكونهم أحياناً من الموعظة، لكن هؤلاء الزهاد يحرصون على أن لا ينطقوا بأي كلمة فيها تلميح إلى مثل الجبار والطاغية والغاصب والشيطان وأشباه هذه المعاني، بينما نجد أن الأئمة كانوا يصرحون بكل هذا وينشرون هذه الحقائق بين الناس، فلم تكن هيبة وسطوة الحكام لتجبرهم على السكوت.. وهناك بحث آخر متعلق بتحدي الأئمة (ع) للسلاطين وقد أشرنا إلى بعضه كالذي جرى بين المنصور والإمام الصادق (ع) أو بين هارون والإمام الكاظم (ع).
بحث آخر أيضاً مهم جداً ويحتاج للمتابعة، وهو يتعلق بالموارد التي تدل على استراتيجية الإمامة، فأحياناً كانت كلمات الأئمة تطرح أموراً ليست بالبسيطة والعادية، بل تتعلق بهدف محدد ومشروع خاص كان هو نفسه استراتيجية الإمامة. ومن جملة هذه الموارد هو الحوار الذي دار بين الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) وهارون الرشيد حول ما يتعلق بمسألة "فدك"؛ ففي أحد الأيام قال هارون للإمام الكاظم (ع): "حُدّ فدكاً حتى أردّها إليك"، وكان هدفه من وراء هذا العمل أن يسلب تأثير هذا الرمز "فدك" الذي كان أهل البيت (ع) يطرحونه دائماً كدليل وشاهد على مظلوميتهم التاريخية، فبإرجاعه "لفدك" يسحب هذا السلاح من أيديهم. ولعله أيضاً يصبح مميزاً، بنظر الشيعة عن أولئك السلاطين الذين استمروا بغصب "فدك". والإمام في البداية امتنع عن تنفيذ هذا الطلب، ولكن بعد إصرار هارون قال له الإمام (ع):
"لا آخذها إلا بحدودها" فقبل هارون بذلك، فبدأ الإمام بذكر تلك الحدود قائلاً: "أما الحد الأول فعدن". فتغير وجه هارون، وقال" إيه"!!
تابع الإمام (ع): "والحد الثاني سمر قند"؛ أي الحدود الشرقية لأراضي حكومة هارون، فأربد وجهه.
فتابع الإمام (ع) وقال: "والحد الثالث إفريقيا" ويعني تونس، أي الحدود الغربية للبلاد.
يقول الراوي: فاسود وجه هارون وقال: "هيه"!!
عندها أنهى الإمام (ع) كلامه وقال: "والحد الرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينيا" أي الحدود الشمالية.
عندها قال هارون غاضباً مستهزئاً:
"فلم يبق لنا شيء، فتحول إلى المجلس"! (أي قم واستلم الخلافة).
فقال الإمام (ع): "قد أعلمتك أنني إن حددتها لن تردها". وكما جاء في نهاية هذه الرواية: "فعند ذلك عزم على قتله".
في هذا الحوار يظهر أهم مطلب للإمام موسى الكاظم (ع) والذي كان كافياً حتى يقرر هارون الرشيد قتله، وكذلك الأمر، فإن مطالب الأئمة (ع) واضحة في حياة الإمام الباقر والإمام الصادق والإمام الرضا بحيث إنها لو جمعت فسترسم استراتيجية الإمامة.
من المباحث المهمة أيضاً والتي تحتاج إلى التحليل والتحقيق في شرح سيرة الأئمة هي معرفة مدى اطلاع الأئمة على أهدافهم ومشروعهم ومطالبهم (ع)؛ طبعاً، فإن هؤلاء الأصحاب كانوا أقرب إليهم منا وكانوا أكثر اطلاعاً على مطالبهم وأهدافهم، لذا فإن معرفة وإدراك هؤلاء الأصحاب لحركة الإمامة أمر مهم، فنحن إذا نظرنا في الروايات، فهل نرى أنهم لم يكونوا منتظرين ومترقبين لقيام الأئمة بالثورة؟!
أنتم تعرفون قصة ذلك الرجل الذي أتى من خراسان للقاء الإمام الصادق (ع) وأخبره بأن هنالك الآلاف من الفرسان المقاتلين ينتظرون منك الإشارة حتى يثوروا، فأبدى الإمام شكّه وتعجبه، وبالتدريج صار الخراساني يقلل من العدد. وبعدما أكد الإمام له على نوعية هؤلاء الأفراد، قال الإمام (ع):
"لو كان لديَّ اثنا عشر (أو خمسة عشر) صاحب لخرجت"! (على اختلاف الروايات).
وكان هناك أشخاصاً يقومون بمراحعة الإمام (ع)، ويطلبون منه الخروج (بحسب الروايات). وبالطبع فإن بعضهم كان من جواسيس بني العباس، وهذا يعرف من خلال أجوبته (ع). فلماذا كانت تتم مراجعة الإمام؟!
هذا لأنهم يعرفون أن هذا الأمر (أي الثورة) هو هدف أساسي وثابت عند الأئمة (ع)؛ فمسألة الخروج والثورة لإقامة دولة الحق كانت مسألة أساسية في ثقافة الشيعة في ذلك الزمان، والأئمة كانوا ينتظرون الفرصة المناسبة للقيام بذلك. ولقد رأيت رواية لافتة في هذا المجال حيث يفهم منها مستوى إدراك وفهم الأصحاب المقربين مثل زرارة بن أعين، وهذه الرواية موجودة في رجال الكشي، وتذكر أن زرارة أتى يوماً إلى الإمام الصادق (ع) وقال: أصلحك الله، إن رجلاً من أصحابنا كان مختفياً من غُرّامه؛ فإن كان هذا الأمر قريباً صبر حتى يخرج مع القائم وإن كان فيه تأخير صالح غرّامه! فقال له أبو عبد الله (ع): يكون. فقال زرارة: يكون إلى سنة؟ فقال أبو عبد الله (ع): يكون إن شاء الله. فقال زرارة: فيكون إلى سنتين؟ فقال أبو عبد الله: يكون إن شاء الله. فخرج زرارة موطّناً نفسه على أن يكون على سنتين، فلم يكن.
وبالطبع فإن زرارة لم يكن بالشخص الساذج والبسيط من الأصحاب المقربين للإمامين الباقر والصادق (ع)، فكيف يصل إلى هذه النتيجة التي تأكد له معها اقتراب موعد تشكيل الحكومة العلوية؟!
وفي رواية أخرى ينقل هشام بن سالم أن زرارة قال له: "لا ترى على أعوادها غير جعفر"، أي أنك لن ترى على رأس الخلافة إلا جعفر بن محمد (ع)، وعندما يقول له هشام بعد استشهاد الإمام الصادق (ع): تذكر الحديث الذي حدثني به؟ ويذكره، ويقول هشام: كنت أخاف أن يجحدنيه! فقال زرارة إني والله ما كنت قلت ذلك إلا برأيي (منبهاً إياه بأنه لم يكن ينقل عن الإمام).
وهناك روايات كثيرة في هذا المجال حول الخروج أو طلب ذلك من قبل الأصحاب، نفهم منها وبوضوح أن هدف الأئمة كان تشكيل الحكومة العلوية والسعي لأجل تحقيق ذلك، وأن الأمر كان متوقعاً وقريباً، وهذا من المسلّمات في اعتقاد الشيعة وأصحاب الأئمة المقربين. وهذه دلالة أساسية وواضحة على هدف ومشروع الأئمة (ع).
يوجد بحث آخر يتعلق ببغض وعداء الحكام المتعاقبين للأئمة (ع) وخلفية هذا العداء؛ هل هو الحسد فقط على المقام المعنوي وعلى حب الناس للأئمة؟ أم أن هناك عامل آخر؟ طبعاً ومن دون شك كان الأئمة محسودين من قبل هؤلاء الحكام وغيرهم، ففي تفسير آية {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} ورد في الروايات "نحن المحسودون"، ولكن علينا أن ننظر على ماذا كان هذا الحسد؟! على علمهم وتقواهم؟!
فنحن نعرف أن العلماء والزهاد كانوا كُثراً في ذلك الزمان وكانوا معروفين بين الناس بهذه الصفات وكان لهم الكثير من المحبين والأصحاب من أمثال: وأبو حنيفة، أبو يوسف، والحسن البصري، وسفيان الثوري، ومحمد بن شهاب والعشرات من أمثالهم، ممن كان لهم أتباعاً ومريدين. وفي الوقت نفسه لم يحسدهم الحكام والسلاطين، ولم يبغضوهم، بل ـ وكما ذكرنا ـ إن الحكام كانوا يحبون بعضهم. إذن فخلفية عداء هؤلاء لأهل البيت (ع)، والتي انتهت إلى استشهادهم، هي شيء آخر بنظرنا، وهي ليست إلا مطالبة الأئمة بحقهم في الإمامة والخلافة/ وهذا ما لم يدّعه الآخرون. هذا بحث مطلوب.
ومن جملة الأبحاث المطلوبة أيضاً حول التحركات الثورية والمعارضة التي قادها أصحاب الأئمة ضد النظام الحاكم، ونستطيع أن نرى نماذج منها في كل المراحل التي عاشها الأئمة؛ ففي زمان الإمام السجاد (ع)، أي في ذروة الضغوط والقمع، نرى يحيى ابن أم الطويل وهو أحد حواري الإمام يأتي إلى المسجد مخاطباً الناس الذين رضخوا لرجال السلطة، قارئاً الآية التي خاطب بها النبي إبراهيم (ع) الكفار: {كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء...}.
وكذلك كان يخطب في الناس في كناسة الكوفة (اسم موضع في الكوفة) معترضاً على الأوضاع السياسية الحاكمة منادياً الناس بصوت عال…
وكذلك فعل معلى بن خنيس حينما خرج لأداء صلاة العيد بمظهر حزين وكئيب وعليه آثار التفجع؛ فصعد إلى المنبر مثل الخطيب وقال رافعاً يديه: "اللهم إن هذا مقام خلفائك وأصفيائك وموضع أمنائك.. ابتزوه" (يعني غصب الخلافة). وللأسف فإن هذا الصحابي الجليل الذي لعن الإمام الصادق قاتليه، وكان (ع) يثني عليه، يشكك البعض في وثاقته، وليس بعيداً أن يكون منشأ هذا الافتراء هو الأيادي الخبيثة لبني العباس.
والمسألة الأخرى التي لها بحث واسع وعميق، هي مسألة "التقية"؛ ولفهمها يلزم أن ننظر في كل الروايات التي تتحدث عن الكتمان والتستر، إضافة إلى التوجه لهدف الأئمة الذي سبق ذكره وهو إقامة الحكومة العلوية، والأخذ بعين الاعتبار بطش الحكام في مواجهة هذا المطلب. ومع هذه التحركات للأئمة (ع) وأصحابهم، وبالالتفات إلى كل هذه الأمور نفهم المعنى الحقيقي للتقية، بحث لا يبقى أي شك في أن التقية لا تعني التوقف عن العمل، بل هي إخفاء هذا العمل؛ ويتوضح هذا بمراجعة الروايات.
هذا قسم من المباحث المهمة المرتبطة بسيرة أهل البيت (ع)، وطبعاً فهنالك مباحث أخرى كثيرة تتعلق بالحياة السياسية لأولئك العظام. ولا يتسع الوقت حتى لذكر فهرس لهذه المواضيع. ولقد كان لي عمل دؤوب في كل هذه المباحث، ولكن مع الأسف، فلا يوجد عندي اليوم فرصة للاستمرار ولتجميع هذه الملاحظات التي قد قمت بتدوينها سابقاً، فيا ليت من يكون من أصحاب الهمم العالية كي يتابع هذا العمل. فيجمع مباحث الحياة السياسية لأئمة أهل البيت كي يقدمها للناس، حتى نستطيع أن نجعلها درساً وقدوة لنا، وليس فقط كذكرى خالدة. - كتاب الفن والأدب في التصور الإسلامي
- الإمامة والولاية في الإسلام
- مقدمة
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
بإمكاننا أن نختزل الإسلام كله في (الولاء) و (البراءة) والأحكام الشرعية المترتبة على (الولاء) و (البراءة)؛ فإن دين الله تعالى في أصوله وأحكامه لا يزيد على أن يكون عملية ارتباط للإنسان بالله تعالى، وفي امتداد الارتباط بالله، الارتباط برسله وأنبيائه وأوليائه ثم بالمسلمين عامة ابتداءً من الارتباط بالأسرة في الدائرة الصغرى إلى الارتباط بالأهل والمعارف والأرحام في دائرة أوسع ثم الارتباط بالأمة الإسلامية في الدائرة الكبرى. ولهذه الصلات (الصلة بالله وبرسوله وأولياء الأمر وبالمسلمين) أحكام وتشريعات تخص كل واحد واحد من هذه النشاطات على الصعيد التشريعي، وتعليمات وتوصيات في كيفية التعامل على الصعيد الأخلاقي والتوجيهي.
وهذا هو أحد وجهي المسألة (الولاء).
والوجه الآخر للمسألة هو (البراءة) والمقاطعة لأعداء الله ورسوله وأوليائه والأمة. ولهذه القطيعة كذلك أحكام وتشريعات في الحرب والسلم والمهادنة كما كان للارتباط والاتصال بالله أحكام وتشريعات وتوجيهات.
وإذا أمعنا النظر في هذه المساحة الواسعة التي يحتلها الولاء والبراءة من حياة الإنسان سواء في مجال المواصلة (الولاء) أو المفاصلة (البراءة) أو في أحكام هذه المواصلة والمفاصلة، نجد أن هذه المساحة الكبرى تستوعب دين الله جميعاً ولا يبقى شيء من دين الله خارج هذه المساحة(1). إذن فليس من المبالغة في شيء إذا قلنا أن الولاء والبراءة يختزلان الإسلام كله على سعته وشموليته لحياة الإنسان، هذا في المجال النظري والتشريعي.
وأما على الصعيد السياسي فإن أدق الأقوال وأعمق النظريات وأكثرها واقعية وأصالة هو أن الولاء والبراءة هما اللذان يرسمان الخارطة السياسية على وجه الأرض، ويحددان المحاور السياسية الحاكمة في حياة الإنسان.
فليست الجبال والبحار والأنهار هي التي ترسم الخارطة السياسية، وإنما الولاء والبراءة هما اللذان يرسمان هذه الخارطة ويحددان المحاور القائمة في حياة الإنسان؛ فالإسلام محور للولاء على وجه الأرض يستقطب المسلمين جميعاً ويتجاوز الحدود الجغرافية والقومية والعرقية ويستقطب كل القلوب التي تنبض بحب الله ورسوله وأولياءه من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب؛ من جزر أندونيسيا وماليزيا والصين والتبت في أقصى الشرق إلى المسلمين الحفاة السود في أقصى الغرب في غابات وصحاري أفريقيا.
إن كارل ماركس يخطأ كثيراً؛ إذ يتصور أن جوهر الصراع في التاريخ هو تضارب الطبقات في المجتمع وأن الصراع بين الطبقة المستثمرة (بالكسر) والمستثمرة (بالفتح) هو أساس حركة التاريخ وجوهر الصراع والقتال والصدام في حياة الإنسان. إن اختلاف الولاءات هو أساس حركة التاريخ وجوهر الصراع على وجه الأرض وعلى امتداد التاريخ. لقد كانت تقول زوجة كارل ماركس أن كارل ماركس كان يمشي في شوارع المانيا وينظر إلى حياة الناس وصراعهم ويقول طبقتان، أي أن الناس في التاريخ وفي المدن وفي القرى يشكلون طبقتين متباينتين مستثمرة ومستثمرة، وهذا الإختلاف الطبقي هو سر الصراع وحركة التاريخ. أما نحن فعندما نتحرك في المجتمع وعلى التاريخ فلا نرى ـ بما أرانا الله من الهدى وأعطانا من البصيرة ـ غير ولائين وبرائتين؛ الولاء للّه ولرسوله والبراءة من أعدائنا والولاءات الأخرى للطاغوت {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. والصراع القائم في التاريخ وحركة التاريخ إنما يتمّان حول هذا المحور في الأساس وإن كان يتخذ أحياناً في انشعاباته وآثاره صيغاً اقتصادية أو غيرها من الأسباب الثانوية للصراع والمعركة القائمة اليوم بين الجمهورية الإسلامية من طرف وأعدائها من طرف آخر بما يمتلكه هؤلاء من إمكانات وقدرات وما تتلقاه الجمهورية الإسلامية من عطف ودعم من قبل المسلمين المستضعفين في كل أرجاء الأرض في حقيقة أمره لمن يمعن النظر في هذه المعركة الحاسمة.. صراع بين محوري الولاء والبراءة؛ الولاء للّه ولرسوله من طرف والولاء للطاغوت من طرف آخر، وأي تفسير آخر لهذه المعركة القاسية التي امتدت وطالت وقست غير هذا التفسير في رأينا نظرة سطحية إلى الأحداث تفقد العمق والأصالة والفهم الإسلامي لحركة الإنسان على وجه الأرض وفي التاريخ.
وللأهمية الكبرى التي يملكها محور الولاء للّه ولرسوله ولدوره الفعال في تجميع المسلمين واستقطابهم وتشكيل كتلة واحدة وصف واحد منهم في مقابل أئمة وأنظمة الكفر، نرى أن محاور الاستكبار العالمي تحاول وتسعى إلى تفتيت هذا المحور الواحد (الولاء للّه) وإضعافه ليفقد قوته وفاعليته ودوره في حياة الإنسان. ومن أساليب التآمر على محور (الولاء للّه) هو طرح بدائل حضارية للولاء والبراءة في مقابل (الولاء للّه والبراءة من أعدائه)، وهذه البدائل عديدة منها الولاء للقومية، والولاء للأرض والتراب (الوطن)، ومنها الولاء للدم والعرق، ومنها الولاء للأوثان والأصنام الفكرية والبشرية. وأخطر هذه البدائل الحضارية في حياتنا الولاء للقوم والدم والعرق، وقد استطاع الاستكبار أن يعمق حالة الإرتباط بالقوم والدم والعرق في حياة المسلمين خلال الفترة التاريخية التي انحسر الإسلام فيها عن حياة المسلمين، واستطاع أن يمزق المسلمين إلى قوميات متعددة عربية وفارسية وتركية وكردية، ويربطهم عبر الإسلام العظيم بالحضارات البائدة الفرعونية والأكدية والآشورية والكلدانية والساسانية، واستعان لتحقيق هذه المهمة بالتاريخ والشعر والنثر والفن والفلسفة وحتى بأجهزة التربية والتعليم والإعلام وبأسماء الشوارع والميادين.
***
واليوم حيث بدأ المسلمون يعودون إلى الإسلام من جديد ويستعيدون في ظل الإسلام كيانهم وأصالتهم وجذورهم وعمقهم، وحيث منَّ الله عليهم بانتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني (قدس سره) وقيام الدولة الإسلامية الأم في هذه الرقعة المباركة من الأرض، أقول أن أهم ما يجب علينا أن نعمقه اليوم في أحاسيس المسلمين ومشاعرهم وقلوبهم هو الإحساس بالولاء للّه ولرسوله ولأئمة المسلمين وللأمة الإسلامية والبراءة من أعدائهم من الشرق والغرب ومن أئمة الكفر وأنظمة الكفر أينما كانوا، ولا نستطيع أن نخوض المواجهة والصراع الحضاري الحتمي بين الإسلام والكفر وننتصر بإذن الله ما لم نعمق حالة الولاء والبراءة في نفوس أمتنا وما لم نبلور وحدة الولاء ضمن صيغ عملية تتجسد في وحدة الصف ووحدة الكلمة ووحدة الموقف فيما بين المسلمين في كل مكان.
وأمامنا الآن فرصة طيبة لكي نقرأ ونفكر في الولاء والبراءة من خلال تصورات وأفكار قائد الجمهورية الإسلامية سماحة آية الله السيد علي الخامنئي (حفظه الله)، فإن للولاء والبراءة معاناة وثقل وضريبة. وقائد أول جمهورية إسلامية تقوم في العالم الإسلامي اليوم بعد فترة السبات الطويلة لابد أن يكون قد تحمل الكثير من هذه المعاناة والجهد ودفع الكثير من ضريبة العمل سواء قبل قيام الدولة الإسلامية في مرحلة تكوّن الثورة أو بعدها، وعليه فإن حديث السيد الخامنئي عن الولاء والبراءة لا يكون حديثاً تنظيرياً بعيداً عن المعاناة والهموم والآلام والآمال والطموحات ومشاكل ومتاعب ذات الشوكة.
ونحن إذ نقرأ هذه الرسالة القيمة عن الولاء والبراءة لقائد الجمهورية الإسلامية، نلتقي بأفكار وآراء وتصورات تكونت في ضوء القرآن والسنة ومن خلال الجهد والمعاناة وداخل السجون والزنزانات وعلى صعيد مواجهة الكفر العالمي للإسلام وللأمة الإسلامية، وبذلك فإن هذه الرسالة سوف تشكل، إنشاء الله، عاملاً مؤثراً في بلورة مسألة الولاء والبراءة في حياتنا السياسية والحركية وجهادنا وقتالنا في الوقت الحاضر. وجزى الله تعالى فضيلة السيد المترجم خيراً حيث يسر لقراء العربية فرصة الالتقاء بأفكار وتصورات قائد الجمهورية الإسلامية عن الولاء والبراءة بصورة مباشرة؛ بهذه الصورة التي ترونها بين أيديكم. نسأل الله تعالى أن يؤيد هذه الدولة الفتية المباركة وينصرها وينصر أمامها والقائمين بها والأمة العاملة والمضحية في سبيلها، أنه سميع مجيب قريب.
1 ـ اللهم إلا ما يتعلق بعلاقة الإنسان بنفسه وأحكام هذه العلاقة، وهذه العلاقة وأحكامها تدخل في دائرة الولاء أيضاً بمعناها الشامل، ولا مجال هنا لتفصيل الكلام. - المقالة الأولى: معنى الولاية
المقالة الأولى: معنى الولاية
يدور بحثنا حول مسألة الولاية، وقليلاً ما تطرح الولاية بمعناها الذي نستنبطه من القرآن الكريم. ومن الطبيعي أن لا تكون كلمة الولاية غريبة على الأسماع الشيعية، بل أنها مأنوسة بشكل كامل بهذه الكلمة، حيث أننا نذكر الولاية مطعمة بالقدسية ومفعمة بالإحترام في دعائنا وابتهالنا إلى الله، وفي رواياتنا وأحاديثنا الفكرية العامة الرائجة. ونحن كشيعة ندين بالولاية وندعو للّه سبحانه أن يحيينا ويتوفانا عليها.
أُريد أَن أتحدث عن الولاية من أساسها وعمقها البعيد. ومن الطبيعي أَن يصل بي الحديث إلى ولاية علي بن أبي طالب، ولكن حديثي الآن في المراحل السابقة على ذلك، وما نبتغيه هو استخلاص واستنباط معنى الولاية من الآيات القرآنية، وستجدون علو هذا المعنى وجدته وتطوره، وستجدون أيضاً أن الأمة أو الجماعة التي تتبع منهجاً معيناً وتعتقد بعقيدة ما تعيش التيه والضياع ما لم تكن موالية. وفي ظلال هذا البحث ستطّلعون بصورة واضحة على السبب في أن صلاة الموالي هي الصلاة الحقيقية، وصيامه هو الصيام المطلوب، وعبادته هي العبادة التي فرضها الله. وسيسهل عليكم من خلال هذا البحث معرفة السر في أَن الأمة والمجتمع مع الولاية يكون لائقاً ومستحقاً للطف الله ورحمته وعنايته. ونلخص ما مضى بالقول بأننا سنفهم في ظل هذا البحث ما تعنيه أحاديث الولاية.
ومن هذه الأحاديث الحديث المعروف والذي أكرر بعض فقراته في مواطن مختلفة (لو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله جلَّ وعزَّ حق في ثوابه)(2). وسوف تستوعبون أبعاد هذا البحث بعد التدقيق فيه وفي نتائِجِه المستخلصة من الآيات القرآنية.
ومسألة الولاية تتصل بمسألة النبوة إتصالاً وثيقاً وتتبعها من غير أن تنفك عنها، وهي في الحقيقة خاتمة لبحث النبوة، وملحق لها، وتتمة لنتائجها.
وسوف نفهم من خلال عرضنا الحاضر أن النبوة تبقى ناقصة من غير ولاية.
ولهذا فنحن ملزمون بالبحث بصورة مختصرة عن النبوة.. وفي هذا البحث المختصر نتعرض للقضايا الكلية والعامة في مسألة النبوة، حتى نجعل هذا البحث مدخلاً لدراسة مسألة الولاية. ولا أنسى أن أقول هنا أن عرض هذه المسألة شاق وصعب صعوبة بالغة، وأشق من ذلك بيانها وعرضها كما هي؛ ذلك لرسوخ الكثير من المفاهيم والاعتقادات الواهية الهزيلة وغير المنطقية في أذهان العامة من الناس عن الولاية بدرجة لا تسمح بفهم ما تريد أن تبيّنه عن معنى الولاية المطابق مع القرآن والسنة، وستواجه عندئذ أحد اشكالين؛ إما أن تختلط عليك الصورة بما يقوله عامة الناس، وإما أن يبدو هذا المعنى غريباً حين مقارنته مع ما في أذهان الناس، ولهذا كان هذا البحث صعباً وشاقاً جداً. ولكني بعد استمداد العون من الله المتعال وبالسعي الجاد آمل أَن أُتم هذا البحث في خلال أيام قليلة إنشاء الله تعالى.
لماذا أُرسل النبي (ص) ولماذا جاء؟ من أجل أن تتكامل البشرية، وتتخلق الأمم بأخلاق الله. التكامل البشري وإيصال الناس إلى مكارم الأخلاق هو هدف الرسول (إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق). بُعث النبي لتربية الإنسان وتقويمه، وعلينا أن ننظر في الوسائل والأساليب والطرق التي يسلكها الرسول للوصول إلى تربية الناس وتقويمهم؛ هل يؤسس مدرسة، أو يطرح مذهباً فلسفياً، أو يبني صومعة ومكاناً للعبادة. النبي أسس مصنعاً(3) لإعداد الناس وتربيتهم وصناعتهم وفق المنهج الإلهي {ولتصنع على عيني}.
وكان (ص) يرجح أن يصل إلى هذا الهدف خلال عشر سنوات أو عشرين سنة أو أكثر؛ إذ لم يكن يستهدف تربية إنسان واحد أو اثنين أو ثلاثة أو عشرين فقط، وإنما كان يهدف إلى بناء مصنع يُنتج ويُعد إنساناً كاملاً يحبه الله ورسوله وبصورة تلقائية أتوماتيكية. فما هو هذا المصنع؟ إنه المجتمع والنظام الإسلامي. هنا يَظهر المنعطف الخطير والنقطة الحساسة لأن الجميع يقولون أن النبي جاء مربّياً ومعلماً يهدف تعليم الناس وتزكيتهم وتربيتهم، والكل يفهم ذلك، ولكن ما ينبغي فهمه بصورة دقيقة هو الطريق إلى هذا الهدف، هل يخلو بالأفراد واحداً واحداً ليلقي على مسمعه النداء الحنون المفعم برحمة الله ولطفه؟
والأنبياء لم يؤسسوا مكاتب ومعاهد علمية أو فلسفية لتعليم مجموعة من الرواد، ثم إرسالهم لهداية الناس في أقطار الأرض، بل إن عمل النبي أشد استحكاماً وثباتاً وعمقاً من هذا كله. فماذا يعمل النبي؟ ليس أمامه من سبيل إلا تأسيس وإنشاء ذلك المجتمع الإسلامي الذي يتولى مهمة إنتاج وإعداد الإنسان الكامل.
ماذا نعني بالمجتمع الإسلامي؟ وما هي حقيقته؟
وطبيعي أن هذه المسائل ليست من صميم بحثنا الأول، ولكنها توضح جوانبه.
المجتمع الإسلامي هو تلك الجماعة التي ترجع في حاكميتها إلى الله، فهو مصدر تشريعها وواضع قوانينها؛ فقوانين هذه الجماعة قوانين إلهية وحدود الله هي الجارية، والذي يعين القائد أو يعزله هو الله. فإذا تصورنا المجتمع على شكل هرم كما يشاء بعض علماء الاجتماع فإن الله سبحانه هو قمة الهرم، وقاعدته هي الجماعة المسلمة، والذي يوجد الجماعات والتشكيلات هو دين الله، والقرار الرباني الإلهي هو الذي يحدد وقت الصلح والسلام أو الحرب والقتال.. كما أن دين الله هو الذي يعين الروابط الاجتماعية والاقتصادية، وهو الذي يشكل الحكومة ويحدد الحقوق، وكل شيء على الاطلاق يمر من خلال دين الله وشريعته ورسالته، وعلى الجميع أن يتبعوا المنهج الذي يرسمه دين الله ورسالته.. هذا هو المجتمع الإسلامي.
وعندما جاء الرسول إلى المدينة أسس المجتمع الإسلامي، والله سبحانه هو الحاكم على هذا المجتمع الناشىء، ومن الناحية العملية والتنفيذية كان المنفذ والحاكم الفعلي هو خليفة الله ووليه وهو الرسول، فكان يضع أو ينفذ المقررات الإلهية، وكان المسؤول عن هداية الناس وقيادتهم وإدارتهم. كان كل شيء من الله سبحانه في هذا المجتمع.. فصلاة الجماعة كانت تقام وتعقبها خطبة للرسول أو نداء للقتال، لا فرق بين الإثنين؛ كان الرسول (ص) يقوم إماماً للصلاة في المسجد ثم يرتقي المنبر للموعظة والوصية بالتقوى والتربية وتزكية النفوس. وفي نفس هذا المسجد يُؤتى براية الجهاد ليضعها الرسول بيد أسامة بن زيد أو بيد قائد كفؤ آخر ثم يقول انطلقوا على اسم الله، ثم يصدر أوامره التي تنتهي إلى انتصار المسلمين على أعدائهم. وفي نفس هذا المسجد كان الرسول يقيم الحدود الإلهية ويجريها ويقضي بين الناس ويحل مشاكلهم ويرفع نزاعاتهم.
وكان المسجد هو مكان إدارة الأعمال ودراسة المسائل الاقتصادية.. تجمع الزكاة في المسجد وتوزع منه.. الدرس في المسجد والصلاة والدعاء والعبادة.. كان نشيد القتال يردد فصلاً فصلاً في المسجد، ولا تدرس أمور الثروة والاقتصاد إلا في المسجد، ولم تجد أمور الدنيا والآخرة مكاناً تُتداول فيه غير المسجد، فكلها تشكل كياناً واحداً في وعاء واحد هو بيت الله وتحت قيادة الرسول. هذا هو المجتمع الإسلامي.
إنما جاء الأنبياء لبناء مثل هذا المجتمع، والذي يدخل هذا المجتمع يخرج منه إنساناً كاملاً، وإذا لم يتكامل فهو لا يجد مجالاً يتحرك فيه غير مجال حركة هذا المجتمع، ومن أراد أن يكون منسجماً مع مجتمع الرسول فإن بإمكانه ذلك، بينما لا نجد ذلك في المجتمعات المادية وغير الإلهية؛ فإن الإنسان في المجتمع غير الإسلامي إذا أراد أن يكون فرداً صالحاً فهو لا يستطيع، يريد أن يكون من أهل الإيمان والتقوى لكنه لا يستطيع، لا يريد أن يأخذ الربا ولا يتعاطاه لكنه يجد ذلك صعباً أو غير ميسور، تريد المرأة أن لا تخرج عن حدود الشريعة الإسلامية فتواجه من المجتمع الضغوط التي تدفعها للسير في الاتجاه المعاكس.
وكل الأجواء والدوافع تبعد الإنسان عن ذكر الله؛ فالصور والمعارض، والذهاب والإياب، والمعاملات، والمحاورات تبعد الناس جميعاً عن ذكر الله وتجعل ذكر الله غريباً على النفس الإنسانية. أما في المجتمع الإسلامي فالمسألة معكوسة؛ فإن السوق والمسجد ودوائر الدولة والأصدقاء والأقارب والآباء والشباب وكل من في المجتمع وكل ما فيه، يدعو الإنسان إلى ذكر الله ويجتذبه إلى قدسه ويجعله منسجماً مع ما يريده الله ويوثق الروابط الإنسانية بالله.
كل شيء في المجتمع الإسلامي يبعث على عبودية الله، وهذا بدوره يعد الإنسان العابد للّه عبادة حقيقة، ويبعده عن العبودية لغير الله. ولو استدامت حياة المجتمع الإسلامي الذي أسسه الرسول على حالته الأولى مدة خمسين عاماً، ولو كانت القيادة في ذلك المجتمع للرسول، أو لعلي بن أبي طالب الذي عينه الرسول قائداً للناس من بعده، فإن جميع المنافقين يتحولون إلى مؤمنين واقعيين في هذه الخمسين سنة، أي أن أولئك الذين كانوا ضعاف الإيمان وفي منتصف الطريق والذين يمزجون الحق بالباطل وهم يوماً مع هذا ويوماً مع ذاك، إن هؤلاء يتحولون إلى مؤمنين مخلصين لو كانت القيادة نبوية ثم علوية؛ فالقلوب المنافقة تتحول إلى قلوب ملؤها الإيمان والهدى في مجتمع كالمجتمع الإسلامي الأول لو استمرت به الحياة مدة أطول مما كان ولو كان عمر ذلك المجتمع طويلاً.
فإن أولئك الذين لم تعرف أرواحهم المعاني البعيدة للإيمان سيعرفون الله. والإيمان معرفة رفيعة.. هذا هو مقتضى طبيعة المجتمع الإسلامي، وهذا هو مبتغى الأنبياء وهدفهم، وهذا المجتمع هو المصنع الذي يعد وينتج الإنسان المتكامل، وتخرج من هذا المجتمع مجاميع تعمل بالإسلام في سطحها الظاهر وتؤمن بالإسلام في قلبها وأعماقها وواقعها.
ولهذا الهدف أُرسل النبي، ولمثل هذا الهدف كان يعمل ويدعو، وقد تقدم أن هدفنا البحث عن الولاية من أسسها وأعماقها. عندما جاء النبي برسالته وطرح فكره الإسلامي، وبدأ دعوته، فهل يستطيع إدارة المجتمع لوحده؟ ألا تحتاج الجماعة وتشكيلاتها إلى طائفة من الناس تتولى إدارة الأمور؟ ألا تحتاج الجماعة إلى جنود يدافعون عنها، ويردون كيد الأعداء؟ أليس من الضروري وجود مجموعة من المسلمين تعين النبي في تبليغ رسالته ونشر دعوته؟ طبيعي أن ذلك لازم وضروري، ولابد أن تكون هذه السبل طبيعية غير حاصلة على أساس الإعجاز، والأنبياء يسلكون الطرق الطبيعية في أكثر أعمالهم. جاء النبي ليبني المجتمع المسلم (أي مدرسة التربية)، وهو لإنجاز هذا الهدف يحتاج إلى جماعة متراصة متحدة يشد بعضها بعضاً تؤمن بهذه المدرسة من أعماق قلبها، وتسير بخطىً ثابتة نحو تحقيق هدفها.
كان ضرورياً للنبي من أجل تحقيق هدفه وجود مثل هذه الجماعة، ولهذا كان فاتحة أعماله إيجاد مثل هذه الجماعة المتراصة عن طريق تلاوة الآيات القرآنية والمواعظ الحسنة {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}(4)، حيث كان القرآن ومواعظ النبي التي تصدر من أعماق قلبه هما السبيل لإنشاء ذلك المجتمع، وكانت كلمات الرسول تصيب هدفها وتدخل أعماق القلوب لتجتذبها اجتذاباً إلى طريق الله ورسالته. كانت بداية أعمال الرسول تجميع المسلمين ليشكلوا [الجماعة الأولى] (والصف الأول) والجبهة التي تقابل جبهة الكفر والشرك. ولو سألنا عن نواة هذه الجبهة، لوجدنا أنها تتألف من المسلمين الثابتين أولي الاعتقاد الراسخ والقلوب القوية من الذين {لا تأخذهم في الله لومة لائم}(5).
وكان على المسلمين في ذلك الحين أن يكونوا كالفولاذ إذا أرادوا لجبهتهم أن تبقى قوية مستقلة عن الجاهلية، وهي جبهة حديثة النشوء، غضة العود، قليلة العدد، مع كثرة المشاكل والضغوط التي يخلقها المجتمع الجاهلي.. كان عليهم الارتباط القوي، والاتصال المحكم، حتى لا يستطيع أي عامل النفوذ إلى جبهتهم ليفرق بينهم.. كانوا أشد الحاجة إلى ما يسميه المثقفون هذه الأيام بالانضباط الحزبي الحديدي؛ عليهم الاتصال أكثر ما يستطيعون والتفاعل بأقوى ما يقدرون، وعليهم الابتعاد ما استطاعوا عن الصفوف والتيارات المضادة لأنهم يشكلون الأقلية، وفكر الأقلية إذا حوصر وضيق عليه فليس له أي قيمة، فإنه كعمل الأقلية وشخصيتها قد يضيع في المسالك العملية المتعددة التي ترجع إلى الجماعة المخالفة التي تشكل الأكثرية، وبهذا تسحق شخصية الأقلية وعملها وفكرها ضمن شخصية الأكثرية وتوجهاتها.
إذن لابد لتلك الجماعة من الانسجام والاتصال والوحدة والانفصال عن سائر الجبهات الأخرى من أجل أن تبقى هذه الجماعة متشكلة ومؤلفة، وأساساً لبناء المجتمع الإسلامي الكبير القائم على أسس القوة والمتانة والثبات؛ ذلك المجتمع الذي تبنيه أيادي هذه الجماعة الصغيرة.
وحال هذه الجماعة عندما تريد بناء مجتمعها الكبير يشبه حال أولئك الذين يتسلقون الجبال فهم يطمحون طي المسافة الملتوية المتعرجة، ويحمل كلٌ منهم عصا، وطريقهم الجبلي مغطى بالثلوج كثير الارتفاعات الشاهقة والانخفاضات السحيقة؛ فمن أجل أن يصل هؤلاء إلى قمة الجبل لابد أن يلتزموا بالوصايا التي تقدم لهم بشأن تسلق الجبال، التصقوا ببعضكم، شدوا الظهور سوية، لا تسيروا متفرقين فإن من يبقى وحده قد ينزلق ويسقط.
يوصي هؤلاء بالالتحام الشديد والتفاعل المشترك، ويقال لهم أيضاً لا تثقلوا ظهوركم بالأحمال الثقيلة، ولا تنظروا إلى الأطراف المحيطة بكم، بل عليكم تركيز نظراتكم على طريقكم، وركزوا حواسكم على عملكم، وتشد أيدي هؤلاء وظهورهم بإحكام حتى إذا سقط واحد منهم أو اثنان كان بإمكان الباقين إنقاذه وإرجاعه إلى حالته المتوازنة. هذه الحالة الشديدة الاتصال والتفاعل تعتبر مثالاً واضحاً لحالة المسلمين الأوائل انسجاماً واتصالاً وتفاعلاً.
هل لهذه الحالة المتفاعلة المتصلة اسم خاص في القرآن الكريم وفي الأحاديث الشريفة، أم ليس لها اسم؟
وهل تقبل الانفصال والذوبان تلك العلاقة الصميمية بين المسلمين الأوائل الذين شكلوا الجبهة الإسلامية الأولى؟ ألم تكن هذه الجبهة منفصلة بنحو كامل عن سائر الجبهات المضادة فكراً وسلوكاً، مبدأ وغاية، مع أنها شديدة الالتحام والتفاعل داخل صفوف المسلمين؛ فالأيادي متشابكة ومتلاصقة والقلوب متوحدة متفاعلة، والأجساد متراصة والمسلمين يشد بعضهم بعضاً.
هل لهذه العلاقة اسم خاص في القرآن الكريم؟ نعم هناك اسم لهذه العلاقة الالتحامية، ولهذه الجبهة المتميزة والتي شكلتها مجموعة من الأفراد ذوي الفكر الواحد والطموح الواحد والهدف الواحد والواضعين خطاهم في طريق واحد والمتحركين من أجل غاية واحدة والذين يعتقدون بعقيدة واحدة، هؤلاء الذين كانوا يلتحمون ويتآزرون فيما بينهم بقوة تشتد يوماً بعد يوم، وكانوا متمايزين عن باقي الجبهات والتيارات والرؤى الفكرية بصورة واضحة على كل المستويات الفكرية والسلوكية، وهم يحافظون على تميزهم واستقلالهم هذا، ولماذا كل ذلك؟
لأنهم لا يريدون الذوبان والتحلل في الآخرين. والقرآن الكريم يصطلح على هذه العلاقة بالولاية. كان الرسول (ص) هو الذي أوجد تلك الجماعة المتفاعلة المنسجمة؛ فآخاهم ووحدهم وحولهم إلى جسد واحد. ومن هذا الكيان المنسجم تشكلت الأمة الإسلامية، ومن هذه الجماعة تولد المجتمع الإسلامي؛ وقد فصلهم الرسول وأبعدهم عن أعدائهم ومخالفيهم ومعانديهم كما سنقرأ ذلك في الآيات القرآنية.
وقد أوجد الرسول حاجزاً بين المسلمين وبين سائر الجبهات، ومنعهم من تكوين أي علاقة مع جبهات اليهود والنصارى والمشركين، وكان يسعى ما أمكنه السعي إلى أن يجعل الصفوف الإسلامية متصلة مملوءة متوحدة متفاعلة منسجمة، لأنهم إن لم يكونوا على تلك الحالة وإذا لم يكن بعضهم يوالي بعضاً، لا يستطيعون حمل الأمانة الملقاة على عواتقهم وسوف يعجزون عن النهوض بها وإيصالها إلى غايتها المنشودة ونهايتها المطلوبة. وعندما يتحول المجتمع الإسلامي إلى أمة عظيمة تبقى ضرورة الولاية قائمة.
وسنأتي بالشرح على ذلك.. ومن أجل أن نصل إلى معرفة إجمالية للولاية عند الشيعة، علينا التدقيق فيما تقدم من أن المجتمع الصغير يلزمه الالتحام والارتباط القوي وهو يعيش في دنيا يخيم عليها الظلام وتحكمها الجاهلية؛ لابد له من ذلك الالتحام والانسجام من أجل البقاء والديمومة، فلن يكون له وجود وحياة إذا لم يكن متصلاً منسجماً متفاعلاً، ومثال ذلك المسلمون الأوائل الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وكانوا يعيشون وسط المجتمع الجاهلي، ومثال آخر المجتمع الشيعي الثائر الصغير في عصور الخلافة الأموية والعباسية والتي كانت تنصب الكيد والعداء للإسلام.. هل كان من اليسير بقاء تلك الجماعة المؤمنة، مع شدة الحملات التشويهية، وحملات الرعب والتجويع والإعتقالات والسجن والقتل؟ ما هو هدف كل هذه الحملات؟ ألم تكن تهدف إلى تذويب وسحق ذلك الجمع المنسجم فكراً وسلوكاً، مع ملاحظة أن هذا التجمع كان يعارض بشكل واضح وصريح الاتجاهات الحاكمة آنذاك؟
أما كيف قدر لهذا الجمع أن يبقى؟! ذلك لوجود العلاقة الصميمية والمتفاعلة بشكل مدهش والتي يسميها القرآن بالولاية، وتحت ظلال هذه الولاية أمكن بقاء الشيعة كمدرسة تواجه المدارس المعارضة. تصوروا نهراً عظيماً واسعاً تصب فيه روافد مختلفة منتشرة الأطراف هنا وهناك، والمياه تجري سريعاً، لن يكون سطح الماء مستوياً بل ستكون هناك حفر كثيرة. مع اختلاط المياه ببعضها وبتيارات الماء التي تصب من الروافد ومن كل الاتجاهات يحدث تفاعل شديد بين مجموع هذه المياه الجارية، سوف يطغى بعضها على بعض والماء جارٍ من غير توقف مما يبعث على أن ينتشر الطين والترسبات هنا وهناك.
ماذا تقولون لو شاهدتم مجرىً نظيفاً زلالاً وفراتاً عذباً داخل ذلك النهر العظيم وهو محافظ على نقاءه وتميزه بصورة تثير الدهشة والإعجاب؟ لم يمسسه سوء من كل الأطراف المحيطة به، لم تختلط أو تمتزج مياهه بمياه النهر الكبير. فما تغير لونه مطلقاً، ولم يتأثر مذاقه العذب بمذاق ماء النهر الأجاج، حلو الطعم عذبه، أبيض اللون، شفاف بلوري، صاف خالص نقي، يسير محافظاً على صفائه وخلوصه في مجراه قُدُماً. شبّهوا العالم الإسلامي في أيام الأمويين والعباسيين بهذا النهر، حيث كانت التيارات والمدارس الفكرية والسياسية المختلفة في صراع..
انظروا إلى هذا الصراع من أوله إلى آخره، تجدون مجرى التشيع كالخيط الرفيع من الماء داخل ذلك الطوفان المهيب؛ فهو شيء وكأنه لا شيء، يرى صغيراً وكأنه لا يرى، لكنه كان محافظاً على وجوده، لم يصبه كدر المياه المختلفة، ولم يتغير طعمه أو يفقد صفائه ونقاوته، ولم تستطع التأثير فيه مذاقات المياه المختلفة أو رائحتها أو ألوانها، حافظ على بقائه مستقلاً وسلك مسيره وطريقه. ما هو ذلك العامل الذي حافظ على وجوده ونقائه واستمراره؟ إنه وجود الولي، الذي كان يوصي بإنشاء علاقة الولاية بين أتباعه. وكان يربط بعضهم ببعض، ويجعل بعضهم رحيماً ببعض، وكان يذيع هذه العلاقة ويشجع عليها ويحفظها قوية بين أفراد جبهته، هذا بعد من أبعاد الولاية عند الشيعة، وهناك أبعاد أخرى سوف نحققها ونحللها.
فليس كل ما تعنيه الولاية هو هذا، بل إن هذا جانب من جوانبها وبعد من أبعادها. وعلى هذا نعرف أن الولاية هي الاتصال والترابط والانسجام بين الأفراد. والقرآن يعتبر المؤمنين أولياء فيما بينهم، والذين آمنوا وأخلصوا يشكلون في منطق القرآن جبهة واحدة. وورد مصطلح المؤمن في رواياتنا تعبيراً عن الشيعي، والإيمان بناء على هذا المصطلح، هو الاعتقاد بالفكر الإسلامي الذي يعتمد على أساس الولاية، والإيمان هو الرؤية الإسلامية من خلال زاوية النظر هذه.
ونحن نرى أن الإنسجام كان قوياً وشديداً في زمان الأئمة (ع) وكانت الأخوة هي الظاهرة البارزة، كان ذلك من أجل المحافظة على التيار الإسلامي حياً صافياً متدفقاً على مر التاريخ. ولو لم تكن العلاقة بهذا الشكل القوي فما الذي يقع؟
سوف يفنى الإسلام والمسلمون ألف مرة وستذوب أفكارهم وتصادر، كما حصل ذلك لبعض الفرق الأخرى حيث فقدوا صبغتهم وذابوا وانتهوا.. على كل حال هذا بعد من أبعاد الولاية.
ونتعرض الآن للبعد الآخر الذي يتلو سابقه في الأهمية وهو بعد ولاية ولي الله؛ فقد عرفنا معنى ولاية الشيعة، فما الذي نريده بولاية ولي الله؟ ولاية علي بن أبي طالب ماذا تعني؟ ماذا نعني بولاية الإمام الصادق(ع)؟ ويجب علينا جميعاً أن نوالي الأئمة (ع)، فما نعني بهذه الولاية؟
هناك من يتخيل أن ولاية الأئمة لا تعني أكثر من محبتهم والانشداد القلبي بهم، وهذا وهم كبير؛ فليست الولاية محبة فقط، وهل يوجد في العالم الإسلامي من لا يحب الأئمة المعصومين وأهل بيت النبي وذوي قرباه؟! فهل الكل موالون؟! وهل هناك من ينصب العداء للأئمة وأهل البيت؟ وهل كان كل أولئك الذين قاتلوا الأئمة يعادونهم؟ كان الكثير منهم يحب الأئمة ولكن حب الدنيا جعلهم يقاتلونهم، وكان الكثير منهم يعرف مقام الأئمة وسمو مكانتهم وفضائلهم.
فعندما بلغ المنصور خبر وفاة الإمام الصادق(ع) أخذ يبكي. هل تتصورون أن المنصور كان يتظاهر بالبكاء؟ أمام من يتظاهر؟ أمام أتباعه والسائرين في ركابه؟ أمام ربيع الحاجب؟ كلا، لم يكن بكاؤه تظاهراً، وإنما كان محترق القلب ومتحسراً لوفاة الإمام الصادق. لكن من هو قاتله؟ المنصور هو الذي أمر بدس السم للإمام.. وعندما بلغه خبر التنفيذ تألم وتحسر وتحطم قلبه، فهل يكون المنصور من أهل الولاية للإمام الصادق لأنه تألم لوفاته؟ وقد انتهى هذا الفهم للولاية إلى نتيجة خاطئة شأن المأمون حيث تصور الكثير من أن المأمون كان شيعياً، فمن هو الشيعي في منطق هؤلاء؟ هل أن الشيعي هو من يعرف أن الحق مع الإمام الرضا (ع) ويكفيه هذا؟! على ضوء هذا الفهم ليس المأمون فقط شيعياً بل أبوه هارون الرشيد شيعي أيضاً، وكذلك المنصور ومعاوية ويزيد، بل هم من ألصق الناس بالشيعة حينئذ.
وأولئك الذين نازعوا علياً وخاصموه وحاربوه، هل كانوا يكرهون علياً؟ كلا، إن أغلبهم كان يحب علياً، فهل نجعلهم شيعة لعلي ومن أهل ولايته وولائه؟ كلا، إن الولاية أسمى من هذا المعنى وأرحب..
وحين نفهم حقيقة الولاية لعلي بن أبي طالب وللأئمة (ع)، نرجع إلى أنفسنا لنرى هل تنطوي جوانبها على هذا الولاء أم لا ؟
وإذا لم نجد الولاء سألنا الله سبحانه أن يرزقنا الولاء للأئمة، وبذلنا الجهد في سبيل الحصول على هذا الولاء. وحين ننتهي إلى بيان المعنى الحقيقي للولاية سوف يتبين الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون في تفسيرهم للولاية، وقد اعتاد الشيعة في يوم (18 ذو الحجة) وهو عيد الغدير أن يتداولوا هذا الدعاء "الحمد للّه الذي جعلنا من المتمسكين بولاية علي بن أبي طالب (ع)". وكثيراً ما قلت لأصدقائي وأحبتي لا تقولوا الحمد للّه الذي جعلنا فإني أخشى أن يكن هذا كذباً، ولكن قولوا اللهم اجعلنا من المتمسكين بولاية علي بن أبي طالب (ع)، إن علينا أن نلاحظ هل أننا من المتمسكين بالولاية أم لا؟ وسنصل إلى دراسة هذه الناحية إنشاء الله.
وهذا بعد آخر للولاية، وخلاصة ما قلته أن ولاية الأمة المسلمة وولاية تلك الجبهة السائرة والمجاهدة في سبيل الله تعني العلاقة المتفاعلة والمنسجمة والمتصلة بين أفراد هذه الأمة وهذه الجبهة، والتي تظهر في العلاقات القلبية المشتركة والمتلائمة وفي الاستقلالية الكاملة عن باقي الجبهات التي تحمل فكراً آخر وتسلك سلوكاً مضاداً وتعمل في سبيل إلغاء هذه الأمة ومصادرة وجودها.
وآيات سورة الممتحنة شاهد صدق على هذه الحقيقة، وأنا أتصور أنها إنما سميت بهذا الاسم لتناسب هذا المعنى، ولعلها إنما سميت باسم الولاية من أجل ذلك.
{بسم الله الرحمن الرحيم* يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} الآية تنهى المؤمنين عن اتخاذ غيرهم أولياء وأحبة وأعضاء في مجتمع المؤمنين، وليس الأمر كما ترجمه بعضهم إلى الفارسية بمعنى المحبة فقط؛ فإن هذا ليس هو المعنى الكامل لكلمة الأولياء، وليست المسألة مقتصرة على المودة والمحبة بل هي أرفع من ذلك وأعمق؛ فالآية تريد أن تقول لا تعتبروا أولئك منكم ولا تحسبوهم من جبهتكم وصفكم وأعضاء من مجتمعكم وأمتكم، ولا تجعلوا أنفسكم منهم ومن جبهتهم حتى على مستوى الافتراض الذهني والتقدير والتصور فضلاً عن الاعتقاد والجزم، لا تجعلوا عدو الله وعَدوّكم إلى جنبكم ومعكم، بل كونوا صفاً يقابله، وقفوا في وجهه وعارضوه. {تلقون إليهم بالمودة} لا تعتبروهم من جبهتكم ومن صفكم حتى تعلنون لهم عن مودتكم لهم، {وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} فإن كنتم صادقي الإيمان والجهاد فما لكم من حق في اتخاذ عدوي وعدوكم أولياء واعتبارهم من صفكم وأمتكم.
والآيات اللاحقة تشير إلى الكفار الذين يعنيهم الله سبحانه لأنها تذكر أقسام الكفار {تسرّون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضلَّ سواء السبيلي}.
ولابد أن نذكر أن سبب نزول هذه الآيات هو ما فعله حاطب بن أبي بلتعة، حيث كان رجلاً ضعيف الإيمان، وعندما عزم الرسول على الخروج لمقاتلة كفار قريش وجهادهم أخذ حاطب يحدث نفسه (لو لم ينتصر الرسول في هذا الخروج وهذه المعركة فسوف تلحق قريش الضرر بأقاربي الذين يسكنون بين ظهرانيهم). أراد حاطب وهو من جند الرسول أن يحتال لإنقاذ أقاربه، فقال لنفسه نحن الآن قرب النبي ونجاهد معه وسيصيبنا أجر المجاهدين وثوابهم، فعليَّ أن أحتاط للأمر بكتابة رسالة إلى الكفار أعلمهم فيها عن مودتي ووفائي لهم ولا ضرر في ذلك، إذ عندما تتلاقى السيوف في ميدان القتال لن أعمل بمفاد هذه الرسالة، ولا مانع من أن اخدع الكفار برسالتي ما دامت الحرب لم تقم، وسأحصل على الدنيا وعلى ثواب الله(6). وسأكون مصداقاً لتلك القصة المعروفة التي تقول أنه تنازع عمدة البلد ومختارها مع أحد أكابر هذه البلدة، فسألا أحدهم مع من ترى الحق، ومن هو قائله؟ فقال: كل منهما يقول الحق، فكان مع الجبهتين على وفاق تام. كتب حاطب رسالة إلى رؤوس قريش حتى يطلعهم على علاقته الودية معهم وعلى صداقته الحميمة والرحيمة لهم، ودفع الرسالة لأمرأة لتوصلها إلى مكة، وأطلع الوحي الرسول على الحادثة، فأرسل خلف المرأة أمير المؤمنين وأرسل معه واحداً أو اثنين من المسلمين يقبضوا على المرأة، وجد عليٌّ المرأة وهددها، فأخرجت الرسالة من ضفيرتها. سأل النبي (ص) حاطباً: لم فعلت هذا؟ ولم كشفت للعدو عن أسرارنا العسكرية والقتالية؟. قال: يا رسول الله إن لي رحماً وعشيرة في مكة، وخفت عليهم أذى قريش وتضييقهم، فأردت أن أجلب لينهم وعطفهم، فكتبت لهم هذه الرسالة. وتجيب الآية الكريمة: لا تخطئوا فإن هؤلاء لن يلينوا لكم، ولن تقترب قلوبهم معكم لأنهم يشكلون جبهة فكرية مضادة لكم، وهم يعلمون أن دينكم وإيمانكم سوف يستأصلهم ويلغي وجودهم، وقد وضعوا كل همهم للقضاء على دينكم وإيمانكم، فهيهات أن يكونوا معكم رحماء أو يكونوا لكم أصدقاء. تقول الآية {أن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء} فيا حاطب بن أبي بلتعة، لا تتصورنَّ أن هؤلاء سيكونوا حافظين لك ولرحمك في غدٍ، لأنك أعنتهم اليوم. كلا، فإنك إن تقربت إليهم وتنازلت عن شيء بسيط، فإنهم ينتظرون تنازلاً أكبر، وسيتسلطون عليك أكثر ويمدون إليك يد العداوة والظلم {أن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} سيضغطون عليكم أكثر، ويذلوكم، ويسلبوكم شخصيتكم وعزتكم وكرامتكم، ولن ينظروا إليكم نظرة احترام، فلا تحسبوا أنهم ينفعونكم، وودوا لو تكفرون. وحين يتسلطون عليكم سوف يسلبوكم تلك العلقة الباقية من الإيمان، فهل تحبون أن تكفروا؟ لا تتصوروا ولا تظنوا أن هؤلاء يتركونكم على دينكم بكل حرية وراحة أو يسمحوا لكم بالتنسك والعمل على ضوء رسالتكم ودينكم.
بعد هذا يأتي دور البيان القاطع الذي يوجهه القرآن بشأن اقارب حاطب وكل من شاكلهم في التاريخ، فهو يقول: أنتم على استعداد وإهبة للتنازل عن دين الله ورسالته من أجل قومكم وأقاربكم وأرحامكم وأولادكم فتظهرون لأعداء الله محبتكم ومودتكم، فأي منفعة سوف تجنونها من أولادكم وأرحامكم؟! وكم سينفعكم أولئك الذين تسالمون قريش من أجلهم؟! هل سينجوكم من عذاب الله؟!
وهذا حاطب الجاهل كان على وفاق مع قريش والكفار وأعداء الرسول من أجل أن لا يلحق بأرحامه ضرر منهم، كم هي منفعة هؤلاء الأولاد والأرحام حتى يتسبب الإنسان من أجلهم في سخط الله عليه؟ {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم} {يوم القيامة يفصل بينكم}. نستطيع أن نقرأها منفصلة عما سبقها، ويكون معناها أن الله يفرق بينكم فلن ينفع أحدكم الآخر، ونستطيع أيضاً قرائتها بهذا الشكل {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة} ثم {يفصل بينكم} ويكون مفادها أن الله يفرق بينكم يوم القيامة.
وهذه الفقرة من الآية الكريمة لها نظير في القرآن الكريم وهو قوله تعالى في سورة عبس {يوم يفر المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه}(7). فهذا الطفل الذي تتحمل كل غم وهم من أجل راحته سوف يفر منك، وكل فرد سوف يفر من سائر المخلوقات، فكل يفر من الآخر، إذ ليس لديه وقت يسأل فيه عن حالهم، {لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه} وليسمع منطق القرآن من يضحي بسعادة دنياه وآخرته من أجل راحة أولاده وسعادتهم ويتحمل من أجل ذلك أنواع البلاء والشقاء ويجعل آخرته وراءه ظهرياً، ليسمع آيات القرآن لعله يخشع ويلين {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم، يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير* قد كانت لكم أسوة حسنة في ابراهيم والذين معه}. هذا المقطع من الآيات هو القمة في السياق القرآني، أيها المؤمنون انظروا ما فعله ابراهيم والذين معه فاجعلوهم لكم أسوة وتابعوهم في عملهم، فما الذي فعله أولئك؟ لقد قالوا لقومهم الضالين وللطاغوت وللآلهة المزيفة {نحن براء منكم} لقد كفرنا بكم، ونحن على جفوة معكم، ويفصل بيننا وبينكم العداء والبغض. نعم هناك طريق للوفاق معكم {حتى تؤمنوا بالله وحده} فإذا أعتنقتم أفكارنا فنحن معكم ولكم، فتعالوا إلى الإيمان بعقيدتنا. القرآن يأمر المسلمين أمراً صريحاً بالنهج على طريقة ابراهيم {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلاّ قول إبراهيم لأبيه}.
كان هناك مورد مستثنى، إذ لم يقطع إبراهيم علاقته بكل الكافرين جميعاً؛ حيث قال لعمه {لأستغفرن لك ربي وما أملك لك من الله من شيء} فلا تتصورن انك ستدخل الجنة بشفاعة ابنك المطيع لله سبحانه. كلا، فأنا لا أستطيع أن أدخلك الجنة، ولكني سأتوجه بالدعاء إلى الله سبحانه من أجل أن يغفر لك ذنوبك ويجعلك من المؤمنين {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا وأغفر لنا، ربنا إنك أنت العزيز الحكيم}. هذا دعاء ابراهيم، ثم يقول القرآن الكريم {لقد كان فيهم لكم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد} ومن يكون على وفاق مع أعدائه فسوف يفقد عزته، ويذل شخصيته، ويتنازل عن كرامته، ولن يضر الله شيئاً، ولتحفظوا ما قاله ابراهيم، ولتتذكرونه دائماً، فإنه والذين معه قالوا لأعدائهم الكفار والمنحرفين عن رسالتهم {إنا براء منكم} وبهذه الطريقة كان تعامل الإمام السجاد والذين اتبعوه مع المنحرفين في زمانهم؛ فقد ورد في كتاب بحار الأنوار قصة حواريّ الإمام السجاد، يحيى بن أم طويل، الذي دخل المدينة المنورة ووقف مواجهاً أهلها الذين يتظاهرون بأنهم أتباع آل محمد وأوليائهم؛ أولئك الذين عاش بين ظهرانيهم الإمام الحسن والحسين طول عشرين سنة، وما كانوا أتباعاً لبني أمية ولا من محبيهم، لكنهم كانوا هيابين جبناء خيمت عليهم ظلال الخوف من واقعة الطف وكربلاء، وكان نتيجة الرعب الذي أفشاه بنو أمية أن تخلفوا عن أهل البيت وتركوهم منفردين، وكانت عقيدتهم سليمة، مع ذلك وقف يحيى بن أم طويل يوجه هؤلاء وقرأ عليهم {كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً} وهو نفس كلام إبراهيم والذين معه مع المشركين والمنحرفين والضالين. فالولاية هي الولاية كما تلاحظون، وإبراهيم كان على الولاية، وشيعة الإمام السجاد كانوا على الولاية، فهم على انسجام فيما بينهم، وهم على جفاء وبينونة مع عدوهم، ويخرج عن الولاية للإمام السجاد(ع) من دفعه الخوف أو الطمع إلى الانضواء في صفوف جبهة العدو.
ولهذا يقول يحيى تلميذ الإمام السجاد(ع) لهذا وأمثاله (كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً).
ويحيى بن أم طويل تلميذ الإمام السجاد ومن أصحابه البررة المخلصين، وكان مصير هذا الرجل الصالح أن أخذه الحجاج وقطع يده اليمنى ثم اليسرى ثم قطع رجله اليمنى فاليسرى، ولما أراد أن يتكلم بالحق قطع لسانه حتى مات (رحمة الله عليه) وكان دمه سبباً لديمومة حياة التشيع، وقد بني بدمه وشهادته أسس التشيع الشامخة الرصينة بعد الإمام السجاد.
خلاصة المقالة الأولى
الرؤية الإسلامية الجديدة التي بلغها الرسول عن ربه سبحانه وتعالى، تعطي للحياة معنى الجدية، فهي رؤية متميزة، لا تستطيع تحقيق أهدافها في بناء هذه الحياة جديدة ما لم تظهر بشكل عملي وفعلي متمثلة في فكر المؤمنين بها، وفي وجدانهم، وفي عملهم وسلوكهم. والمؤمنون هم المجموعة المنسجمة المتفاعلة من الناس. وهذه المجموعة تشكل جبهة قوية غير قابلة للنفوذ والاختراق من قبل الأعداء. ويلزم هذه الجماعة أن تتوحد وترص صفوفها وتملأ ثغراتها وتصمد في طريقها حتى لا تذوب في التيارات والمدارس الفكرية النظرية والعملية المعارضة، وهذا يستلزم بدوره الابتعاد عن كل ما يحدث الخلل والضعف والوهن في هذه المجموعة ويجعلها عرضة لتأثير الأفكار المعارضة، ويلزمها كذلك عند الضرورات قطع العلاقات العادية أو تحديدها مع أولئك المعارضين.
ويطلق القرآن الكريم كلمة التولي والموالاة والولاية على هذا التوحد والانسجام والتراص في جبهة واحدة فكرية وعملية. وهذا التجمع المنسجم الموحد هو حجر الزاوية في المجتمع الإسلامي وهو الذي يشكل أسس بناء الأمة الإسلامية، ومن أجل أن تحفظ الأمة الإسلامية العظيمة وينشأ المجتمع الإسلامي الكبير لابد من حفظ الوحدة والانسجام ولابد من الحذر من نفوذ الأعداء واختراقهم لحصون هذه الأمة، وليس من سبيل لحفظ الوحدة غير سبيل الولاية والولاء، والأمور الدقيقة التي ترتبط بالولاية القرآنية والتي نشير إليها مستقبلاً إنشاء الله لابد من استنتاجها من آيات قرآنية متعددة {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة}.
{وقد كفروا بما جاءكم من الحق} (فكيف تتخذونهم أولياء).
{يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} (وقد اتخذوكم جبهة مضادة لهم).
{إن كنتم خرجتهم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} (فعليكم مجانبة أولئك).
{تسرّون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما اخفيتم وما أعلنتم}
{ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السبيل} (من يتخذ الكافرين أولياء)
{إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء}
{ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء}
{وودوا لو تكفرون}
{لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم}
{يوم القيامة يفصل بينكم}
{والله بما تعملون بصير}
{قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم}
{وقد بدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً}
{حتى تؤمنوا بالله وحده}.
سورة الممتحنة 1 ـ 5.
أسئلة حول المقالة الأولى
1 ـ ما هو نوع العلاقة بين الولاية والنبوة؟
2 ـ على ماذا اعتمد الرسول في تربية الإنسان؟
3 ـ المدرسة التربوية الإسلامية، ما هي ميزاتها؟
4 ـ ماذا تعني الولاية حسب الفهم الابتدائي؟
5 ـ ماذا تعني ولاية الشيعة فيما بينهم؟
6 ـ ماذا تعني الولاية لولي الله؟
7 ـ ما هي الأوامر المستفادة من سورة الممتحنة والموجهة للمؤمنين؟
8 ـ كيف كان إبراهيم وأتباعه نموذجاً للمؤمنين، وكيف يظهر هذا الانموذج في حياة المؤمنين هذه الأيام؟
9 ـ ماذا قال يحيى بن أم طويل في المسجد؟ ولمن نقول هذا الكلام هذه الأيام؟
2 ـ أصول الكافي، باب دعائم الإسلام، الحديث الخامس.
3 ـ ورد لفظ الصنع تعبيراً عن عملية تربية وإعداد الإنسان في القرآن الكريم في قوله تعالى {ولتصنع على عيني} سورة طه،
الآية: 39.
4 ـ سورة النحل، الآية: 125.
5 ـ نهج البلاغة، الخطبة القاصعة.
6 ـ مثل فارسي سائر "هم خدا را داشت باشيم وهم خرما".
7 ـ مورة عبس، الآيات: 34 ـ 37.
- المقالة الثانية: العلاقة المهيمنة على الأمة الإسلامية
المقالة الثانية: العلاقة المهيمنة على الأمة الإسلامية
الجماعة التي تشكل الأمة الإسلامية، تحكمها الشريعة الإلهية والقانون الرباني، وتنفذ كل ذلك بقوة تنفيذ إلهية، ويهيمن الفكر الإسلامي على كل وجودها. إذا أرادت هذه الجماعة الوصول إلى المعنى الواقعي للولاية كما أوضحها القرآن وكما تقدم عرضها في المقالة الأولى، فلابد من تأكيد جهتين:
أ ـ الجهة الأولى: العلاقات الداخلية الحاكمة في المجتمع الإسلامي.
الجهة الثانية: العلاقات الخارجية والروابط بين العالم الإسلامي وبين الأمم غير المسلمة. فيما يعود إلى العلاقات الداخلية نرى أنه لا مجال للفرقة والتشتت، والذي يسود داخل المجتمع الإسلامي هو الانسجام والتفاعل والعلاقات الصميمية، ذلك أن الولاية بمعناها القرآني تستلزم ذلك وتعني به. إذن أفراد المجتمع الإسلامي أخوة منسجمون، صفوفهم متحدة، لا يسمح لها بالتفرق والتشرذم، وإذا حدث قتال أو خصومة أو نزاع بين طائفتين أو فردين مسلمين فإن القرآن يأمر المسلمين جميعاً بأن يبذلوا كل جهودهم من أجل إيقاف النزاع ورفع التخاصم، وعليهم السعي للصلح بين المتنازعين والموائمة بينهما، وإذا أبت إحدى الطائفتين الصلح والسلام واختارته الأخرى، أو كان أحد الطرفين محقاً والآخر مبطلاً لا يخضع للحق فإن على المسلمين جميعاً في هذه الحالة أن يقوموا يداً واحدة بوجه المبطل ويوقفوه عند حده ويجلسوه في مكان {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}. هذا الأمر الإلهي يحفظ الوحدة داخل صفوف المجتمع الإسلامي.
وأما فيما يرجع إلى العلاقات والروابط الخارجية، فالأمة الإسلامية مسؤولة عن تنظيم هذه العلاقات بشكل لا يوقعها بأي حال من الأحوال تحت دائرة نفوذ الأمم الأخرى وسيطرتها فكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً، والأمة المسلمة لا يسمح لها أن تنتهج نهجاً سياسياً غير النهج الإسلامي ولو بشكل جزئي ومحدود، فعليها المحافظة على استقلالها السياسي بصورة دقيقة وكاملة، وليس لهذه الأمة أن تدخل إلى جبهتها أي طرف لا يؤمن برسالتها. وتؤكد ذلك القصة المعروفة والتي وقعت أحداثها في زمن الإمام الباقر (ع) والتي يُذكر عادة في المصادر الشيعية يوم كان المسلمون يتعاملون بالنقد المسكوك في بلاد الروم، ولأمرٍ ما هددت السلطات الرومية جهاز الخلافة بقطع هذه النقود عن البلاد الإسلامية، فأرشد الإمام الباقر جهاز الخلافة إلى طريقة لحل هذه المشكلة وذلك بأن يستقل المسلمون بسك النقود لأنفسهم، وقد فعلوا ذلك وخرجوا من أزمة قاتلة.
والذي يثير الدهشة في سيرة أئمة الهدى (ع) انهم طوال عمرهم الشريف المبارك لم تكن لهم أدنى علاقة ولو جزئية بالأجهزة الحاكمة. نعم هناك مورد أو موردين نستثنيهما وأحدهما القضية المتقدمة. وعلى هذا سوف يمنع ويطوق أي تأثير خارجي من قبل الأجنحة غير الإسلامية يستهدف النفوذ داخل حصون الأمة المسلمة، وليس للمجتمع أو الأمة المسلمة أن تشكل أي علاقة مع العالم غير الإسلامي إلا بالصورة التي تحفظ الرفعة والهيمنة للإسلام.
ليس من صلاحيات الأمة المسلمة إنشاء علاقة أو إبرام اتفاقية استثمارية مع أمة غير إسلامية أو بلاد لا تدين بالإسلام، كما حدث ذلك في اتفاقية التنباكو، وكمباني رزي.
وقد حدث نظير ذلك أيضاً في تاريخ الهند حيث سمح الحكام المغول للدول الأجنبية بالدخول إلى الهند لتنفيذ جملة من الاتفاقيات.. لا يجوز للمسلمين القيام بمثل هذا العمل وليس هذا من صلاحياتهم لأنها تنافي مبدأ هيمنة الإسلام والعالم الإسلامي على غير المسلمين، والعالم الإسلامي هو صاحب الولاية والحاكمية على غير المسلمين في البلاد الإسلامية، وما الذي حدث للهند الشرقية عندما دخلتها الدول الأجنبية على الجميع أن يعرف أن الاستعمار استطاع النفوذ داخل شبه القارة على سعتها بصورة دقيقة.
نعم لا يسمح للأمة المسلمة إقامة مثل هذه العلاقات، وعليكم أن تعرفوا أنه ليس مقصودنا من ذلك أن تعيش الأمة المسلمة حالة الانزواء السياسي. ليست المسألة بهذا الشكل، إذ كيف يمكن أن لا يكون للعالم الإسلامي أي علاقة تجارية أو سياسية أو دبلوماسية مع العالم، بل أن للدولة الإسلامية علاقات ولكن هذه العلاقات لا تكون مقدمة لولاء الأمة الإسلامية لأولئك ولا تتسبب في إنشاء وإيجاد علاقة نفسية معهم، فليس وراء هذه الروابط والعلاقات والاتفاقيات التجارية والصناعية وغيرها أي اتصال حقيقي أو هوى بين المسلمين والكافرين حتى لا يفتح الطريق أمام النفوذ الاستعماري داخل البلاد الإسلامية. وعلى هذا فإن الولاية القرآنية ذات اتجاهين، اتجاه داخل المجتمع الإسلامي ووظيفته توحيد العناصر جميعاً ودفعها للسير في هدف واحد وجهة واحدة ومسيرة واحدة، واتجاه خارج المجتمع الإسلامي ووظيفته قطع كل العلاقات بين المجتمع المسلم وبين كل التيارات والسلطات غير المسلمة.
وهنا يظهر مطلب دقيق سوف نتعرض له في حينه وهو أن هذه الولاية هي نفس الولاية التي عند الشيعة، فنحن الشيعة نعتبر الارتباط بالإمام أمراً مهماً وعظيماً، ونحن نمتثل أمر الإمام في كل شئون حياتنا الاجتماعية، وكيف نفهم ذلك من القرآن؟ نفهم ذلك من النصوص القرآنية التي تتحدث مع المسلمين عن الولاية.
وإذا أراد المجتمع أو الأمة أن تلتزم بالولاء بمعناه القرآني، أي إذا أرادت أن تركز كل قواها الداخلية في جهة واحدة نحو هدف واحد وتقف بوجه كل القوى غير الإسلامية بعد تعبئة قواها الداخلية هي، تحتاج حينذاك إلى نقطة مركزية ومحور تكون له القدرة وبيده القرار، والمجتمع المسلم يحتاج إلى مركز تلتقي عنده كل القوى الداخلية وتنجذب إليه، والمسلمون جميعاً يستلهمون منه ويسمعون له ويستجيبون لأمره، وهو مطلع على تمام المصالح والمفاسد، ليكون حافظاً لرسالة الله ويمكنه بذلك توظيف كل الطاقات في مجالاتها المناسبة.
من الضروري إذن وجود قيادة ورئاسة وقدرة متمركزة إجتماعياً تعرف ماذا ينتج هذا الفرد أو ذاك، وماذا يمكنهم أن يقدموا حتى يلزم الجميع بأداء ما نستطيع أدائه. ولنأخذ مثالاً يقرب لنا هذه الفكرة.. أنتم تعرفون معامل الحياكة اليدوية للسجاد، فهناك مجموعة تعمل، ولكن أعمالها مختلفة، فالصبي والكبير، والمرأة والرجل، كل منهم يضع خيطاً في النسيج الكبير، وكل يقدم عملاً ونشاطاً معيناً. لو لم تكن هذه الأعمال منسجمة مع بعضها فكيف تصنع السجادة الكاملة؟ هناك خطة وفكر وعين وقرار فوقي تجعل الأعمال منسجمة والخيوط متداخلة متناغمة تشكل صوراً جميلة. لابد إذن من تعيين نوع الخيوط المستعلمة وكيفية وصلها وأماكن قطعها. لو لم تكن هناك خطة وقرار فكيف نترقب صناعة فراش كامل؟ عندما يراقب الإنسان هذا العمل يصاب بالدهشة.
فمن أين ظهرت هذه الوردة الجميلة في هذا الطرف؟ ثم كيف نبتت أختها وتوأمها في الحجم والشكل في الطرف الآخر؟ ومثل هاتين الوردتين ظهرت وردتان أخريتان في الجهة المقابلة للنسيج، وكل شيء منظم ومنسجم وفي مكانه الطبيعي.. كيف حدث هذا؟
لأن هناك خطة مرسومة، ومشرف صارم.. وكذلك المجتمع إذا أراد أن يجمع طاقاته وقدراته لتصب في جهة واحدة من غير أن تضيع طاقة من هذه الطاقات، ومن أجل أن تكون الطاقات جميعاً قوة واحدة متراكمة كأنها ذراع واحد متحدية الصفوف والقدرات غير الإسلامية والمعادية، يحتاج مثل هذا المجتمع إلى قدرة مركزية وقلب واحد. نعم هناك شروط يجب أن تتوفر في هذه القدرة والقلب الواحد؛ فيجب أن يكون واعياً كفوءاً بدرجة عالية، وعالماً بدرجة كبيرة، شجاعاً لا يتراجع، مدبراً حكيماً، له نظرة بعيدة تختلف عما يراه الآخرون، لا يخشى في الله لومة لائم، يقدم نفسه في سبيل الله عند الحاجة. ماذا نسمي مثل هذا الإنسان؟
نسميه (الإمام) أي القدوة والنموذج، والحاكم المعين بتعيين إلهي كما عين الله سبحانه إبراهيم {إني جاعلك للناس إماماً}(8). وعندما نقول أن تعيين الإمام والقائد من الله نريد بذلك الإشارة إلى صورتين في التعيين الإلهي:
1 ـ أن يعين الله الإمام باسمه وعلاماته الخاصة به كما عين النبي أمير المؤمنين والحسن والحسين وسائر الأئمة (ع).
2 ـ أن لا يعينه باسمه بل بصفاته وشروطه كما ورد في حديث الإمام المهدي (عج) (فأما من كان الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه، فعلى العوام أن يقلدوه)(9)، فقد عين الإمام (ع) في هذه الرواية وغيرها صفات وشروط القائد والإمام ولم يذكر اسماً معيناً.. فكل شخص تنطبق عليه هذه الشروط يكون إماماً، وأريد بكلمة الإمام القدوة والمقدم والحاكم وصاحب الراية وحاملها، ذلك الذي يتبعه المسلمون أينما سار، يجب أن يعين هذا الإمام من الله ويجب أن يكون عادلاً مدبراً، ومتى ما أراد الكيان الإسلامي الكبير (الأمة الإسلامية) أن يكون حياً ناهضاً متحركاً قوياً يقظاً فعليه أن يحكم علاقته بقوة مع ذلك المركز والقلب المتحرك النابض بحرارة وقوة.
وعلى هذا يتبين أن البعد الآخر للولاية هو الارتباط المستحكم بين كل مسلم من المسلمين وفي كل الأحوال مع قلب الأمة المسلمة، وهذا الارتباط فضلاً عن كونه ارتباطاً فكرياً هو ارتباط عيني، فالإمام هو القدوة وهو المُتبع في الأفكار والرؤى وهو المطاع في الجانب السلوكي والعملي، فولاية علي (ع) تعني على هذا أن يتبع الإنسان علياً بأفكاره، وكذلك في سلوكه وعمله، وتكون له علاقة قوية متينة مع علي (ع) لا تقبل الانفصال. هذا هو معنى الولاية، وعلى ضوئه يتيسر لنا فهم معنى الحديث القائل (ولاية على بن أبي طالب حصني فمن دخل حصني أمِنَ من عذابي). هذا كلام دقيق عميق مفاده أن المسلمين وأبناء القرآن إذا تابعوا علياً في الجانب الفكري والسلوكي فسوف يأمنوا من العذاب، وذلك الرجل الذي يجعل القرآن مستعصياً على الفهم كيف يدعي أنه من أولياء علي (ع) وأنه من المرتبطين به فكرياً مع أن علي (ع) في إحدى خطب نهج البلاغة(10) يقول (واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل والمحدث الذي لا يكذب وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان زيادة في هدى ونقصان من عمى). بهذا الشكل يحث علي (ع) الناس على دراسة القرآن، وبهذه الصورة يربطهم بالقرآن. فلو قال قائل أن القرآن عصي على الفهم، فهل يكون من أولياء علي بن أبي طالب. كلا، كان علي (ع) على أتم الأهبة والاستعداد للتضحية بتمام وجوده من أجل الله وفي سبيله، وهذا الذي لا يفهم القرآن ليس مستعداً للتنازل عن مثقال واحد من أمواله أو راحته أو شخصيته ومكانته الاجتماعية من أجل رسالة الله، فهل هذا من الموالين لعلي (ع)؟ وليُ علي (ع) ذلك الذي أحكم علاقته بعلي بشكل غير قابل للانفصال فكراً وسلوكاً. دققوا في معنى الولاية هذا تجدونه أدق المعاني وأعمقها وأحسنها، واستمعوا الآن لآيات من سورة المائدة.
فقد بنيت هذه الآيات الجانب الاثباتي للولاية أي الجهة الداخلية وكذلك الجانب السلبي [الجهة الثانية] قطع العلاقات الخارجية، وتبين أيضاً البعد الثاني للولاية وهو الارتباط الفكري والسلوكي بالولي وهو قلب الأمة وحاكمها وإمامها.
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء}.
الأولياء جمع ولي وهو مشتق من الولاية، وهي الاتصال والعلاقة، فالولي من يتصل بآخر ويرتبط به ويتبعه.
{بعضهم أولياء بعض} فلا تنخدعوا بانفصال معسكراتهم ظاهراً، فهم يتحدون لمواجهة أصالتكم ورسالتكم في جبهة واحدة وخندق واحد، ومن يتولهم منكم [التولي تفعّل من الولاية] يعني من اتخذهم أولياء ووضع قدمه في وادي ولايتهم وارتبط بهم فإنه منهم {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
{فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم} فهم لا يقتنعون باللحوق الطبيعي بهم بل يسارعون ولا يقتنعون بالاقتراب منهم بل يدخلون أعماق خندقهم وجبهتهم، وإذا سألتهم عن سبب ارتباطهم بهم وعن سبب عدم إظهار العناد لهم {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} ولننظر إلى كلمات الله التي تجيب:
{فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} وعند ذاك يأسفون على خطئهم ويقولون لو كنا نعلم أن المؤمنين ينتصرون بهذا الشكل لما كانت لنا مودة أعداء الله ودينه، ويقول الذين آمنوا بعد افتضاح أولئك {أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم} كان هؤلاء يظنون بالناس الظن الحسن وينخدعون بالمظاهر.
قالوا أهؤلاء هم أهل الظاهر الحسن والذين يقسمون الإيمان المغلظة أنهم معكم، وكلما كلمناهم قالوا أنا معكم وليس لنا معكم خلاف، فنحن نقول ما تقولون، أكان كل هذا كلاماً كاذباً؟ هؤلاء مرضى القلوب على رغم ظاهرهم المقبول، وقلوبهم منافقة وسوداء وغلف {أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين}(11).
هذه الآيات إلى هذا المقطع تتحدث عن العلاقات والروابط الخارجية، ودققوا الآن في السياق التالي لهذه الآيات الراجع إلى العلاقات الداخلية {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه} فإذا لم تتحملوا عبأ الرسالة ومسؤولية تبليغها كما تعهدتم بذلك حين آمنتم بالله، وإذا لم تصلوا بها إلى مكانها وألقيتموها من على ظهوركم، فلا تتصوروا أن هذه المسؤولية لن يتحملها غيركم، بل سيكون الفخر لغيركم في حملها.
{يا أيها الذين آمنوا من يرتدُّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}.
هل نحن من هؤلاء الذين يحبون الله، وهل أن كلماتنا التي يحبها الله دليل على حبنا لله.. يجيب القرآن الكريم {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}.
{يحبهم ويحبونه} أي أنهم يسلمون لأمر الله كاملاً، والله يحبهم، وهذه المحبة ذات طرفين.
{أذلة على المؤمنين} وهذه صفة أخرى من صفات هؤلاء، أذلة على المؤمنين، متواضعين خاضعين، وهذا دليل قوة الارتباط والعلاقة الحميمة بالمؤمنين، وليسوا ذوي غرور أو طالبي أجر أو مقام، إذا التقوا بالناس كانوا منهم ومعهم وفي طريقهم ومن أجلهم، لا يخرجون أنفسهم من بين الناس ولا يرقبون أمور المسلمين من غير اهتمام، وليس اهتمامهم بأمور المسلمين مؤقتاً أو جزئياً.
{أعزة على الكافرين} لا ينفذ إليهم تأثير الأعداء، مرفوعي الرأس بالفكر الإسلامي الذي حصّنهم بحصن محكم غير قابل للنفوذ والاختراق، {يجاهدون في سبيل الله} من غير قيد أو شرط {ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}.
والآية التي تتلو هذه الآيات تتحدث عن الارتباط والعلاقة بين أفراد المجتمع المسلم وبين قلب المجتمع أي الإمام، وعندما ندقق جيداً في الآيات يتضح أن جملة من المسائل التي يتصور أنها ليست قرآنية هي من صميم المضامين القرآنية ومن الأمور التي بينها القرآن بوضوح وجلاء، ذكر القرآن في ما تقدم من آيات الروابط الخارجية والروابط الداخلية.
وهو يبين في السياق التالي مركز العلاقات الداخلية وقلبها، أي الإمام والقدوة والقائد {إنما وليكم الله} فهو القائم بأمركم وهو الذي ترجع إليه الأمة والمجتمع المسلم في كل الأنشطة والفعاليات، وهو ملهم الأمة، ولكن الله سبحانه لا يتجسم ولا يجلس بين الناس فيأمرهم وينهاهم، فمن هو الولي الآخر {ورسوله} ولا نزاع أو نقاش بين الرسول وبين ربه لأنه نبيه والمبعوث برسالته، وبما أن الرسول بشر ينطبق عليه قول الله في القرآن الكريم {إنك ميت وإنهم ميتون}(12) فهو لا يبقى إلى الأبد. فلا بد إذن من إيضاح تكليف المرحلة اللاحقة لوفاة الرسول، هل هناك ولي ثالث قال الله سبحانه في نفس الآية {والذين آمنوا} هذا هو الولي الثالث، ولكن هل يقوم بأعباء الولاية كل من آمن؟ هل أن ملاك الولاية بدرجة متناسبة مع الإيمان فقط من غير حاجة إلى صفة أو شرط آخر؟ من الواضح أن الإجابة الصحيحة هي النفي؛ لأن ثمة صفات وشروط تذكرها الآية {الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة وهم راكعون} هذه الصفات لم تجتمع إلا في علي (ع)، فالآية تشير إلى علي بن أبي طالب وتعينه ولياً، حيث أن (الواو) في قوله تعالى {وهم راكعون} حالية، فتكون الجملة حال لدفع الزكاة، فليس كل من دفع الزكاة فهو الولي، وإنما الولي هو من دفع الزكاة في حالة الركوع، ولو شكك في ذلك وقيل بأن الآية قد تريد تعيين كل مؤمن ولياً، فأنا أسأل هل ثمة أسوة ونموذج وقدوة يحمل كل مفاهيم الرسالة وروحها مثل علي بن أبي طالب بين المسلمين؟ ليس هناك غير علي، فهو وحده الإمام والانموذج المتكامل للجناح المؤمن المنسجم المتين، ولو فرض أن الآية غير ناظرة إلى علي بالخصوص، فهناك أدلة أخرى على ولايته ذكرها الشيعة مفصلاً في بحث الإمامة، ونحن عندما نبحث هذه المسألة ننظر إلى جانبها الإثباتي، فإنها قضية عقائدية. ولابد للشيعة أن تعرف نفسها وفكرها وترسخ إيمانها وتعمقه أقوى ما تستطيع، ونحن نعتقد أيضاً إلى جانب ذلك أن على الشيعة أن يتركوا معارضة إخوانهم السنة، لأن هناك عدو خارجي يتربص بالمسلمين الدوائر ولا يفصل بين شيعة أو سنة، فعندما تثبت الشيعة عقائدها لا تريد بذلك إلغاء عقيدة الآخرين أو الدخول في خلاف عقائدي معهم. علينا أن نعرف كيف نفهم عقائد الشيعة وأفكارها، لأن التشيع كما نرى ليس شيئاً غير الإسلام وليس الإسلام شيئاً غير التشيع.
والذي ننتهي إليه ونستنبطه ونفهمه من القرآن فهماً صحيحاً ومنطقياً ومتوازناً هو التشيع، وعلى هذا فنحن نتحدث في مجال عقائدنا عن أصول الإسلام وأصول الرؤية الإسلامية الكونية، وليس لكم في هذا أدنى خلاف كما أقطع. إذن ما نبحثه في هذه العقائد هو جانبها المثبت حيث نعرض الإسلام كما نفهمه من خلال المدرسة الشيعية الإسلامية، وليس لنا كلام مع الآخرين الذين يمكن أن يفهموا الأمور بطريقة ثانية.
ليس لنا معهم معارضة أو بحث، لأننا أخوة نمد إليهم دائماً يد المودة والمحبة، ولأن ثمة عدو مشترك خارج دار الإسلام يتربص بنا الدوائر، وليس لنا الحق في أن يضرب أحد رأس الآخر. هذه هي طريقتنا في البحث، والبحث إنما ينصب على التشيع لأصالته، ولأننا شيعة نعتقد أن الإسلام هو التشيع ولا نريد ببحثنا هذا إيقاع الخلاف بين الشيعة والسنة، ليس هدفنا هو هذا أبداً لأن هذا التضارع محرم في رأينا.
{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}.
لو أن المسلمين التزموا بالولاء والولاية، فما هي النتيجة وما هو أثر الأبعاد الثلاثة المتقدمة للولاية، وهي حفظ العلاقات الداخلية، قطع العلاقات والروابط مع الأجنحة والكيانات غير الإسلامية، حفظ الارتباط الدائم والعميق مع قلب الكيان الأساس وقلب الأمة المسلمة أي الإمام والقائد. الأثر هو ما تذكره الآية الكريمة {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}(13).
خلاصة المقالة الثانية
الجبهة الواحدة المتراصة والصف الواحد الذي يشد بعضه بعضاً هما في الحقيقة اللذان يشكلان المدينة الإسلامية الفاضلة، بعد أن يشكلا ذلك الكيان العظيم الموحد وهو الأمة المسلمة المؤلفة من مجموع المؤمنين بدين الله..
وتظهر الولاية في مواضع الأمة الداخلية وفي مواضعها الخارجية؛ ففي الداخل يكون كل فرد وكل جناح في الأمة مسؤول عن تعبئة كل الطاقات والقوى بصورة دقيقة وحساسة حذرة، ثم توظيف هذه القوى في طريق ومسار واحد ونحو هدف واحد، كما أن كل فرد وجناح مسؤول بصورة مؤكدة عن رفع كل مقتضيات الفرقة والتشتت حتى لا تضيع الطاقات وتذهب هدراً. وفي الخارج يكون على الجميع أن يحذروا من إنشاء أي علاقة أو معاهدة أو مودة مع غير المسلمين حتى لا يتعرض العالم الإسلامي لخطر السقوط والذوبان وعدم الاستقلال. وواضح أن حفظ ورعاية هذين البعدين من الولاية (أي الاتصال الداخلي المحكم وعدم القابلية للنفوذ الأجنبي) يستلزم وجود قدرة مركزية ذات سلطة نافذة هي في الحقيقة مظهر لكل العناصر الإيجابية الحية والفعالة في الإسلام، وهذه النقطة المركزية هي الإمام والحاكم الشرعي، وتستلزم هذه الولاية ببعديها أيضاً وجود ارتباط قوي وعميق بين أفراد الأمة وبين الحاكم والإمام أي المحور الأساس لفعالية وأنشطة المجتمع.
وهنا يتجلى بُعدٌ آخر من أبعاد الولاية وهو بعد ولاية (الإمام وقائد العالم الإسلامي).
وفي الآيات التالية إشارات معبرة عن هذه الحقائق الدقيقة:
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء}
{بعضهم أولياء بعض}
{ومن يتولهم منكم فإنه منهم}
{إن الله لا يهدي القوم الظالمين}
{فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم}
{يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة}
{فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين}
{ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد إيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين}
{يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون الله لومة لائم}
{ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}
{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}.
{ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}(14).
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(15).
أسئلة المقالة الثانية
1 ـ من أجل إقامة الولاية القرآنية، ما هي الجهات التي ينبغي أن تلاحظها الأمة المسلمة؟
2 ـ كيف تنشأ وكيف تكون العلاقات مع الدول غير الإسلامية؟ وهل تؤدي المفاهيم الإسلامية حول الولاية إلى قطع العلاقات مع كل الدول؟
3 ـ كيف نفهم الولاية في القرآن ونثبت أن الولاية التي نفهمها هي عينها ولاية القرآن؟
4 ـ ما هي صفات وشروط الولي التي تستفيدها من الحديث المذكور في المحاضرة؟
5 ـ إشرح بدقة كيفية ارتباط الولي بالمجتمع، وارتباط الأفراد بالولي.
6 ـ اذكر الآيات 51 ـ 57 من سورة المائدة، واشرح الأبعاد الثلاثة للولاية على ضوء الآيات المباركة.
8 ـ سورة البقرة، الآية: 124.
9 ـ وسائل الشيعة، ج 18 ، ص 95
10 ـ نهج البلاغة، الخطبة 175، نسخة فيض الإسلام.
11 ـ سورة المائدة، الآيات: 51 ـ 53.
12 ـ سورة الزمر، الآية: 30.
13 ـ سورة المائدة ، الآية: 56.
14 ـ سورة المائدة، الآيات: 51 ـ 57.
15 ـ سورة آل عمران، الآيتان: 102ـ 103. - المقالة الثالثة: جنة الولاية
المقالة الثالثة: جنة الولاية
لابد من التعرض لأمرين عند بحث الولاية:
1 ـ تعريف إجمالي بالفرد الموالي والمجتمع المتولي (ذو الولاية) والذي تسوده الولاية والتولي والولاء.
2 ـ الدور والأثر المترتب على وجود الولاية في المجتمع.
فالذي يظهر لنا من خلال التدبر في الآيات القرآنية، ومراجعة السيرة الجهادية لأهل البيت (ع) أن هناك أبعاد ومظاهر للولاية.
أ: فمن هذه الأبعاد، أن المجتمع المسلم ليست له علاقة تبعية بالعناصر الغريبة على الإسلام (أي بغير المسلمين خارج دائرة المجتمع الإسلامي)، وأوضحنا أن عدم وجود العلاقة الخارجية والارتباط التبعي مسألة تختلف عن مسألة عدم وجود أي علاقة أو ارتباط بأي نحو من الأنحاء، ونحن لا نقول أن الإسلام والمسلمين يعيشون حالة الانزواء السياسي أو الاقتصادي وليس لهم أي ارتباط مع الأمم والبلدان والقوى العالمية غير المسلمة، بل أن ما ننفيه هو مسألة التبعية والذيلية والذوبان، وما نثبته هو الاستقلال والوقوف من غير اعتماد على الكفار.
ب: ومن أبعاد الولاية ومظاهرها الانسجام الداخلي والارتباط المتفاعل القوي بين العناصر الإسلامية، أي وحدة الصف الإسلامي شعاراً ورايةً، كما ورد في الحديث {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرهم بالسهر والحمى}(16).
وورد في حديث آخر: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
إذن المسلمون في النصوص الإسلامية كالجسد الواحد والبناء الواحد المتداخل الأجزاء والمنسجم والمتراص، وهم كاليد الواحدة تقابل الأيادي الغريبة والأجنبية وتواجه العداءات الفكرية والعقائدية، وهذا ما يستفاد من قوله تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين}(17).
وهذا البعد يستفاد بشكل أجلى من قوله تعالى {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}(18)، فلا ترى من هو أقوى منهم وأكثر ثباتاً وتحصيناً واستحكاماً عند المواجهة مع الأعداء، كما لا تجد من هو أكثر منهم تحفظاً وحذراً من نفوذ كل جسم غريب على الهيكل المسلم، ولكن انظر إليهم كرة أخرى داخل صفوفهم فلن تجد غير الرحمة والمودة والألفة والتعاطف، ولا تجد جبهات متشكلة ضد بعضها البعض، وتجد استحكاماً لا يخترق بين هذه الجبهات والهياكل التي تشكل الجسم الاجتماعي الكبير (أي المجتمع المسلم)، بل إنك ترى صورة تعاكس الصورة الأولى حيث يتأثر بعض المسلمين بالبعض الآخر، وكل يهدي أخاه نحو الخير والصلاح، وهم يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر، وكلٌ يشجع الآخر ويؤكد عليه بالثبات في المسيرة الكادحة إلى الله في طريق الحق.. كما يوصيه بالصمود في وجه دوافع الشر والفساد، وكل يرعى الآخر ويحفظه حاضراً وغائباً. ولقد قدمت مثال أولئك المتسلقين للجبال، فهؤلاء يتسلقون من بين التعرجات الحادة، فإذا ما تزحلقت من تحت قدم أحدهم صخرة أو حجر أو حصاة فهي كافية لإسقاطه في واد عميق، والسبيل الذي يحفظ لهؤلاء المتسلقين سلامتهم أن يشدوا ظهر بعضهم بظهر البعض الآخر بوثاق محكم قوي حتى تحفظ حالة التجاذب فيما بينهم، وليأخذ كل منهم بيد الآخر، وبين الفينة والفينة ينادي بعضهم الآخر أن احذر ضياع الطريق، لا تتخلف عنا، هل أنت جائع؟ والمسلمون يلاحظون بشكل دقيق الضعيف منهم فكرياً أو مادياً أو بلحاظ معرفة الحق عند ذاك يسعون لهدايته جميعاً، والكل يسعى في سبيل أن يسير هذا الضعيف في الخط المستقيم، ويشكل هذا البعد من المسلمين عائلة تضم أفراداً منسجمين بشكل كامل.
ج: والبعد الثالث من أبعاد الولاية وهو أهمها جميعاً؛ إذ يضمن بقاء الولاية ببعديها الأوليين، هو المركز القيادي المقتدر داخل المجتمع الإسلامي، لأن المجتمع المسلم بحكم الجسد الواحد، وأجزاء هذا الجسد متجانسة متماسكة متفاعلة متعاونة فيما بينها، وهو يد واحدة ورجل واحد بوجه المخاطر الخارجية والأجنحة الكافرة.
وهذه الوحدة في المجتمع المسلم لا يمكن أن تحصل من غير أن تتمركز القوة في محور فاعل، وإذا قدر لكل وحدة اجتماعية أن تدار مستقلة عن الوحدات الاجتماعية الأخرى فسوف تتفرق أعضاء ذلك الجسد الواحد إلى أقطاب متعددة وقدرات غير متوحدة، ولن يسير المسلمون في درب واحد، وسيؤول أمرهم مآل وجود جهازين يديران الجملة العصبية للإنسان، جهاز يدير الطرف الأيمن والآخر يدير الطرف الأيسر، ففي هذه الحالة لن يحصل انسجام بين الطرفين إذا ما أُريد إنجاز عمل واحد.. فلو أراد الإنسان هذا أن يرفع شيئاً من الأرض سوف يجد أن يده اليمنى استعدت لرفعه بينما يجد اليسرى لا زالت منقبضة غير مستعدة للحركة والرفع بأي وجه، وسيختل وضع البدن مع وجود جهازين يديران سلسلة الأعصاب، ويتخذ الإنسان في هذه الحالة وضعاً مضحكاً مزرياً حين يريد إنجاز عمل أو مواجهة عدو، ولن يستطيع.
وإذا أراد المجتمع الإسلامي أن يدفع عدوه في الوقت المناسب فعليه أن يحفظ مركز القدرة والقوة والقيادة فيه، والمواجهة الناجحة مع العدو يلزمها تكتيل وضم كل الأجنحة الاجتماعية ووضعها في خط واحد مواجهة لخط العدو، لتوجه ضربة محكمة قوية لعدوها، وهذا لا يحصل ما لم تندفع هذه الأجنحة بملئ اختيارها لهذا العمل وتلك المواجهة. وقد ذكر مولوي الشاعر الإيراني المشهور قصة تماثل في النتيجة حال الأجنحة الاجتماعية غير الموحدة.. فإنه ذكر أن ثلاثة ذهبوا إلى بستان عنب واستطاع عدو لهم أن يهلكهم جميعاً عن طريق الدسيسة.
وقد تكرر وقوع مثل هذا في التاريخ العام للأمم وفي التاريخ الإسلامي أيضاً. وإذا ما أراد المجتمع المسلم أن يستفيد من طاقاته ويتجنب السلبيات والنقائص، فعليه تحكيم علاقاته الداخلية وتوحيد أعضاء المجتمع كما تتوحد أعضاء الجسد الواحد.. وتتعبأ لمواجهة الخطر الخارجي، والمجتمع الإسلامي يد واحدة مقابل أعدائه.
خلاصة ما نريد ذكره هنا أن المجتمع الإسلامي من أجل تحقيق بعدي الولاية الأوليين عليه أن يملك مركزاً قيادياً واحداً قادراً وفعالاً، وتستلهم كل العناصر الفعالة والنشطة في هذا المجتمع من هذا المركز نشاطها الفكري والعملي وفعاليتها الحياتية وأساليب مواجهة أعدائها وطرق تقوية المحبة والولاء بين أفرادها. وهذا المركز الواقع في عمق المجتمع المسلم هو الذي يتولى إدارة تمام الأجنحة، وهو الذي يحدد لكل فرد عمله ومكانه المناسب، وهو الذي يرفع حالات النزاع والتعارض ويمنع من نشوء هذه الحالات، وهو الذي يسدد كل القوى للمسير نحو غاية واحد وفي مسار واحد. وهذا المركز يعيّنه الله سبحانه، فلابد أن يكون عالماً، واعياً، مأموناً، جامعاً لكل الكمالات التي يخلقها الإسلام، مظهراً قرآنياً حياً. وثقافتنا الإسلامية تطلق على هذا المركز اسم الولي. على هذا يلزم بعدي الولاية بعدٌ ثالث (هو بعد ولاية الولي)..
والمسألة الأخرى التي نبحثها: هي هل أملك أنا أو أنت هذه الولاية؟ من الممكن أن نكون من أهل الولاية كأفراد، ولكن هل أن مجتمعنا يملك هذه الولاية؟ من الممكن أن يقع هذا التساؤل، هل هناك فرق بين ولاية الفرد وولاية المجتمع؟
ولابد من الإجابة بالإثبات، فلو كان ثمة عضو سالم بنفسه فليست سلامة هذا العضو دليلاً على سلامة تمام البدن، هذا أولاً، وثانياً لن يحصل هذا العضو السليم على تمام حسنات وإيجابيات العضو السليم مع وجوده ضمن بدن غير سالم، ولابد أن نعرف ابتداءً كيف تكون محصلة الإنسان المتولي، لنعرف مدى كوننا من أهل الولاية، وإذا كنا من أهلها علينا أن نعرف مميزات المجتمع ذو الولاية، وما هي الشروط الموضوعية التي تؤهله ليكون مجتمعاً موالياً، وليس ثمة ما يمنع من وجود فرد موالٍ في مجتمع غير موال، ومن الطبيعي أن أنظر هنا إلى القضية في عالم الإمكان والثبوت لا في عالم الواقع والإثبات والتحقق، فإن المسألة بهذا اللحاظ في غاية التعقيد.
وعلينا الآن أن نبحث هذه الحالة وهي ما إذا كان الفرد قد تولى وأصبح من أصحاب الولاية، فهل تنتهي مسئوليته؟
هل يمكن أن يكون الفرد من أهل الولاية في مجتمع لا يملك هذه الولاية؟ وهل تكون ولاية الفرد كاملة حين لا يشعر بمسئولية تجاه مجتمعه؟ هذه مسائل يجب على كل المسلمين الرجل منهم والمرأة وخصوصاً الشباب أن يفكروا فيها، ومن المحتمل أن لا يتوفر لي الوقت الكافي لشرح هذه المسائل واحدة واحدة، لأن كل واحدة من هذه المسائل تحتاج في تفصيلها إلى ساعات من البحث والتحليل.
ولهذا سوف أتحدث باختصار وأترك لكم مهمة تفصيل هذه المسائل، والآن أشير إلى المسائل الأربع المتقدمة.
1 ـ كيف نعرف الفرد الموالي وما هي صفاته؟
2 ـ ما هي المقومات التي تجعل المجتمع وهيئاته التي تعيش في مكان واحد من أهل الولاية؟ ومتى يفقد هذه الولاية؟ أي ما هي شروط المجتمع المتولي على ضوء المفهوم الإسلامي للولاية؟ وفي أي الشروط الموضوعية يفقد المجتمع هذه الولاية؟
3 ـ هل تنتهي مسؤولية الإنسان عن لزوم خلق المجتمع الموالي عندما يتولى هو..؟
4 ـ لو كان ثمة إنسان موال على المستوى الفردي وهو يعيش في كنف مجتمع غير موال وهو لا يشعر بأية مسؤولية تجاه هذا المجتمع، هل يضر عدم إحساسه بالمسؤولية بولايته؟ هل أن عدم شعوره بمسؤولية خلق المجتمع الموالي ينقص من ولايته على مستواها الفردي؟
وأنا أطرح عليكم واحدة أو اثنتين من هذه المسائل، وعندما يكتمل البحث ستدركون عمق معنى الولاية وسموه وانسجامه مع مدركات العقل، وكيف لا تتضاد مدركات العقل مع معنى الولاية المفسر قرآنياً وسنة، ولنقارن هذا المعنى مع المعنى المضاد الذي يجعل الإنسان كسولاً قاعداً، يأنس بالراحة والخمول، ولا يأخذ الأمور مأخذ الجد، وسوف تستنتجون من هذه المقايسة أين تبدأ الفوارق واين تنتهي، ويتصور البعض أن التولي لا يعني أكثر من إبراز التعظيم والاحترام لأهل البيت عندما يُذكرون كأن نقول (عليهم السلام)، والمودة والحب القلبي لهم، وطبيعي أن حب أهل البيت فريضة إسلامية وواجب أكيد، ومن الواجبات أن يذكر أهل البيت بالإعظام والإجلال، كما أن إقامة مجالس الوعظ والتبليغ باسمهم أمر عظيم الفائدة، وفي ذلك دروس عالية يستلهمها الإنسان من سيرتهم وحياتهم في وجهها المبكي والمُسر، ومطلوب من المسلمين إقامة العزاء عليهم ومجالس السرور لهم والبكاء على مظالمهم ومصيباتهم، ولكن هذه الأمور ليست هي الولاية، فالولاية أعظم من هذه الأمور، ويكون قد قام بعمل صالح من شارك في مجلس سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) وسالت دموعه حزناً على مقتله ومصابه، ولكن هذا ليس وحده دليل الولاية؛ إذ ليس كافياً لتحقق الولاية أن يبكي الإنسان. وعلينا جميعاً أن ندقق في معنى الولاية؟ ويتحتم ذلك على من أثرت على أذهانهم بعض الأيادي المغرضة منحرفة كانت أو عميلة حيث صورت لهم أن هناك من يخالف في مسألة الحزن والبكاء لمصائب سيد الشهداء، وها نحن نقول ليس هناك من يخالف في ذلك لأن البكاء على مصائب الحسين بإمكانه ضمن بعض الظروف الموضوعية أن ينقذ أمة بكاملها، وقد حدث ذلك للتوابين الذين ذهبوا إلى قبر الإمام الحسين بن علي (ع) وجلسوا يبكون عند قبره يوماً أو يومين أو أكثر، وكان نتيجة هذا النحيب وتلك الدموع والعبرات أن عقدوا بينهم ميثاقاً وعهداً على الذهاب إلى ميدان القتال والمواجهة المسلحة مع الظالمين حتى الشهادة. هذا هو البكاء على الإمام الحسين، وهل يخالف أحد في عطاء هذا البكاء وتأثيراته الفعالة؟! وليس هناك من يخالف في لزوم الإجلال والإعظام عندما يذكر الحسين بن أمير المؤمنين، وكل من يعرف الأئمة (ع) يجزم بلزوم ذكرهم بكل إكبار وإجلال لأن ميراث أهل البيت هو الشهادة، وأعز ذكرياتهم الفداء والتضحية في سبيل الله، وكل وجودهم خالص لله. على الإنسان أن يذكر أهل النبي بكل إكبار.
وليس لهذا الأمر ارتباط بالتشيع ولا بما يناقض التشيع. فإن من المؤكد أن أوربا وأمريكا وكل الأقطار الكافرة حين تطلع على حياة علي بن أبي طالب وشخصيته، فسنجد مظاهر الإعجاب بشخصية علي وأعماله الكبيرة التي أنجزها في حياته بادية في أقوالهم وأفعالهم، وسيظهرون الاحترام والإجلال والتعظيم لعلي (ع) حين يذكر اسمه، بل سيذكرون اسمه باعتزاز وافتخار، وسيبقى اسم علي في ذاكرتهم محفوظاً مثاراً للفخر والاعتزاز.
فليس الأمر إذن خاصاً بالشيعة، وهل تتصور بعد هذا أن الولاية لا تعني أكثر من هذا؟! نعم الإعظام والإكبار للأئمة من شعب الولاية وجانب مهم وخطير من جوانبها يسوق أهلها إلى الجنة، ولكنه ليس كل معنى الولاية وحقيقتها، وعلى هذا يكون حصر التولي بمسائل البكاء على الإمام الحسين (ع) والإعظام لاسمه أمر غير صحيح، ويكون طرحه وعرضه بهذا الشكل كاشفاً عن الجهل إذا لم يكن كاشفاً عن قصد وقلة معرفة إساءة إلى الفكر الإسلامي.
والولاية عند الإنسان بمعنى الارتباط الفكري والسلوكي بالولي، ذلك الإرتباط الذي يشتد ويقوى يوماً بعد يوم. فعلى الإنسان أن يبحث عن الولي ويعرفه ليتبعه في الجانب الفكري والسلوكي والمعنوي الروحي، في المنهج والطريق، وعلى الإنسان أن يحكم الوشائج والعلائق بينه وبين وليه، ويتبعه ويتحرك خلفه، ويجعل جهده جهد وليه، وجهاده جهاده، ومحبته محبته، وعدائه عدائه، وجبهته جبهة وليه، وحزبه حزب وليه، وعندئذ يكون من أهل الولاية، وكيف نكون أولياء لعلي المتولي والموالي من يعرف وليه ويتبعه في أفكاره وسلوكياته، في مسيره ومنهجه، لكننا نحصر الولاية بالمحبة القلبية لعلي بن أبي طالب وبإجراء العبرات والدموع على المصائب التي واجهها وعملنا مباين لعمل علي، وفكرنا ومعرفتنا لا يلتقيان مع فكر علي ومعرفته، وقد نسجنا للولاية شكلاً اسطورياً في أذهاننا، وأسعدنا قلوبنا حين أوحينا إليها أننا من الموالين لعلي (ع) وسيصيبنا ما يصيب أولياء علي من الثواب الجزيل والعطاء المبارك. والله يعلم ويشهد أن هذا ظلم صريح وجفاء واضح لحق علي (ع)، وهو بُعد وهجران لمفاهيم الإسلام، لأن الولاية تؤول في النتيجة إلى الولاء للإسلام، والإمام الصادق (ع) يجعل الولاية هي العمل؛ إذ يؤكد (ع) أن من يعمل صالحاً فهو ولينا ومن يعمل غير صالح فهو عدونا.
بهذا الشكل يشرح الإمام الصادق مفهوم الولاية، ولأن الولاء في ثقافة الإمام الصادق وفكره يختلف عن ذلك المفهوم الذي يحمله الجاهل أو المنحرف، وهو يحيا ويرتزق باسم الإمام الصادق، علينا أن نعمق فهمنا لمعنى الولاية والتولي وإلا سوف نخسر عمرنا الذي قضيناه بأمل الفوز بالجنة وسنشعر بالخسران عندما تبلغ أرواحنا الحلقوم.
التولي والولاء الفردي هو الارتباط والتبعية المطلقة للولي، ولكن ما هي الولاية الاجتماعية؟ عندما يُعرف ولي المجتمع المسلم ثم يكون محوراً لحركة المجتمع وحياته، فهو الذي يوظف الطاقات والأنشطة والفعاليات الاجتماعية، وهو النهر الكبير الذي تتفرع عنه كل الينابيع والجداول، وهو النقطة التي تلتقي عندها كل الخيوط، وهو المصدر لكل الأوامر، وهو المشرف على تنفيذها، والكل يتطلع إليه؛ فهو الجهاز المحرك لكل فعاليات الحياة الاجتماعية، وهو القائد القريب على حركة المجتمع.
كان ثمة أفراد من المسلمين يسيرون في خط الولاية كأفراد مثل أبي ذر والمقداد وسلمان وغيرهم، وحين استلم أمير المؤمنين الخلافة والحاكمية سار المجتمع منذ ذلك الحين في خط الولاية، وأصبح الأمر والنهي بيد الإمام، وفي ذلك الحين ارتبطت كل الخيوط بمركزها الطبيعي وأصبحت الأمور الاجتماعية تدار بإشراف الإمام (ع)، فهو الرافع لراية الحرب، وهو الذي يعطي الأمر بالهجوم، وهو الذي يوقع ويمضي قرار السلم. في مثل هذا الوضع الاجتماعي يكون المجتمع متولياً وموالياً، وفي وضع مخالف لهذا الوضع لا يكون المجتمع سائراً في خط الولاية، فإذا كان لنا مثل هذا المجتمع فعلينا أن نحمد الله ونشكره على هذه النعمة الكبيرة، وإلا فعلينا السعي الجاد لبناء هذا المجتمع وإنشائه.
وليس ثمة نعمة تضاهي نعمة الولاية؛ فإذا أظلت رؤوسنا فللّه الشكر والحمد، وإن لم ينعم علينا بمثل هذه النعمة فعلينا أن نسير في طريق الحصول عليها في أنفسنا ومجتمعنا. علينا أن نحيا حياة علي (ع) وننهج نهجه ونسير في طريقه الذي سار فيه ونرتبط بعلي ولي الله، وهذا ما يحتاج إلى جهد وكدح ومجاهدة واهتمام على مستوى من يحرق دمه.
لأن الأئمة الهداة (ع) كان كل همهم بعد استشهاد أمير المؤمنين هو السير على خط الولاية، وكانت كل جهودهم مركزة على هدف إحياء الولاية في المجتمع الإسلامي، وليغرسوا ذلك الغرس الذي نسميه الإنسان في مزرعة الولاية. وقد سقوا الولاية بالماء العذب الطهور حتى أينعت وتهدلت أغصانها خضراء باسقة وآتت أكلها كل حين بإذن ربها.. هذا هو عمل الأئمة، وهكذا ينبغي أن يكون عملنا بلحاظ الولاية في المجتمع، ولنرَ ما نعمله حتى نمكن ولي المسلمين من إعمال قدرته وصلاحياته.
وكما قلنا سابقاً فإن هناك طريقين لتعيين الولي، فتارة يعين باسمه وصفته علي، الحسن، الحسين، علي بن الحسين (عليهم السلام).
وأخرى يعين ضمن صفات محددة كما قال (ع): (أما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه)(19).
بهذه الطريقة الوصفية يعين الولي، وهذا التعيين إلهي قطعاً، ولكنه يختلف عن الأول بلحاظ أن الأول تعيين اسمي خاص، وهذا تعيين وصفي عام، وعلى المسلمين تطبيق هذه الصفات على مصاديقها من العلماء، وسنجدها منطبقة على آية الله العظمى السيد البروجردي، وسيرجع الإنسان إلى طريقه المستقيم عندما يجعل همه تطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمع ضمن دائرة الولاية، وسوف يجد المنهاج والطرق الصالحة لإنجاز هذا العمل، وليس لنا كلام في هذه المناهج والطرق في البحث الحالي. والمجتمع الذي يسير في اتجاه الولاية كالميت الذي تحل فيه الروح والحياة. تصوروا ميتاً ليس فيه حياة، أن له مخ ودماغ وأعصاب ولكنه لا يعقل أو يفكر، وله عين لكنها لا ترى النور ولا تبصر، وله فم لا يتناول الطعام أو يبتلعه، وله معدة وكبد وجهاز هضمي لكنه لا يهضم الغذاء، وله شرايين وعروق فيها دم لكن الدم لا يجري ولا يتحرك، وله يد لكنها لا تستطيع دفع حشرة صغيرة عنها، وله قدم لا تنتقل من الحرور إلى الظل.
لماذا أصبح بهذا الشكل؟ لأنه لا روح في بدنه، أما حين تدب فيه الحياة، فسوف يعمل المخ والأعصاب واليد والفم والمعدة، يستطيع عندئذ أن يفكر، ويمسك بالأشياء بيده، ويأكل بفمه، وتهضم معدته، ويعمل جهازه الهضمي عمله المعتاد، ويتحرك الدم في دورته العادية، ويوصل الطاقة إلى كل أجزاء الجسم، وسوف يشعر البدن بدفء الحياة والحركة، وعندئذ يعمل الإنسان ويتحرك ويواجه العدو وينشأ علاقات المودة، وسيتكامل تدريجياً. ضعوا هذه الصورة أمام نواظركم لتعرفوا أهمية الولاية في المجتمع. ضعوا المجتمع مكان الجسم الميت، ضعوا الولاية مكان الروح والنفس والحياة، فالمجتمع الذي لا يسير في خط الولاية ليس فاقداً للاستعدادات والطاقات الكامنة وإنما طاقاته ميتة ضائعة مهدورة، لا تنفع الإنسان فهي مشلولة بل ستكون ضارة له، فإن للمجتمع مخ يفكر ويحلل، لكنه يفكر في إيجاد الأجواء الفاسدة والقاتلة، وفي وسائل إفناء العالم والكون وشقاء البشرية وتثبيت قواعد الاستغلال والاستكبار والظلم، ولهذا المجتمع عين لكنها لا تبصر ما ينبغي أن يبصر، وترى ما ينبغي أن تغض عن مثله الأبصار، ولهذا المجتمع اذن لكنها لا تسمع مقولة الحق، وعلى الأعصاب أن تنقل هذه المقولة الحقة إلى المخ، لكن المخ لا يأمر الجوارح بالحركة وفق الحق، والجوارح والأعضاء لا تعمل العمل الموافق للحق، والأوضاع السائدة في هذا المجتمع لا تسمح للإنسان بالحركة المطابقة للحق. مثل هذا المجتمع لا يكون سائراً في خط الولاية، وفي هذا المجتمع الفاقد لنعمة الولاية لا تشتعل المصابيح ولا يزداد أو يشتد ضياؤها ونورها، والقطرات الباقية من الوقود في هذه المصابيح تشرف على النفاذ، ثم تجف هذه المصابيح، تلك المصابيح التي عبئها النبي (ص) بالوقود شارفت على الانطفاء وكادت أن تخبو، وقد خبت وانطفأت.
في الأيام التي أعقبت وفاة الرسول كانت هناك شعلة ضئيلة الضياء تنير بعض الشيء، لأن النبي قد عبئها بالوقود، ولكن الوقود نفد بعد ذلك لأن يد الولاية لم تكن تشرف على هذه المشاعل والمصابيح، وامتلأت الأجواء بالدخان الأسود، وزكمت الأنوف بالرائحة الكريهة، وخبا النور شيئاً فشيئاً حتى جاء زمن عثمان الذي حولها إلى معاوية ورأيتم ما الذي حدث، لقد حدث كل ما أخبرت فاطمة الزهراء عن حدوثه عندما خاطبت نساء الأنصار والمهاجرين، فلم يتعقلن كلامها ولم يسمعنه. ولقد أخبرت الزهراء المسلمين منذ اليوم الأول بما سيحدث ولكنهم كانوا في غفلة، ولم يصلوا إلى مستوى فهم كلام الزهراء، ولقد حدث كل ما قالته، ذلك السيف الصارم البتار الذي يقطر بالدماء، والشفار والمدى التي تقتل الفضائل والكرامات والأصالة، وتلك الأيدي التي تخنق الإنسان والإنسانية. لقد أخبرت عن كل هذا ومنذ اللحظة الأولى فاطمة الزهراء، ولقد أخبر عن هذه الأمور قبل الزهراء أبوها الرسول (ص)، فهما يعرفان ويعلمان بهذه الأمور ولهذا أخبرا عنها. لكن المسلمين لم يفهموا وكانت آذانهم مثقلة لا تسمع، ولا زال صوت الزهراء يرن في المسامع والآذان، فلتسمع الآذان الحساسة المرهفة الواعية، والمجتمع ذو الولاية ينضج كل الطاقات والاستعدادات الإنسانية، ويربي كل ما وهبه الله سبحانه للبشر حتى يصلوا إلى كمالهم المنشود، وينمي غرس الإنسانية ويقويه. الولي هو الحاكم في هذا المجتمع وهو الذي يضع المجتمع في طريق الله وصراطه، وهو من الذاكرين لله في كل الأحوال، وهو المقسم للثروة والمال بالحق، وهو الذي يسعى إلى نشر الخير والصلاح وقلع جذور الفساد والظلم والجهل.
{الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}، فهم يقيمون الصلاة لأنها نموذج لذكر الله والتوجه الاجتماعي نحو الله، فهم يقيمون الصلاة ويسيرون إلى الله ووجهتهم مطابقة لما يريده سبحانه {وآتوا الزكاة} وهم يوزعون الثروة بنحو عادل ويدفعون الزكاة، ومصاديق الزكاة القرآنية واسعة وعديدة؛ إذ يشمل مصطلح الزكاة في القرآن كل أنواع الإنفاق والصدقات المالية. {آتوا الزكاة} يراد منها قطعاً إشاعة العدالة في التوزيع، وقد وردت روايات في الزكاة تفيد أن الزكاة إنما شرعت لحفظ التوازن المالي وتعديل الثروة.
{وأمروا بالمعروف}، ينشرون الخير والعمل الصالح {ونهوا عن المنكر}، ونحن نتصور أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني أن نأمر باجتناب عمل السيئات أو نأمر بإنجاز العمل الحسن، في حين أن الأمر اللفظي والكلامي مظهر وصورة من صور ومظاهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد قيل لأمير المؤمنين: لماذا تقاتل معاوية؟ فأجاب: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، فاسمعوا جيداً وعوا. قالوا لعلي ما لك ولمعاوية، اذهب إلى الكوفة وليذهب إلى الشام. فقال علي (ع): إن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد نهض الإمام الحسين من المدينة قائلاً: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.
انظروا إلى سعة هذه الدائرة، ولاحظوا كم هي ضيقة في نظرنا. وعلى كل حال عندما تكون الولاية متمثلة في مجتمع ما فسوف يقيم ذلك المجتمع الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وستدب الحياة في بدن المجتمع الذي كان ميتاً.
خلاصة المقالة الثالثة
تتمثل الولاية في حياة المجتمع عندما يتعين الولي ويكون من الناحية العملية مصدر استلهام لكل الأنشطة والفعاليات الحياتية الاجتماعية.
وتتمثل الولاية في حياة الفرد عند معرفته لوليه وارتباطه به ارتباطاً فعالاً قابلاً للنماء والثبات والاستحكام، لأن الولي مظهر للولاية الإلهية وهو الذي يسعى جاهداً إلى توظيف كل الإمكانات والقابليات التي أودعها الله في الإنسان لكي يصل إلى كماله؛ فهو يسعى إلى توظيف هذه الإمكانات في نفع المجتمع ويحول دون توظيفها فيما يوقع الضرر بالناس، كما أنه يمنع من تبديد هذه الطاقات وإضعافها، لأن هذا يشكل خطراً من أعظم الأخطار. والولي والإمام يُؤمن العدل والأمن الفردي والاجتماعي لتنمو غرسة البشرية، كما أنه يهيأ الأرض الخصبة والمناخ المناسب والماء العذب لكي يشتد عود هذه النبتة الطيبة، وهو الذي يمنع من وقوع المظاهر المختلفة للظلم كالشرك والاعتداء على الغير وعلى النفس، ويسوق الكل نحو عبودية الله، ويربي العقل والمعرفة الإنسانية.
وخلاصة برنامجه الأساسي دعوة الجميع إلى إقامة ذكر الله والعمل والابتكار والابداع، فهو يدعوهم إلى الصلاة وإقامة ذكر الله، والى تقسيم الثروة العادل وأداء الزكاة ونشر الخير والعمل الصالح والأمر بالمعروف وقلع جذور الشر والسوء والنقص بالنهي عن المنكر، وهذا ما يؤدي إلى تقريب البشرية نحو هدف خلقتها وغاية وجودها شيئاً فشيئاً.
والتدبر في الآيات القرآنية يفتح أمامنا الآفاق الواسعة لجنة الولاية، وكذلك يتوضح لنا معنى ذلك الحديث النابض بالحياة (ليس أفضل من الولاية في الدين كله).
{لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم}
{ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}
{كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه}
{لبئس ما كانوا يفعلون}
{ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا}
{لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم}
{وفي العذاب هم خالدون}
{ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل اليه ما اتخذوهم أولياء}
{ولكن كثيراً منهم فاسقون}(20).
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء}
{واتقوا الله ان كنتم مؤمنين}
{وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً}
{ذلك بأنهم قوم لا يعقلون}
{قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون}
{قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغَضِب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل}(21).
أسئلة المقالة الثالثة
1 ـ ما هي الولاية الفردية، وما هي مظاهرها؟
2 ـ ما معنى الولاية في المجتمع، وما صفات المجتمع المتولي؟
3 ـ كيف يكون سعي الإنسان للوصول إلى خط الولاية في حياته وفي حياة مجتمعه؟
16 ـ نهج الفصاحة، ص 561 ، الحديث: 2712.
17 ـ سورة المائدة، الآية: 545.
18 ـ سورة الفتح، الآية: 29.
19 ـ الوسائل، ج: 18، ص 95.
20 ـ سورة المائدة، الآيات: 78 ـ 80.
21 ـ سورة المائدة، الآيات: 57ـ60. - المقالة الرابعة: من هو الحاكم على البشرية؟
المقالة الرابعة: من هو الحاكم على البشرية؟
تعقيباً على البحوث السابقة رأينا أن نشرح جملة من الأمور التي تقدمت الإشارة إليها، فقد تقدم الحديث عن الولاية ومعناها القرآني وموارد استفادة هذا المعنى من القرآن، وتقدم أيضاً الحديث عن أبعاد الولاية وجوانبها، ولكن هناك جملة من المسائل المتفرعة عن الولاية، وهي بلحاظ نفسها مسائل متأصلة ولها استقلاليتها وأهميتها البالغة؛ حيث تعين الخطة والمنهج الذي ينبغي أن يسير عليه المجتمع المسلم. فهنا عدة مسائل مترتبة، فقد أثبتنا فيما تقدم أن القرآن الكريم يجعل حفظ العلاقات والروابط الداخلية، ورفض التبعيات الخارجية للمجتمع المسلم متوقفاً على وجود قدرة مركزية في هذا المجتمع، حتى تقود جميع الأنشطة والفعاليات والواجهات والأجنحة والأوضاع الاجتماعية.
ويسمي القرآن هذه القوة المركزية بالولي أي الحاكم والقائد، والذي تستلهم منه كل القوى خط سيرها وحركتها، وترجع إليه كل الأعمال، وهو الذي يدير المجتمع ويقوده في جانب الفكر والسلوك. فمن يكون هذا الولي؟ لنا إجابة مختصرة حول هذا التساؤل.
فلو قيل لنا نريد معرفة الولي، فهل نستطيع تعريفه لهم؟ وطبيعي أننا عرضنا الاجابة في ما سبق من بحوث وأنتم تعرفون هذه الاجابة؛ إذ هي ليست من الأمور الغامضة، ولكننا نريد تحليل المسألة بشكل منطقي وبصورة طبيعية، والقرآن يجيب بكلمة واحدة {الله ولي الذين آمنوا}(22) الله هو الولي الواقعي للمجتمع، وليس ثمة غير الله يكون حاكماً في المجتمع المسلم. وهذه الاجابة تبينها عقيدتنا في التوحيد وتجعلها النبوة من الأمور المسلّمة الواضحة، ولنرَ هل تثبت لنا الولاية هذه المسألة، ولابد أن تكون الاجابة واحدة لأنه أصول أي مدرسة فكرية وأي عقيدة كونية. ولابد أن لا تتناقض النتائج المستفادة من أصولها المتعددة، ولا يصح أن يستنتج نتيجة ما من أصل من أصول العقيدة ثم يستنتج ما يضاده من أصول أخرى.
وللأسف فإن صورة الإسلام التي تعيش في أذهان وقلوب بعض المسلمين الأغرار البسطاء وساذجي التفكير فيها المتناقضات.
ونعود إلى أصل الموضوع فنقول: إن لله تعالى وحده حق الأمر والنهي والقيادة وتنفيذ الأوامر وتعيين خطة السير للمجتمع، وله وحده حق الحاكمية والتدخل في كل جزئيات الحياة الإنسانية {الله ولي الذين آمنوا}، وقد قمت بمراجعة جميع الآيات التي ترتبط بالموضوع تقريباً وبشكل إجمالي، ولاحظت أن من المسلّمات القرآنية أن الله هو ولي المجتمع الإسلامي وأنه ليس للمؤمنين ولي سوى الله، ويجب أن يكون هو الحاكم في كل الأمور. وأجد من الضروري أن أذكّر هنا بعض من يمكن أن تختلط عليه عناصر هذه المسألة، أن الكلام هنا ليس عن السلطة التكوينية لله رب العالمين فهي في مكانها معلومة ومصونة، فإن الله هو الذي ينظم حركة السماوات والأرض بإرادته القاهرة، إنما الكلام عن القوانين الحياتية للإنسان، والروابط الفردية والاجتماعية، فإن هذه يجب أن تستلهم من الله سبحانه، والله لا غير هو الحاكم في المجتمع الإسلامي.
ولو طرح هذا السؤال ما تعني مقولة أن الله هو الحاكم؟ والله المتعال لا يلتقي الناس وجهاً لوجه حتى يأمرهم وينهاهم، والناس في حاجة إلى إنسان يحكمهم وتفوض إليه مقاليد الأمور، ولا أريد بذلك أن أنفي القيادة الجماعية، بل أريد القول بأن مقاليد الأمور والحاكمية لابد أن تكون بيد إنسان واحد، ولا يكفي وجود القانون لوحده في دفع الفوضى الاجتماعية حتى وإن كان هذا القانون إلهياً ما لم يوجد ولي أو قائد أو مجموعة قيادية حاكمة تشرف على تنفيذ القوانين في المجتمع.
لكن من هو هذا الإنسان، وكيف يكون، وما هي صفاته؟ ومن هي المجموعة التي يقدر لها قيادة المجتمع البشري؟
وللإجابة على هذا التساؤل قدمت عدة إجابات، كما أنه تعددت الإجابات التاريخية أيضاً، فهناك فئة تقول أن الملك لمن غلب، وهذا هو منطق حكومة الغاب، وثمة فئة تقول أن الملك والحاكمية لمن يتصف بصفة التدبير الدقيق. وفئة ثالثة تقول أن من يوليه الناس ويقبلونه فهو الحاكم. وفئة رابعة تقول أن الحاكم من يملك الذهب والفضة أو العشيرة والاتباع، وهناك من يبرز مقولات مخالفة لهذه.
وأما الإجابة الدينية الإسلامية فهي {إنما وليكم الله ورسوله}، فزمام الأمور الاجتماعية والأمر والنهي وإدارة الأمور جميعاً من ناحية عملية بيد الرسول. وحين يكون الرسول بين ظهراني المسلمين لا معنى لوجود حاكم آخر غيره، والذي يستلم كل القدرات والحاكميات هو الرسول، ولكن عندما ينتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى وهو يموت كسائر البشر، فماذا تكون الإجابة؟ {والذين آمنوا}، من هم هؤلاء، فهل أن كل من آمن بالله ورسوله يكون ولياً وحاكماً على المجتمع المسلم؟ وهذا يستلزم أن يكون هناك حاكمين بعدد المؤمنين، والآية تريد أن تضع علامة على إنسان معين لدى المقنن والمشرّع الإسلامي، كما أنها تذكر علة انتخابه وتعيينه حاكماً، حتى تحدد لنا المقياس والضابط في الولاية والحاكمية؛ فالآية تقول {الذين آمنوا} بصدق وبشهادة العمل والسلوك، وهذا هو الشرط الأول الإيمان الواقعي الخالص.
والشرط الثاني {الذين يقيمون الصلاة}، فلا يؤدونها فقط. وفرق بين إقامة الصلاة وأداءها، وإقامة الصلاة في المجتمع هي إحياء روح الصلاة وانعاشها في المجتمع، وعندئذ يتحول المجتمع إلى مجتمع يقيم الصلاة. وتعلمون أن المجتمع الذي يصلي هو المجتمع الذي يكتنف كل أنحائه وزواياه ذكر الله ويتموج في كل أجزاءه ذكر الله بصورة مهيبة، وفي المجتمع الذي يتموج في خلاياه ذكر الله لا تقع فيه أي جناية أو فاجعة أو خيانة، ولا تمس فيه قيم الإنسان أدنى مساس.
واتجاه هذا المجتمع الذي يتحرك في كل وجوده ذكر الله اتجاه إلهي، ولا يقوم الناس بأعمالهم إلا من أجل الله وفي سبيله وطلباً لمرضاته، والابتعاد عن ذكر الله هو عامل كل أنواع الإذلال والظلم والاعتداء على النفس وعلى الآخرين.
وقائد المجتمع الذاكر لله مثل علي(ع) لا يظلم، بل يحارب الظلم، والرعية فيه مثل أبي ذر الغفاري الذي لم يخضع للظلم ولم يعش تحت كنفه رغم أنه منفي ومبعد عن وطنه، ورغم أنه كان قد تعرض للضرب والإيذاء، ورغم أنه مهدد.. لم يبتعد عن طريق الله ولم ينسه، وهذا المجتمع الذي يذكر الله ويقيم الصلاة هو المجتمع المرضي الذي يتوجه إلى الله.
الشرط الثالث {ويؤتون الزكاة}، يقسّمون الثروة بصورة عادلة ويدفعون الزكاة وينفقون في سبيل الله.
ويضاف إلى هذا الشرط {وهم راكعون} أي في حالة الركوع يدفعون الزكاة، وهذه إشارة إلى ظاهرة واحدة وحالة معينة وقصة فريدة خاصة. وقد قال بعض المفسرين أن المراد بقوله تعالى {وهم راكعون} أنهم في حالة ركوع في كل شئونهم وأوضاعهم وأفعالهم، فلا تكون هذه الفقرة من الآية إشارة إلى مورد خاص.
أما علماء العربية والمختصون بدراسة الأوضاع اللغوية فيردّون هذا الاحتمال ويقولون أن فقرة {وهم راكعون} حال من قوله تعالى {ويؤتون الزكاة}، فهم يدفعون الزكاة في حالة الركوع. والذي يخطر في ذهني وأحتمله أن المراد بالزكاة مطلق الإنفاق، لأن خاتم أمير المؤمنين(ع) الذي دفعه إلى السائل وهو راكع لم يكن يشمله مصطلح الزكاة، وإنما أنفقه في سبيل الله كما ينفق أي مال غير زكوي، ولأنه أنفقه في سبيل الله سمي زكاة، وتريد الآية الإشارة إلى رجل مؤمن له حب كبير للمساواة وله تعلق قلبي عظيم بالعدالة والإنفاق، وهو يتألم عندما يشاهد فقر الفقير وعوز المحتاج، ولم يستطع أن يصبر حتى يتم صلاته، فثمة جاذبية شديدة للإنفاق في نفس هذا الرجل لم تمهله إلى أن يتم صلاته، وهو متفاعل مع التكليف والتحمل، فقد شاهد فقيراً وشاهد مظهر الفقر الذي لا يحب أن يراه الله، وهو لا يحب أن يرى مظهر الفقر ولم يكن عنده ثروة غير خاتمة، فنزعه وهو في صلاته وأعطاه للسائل. إذن هذه الفقرة تشير إلى عمل ومورد خاص ومحدد في التأريخ قام به أمير المؤمنين ونزلت الآية.
وكما تلاحظون فإن الآية تشير إلى علي بن أبي طالب وتضعه ولياً للأمر، وليس هذا التعيين كالتعيينات التي يقوم بها الأقوياء ذوو البطش والمكر في التأريخ وطواغيت التأريخ وفراعنته، وكما فعل معاوية عندما أراد أن يعين خليفة له حيث قال: خليفتي فيكم ابني فهو الذي يجلس في هذا المقام، والله سبحانه لا يعين لنبيه خليفة بهذا الشكل، وإنما الملاك في الحاكمية هو الإيمان الكامل بالله وإقامة الصلاة في المجتمع وحب الإنفاق وإيتاء الزكاة بالشكل العفوي الذي فعله علي(ع)، وبتعيين الله علياً(ع) بهذا الشكل نفهم الملاك في الخلافة والإمامة وفلسفة ذلك.
وبناءً على هذا، يكون ولي الأمر في الإسلام هو من يعينه الله سبحانه لا غير، ونحن نعرف أن الأصل والأساس الذي نعتمده هنا هو أن طبيعة الخلقة تتنافى مع حاكمية الإنسان على الآخرين، ومن له حق التصرف والحاكمية هو الله سبحانه، ولأن لله حق الحاكمية فهو قادر على تعيين ولي وحاكم على ضوء علمه بالمصالح البشرية ويمنح حق الحاكمية لمن يريد، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، وأفعال الله معللة بالحكمة وليست خالية من المصالح الراجعة إلى العباد، وليس الله ديكتاتوراً ولا طاغوتاً ولا مستبداً ولا محتكراً للسلطة حتى يفعل ما يفعل من غير حكمة أو مصلحة، بل أن أعمال الله سبحانه تنسجم مع المصالح الإنسانية، ولأن تعيينه لمن يريد منسجم مع مصالح الناس، فعلينا الخضوع والتسليم لمن يعينه.
فهو يعين النبي والإمام، ويحدد الشروط لمن يخلف الأئمة الهداة المعصومين كقائد في المجتمع الإسلامي، فالله هو الذي يعين الولي، وهو الولي ونبيه ولي أيضاً والأئمة أولياء للأمر، وقد عين الأئمة الاثني عشر أهل بيت النبي وذريته، ثم يأتي من بعدهم من يعين بمعايير وضوابط محددة.
وطبيعي أن هذه آية واحدة ذكرتها لكم، وهناك آيات أخرى في القرآن ذكرنا بعضها في هذه المقالة، وعليكم أن تراجعوا القرآن الكريم للحصول عليها، ولدينا آيات كثيرة حول هذا الموضوع، والأساس الذي يعتمده الإسلام في هذا المجال هو منع وقوع الحاكمية بيد من يقود الناس إلى جهنم.
وقد حدثنا التأريخ عن هذا الأمر، وقد شاهدنا ما الذي فعلوه بالمجتمع الإسلامي بعد صدر الإسلام، والذي حلّ في ذلك المجتمع هو ضياع قدر الرجال الكبار وعظمتهم، وقد استبدل ذلك المجتمع مقاييسه الإيمانية الرفيعة بمقاييس تافهة، ولم يستطع الناس آنذاك أن يعرفوا الناصح والمشفق والمصلح لهم، وكم قد بذلوا من جهود حتى أضلوا الناس إلى هذا الحد، فالاعلام المسموم للسلطات الجائرة أثّر على المجتمع المسلم بشكل رهيب حتى تغير الأفق العلمي للناس، وقد اضطربت رؤيتهم فكانوا يصيّرون السواد بياضاً والبياض سواداً. ومن يراجع تاريخ القرن الأول والثاني الهجريين يصاب بالألم والحسرة لما يشاهده من فجائع ومظالم يرتكبها الجهاز الحاكم مع سكوت المسلمين وعدم اهتمامهم لما يجري، ويعجب الإنسان من هؤلاء الذين لم يصبروا في زمان عثمان على ما وقع من حوادث، فحاصروا عثمان وخلعوه من الخلافة بشكل فجيع، هؤلاء هم الذين يرون الاسراف في إنفاق ومصارف الخليفة العباسي في (حفلة زواج)؛ ففي تلك الحفلة أُنفق ما يكفي لسد حاجة قطاع كبير من المجتمع الإسلامي، فهم يرون هذا الوضع ولا ينبسون ببنت شفة، يشاهدون كيف يصرف مال المسلمين في موارد شخصية وهم لا يحركون ساكناً، فهذا المال ملك لآلاف المسلمين، وها هو ينفق لشخص واحد، ولا أقول يصرفه لرفاهه وسعادته المادية بل لو صرفه لصلاته وصيامه، فهل يجوز له هذا العمل؟ والناس يرون أن هذه الأعمال تقع في المجتمع الإسلامي وهم غافلون غير مبدين لأدنى اهتمام. ولعلي ذكرت لكم في مناسبة ما قصة جعفر البرمكي وهو الوزير المقرب والمحبوب لدى هارون الرشيد بشكل كبير، وكان له من العمر ثمان وعشرون سنة عندما أراد هارون أن يزوجه، غيّر سنة الناس بنثر الحلوى والزهور على رأسي العروسين بسنة أخرى ونثر على رأسيهما شيء آخر، مما أثار استغراب الضيوف وهم أشراف القوم ومترفيهم. وما كان من هؤلاء إلا أن تراكضوا فجمعوا ما وصلت إليه أيديهم.
فما الذي شاهدوه؟ لقد رأوا علباً صغيرة بقدر الإصبع مصنوعة من الذهب الخالص، وعندما تفتح العلبة تستخرج منها ورقة رقيقة، ثم تفتح هذه الورقة لتصير هي نفسها ورقة كبيرة لكنها عندما تطوى تتحول إلى ورقة صغيرة جدا،ً وقد كتب فيها صدر الأمر بأن تكون مالكاً للمقاطعة الكذائية، أو ذلك القسم من البلاد ملك لك.
والله يعلم كم من اسناد الملكية قد طوى بذلك الشكل الغريب ليوضع في تلك العلب الذهبية، وأما الذين أخذوا هذه العلب، فالخليفة لا يعرف من هم، ولنفرض أن سند أملاك الأرض الكذائية قد وقع في يد طفل، أو سكير قاتل، أو إنسان تافه حقير، وهؤلاء الذين لا يعرفهم الخليفة سوف لن يحرمهم مما حصلوا عليه، فكل منهم سوف يملك الإقطاعيات الواسعة، وبهذا العمل كم من الحقوق سوف يضيع، وكم سيذهب هدراً من الثروات، وما أكثر الحرمان الذي سيصيب كثيراً من الناس. لم يكن كل هذا محطاً لتفكير هؤلاء وليس مهماً عندهم، في مثل هذا الترف والإسراف يعيش أحد العلويين وهو يحيى في جبال طبرستان وهو يقاوم الظالمين، وكان ليحيى رداء واحد يلبسه عندما يصلي ثم يعطيه لزوجته لتصلي فيه، كانت ذرية النبي تقاوم الظالمين وهم في مثل هذه الحالة من الفقر، وكان الناس يعيشون هذه الأوضاع ولا تثير اهتمامهم، لست أريد انتقاد هارون أو أشكوه أو أعاتبه، فإنه إذا لم يقم بمثل هذه الأعمال فليس بهارون.
والطبقة التي ينتمي إليها هارون حين تكون هي الحاكمة. فستقع هذه الأعمال والمآسي فلا عجب ولا عتاب مع هؤلاء، ولكن اللوم يقع على عامة الناس الذين نسوا التاريخ المشرق لصدر الإسلام ونقائه وخلوصه وفقدوا ذلك الوعي والتيقظ، والفهم الراجح الذي كان صفة بارزة من صفات مسلمي صدر الإسلام، ولهذا فلا يشعرون بالأهمية لما يقع، ولا يحسون بمسؤولية التغيير عند مشاهدة الظلم والمآسي، ولا يتألمون لما يقع. لماذا وصل بهم الأمر إلى هذا الحد؟ كان ذلك نتيجة الاعلام المزيف الوضيع، وهذا نتاج طبيعي لعمل المؤسسات التبليغية بين صفوف الناس، وهكذا عملت هذه الأيادي التبليغية سنوات متعددة متطاولة في أقطار المجتمع المسلم والبلاد الإسلامية، فهم يؤثرون على فكر الإنسان وروحه وشخصيته حتى وصل الأمر إلى الوضع الفعلي للمسلمين.
وبهذا تدركون أهمية اتصاف الحاكم في المجتمع الإسلامي بشروط معينة، وضرورة تعيينه من قبل الله سبحانه. ويقول القرآن في آية أخرى {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}(23)، فمن هم أولي الأمر الذين يلزمون الناس بأوامرهم؟ يتخيل السطحيون من المسلمين أن صاحب الأمر كل من يستطيع أن يصدر أمراً ولو استخدم القوة، ونحن نجيب بالنفي لذلك؛ فليس مثل هذا ولياً لأمر المسلمين، وإذا كان الأمر بهذا الشكل، وإذا كان القرآن يقصد هذا المعنى فالذي يترتب على ذلك هو أن يكون اللص وقاطع الطريق الذي يعيش في ذلك الجبل أو القرية من أولي الأمر، لأنه يتصرف في منطقته كيف يشاء، ويجب أن يطاع حينئذ لأنه من أولي الأمر. والله سبحانه هو الذي يصدر أمراً بتعيين أولي الأمر حسب عقيدة الشيعة، وهذا ما تريده الشيعة، فالحاكم هو ذلك الفرد الذي يشكل جزءً من المجتمع المسلم لكنه معين من قبل الله سبحانه، وهو صاحب الولاية الكبرى، وهل يصلح مثل هارون الرشيد لمنصب ولاية الأمر وهو الذي كان في ذلك الوضع المنحط، ومع إسرافه وتصرفاته غير المسئولة، ومع طبيعته الدموية القاسية حيث قتل جعفر البرمكي ومجموعة من عشيرته في يوم واحد شر قتلة، وهذا ما فعله أيضاً بكثير من المؤمنين إلى غير ذلك من جرائمه، ويقول القاضي والمفتي في ذلك العصر أن هارون هو ولي الأمر، والمواجهة الحادة مع الإمام الكاظم(ع) كانت نتيجة لهذا الفهم، فهم يسألون الإمام لماذا تضع نفسك في مواجهة مع ولي أمر زمانك وهم يقصدون بذلك هارون. نظرية الشيعة في هذا المجال نظرية دقيقة، وهم يستنبطون ضرورة التعيين الإلهي للإمام وولي الأمر من القرآن الكريم، ويستنبطون الملاكات والضوابط التي يضعها القرآن الكريم تحت نظر المسلمين حتى لا يخدعوا وحتى لا يقولوا نضع علياً(ع) فوق رؤوسنا وتحت أحداق عيوننا، وكذلك يفعلون مع من يخلف علياً وإن كان هارون، وقد قال المنصور العباسي نحن نرضى بخلافة الحسن(ع) ولكنه باع الخلافة بالمال ولهذا فليس له الحق في الخلافة، ونحن أخذنا الخلافة بالقوة من أولئك الذين باعهم الحسن هذه الخلافة، فهي لنا يظهر على هؤلاء المخدوعين أنهم يقبلون خلافة علي(ع) ويرتضون المنصور العباسي خليفة لعلي ونائباً عنه، ولا يشاهدون أي تباين فكري أو سلوكي بين الاثنين. ولكن الشيعة يرفضون هذا المنطق الأعوج ويخطئونه، ويقولون مع قبول حكومة علي(ع) يجب الالتزام بمعايير وضوابط الحاكمية والولاية، وعلي(ع) إنما انتخب خليفة لاجتماع هذه الملاكات في شخصيته، وإذا كان ثمة من لم تجتمع في ذاته هذه الضوابط أو كان يتصف بما يضادها فليس له حق التولي والحاكمية على المسلمين، وليس لأحد الحق في الأخذ منه والقبول بولايته.
هذا هو أول الأمور التي تظهر من مسألة الولاية. وطبيعي أننا أشرنا إلى الأمر الثاني وذكرنا الآية التي تحدده، فلو سأل سائل عن الدليل على أن ولاية الأمر تحت الاختيار والاصطفاء الإلهي، فسيكون الجواب أن هذا نتيجة طبيعية للفهم الذي أوجده الإسلام؛ فإن الرؤية الكونية الإسلامية حددت هذا بوضوح، وأن كل شيء في الكون أنما يخلق ويوجد بقدرة الله ومشيئته ويستحيل أن يخرج عن قدرته.
{وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم}(24)، وما دامت كل الظواهر الكونية بيده فله الحاكمية التكوينية على كل شيء، كذلك يكون الأمر في الحاكمية التشريعية والتقنينية إذ لا فصل بينهما. ولنلتفت إلى هذه الآيات {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيرا}(25)، إن الله يأمركم لأنه سميع بصير، يسمع نداءات حاجاتكم الداخلية والباطنية، وبصير بحياتكم فيعطيكم ويهبكم ما تحتاجون إليه.
وهذه الآية تتحدث عن الإمامة أولاً وتأمر بإعطائها لأهلها، وهي تهيأ المناخ للآية الثانية. وعليّ أن أذكر هنا أن الأمانة لا تعني فقط أن ترد عليّ ما وضعته بيدك كأمانة ووديعة، بل أن أهم نماذج الأمانة، الأمانة الإلهية المودعة بين الناس، وعلى المسلم أن يضعها في مكانها الطبيعي وبيد أهلها، وطاعة الإنسان لله ميثاق الله مع عباده، فعلى الإنسان أن يفي بما عاهد عليه الله، وعليه أن يضع أمانته في مكانها في الواقع، وكما هي عند الله فهو يطيع الله ويطيع من أمر الله بطاعته. هذا هو أهم مصاديق الأمانة، وفي الآية الأخرى يقول القرآن {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}(26)، وهنا يبرز وجه الاختلاف بين النظرية الإسلامية وبين النظريات الأخرى.
والنظرية الإسلامية لا تقول سوف يأتي يوم لا يحتاج الناس فيه إلى حكومة وسلطة، في حين نرى أن بعض المدارس الفكرية ترى أن المجتمع سوف يصل إلى درجة المثالية. ومن سمات هذا المجتمع وخصائصه أنه لا يحتاج إلى حكومة وسلطة، وهذا أمر لم يتبناه الإسلام والمقنن الإسلامي، وقد قال الخوارج بدعوى الحكومة الإلهية أن علياً ليس له الحق في أن يكون حاكماً ويجب قتاله إذ لا حكم إلا لله.
وقد قال علي جواباً على ذلك(كلمة حق يراد بها باطل)(27). نعم كلام الخوارج حق فالله هو الحاكم الواقعي وبيده التقنين وهو مصدر الوجود والحياة وبيده كل جزئيات الأمور، لكن هؤلاء لا يقولون لا حكم إلا لله وهم يريدون بذلك(لا إمرة إلا لله)، والحكومة والقانون بيد الله.
ولكن من هو منفذ القانون؟ فهل تقولون أن غير الله لا يستطيع تنفيذ القانون ثم يقول لابد للناس من أمير فالمجتمع يحتاج إلى قائد وحاكم، ولا يكفي وجود القانون بل لابد من وجود شخص ينفذ هذا القانون ويشرف على تنفيذه كاملاً.
وهذا هو مفاد قوله تعالى {وأولي الأمر منكم}، ولو استفيد أن المراد مطلق من يكون له سلطة ونفوذ وقوة، فيجب طاعة كل من يصدر أمراً، عندئذ ماذا نقول بشأن ما يقع كثيراً من وجود آمرين يصدران أوامر متعارضة، فهل كون كل منهما ولياً للأمر؟! وكثيراً ما يشاهد أيضاً أن هناك من يأمر بما يخالف العقل، والعقل المفكر لا يخضع أو يمتثل مثل هذا الأمر بل ينفيه، وهنا يبرز الاختلاف الأساسي بين المنهج الذي نفكر على ضوئه وبين منهج آخر؛ فنحن نقول هناك ضوابط تحدد أولي الأمر والقادة، أما غيرنا فلا يشترطون ذلك عملياً ولا يعملون به. {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}(28) أي أحسن عاقبة ومستقبلاً.
انظروا كيف يلفت القرآن أنظار الناس وعقولهم نحو العواقب الحسنة والقيادات الصالحة، ونحو العواقب الوخيمة والقيادات غير الصالحة.
ثم تذم الآية اللاحقة كل من يتخلف عن هذا القانون الشامل {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} فيرجعون إليه لرفع النزاع وفض الخصومة، ويستلهمون منه الرأي، ويتلقون منه الأمر، ويعيشون وفق نظريته ورؤيته، وهذا ما ينافي الإيمان.
{يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً}. الضلال هنا بعيد ومستقبلي، وأنا أحتمل أن الشيطان هنا هو الطاغوت لا غير، فهؤلاء يريدون الرجوع إلى الطاغوت غافلين عن أن هذا الشيطان والطاغوت يريد أن يضلهم عن الطريق المستقيم ويقودهم في متاهات الغواية والضياع، ويبعدهم عن الاستقامة فيصعب عليهم الرجوع إليها إلا مع الجهد الكبير.
والأمر الآخر الذي يترتب على الولاية الإلهية هو أن هذه الولاية وتحملها من قبل المؤمنين مرتبط بالنظرة الكونية الإسلامية، ومن الطبيعي أن تقول أن الله يجب طاعته فهو ولي الأمر.
هذه هي فلسفتنا الطبيعية ونظرتنا الكونية لأن كل شيء لله، وتوضّح هذا الأمر الآية الكريمة {وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم}(29).
خلاصة المقالة الرابعة
تطرح حول الولاية مع سعتها وشمولها كما عرضها القرآن مسائل متعددة قد تكون هذه المسائل أصولاً مستقلة في معرفة الأسس والأهداف الإسلامية.
ويمكن فهم بعض هذه المسائل مع التدبر البالغ في الآيات القرآنية:
1 ـ الولي في المجتمع الإسلامي هو القوة التي تقود وتدبر كل الفعاليات والنشاطات الفكرية والعملية، والولي هو الله ومن يعينه الله باسمه أو أوصافه
{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}
{الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}(30).
{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً}.
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم إن، كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً}.
{من يطع الرسول فقد أطاع الله}.
{ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً}(31).
{ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً}
2 ـ الولاية الإلهية وقبولها من قبل المؤمنين تنشأ من فلسفة الإسلام وأسس نظريته الكونية، وحينئذ يكون الولاء لله ولأوليائه أمراً طبيعياً.
{وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم}
{قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض وهو يُطعِم ولا يُطعَم}
{قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم}
{ولا تكونن من المشركين}(32).
أسئلة المقالة الرابعة
1 ـ حدد المعنى الذي تحدثنا عنه للولاية في ما تقدم من مقالات؟
2 ـ الله هو الحاكم المطلق، ماذا يعني حصر الولاية به، ولماذا كان الأمر كذلك وكيف تتحقق حاكمية الله؟
3 ـ هل للإنسان الحكم والتسلط على أخيه الإنسان بحسب طبيعة الخلقة؟ ومع الإجابة بالنفي كيف نفهم ولاية النبي والأئمة والفقهاء؟
4 ـ ما هو جواب القرآن عن السؤال التالي: من هو الحاكم والولي على المجتمع المسلم؟
5 ـ من هم أولو الأمر الذين عنتهم الآية {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}؟
6 ـ ما هو أهم مصداق للأمانة الواردة في الآية 58 من سورة النساء؟
7 ـ وضّح (المقالة الرابعة) مستنداً إلى الآيات 58ـ60 من سورة النساء؟
22 ـ سورة البقرة، الآية: 257.
23 ـ سورة النساء، الآية: 59.
24 ـ سورة الأنعام، الآية: 13.
25 ـ سورة النساء، الآية: 59.
26 ـ سورة النساء، الآية: 59.
27 ـ نهج البلاغة، الخطبة الأربعون.
28 ـ سورة النساء، الآية: 59.
29 ـ سورة النساء، الآية: 60.
30 ـ سورة الأنعام، الآية: 13.
31 ـ سورة المائدة، الآية: 55.
32 ـ سورة النساء، الآية: 80. - المقالة الخامسة: حول الولاية
المقالة الخامسة: حول الولاية
فهمنا لحد الآن إن على كل مسلم وكل من يدعي العبودية للّه أن يجعل وليّه وصاحب أمره واختياره في كل فعالياته ونشاطاته، في تمام شؤون حياته وعلى مدى عمره هو ذلك الولي الذي يعينه الله سبحانه، فهو طوع أمر القائد الذي ينصبه الله ويعينه، والخلاصة أن المحور والحاكم في جميع فعالياته الحياتية هو الله ومن يعينه الله خليفة عنه.
وطبيعي أننا بحثنا عن مَن يعينهم الله سبحانه خلفاء عنه وأولياء على الناس وعن خصائصهم، وقلنا إن الأنبياء هم أول من يعينهم الله أولياء له على الناس ثم الأوصياء والأئمة، وقلنا إن الأولياء تارة يعينون بأسمائهم وأخرى بصفاتهم. هذه مطالب اتضحت فيما سبق.
والمطلب الذي نتحدث عنه الآن يتضمن عدة مسائل:
1 ـ حكم مَن يتخل عن قبول ولاية الله ويخضع لحاكمية غير الله.
ـ ماذا يصطلح على مثل هذا العمل؟
3 ـ ما هي النتيجة المترتبة على هذا العمل؟
وهذه المسائل متفرعة عن الولاية ومن تبعاتها، وتكون من الأصول الإسلامية الثابتة بعد قبول أصل الولاية وإن كانت مسائل فرعية وجانبية حين يقع البحث عن أصل الولاية وقبل إثباته، فهي أصول بلحاظ ذاتها وإن كانت فروعاً قبل البحث عن أصل الولاية. والقرآن يصطلح على كل ولاية غير ولاية الله بالطاغوت؛ فهو يؤكد أن من لا يخضع لولاية الله وحاكميته فهو خاضع لولاية الطاغوت وحاكميته. فما هو الطاغوت؟
الطاغوت مشتق من مادة الطغيان، والطغيان هو التعدي والخروج على الحدود الطبيعية والفطرية للإنسان؛ فلو أن الإنسان الذي خلق ليصل إلى كماله الممكن خرج على هذا الهدف فهو طاغوت، وعلى الناس أن يعيشوا وفقاً لرسالة الله ودينه، وهذا أمر طبيعي وفطري ومطابق لخلقه الناس. والطاغوت هو ذلك الشخص الذي يستخدم مختلف الوسائل من أجل أن يجعل الناس يسيرون على خلاف نهج الله ورسالته ودينه، وعلى الإنسان أن يسعى بكل ما أوتي من قوة من أجل أن يجعل وجوده مثمراً منتجاً، وكل دافع يتنافى مع جدية الإنسان وجهاده وكدحه ويدعوه إلى الكسل والتواني والخمول وطلب العافية فهو الطاغوت، وعلى الناس أن يخضعوا لشريعة الله ورسالته ومنهجه، وكل من يمنع الإنسان عن طاعة أمر الله ويدعوه إلى المعصية فهو طاغوت. إذن فليس الطاغوت اسماً خاصاً وليس صحيحاً ما يتخيله البعض من أن الطاغوت اسم لصنم معين، نعم يطلق على الصنم ويسمى الصنم به لكنه ليس صنماً معيناً. وقد يكون الإنسان نفسه صنماً وكذلك ثروته وحياته العاطلة المتراخية المترفة وكذلك أمانيه وآماله، وقد يضع الإنسان يده بيد إنسان هو صنم يغمض عينيه ويضع كل ما لديه بيده، وقد يكون الصنم هو الذهب والفضة أو النظام الاجتماعي أو القانون، فليس الطاغوت اسماً لشيء محدد خاص. والذي يستنبط من القرآن الكريم أن الطاغوت مقام فوق مقام الملأ وأشراف القوم والمترفين والجبارين والرهبان، وهذا بحث غير بحثنا ولسنا بصدد الحديث عنه. وعلى هذا فكل من يخرج عن ولاية الله وحاكميته فلابد أن يدخل في ولاية الطاغوت والشيطان. أما ما هو الطاغوت والشيطان وما هي النسبة بينهما؟
لأن الشيطان هو الطاغوت والطاغوت هو الشيطان كما يقول القرآن {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت}.
ثم يقول {فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً}(33) مكر الشيطان وحيلته وتدبيره وخططه ضعيفة، وتلاحظون أن القرآن استعمل كلمة الشيطان مكان الطاغوت، والطاغوت بدل الشيطان. إذن فالشيطان كائن وعنصر خارج وجود الإنسان ويعمل على إغوائه وإغرائه على الوقوع في المعصية والظلم والفساد والانحطاط والذلة والتبعية والانحراف، ويدعوه إلى القيام بالأعمال الفاسدة والشريرة، وهناك شياطين من البشر ومن الجن، هناك شياطين بيننا من أقاربنا وأرحامنا، ومن الرجال والنساء، ومن مصاديق الشيطان إبليس الذي وقف مخالفاً لصفوة الله آدم (ع) حيث اعترض على أمر الله سبحانه بالسجود عند خلق آدم.
وأنا وأنتم على مدى حياتنا وسني عمرنا نلعن إبليس الشيطان الأول المطرود من الجنة، في حين أنه ليس الشيطان منحصراً فيه، ويحتمل أن الشياطين لم تبتدأ بإبليس ولن تنتهي به أيضاً؛ فالشياطين في العالم كثيرة يلمسون ويحسون ويدعون، ويشد على أيديهم، كذلك يرون بالعين، وفي بعض الحالات يعاصرهم الإنسان ويعايشهم. وبنحو كلي تكون الولاية غير المرتبطة بالله ولاية الشيطان والطاغوت، والذي لا يعيش ضمن القانون والأمر الإلهي وتحت ولاية الولي الحقيقي عليه أن يعلم أنه سيحيا ضمن دائرة القانون الشيطاني والطاغوتي، ويمكن أن تسألوا عن المفسدة في حياة الإنسان ضمن دائرة ولاية الشيطان والطاغوت. هذا مطلب ضمن مطالب بينتها الآيات التي تقدمت.
فالقرآن يوضح أن ولاية الشيطان حين تهيمن على الإنسان فسوف تتسلط على تمام الطاقات الحية والفعالة والخلاقة والمثمرة، وسوف يتسلط على كل وجود الإنسان الذي يحني رأسه للشيطان والطاغوت، فسوف يلف الشيطان عنقه ورقبته بحبل ولايته المحكم، ولن يجد الإنسان منه خلاصاً؛ فالشيطان يقبض بيده على كل القوى والابداعات والفعاليات الحية ومظاهر الوجود الإنساني المشرقة. وفي الوقت الذي يسيطر الشيطان على تمام الوجود الإنساني فسوف يقوده بيسر ومن غير مواجهة في الطريق الذي يريده، وسوف يقوده بكل وسيلة يريدها الشيطان حيث يشاء. ومعلوم أن الشيطان لا يهدي الإنسان نحو النور والمعرفة والراحة والرفاه، لأن هذه ليست من أهداف الشيطان، بل أن الهدف الأساسي عند الشيطان والطاغوت هي المصالح الضيقة، فهو يسعى إلى تحقيقها، ويدعو الإنسان إلى طريق مصالحه الشخصية. ولو تدبرتم في هذه الكلمات الدقيقة سوف ترون أن لكل جملة معنى ينطبق على الواقع التأريخي في مراحله المختلفة، فإذا خضع الإنسان لولاية الطاغوت فسوف يتسلط الطاغوت على تمام الطاقات والقوى والاستعدادات والإبداعات الإنسانية.
ومع تسلط الشيطان على الإنسان لن يسعى لتحقيق منافعه وخيره وكماله، فإن الشيطان يسعى إلى تحقيق مصالحه هو، فإذا وقع الإنسان في طريقه فسوف يضحي به لتحقيق مصالحه ومنافعه ويجره إلى الضلالة والغواية، فالقدرة تكون بيده.
فالآية التي سأتلوها عليكم من سورة النساء تستحق التأمل والدراسة والتدبر الدقيق {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}(34).
وحين يدقق الإنسان في التاريخ يرى بوضوح تحقق هذا الكلام الإلهي، وهذه مسائل مهمة أهمية بالغة فهي ذات أبعاد اجتماعية خطيرة، ولم نبحث عن هذه المسائل من وجهة نظر القرآن بصورة تستحق الذكر وقليلاً ما طبقناها على تاريخنا الإسلامي، وكم هو جميل أن يقوم ذوو الاختصاص والعلاقة بالقرآن الكريم والمتمرسون بدراسته، والمختصون بالمسائل الاجتماعية والتاريخية وخصوصاً قصص القرآن بالتدقيق في هذه المسائل من وجهة نظر القرآن ومقارنتها بالواقع التاريخي.
أريد أن أعرض عليكم صفحات من التاريخ لإيضاح معنى هذه الآية.. مدينة الكوفة من المدن المثيرة للعجب البالغ في تاريخ الإسلام وأنتم تحملون صور وخواطر مختلفة عن الكوفة، وما أقوله ليس فيه جديد، فأمير المؤمنين (ع) اختار الكوفة عاصمة لخلافته من بين أقطار ومدن الدولة الإسلامية الواسعة. وهذا من مميزات الكوفة، وقد اشترك أهل الكوفة في حروب أمير المؤمنين، فأكملوا حرب الجمل والنهروان.
وقد اشتركت مجموعة من القبائل التي تعيش في أطراف الكوفة في معركة صفين، وهؤلاء الرجال من الكوفة وغيرهم أتموا تلك الحرب، وقد كان أمير المؤمنين (ع) يشكو منهم ويلومهم قائلاً (لماذا لا تأتون حين أدعوكم إلى الحرب؟). وكان كبار أهل الكوفة وأشرافهم هم الذين كتبوا للإمام الحسن كتاباً طالبين إليه المجيء حتى يمكنوه من أن يحكم مدينتهم لكنه لم يستجب، ونفس أكابرها كتبوا للإمام الحسين بن علي (ع) أنه ليس علينا إمام وحاكم وقائد والله قد أهلك ذلك الطاغية فأقدم علينا، وقد قالوا ذلك حقاً وصدقاً، فإن فيهم سليمان بن صرد وحبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وغيرهم، وأهل الكوفة أنفسهم وقفوا صفاً غير متوازن بوجه الإمام الحسين وارتكبوا تلك الفاجعة النكراء، وهم أنفسهم الذين قاموا بعد مدة قليلة من جريمتهم هذه بعمل مشرق وضاء نادر الحدوث في التاريخ الإسلامي؛ ذلك هو ثورة التوابين الذين خرجوا على الظالم طلباً للتوبة، ولأنهم لم يصلوا لنصرة الإمام الحسين في يوم عاشوراء. وقد بذرت في نفس هذه المدينة بذور أغلب الثورات ضد بني أمية وبني العباس وقد نمت تلك البذور، وانتصرت تلك الثورات، فكم قدموا من المضحين وكم قُتِل منهم، وكم قدموا من أعمال مثمرة كبيرة، ولكن من بين هؤلاء تبرز أحياناً أنواع من الضعف والكسل والخور والقصور الروحي والمعنوي، لماذا؟
هل لهؤلاء قلبان وروحان ووجهان؟ وتاريخ الكوفة مهم جداً، وأنا أرى أن البحث في الكوفة والدراسة النفسية لتلك المدينة بحث مهم ونافع وعمل عظيم ذلك الذي ينجزه المتخصصون والمحققون وعلماء النفس والاجتماع، حين يدرسون تاريخ الكوفة وأوضاعها ويفكرون في ذلك، وعندئذ يوضحون ما يثير العجب من وجود مظاهر عظيمة ومضيئة للنفس الإنسانية، ومن وجود مظاهر هزيمة الوجدان والشرف وظهور حالات الضعف والتكاسل، لماذا حدث هذا؟
الكوفة مدينة ولدت تحت ظل كلمات أمير المؤمنين الواضحة المتينة.
وهل أن المحيط والبيئة هي التي تصنع الإنسان؟
الرجال العظام والمتحمسون في تاريخ الشيعة هم من الكوفة وهم أكثر من شيعة المدينة المنورة، والسبب في ذلك هو التعليمات والدروس العظيمة التي غذاهم بها علي (ع) في السنوات المعدودة التي لبث بينهم فيها، وليس سهلاً أن يحكم فرد مثل علي بن أبي طالب في المدينة.
صحيح أن حكومة علي (ع) في تلك السنوات الأربع كانت ضعيفة في العالم الإسلامي، لكنها كانت غير قاصرة أو ضعيفة في مدينة الكوفة، وكانت تظهر فيها ظواهر عظيمة فتحولت إلى مهد للتشيع وموطن للفضائل والأخلاق الشيعية، وليس ضرورياً في موطن الفضائل أن يكون كل أهل ذلك الموطن من أهل الفضيلة والأصالة والمثالية، ففي المجتمع الثائر المتحمس تبرز طبقة واحدة من الناس يحملون الحماس والثورة.
ويحدث أحياناً أن يكون بين ملايين من البشر عشرات محدودة من الآلاف هم الذين يقومون بعمل بطولي، ولكن البطولة والثورة والشجاعة تسجل في حساب الملايين، وكذا مدينة الكوفة فإنه كان فيها مجموعة تستحق التقدير والإعجاب وليست الكوفة بدعاً من بقاع الأرض وأقطارها ليس فيها مجموعة صالحة، كلا.. فإن فيها مجموعة صالحة كما أن في أي بقعة من الأرض توجد مجموعة صالحة ثائرة، وليس أهل الكوفة أسوأ من غيرهم. كلا.. فأهل الكوفة مثل أهل مشهد وطهران وأصفهان والمدينة المنورة وكأهل أي مدينة أخرى.
ولكن لأن هذه المجموعة المحدودة العدد التي تعيش في زاوية من العالم الإسلامي أعني الكوفة كانت مثار خوف الحكومات آنذاك، لهذا كانت الحكومات تعين عليهم أقسى الولاة والقادة وأحط الجواسيس والعيون والعملاء وأغلظ الجلادين، فأعملوا فيهم سياسة قاسية صارمة، أجروا بينهم إعلاماً مسموماً فاسداً، وضيقوا عليهم في المجال الاقتصادي حيث أخذوا الناس بسياسة التجويع، مما أدى بالناس بطريقة غير مقصودة أو متعمدة إلى القيام بالأعمال الفاسدة المنحطة.
ولم تكن مثل هذه السياسة تجري في سائر المدن والعواصم الإسلامية الأخرى، لأن تلك المدن كانت تفقد مثل تلك المجموعة الشجاعة الثائرة لأمير المؤمنين، وكان هدف الحكومات من إجراء تلك السياسة هو تفويت الفرص المناسبة التي يمكن أن يستفيد منها أولئك الرساليون المجاهدون.
ولهذا اتبعت الدولة سياسة إعلامية مسمومة، وأجرت سياستها الاقتصادية القاسية بالتجويع وقطع العطاء أو تقليله، وكذلك حكمت الناس بسياسة التخويف والرعب والضغط.
وخلاصة الأمر أنهم استعملوا مع أهل الكوفة مختلف أساليب الضغط، ولم تكن المدن الأخرى في مثل هذا الوضع المفجع، وكانت الأعمال غير الصالحة تصدر من عامة أهالي الكوفة نتيجة هذه السياسة الظالمة والنادرة الحدوث، فليس منشأ الفساد عند أهل الكوفة هو المدينة التي يسكنونها، هذا عرض مختصر لتاريخ الكوفة، وفي رأيي أن من يطالع التاريخ ويحلله سوف يحصل على نتائج مثيرة.
فالخليفة الأموي عبد الملك بن مروان كان يعلم أنه لا يصلح لأهل الكوفة الثائرين الأبطال سوى الحجاج بن يوسف الثقفي، ولهذا عينه حاكماً ووالياً على الكوفة وهو أقسى الجلاّدين وأشدهم غلظة وأكثرهم ارتباطاً وتبعية لبني أمية.
دخل الحجاج الكوفة في منتصف الليل مع مجموعة من المسلحين ولم يعلم بدخولهم أحد من أهلها، والوالي السابق على الكوفة كان قد أُخرج أو عومل معاملة الطريد من قبل أهل الكوفة. دخل الحجاج مسجد الكوفة في منتصف الليلة نفسها، وكان المسجد يدوي بأصوات أهل العبادة والمتهجدين. أصدر الحجاج لغلمانه وجنوده أوامره وعين لهم أماكن استقرارهم، ومن غير أن يشعر به أحد توجه إلى المسجد ودخل بين صفوف الناس ثم استل نفسه من بينهم ليستقر على المنبر، ولأن مسجد الكوفة واسع جداً لم يشعر الناس بما يجري أول وهلة ولكنهم بدأوا يدركون تدريجياً ما الذي يحدث، شاهدوا رجلاً غريب المظهر والهيئة جالساً على المنبر من غير أن ينطق بكلمة، يلبس عمامة حمراء قد أنزل حنكها، وكان متلثماً لا يرى من وجهه إلا بريق عينه، وكانت له هيئة مدهشة. تصوروا رجلاً يحمل السيف ويلبس عباءة وعمامة حمراء يجلس على المنبر بهيئته هذه ومن غير أن يتكلم، في تلك اللحظة رفع رجل من المصلين رأسه لتقع عينه على هذا المنظر الغريب، سأل الذي إلى جنبه من هذا؟ والآخر يسأل الذي إلى صفه وبدأت تنتشر في أنحاء المسجد التساؤلات عن هوية هذا الرجل، وانتشر الغوغاء والضجيج أُثير انتباه الناس بهذا الشكل فتركز اهتمامهم حول المنبر، تصوروا جيداً ماذا يقول القرآن {نولّه ما تولى} من لا يخضع لحاكمية الله وولايته سوف يطوّق عنقه بما لا يستطيع الفكاك منه.
فأنت أيها المصلي الجالس في المسجد، أنت مسلم وترى على منبر مسجدك رجلاً لا تعرفه، لماذا لا تتحرك نحوه وتسأله من أنت؟ لماذا لا تسعى إلى معرفة هذا الرجل ثم تعرفه للناس؟ وأنت أيها المصلي الثاني والثالث يوجه إليك نفس السؤال، فلو سأل كل هؤلاء نفس ذلك الرجل عن هويته ونادوا من أنت؟ فسوف يتغير الوضع، لكن هؤلاء ركنوا إلى الخور وفقدوا إرادتهم، وضعفت نفوسهم وانتظروا مقالة الحجاج فيهم.
عندما رأى الحجاج أن كل العيون توجهت نحوه من غير أن يعرفوه، قال لهم: سأعرفكم من أنا، فنزع العمامة ولثامه ثم قال:
أنا ابن جلاّ وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
وكان هناك واحد أو اثنان من أهل الكوفة يعرفون الحجاج لأنه كان قد جاء إليها مرة في فترة سابقة، فقال من يعرفه هذا هو الحجاج، نعم إنه هو.. فضج المسجد بخبر دخول الحجاج وداخل الناس رعب شديد، ثم قال الحجاج: أنا الحجاج وصح فهمكم، وكان الخوف والرعب يخيم على الناس، ولم يقل أحدهم لنفسه الحجاج رجل وأنا رجل هو فوق المنبر وأنا تحته وكل ما عنده عندي، ولكن ضعف العزيمة كان سائداً بين الناس.
قال الحجاج: يا أهل الكوفة إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها. عندما سمع الناس هذا التهديد الفارغ في حقيقته زاد رعبهم وهلعهم. وهل دخل الحجاج إلى الكوفة وهو يحمل قنبلة ذرية؟
ولو كانت معه لما فجرها، لأنه لو فعل ذلك لما بقي أحد حتى يكون ولياً وحاكماً عليه، لابد من بقاء مجموعة لأنه لو قتل الجميع فسوف لن يكون حاكماً على أحد. وليس ثمة حاكمية على الباب والحائط والتراب والحجر.
لم يفكر الناس بهذه الأمور بعد أن قال الحجاج: إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، ثم أضاف: وأنا أحدد الآن أي رأس سوف يقطف، ونادى غلامه، فنهض وقال: له اقرأ كتاب أمير المؤمنين (عبد الملك بن مروان) لأهل الكوفة.
فتح الغلام كتاب عبد الملك فقرأ مطلعه وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى أهل الكوفة: يا أهل الكوفة، سلام عليكم.
عندما قرأ الغلام هذا الكلام قاطعه الحجاج وقال له: اسكت، ثم التفت إلى الناس وقال: انكم تسيئون الأدب فأنتم لا تردون سلام أمير المؤمنين، ثم قال اكمل يا غلام.
قرأ الغلام ثانية يا أهل الكوفة سلام عليكم. عندها ضجَّ الناس من أنحاء المسجد وبصوت عالٍ وعلى أمير المؤمنين السلام. ابتسم الحجاج راضياً وقال لنفسه انتهى الأمر، وكان ما قاله صحيحاً تماماً، فإن رد السلام على أمير المؤمنين والفاسقين يعني قبول ولاية الحجاج وحكومته. وبهذا الشكل انتهت مقاومة أهل الكوفة.
{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى}.
وحين أجبتم يا أهل الكوفة الحجاج وأردتموه فهو لكم وهو وليكم، والله سبحانه لا يخرج الحجاج عن ولايتكم بطريق إعجازي ليضع مكانه الإمام زين العابدين(ع). كلا، فالحجاج لكم وما دمتم تحبونه فكل حياتكم وفكركم وروحكم طوع أمره، هذه هي سنة الحياة والكون والتاريخ.
بعد قراءة كتاب عبد الملك نزل الحجاج من المنبر ليتوجه إلى دار الإمارة، وكان جمع من أهل الكوفة قد ساندوا أحد الخارجين على الدولة ولعله محمد بن الأشعث، فأراد الحجاج أن يلعب لعبة جديدة، فقال لأهل الكوفة: يلزمكم الاحتياط فتأتونا جميعاً لتعترفوا بأنكم قد كفرتم ثم تؤمنوا من جديد وتتوبوا.. فاستجاب له الهمج الرعاع وبقي المخلصون من أهل الكوفة فإنهم لم يكونوا على استعداد للاستجابة، بقي بعضهم في بيته وشحذ بعضهم الآخر سيفه وبعضهم عمل غير هذا. ذهب الناس جماعات إلى دار الإمارة، ليشهدوا على أنفسهم بالخروج على دين الله والارتداد عن الإسلام، وبعد أن شهدوا بذلك تابوا قائلين: تبنا وندعو الله أن يقبل الأمير توبتنا لأننا نريد أن نكون على الإسلام.
وكان هناك شيخ طاعن في السن قد تقدم نحو الحجاج، فبادره الحجاج لما شاهد عليه من سيماء الوقار والهيبة: كأنك شاك في كفرك. ومعنى هذا الكلام أن يرد على شكّه بقطع رأسه بالسيف، فقال له الشيخ: كلا، فأنا أكثر الجميع كفراً. هذا مقطع من التاريخ، التاريخ درس الحياة والرجل العاقل من يدرس التاريخ والحياة ليكون له عمران يقضي أحدهما مجرباً باحثاً، ويقضي آخر في تطبيق ما حصل عليه من خبرات وتجارب.
وتجربة التاريخ وحوادثه هي عمرنا الأول. دققوا في التاريخ واستأنسوا به واحرصوا على أن تلتقطوا ما في أعماقه، ولا تكتفوا ما الذي يريد أن يقوله لنا التاريخ وما الذي تخبرنا به وتقوله لنا قصة الحجاج، وليس ضاراً أن أُضيف هنا أن الحجاج هذا قد قُتِل بأبشع صورة بيد هؤلاء الذين ارتكب كل تلك الجرائم والفجائع من أجلهم، وليس ضاراً أيضاً أن تعرفوا من أعان ظالماً سلّطه الله عليه. وهذه سنة أخرى..
لاحظوا عظمة الدروس التي يقدمها لنا التاريخ، ولاحظوا أهمية مقولات التاريخ وسننه. سيروا مع التاريخ مع كمال التدقيق. سوف ترون أن الآية القرآنية يتضح معناها بكل يسر، وقد عرضت عليكم شيئاً من مقاطع التاريخ وعليكم مهمة الاتصال والارتباط بالتاريخ.. وارجع الآن إلى الآيات القرآنية {وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}.
فأنت عندما تقرأ القرآن وتطلع على المفاهيم الإسلامية سوف تدخل في حمى الله سبحانه وتلوذ به من الشيطان الذي لا يريد أن تعرف القرآن وتفهمه، فاسع إلى أن لا تُسلب منك معرفة القرآن المستحكمة في قلبك لتفتح لك هذه المعرفة طريق الوعي والعمل، ومن أجل هذا استعذ من الشيطان الرجيم.
{إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون}. فالشيطان الضال المضل لا يتسلط على المؤمن، فتوكل على الله واعتمد عليه، والشيطان لا يتسلط على من يخضع لولاية الله ويدخل في دائرة حاكمية {إنما سلطانه على الذين يتولونه} من يخضع لولاية الشيطان فهو وليه {إنما سلطانه على الذين يتولونه}، والآية تفيد حصر ولاية الشيطان في دائرة من يرتضي ولاية الشيطان ويخضع له، {والذين هم به مشركون}(35) وتقدم في آية من سورة النساء تلوناها {ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى}.
فيجعل الله من تولى الشيطان قائداً له وحاكماً عليه ووليّاً على أموره {ونصله جهنم وساءت مصيرا}(36).
{إن الله لا يغفر أن يُشرك به} عليكم الرجوع إلى أبحاث التوحيد لتعرفوا معنى مصطلحي التوحيد والشرك وتحددوهما، فما الشرك وما التوحيد، وما هو الذنب الذي لا يتجاوز عنه الله ولا يغفره؟ إن الله لا يغفر أن يشرك به في الولاية، والمشرك الذي لا يغفر له هو من منطقة النفوذ الإلهي الرباني لغير الله واستقرت في روحه جراحات المعاصي والتخلف عن أمر الله ورسالته، وهذه الجراحات لن تلتئم، لا يغفر له والغفران يعني التئام الجراحات التي تسببها المعاصي والانحرافات، فإذا أشركت غير الله في الولاية فلن تذهب عنك آثار المعاصي وجراحاتها.
{ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ويغفر الله غير الشرك من المعاصي. وطبيعي أن هذه المغفرة تأتي بعد التوبة والتدارك، فالذي يتوجه إلى الله يتوجه الله إليه ويغفر له، ومن يشرك بالله فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً وابتعد عن الهداية.
قد يضل الإنسان ولا يهتدي إلى الطريق في الصحراء ويبتعد مقدار كيلومتر واحد ولكن هذا الإنسان لو ضل الطريق عشرات الكيلومترات فلن يسهل عليه الرجوع ويحتاج إلى جهد كبير وتعب شاق وتيقظ بالغ ودليل قوي ليرجع إلى الطريق. وأولئك الذين أشركوا قطعوا مسافة شاسعة مبتعدين عن الهداية الربانية وعن طريق الله الوسطى المستقيمة.
{فقد ضلّ ضلالاً بعيداً إن يدعون من دونه إلا أناثا وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً} المريد هو العاصي والغوي، وللمريد معنى آخر وهو غير المتخلق بالأخلاق الفاضلة. {لعنه الله} حيث أن الشيطان عاهد الله من أول الأمر على الطغيان والإضلال، ومن حيث الأساس والطبيعة والصفات لا تلتقي جبهة الشيطان مع الجبهة الإلهية.
وهنا يبين القرآن طبيعة الشيطان وصفات الشيطان في العالم {وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً}(37). فتعهد الشيطان هنا بأن يضل طائفة من العباد عن الطريق المستقيم، فيستولي على عقولهم ويعمي أبصارهم وبصيرتهم ويخرجهم من دائرة ولاء الله ليدخلهم تحت ظل ولائه وقيادته، {ولأضلّنهم ولأمنّينهم} تأملوا هذه الكلمة فهي تشمل الأماني الطويلة والبعيدة وكل ما يبعد الإنسان عن المجاهدة والكدح في سبيل الله..
الأماني والآمال أن يعيش الإنسان براحة وطمأنينة وسرور ورفاه، فأمانيه أن يزوج الولد الكبير والبنات، وتوسعة الدار الصغيرة ومحل تجارته، وأن يكون رئيساً ومديراً لذلك الجهاز أو تلك الجمعية أو الهيئة، أو الحصول على هذا المقدار من المال … فالآمال البعيدة والأماني الطويلة تطوق عنق الإنسان وتدور حوله كما يدور حجر الطاحونة، وإذا قلعت أضراس الأماني والآمال وأبعدتها عنك فسوف تعيش حراً، وتفكر بحرية وترى رؤية حرة من غير أن يفيدك أي قيد، فلهذا يقول الشيطان {ولأمنّينهم}، سوف أقيدهم بقيود الآمال البعيدة والطويلة {ولآمرنهم فليبتّكن آذان الأنعام}، يمكن أن يراد من الآية الإشارة إلى العادة الجاهلية بشق آذان الأنعام ويمكن أن يكون للآية معنى دقيق، ولم أدقق لمراجعة ما قيل حول الآية، والظاهر أن الآية تشير إلى ما يفعله أهل الجاهلية من شق أو قطع أذن الحيوان تحسباً للبركة والرزق والسلامة، وهذه سنة جاهلية وهي أنموذج ومصداق للأفكار والأطروحات الجاهلية وتلاحظون سخافة هذا العمل وتفاهته، وكل سنن الشيطان على هذه الشاكلة، {ولآمرنهم فليغيّرن خلق الله} وفطرته حيث سأخرجهم من دائرة الولاء للّه لأدخلهم في دائرة الولاء لي، وسآمرهم بالخروج على فطرة الله والابتعاد عن نهجه وخطه الذي رسمه لعباده. وسأضع لهم قانوناً يخالف الفطرة وأرسم لهم طريقاً يخالف طبيعتهم ويوصلهم إلى نهاية غير النهاية المرسومة لهم.
{ولآمرنهم فليغيّرن خلق الله} هذا هو عهد الشيطان مع الله فهو عهد ولجاجة وعناد مع الله، وهذا هو خط كل الشياطين وأطروحتهم وبرنامجهم.. وكونوا على اطمئنان أن الناس لو أرادوا أن يعيشوا على ضوء الفطرة والخلقة الأصلية، فلن يهيمن عليهم الشيطان ولن يظهر في طريقهم، وإنما يبعد عن الفطرة من يتولاه ويخضع له، لأن هذا هو دور الشيطان وعمله وخطته وميثاقه، ولهذا يخاطبني ويخاطبكم الله سبحانه في نفس السياق القرآني المتقدم {ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً يعدهم ويمنّيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}(38).
خلاصة المقالة الخامسة
كل ولاية غير الولاية الإلهية هي ولاية الشيطان والطاغوت، والخضوع لولاية الشيطان توجب تسلط الشيطان على كل القوى الفعالة والخلافة التي أودعها الله في الإنسان وعندئذ يسيرها في طريق هواه، وقيادة الطاغوت وحاكميته وولايته لا تؤدي إلا إلى ضياع وهدر الطاقات الحية، حيث أن الطاغوت لا يرى إلا مصالحه الشخصية، وإنما يحرم البشر من نور المعرفة وأشعة الهدى الإلهي والحياة في ظل الدين الرباني، ويحبسون في الجهل والشهوة والغرور والطغيان لأنهم يخضعون لولاية الطاغوت.
وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون}(39). {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً * إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً * إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً * لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً * ولأضلّنهم ولأمنّينهم ولآمرنهم فليبتّكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيّرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً * مبيناً يعدهم ويمنّيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}(40).
{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياءهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(41).
أسئلة المقال الخامسة
1 ـ ما هو محور البحث في هذه المقالة، وما هو البعد الذي تدور حوله هذه المقالة؟
2 ـ كيف عرض القرآن ولاية غير الله، وبأي اسم سماها؟
3 ـ ما هو الطاغوت، وماذا يعني، وما هو مقامه في العلاقة مع أشراف القوم والملأ والمترفين والأحبار والرهبان؟
4 ـ ما هي العلاقة والنسبة بين الشيطان والطاغوت، وما هي مصاديق الاثنين؟
5 ـ وضح المعنى اللغوي لقوله تعالى {نولّه ما تولى}، ثم أوضح المعنى الذي تريد الآية بيانه؟
6 ـ على أي طائفة من الناس يتسلط الشيطان ويتولى؟
7 ـ قارن بين آية 13 من سورة النساء وآية 98 من سورة النحل، واستخرج الإجابة الدقيقة عن السؤال السادس؟
8 ـ بيّن القرآن الحوار بين الشيطان وبين الله سبحانه وتعالى وذكر القرآن تعهدات الشيطان، اذكر مثالاً تاريخياً لكل مورد؟
33 ـ سورة الأنعام، الآيتان: 13-14.
34 ـ سورة النساء، الآية: 76.
35 ـ سورة النساء، الآية: 115.
36 ـ سورة النحل، الآية: 100.
37 ـ سورة النساء، الآية: 105.
38 ـ سورة النساء، الآيات: 116ـ 118.
39 ـ سورة النحل، الآيتان: 99ـ100.
40 ـ سورة النساء، الآيات: 115ـ120.
41 ـ سورة البقرة، الآية: 257.
42 ـ سورة المائدة، الآية: 55.
43 ـ سورة القصص، الآية: 41.
44 ـ سورة إبراهيم، الآية: 28. - المقالة السادسة: العلاقة بين الولاية والهجرة
المقالة السادسة: العلاقة بين الولاية والهجرة
الأمر الرابع الذي يرتبط بالولاية هو الهجرة، فلو درسنا الولاية بشكل واسع كما فعلنا فيما تقدم فإن الهجرة ترتبط عندئذ بالولاية إرتباطاً قوياً، لأن الولاية عبارة عن الارتباط والعلاقة المحكمة بين أفراد الصف الواحد وقطع كل أنحاء التبعية والارتباط بين الصف المؤمن وبين الصف غير المؤمن، ويترتب على هذا البعد من الولاية إيجاد الارتباط القوي المحكم بين كل أفراد الصف المؤمن وبين النقطة المركزية والقدرة الواحدة التي بيدها إدارة المجتمع الإسلامي أي الإمام والولي والحاكم. وتعرضنا فيما سبق إلى بحث خصائص وصفات الأشخاص الذين يصلحون لإمامة وقيادة المجتمع المسلم، وأخذنا الإجابة من القرآن الكريم {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}(42).
وأشرنا إلى قصة أمير المؤمنين صلوات الله عليه مع السائل، فإذا درسنا الولاية بهذه الشمولية والسعة ولم نحصرها في المسائل الجزئية والفرعية تكون مسألة الهجرة داخلة في صميم بحث الولاية، لأنه مع الرضوخ لولاية الله سبحانه وقبولها لابد من توظيف كل الطاقات والنشاطات الجسدية والفكرية والنفسية في الطريق الذي يرسمه ولي الله، وعلى الإنسان أن يكون عبداً للّه بكل جوارحه وجوانحه وعناصر وجوده لا عبداً للطاغوت، ولابد من أن نخرج من تبعات الخضوع لولاية الطاغوت ونحرر أنفسنا منها ونحطم قيود ولايته، وعلينا أن نحيا تحت ظل ولاية الله المباركة، فلو خضعنا في مورد ما لولاية الطاغوت بعد خروجنا على ولاية الله فعلينا الرجوع والإنابة إلى الله سبحانه، فإن هذا هو ميثاقنا وعهدنا مع الله سبحانه أن نخرج من ولاية الطاغوت إلى ولايته سبحانه.
والهجرة: هي الخروج على ولاية الولي والإمام الظالم ثم الانضواء تحت لواء ولاية الإمام العادل. حينئذ تطرح مسألة الهجرة متفرعة على مفهوم الولاية. وقد تقدم الحديث عن الأمور الثلاث المفرعة على الولاية. وهذا هو الأمر الرابع.
لماذا كان من ضروري على الإنسان أن يفر من الولاء للطاغوت؟
والإجابة على هذا التساؤل تأتي بعد الإجابة عن سؤال آخر أريد منكم أن تحللوا مفرداته في أذهانكم حتى تحصلوا على الإجابة المطابقة للأصول والمفاهيم الإسلامية والعقائدية.
والسؤال هو: هل يمكن للإنسان أن يجمع بين الخضوع لولاية الطاغوت وبين كونه مسلماً؟ وهل يمكن لمسلم أن يحيا تحت ظل ولاية الشيطان وهو في نفس الوقت عبدٌ للرحمن؟ وهل ثمة مورد تجتمع فيه حالتان؛ حالة تأثير الدافع غير الإلهي على كل آفاق الإنسان وشؤون حياته سواء في ذلك شؤون الجسد والفكر والنفس أي حالة الخضوع للدوافع الشيطانية والطاغوتية، وحالة العبودية للّه والتدين بالإسلام عقيدة ومبدءً؛ هل يمكن الجمع بين هاتين الحالتين؟
أنتم الآن تهيئون الإجابة حول هذا السؤال، ولابد من تحليل مفردات هذا السؤال وتفسيرها وتوضيحها، نحن نسأل عن إمكانية الجمع بين الخضوع لولاية الشيطان وبين اختيار الإنسان للإسلام ديناً ومبدءً، وهذا السؤال يتركب من مقطعين وفقرتين، فعلينا أن نحلل هذين المقطعين ونتوصل إلى معناهما.
المقطع الأول: خضوع الإنسان لولاية الطاغوت والشيطان.
ماذا نعني بالولاء للشيطان والطاغوت؟ إذا لاحظنا المعنى الذي استخلصناه من القرآن الكريم لمصطلح الولاية وضممناه إلى فقرة ولاية الشيطان ودرسنا هذه الفقرة على أساس ذلك المصطلح يتضح معنى ولاية الشيطان؛ فهو: سيطرة الشيطان على كل الطاقات والاستعدادات والإبداعات الإنسانية وتوظيفها في الخط الذي يرسمه الشيطان. ونكرر هنا أن للشيطان معنىً كلي، فسوف يفكر الإنسان في المجالات التي يحددها الشيطان ويرسمها. ويكون حال هذا الإنسان الخاضع لولاية الشيطان كحال من كان في وسط نهر شديد الجريان أو كمن جرفه سيل عرم، فهو لا يحب أن تصيبه الصخور الضخمة الهائلة لتحطم رأسه، ولا يحب أن يجرفه الماء ليلقيه في مستنقع آسن كما لا يحب أن يخنقه الماء وهو في غمرات أمواجه. مع أنه لا يحب كل ذلك فإن الجريان المتدفق الهادر يجرفه من غير اختياره والذي يستطيع أن يفعله هو أن يحرك رجليه ويلصق جسده بهذا الطرف أو ذاك ويتشبث بكل شيء أمامه، ولكن هذا لا يعني شيئاً لمواجهة المياه المتدفقة.
يقول القرآن الكريم {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار}(43) فهم قادة يقدمون قومهم ومن تولاهم إلى النار والشقاء.
{ألم ترَ إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار}(44).
ما هي النعمة التي كفر بها هؤلاء؟ إنها نعمة القدرة وهي مظهر قدرة الله وسلطانه وحاكميته؛ فالقدرات الدنيوية هي نعمة ربط إدارة أمور الإنسان وجزئياته بمحور واحد، ونعمة التوظيف السليم والإثارة النافعة للقدرات والاستعدادات والمعارف والطاقات الكثيرة المودعة في الوجود الإنساني. كل هذه نعم وهي رأسمال يدر الخير على البشر، وكل فرد يقع تحت اختيار وهيمنة أولئك الأئمة الذين أشارت إليهم الآية يستطيع أن يكون إنساناً كبيراً ويصل إلى أعلى مدارج الكمال، ولكن هؤلاء كفروا بهذه النعم ولم يصرفوها في طريقها الطبيعي، والقرآن الكريم يقول: {وأحلوا قومهم دار البوار}، فهم ومن تولاهم في دار العدم والفناء والهلاك {جهنم يصلونها وبئس القرار}.
وقد قرأ الإمام موسى بن جعفر (ع) هذه الآية على مسامع هارون الرشيد وأفهمه بأنه من هؤلاء الأئمة الذين يقودون قومهم ومن تولاهم إلى النار وبئس القرار، عندما سأله هارون هل نحن من الكفار يريد بذلك أن يقول نحن نعتقد بالله ونبيه ودينه، فقرأ عليه الإمام هذه الآية وأفهمه أن الكافر ليس هو من يقول بكل صراحة وعن يقين وقطع أنه لا وجود لله، والقرآن كذب وباطل، والنبي خرافة، فهذا كفر وهو أهون أقسام الكفر، لأن صاحبه يصرح بعقيدته بصورة كاملة، وعندئذ يعرفه الناس، ويحددون موقفهم منه. ولكن أسوأ الكفار من يكفر بتلك النعم العظيمة المودعة لديه والتي وضعت تحت اختياره وتصرفه، فهو يصرفها ويوظفها في منهج غير صحيح، ولا يقود نفسه فقط نحو النار بل يقدم قومه إليها أيضاً، يقود قومه ومن تولاه نحو جهنم. هذه هي ولاية الطاغوت والذي يعيش في ظل ولايته كأنه فاقد لإرادته وحريته، ولا أقول ليس له إرادة أو اختيار بصورة مطلقة، وبعد أن طرحنا وحللنا معنى الآية يتضح لنا هذا الأمر وهو في وسط السيل العرم يتحرك معه وفي غمراته ولن يستطيع أن يضرب بيديه ورجليه، وهو يريد أن ينحرف عن طريق جهنم لكنه لا يستطيع وهو يرى أن كل أفراد جماعته يتحركون نحو جنهم وهم يدفعونه معهم.. هل ذهبتم إلى الأماكن المزدحمة والمكتظة بالناس كبعض الأسواق والطرق؟ فأنت ترغب أن تسير في هذه الجهة لكن الحشود تدفعك من غير أن تستطيع المقاومة إلى الجهة المقابلة، والذي يخضع لولاية الطاغوت يُحب أن يكون صالحاً حسن الفعال والأخلاق ويحب أن يحيا حياة المسلمين الصالحة، حياة الإنسان الفاضل ويحب أن يحيا مسلماً ويموت مسلماً، لكنه لا يستطيع.
فإن السيل المتدفق لحركة المجتمع يجرفه بشكل لا يترك له أي قدرة على تحريك يديه ورجليه، وإذا استطاع أن يضرب بهما الأرض فلن يحصل على أكثر من هدر طاقة من طاقاته، ليس فقط لا يستطيع ضرب الأرض بيديه ورجليه وإنما الأسوأ من ذلك أنه أحياناً لا يستطيع أن يفهم ما يجري. لا أعلم هل قُدّر لكم أن تشاهدوا الأسماك التي تقع في شباك الصيادين في البحار؟ إذ يحدث أحياناً أن تقع آلاف الأسماك في شبكة واحدة ويبدأ الصيادون بسحبها من وسط البحر إلى الساحل، ولكن من غير أن تحس أي سمكة بما يجري والى أي اتجاه تتحرك بل انها تحس أنها تتحرك باختيارها نحو مقصد معين، ولكن الواقع أنها تتحرك من غير اختيارها فإن مقصدها هو المقصد الذي حدده الصياد صاحب الشبكة، وكذلك تفعل شبكة النظام الجاهلي غير المرئية، فهي تسحب الإنسان إلى جهة تحددها هي.
ويحب الإنسان أن يتحرك نحو دار السعادة والفلاح وهو غافل عن أنه يتحرك نحو جهنم {جهنم يصلونها وبئس القرار}. هذه هي ولاية الطاغوت وولاية الشيطان والتي تشكل الفقرة الأولى من سؤالنا المتقدم عن إمكانية أن يحيا المسلم تحت ظل ولاية الطاغوت ويخضع له محافظاً على إسلامه.
وهكذا عرفنا بشكل إجمالي ماذا تعني الحياة تحت ظل الولاء للطاغوت، وإذا أردتم تفسير ذلك تستطيعون الرجوع إلى التاريخ لتروا أن العالم الإسلامي في عصر بني أمية وبني العباس قد شهد حركة قوية، فإن الموج المتلاطم من المعلومات والمعرفة في ذلك العصر كان قد شمل المجتمع الإسلامي، وكم قد ظهر من الأطباء البارعين الكبار ومن المترجمين الأذكياء الذين قاموا بترجمة الآثار المهمة للثقافات القديمة إلى اللغة العربية في وقت لم يشهد أي تطور لغوي أو معرفة باللغات المختلفة.
لقد كانت عظمة المسلمين واضحة في مجالات علم الطب والنجوم والفنون الجميلة وغير ذلك، وقد اعترف غوستاف لوبون الفرنسي وغيره من الباحثين والمستشرقين عند ملاحظتهم هذه الظواهر البارزة في حياة المسلمين في القرن الثاني والثالث والرابع الهجري، اعترفوا أن هذه العصور هي العصور الذهبية للحضارة الإسلامية.
وقد كتب غوستاف لوبون كتاباً عن ذلك بعنوان (تاريخ التمدن الإسلامي في القرن الرابع الهجري).
وبصورة عامة نقول أن المستشرق الأوربي عندما يطالع مسيرة تلك القرون الثلاثة يصاب بالذهول والدهشة ذلك لأن الطاقات والنشاطات الفعالة قد برزت في تلك الفترة، ولكني أوجه إليكم هذا السؤال: هل كانت هذه النشاطات الفعالة في صالح المجتمع الإسلامي وفي نفع الإنسانية؟ وقد مرّ على تلك الفترة عشرة قرون، وليس لنا أي نظرة متعصبة تجاه تلك القرون، ونستطيع أن نقول للعالم غير الإسلامي أن العالم الإسلامي هو الذي أنشأ الجامعات وأوجد الدراسات الفلسفية، وهو الذي برع في مجالات الطب والدراسات الطبيعية، ولكن حين ننظر إلى المسألة فيما بيننا نظرة موضوعية محايدة، هل نستطيع أن نقول ان تلك الطاقات قد وظفت في موقعها المناسب ومن أجل الإنسانية وفي صالح المجتمع الإسلامي؟
ما الذي يملكه المجتمع الإسلامي بعد عشرة قرون من ذلك التراث؟
ولماذا لا يملك منه شيئاً؟ لماذا لم تبق لنا كل تلك الثروات العلمية والثقافية؟ ولماذا لا يضيء مجتمعنا الإسلامي من بين المجتمعات وهو الذي كان يشع ضياءً قبل عشرة قرون؟ هل أن ذلك يعود إلى حاكمية الطاغوت على تلك الأنشطة والفعاليات الكبيرة؟
نعم، إن قادة السوء هم الذين كانوا يلعبون بمقدرات المجتمع الإسلامي من أجل أن ترفع اسمها عالياً؛ مثلاً في زمان أحد الخلفاء العباسيين برزت ظاهرة الترجمة، وعوضاً عن هذه الفعاليات في مجالات الطبيعة والرياضيات والنجوم والأدب والفقه لو كانوا قد مهدوا لمجيء الحكومة الإسلامية بقيادة أئمة أهل البيت؛ فلو كان القائد أو الحاكم هو الإمام الصادق (ع) وكانت القوى والطاقات الإنسانية تحت تصرفه فسوف تكون قيادته في صالح الإنسانية وسبباً إلى نضجها، حتى لو فرضنا المحال وقلنا أن الإمام الصادق لا يوظف تلك الطاقات في المجالات العلمية والأدبية والتي هي موضع فخر واعتزاز للعالم المعاصر، وحتى لو تأخرت البشرية في تلك المجالات مائة عام. نعم ستكون النتيجة في صالح البشرية وسوف تتفتح أزاهير الإسلام وتصرف الطاقات والاستعدادات في سبيلها الصحيح، ولا يقتصر الأمر على ترجمة الكتب والتقدم العلمي والبراعة في الطب من غير أن ينمو الجانب الخلقي والاجتماعي، مما يؤدي ـ وقد أدى فعلاً ـ إلى ظهور الطبقية بشكل عنيف.
ويعد الاختلاف الطبقي المتفشي في ذلك العصر من أساطير التاريخ، تماماً كالتمدن القذر والهابط الذي يسود عصرنا اليوم؛ فإن القوى العالمية العظمى تسود في العالم اليوم لأنها وصلت إلى مستوى علمي رفيع بسبب الاكتشافات والاختراعات المدهشة، فهم بين فترة وأخرى يعلنون عن اكتشافات واختراعات جديدة في مجالات الطب والتكنولوجيا وغيرها ولكنهم في الجوانب الإنسانية والأخلاقية لا زالوا في المراحل التاريخية السائدة قبل آلاف السنين. ولا زال إلى جنب الثراء العظيم، المجاعات وحالات الفقر الاسطورية، وهؤلاء يتباهون بالتقدم العلمي.
هذه صورة مطابقة لما كان عليه الوضع في القرن الثاني والثالث والرابع الهجري، وهذا ما حدث في التمدن الإسلامي العظيم في تلك القرون، فهناك تقدم علمي هائل لكن الحياة مترفة لاهية عابثة وفارغة عن الفضيلة. وهناك أسماء نذكرها بكل فخر واعتزاز ضمن قائمة المناهضين بشدة لتلك المدينة الخاوية، كالمعلى بن خنيس فقد صلب في السوق، وكذلك يحيى بن أم طويل الذي قطعت يده ورجله ولسانه، ومحمد بن أبي عمير الذي ضرب أربعمائة جلدة، وكذلك يحيى بن زيد الذي قتل في سن الثامنة عشر في جبال خراسان، وزيد بن علي الذي ظلت جثته معلقة على الخشبة التي صُلب عليها مدة أربع سنوات.
هؤلاء رجال يفتخر بهم العالم، ولم يكن لهؤلاء أي علاقة إيجابية مع التمدن الهائل الوضاء الذي يشير إليه غوستاف لوبون ويكتب عنه، بل كانت لهم علاقة سلبية مع ذلك التمدن وكانت لهم معه مواجهة مسلحة. لهذا ندرك أن ولاية الطاغوت والشيطان على المجتمع توظف الطاقات الاجتماعية الخاضعة لها بالشكل الذي نشاهده في المدنية الحديثة وشاهدناه قبل عشر قرون في العالم الإسلامي، وأما الشكل الذي ينسجم مع القيم الأصيلة والمعايير المنطقية فليس له أي قيمة في السوق السوداء.
هذه هي ولاية الطاغوت، فهل يمكن أن يحافظ المسلم على إسلامه مع اندماجه بها وعيشه في كنفها وتقلبه في أوضاعها وأخلاقها؟! ونحن نسأل عن معنى أن يعيش الإنسان مسلماً إن هذا يعني وضع كل الطاقات والإمكانات والفنون والقدرات والقابليات تحت إرادة الله سبحانه، فالمال والنفس والمعرفة والفكر وكل ما نملك تحت إرادة الله، ولدينا نموذجان لما عرضناه، نموذج يعود إلى المجتمع والحياة الاجتماعية المتمدنة، ونموذج يرجع إلى المجموعات الخارجة على الأنظمة التي يحكمها الطاغوت والمهاجرة إلى الله.
النموذج الأول: مجتمع المدينة في زمن الرسول (ص) الذي كان خاضعاً لله سبحانه؛ فكل حركة يتحركها لله، وكل خطوة يخطوها في سبيل الله، وكان اليهود والنصارى يعيشون في كنف الولاية الإسلامية، ومع أنهم لم يسلموا لكنهم يحيون الحياة الإسلامية لأن هؤلاء يعيشون في ذمة الإسلام؛ ومعنى ذلك أنهم يتحركون من ناحية عملية في الطريق الإسلامي؛ فاليهودي الذي لم يسلم عندما يعيش ضمن الولاء للإسلام قد يكون أكثر نفعاً للإسلام من المسلم الذي يخضع للنظام الجاهلي. كانت الأموال والثورة تنفق في سبيل الله في زمن الرسول وكذا السيف والسلاح والفكر والمعرفة، وكل ما يصدر من فعل من المسلمين فهو لله وفي سبيله، والعواطف والأحاسيس والبغض كانت لله وفي الله. وفي زمان أمير المؤمنين (ع) كان الوضع بهذا الشكل تقريباً حيث أن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لا يختلف عن النبي (ص) بلحاظ كونه حاكماً وولياً لكنه كان قد ورث مجتمعاً ضعيفاً سئ الأوضاع كثير النواقص، ولو كان النبي (ص) نفسه مكان أمير المؤمنين فإنه سيواجه نفس المشكلات الاجتماعية التي واجهها أمير المؤمنين.
والنموذج الثاني: هو نموذج المجموعات الشيعية المرتبطة بالأئمة على مر التاريخ، ونحن نأسف لانتهاء شهر رمضان ولم نبحث بعد تفاصيل مسألة الإمامة، فإن المفروض أن أبحث مسألة الإمامة بعد مسألة الولاية لأبين لكم هناك أن الشيعة في زمان الأئمة كانوا كياناً واحداً منسجماً ومتفاعلاً، وأُبرز لكم نوع ومناشئ العلاقات بين الإمام وبين الشيعة والعلاقة بين الشيعة وبين المجتمع آنذاك.
وأنا مضطر لعرض المسألة بشكل إجمالي. كان ظاهر الشيعة أنهم يعيشون في كنف النظام الذي يحكمه الطاغوت، ولكنهم في الواقع كانوا يتحركون ضد هذا النظام تماماً. وكمثال لذلك نذكر تلك المجموعة المحدودة العدد التي خرجت مع الحسين بن علي (صلوات الله وسلامه عليه)؛ فهؤلاء شقوا السيل العارم وساروا خلافاً للجهة التي يدفعهم السيل للسير فيها، وهذا أحد النماذج التاريخية للهجرة ولحركة المجموعات المجاهدة.
نريد أن نقول أن الفرد العادي وبصورة كلية الفرد أياً كان، لا يستطيع أن يعيش في ظل مجتمع يحكمه الطاغوت وهو مع ذلك يحافظ على إسلامه بأن يكون وجوده وإمكاناته وطاقاته وكل قواه تحت إرادة الله وحاكميته ورسالته، فالمسلم الذي يعيش في محيط وبيئة يتسلط عليها الطاغوت سوف يصرف شيئاً من طاقاته في طريق الطاغوت ولا يمكنه أن يكون عبداً خالصاً مخلصاً لله بصورة كاملة. وفي كتاب الكافي ـ وهو من أهم المصادر الموثوقة والقديمة للشيعة ـ ورد حديث بعبارات متعددة أقرأ عليكم إحدى هذه العبارات ويمكنكم الرجوع إلى الكتاب(45). قال الإمام الصادق (ع):
"إن الله لا يستحي أن يعذب أمة دانت بإمام ليس من الله وإن كانت في أعمالها برة تقية، وإنّ الله ليستحي أن يعذب أمة دانت بإمام من الله وإن كانت في أعمالها ظالمة مسيئة".
وهذا الحديث يثير العجب والدهشة؛ فهو يؤكد أن المجتمع الذي يعيش حالة الولاء لله مجتمع صالح ومؤهل للنجاة وإن كان يرتكب بعض المعاصي في جزئيات سلوكه أحياناً، وأما أولئك الذين يعيشون تحت ولاية الشيطان والطاغوت فهم من أهل العذاب وإن كانت جزئيات سلوكهم وأعمالهم صالحة وحسنة.
وأنا أشبّه مفاد هذا الحديث بمن يصعد في سيارة قاصداً نيشابور؛ فإذا تحركت نحو هذه المدينة فهو سيصل حتماً إلى هدفه، بخلاف ما إذا تحركت نحو طبس أو قوجان فمن المسلّم به أنه لن يصل إلى هدفه. ولنفترض أنها تحركت نحو نيشابور وهي الهدف المقصود فسوف يصل المسافرون إلى هدفهم على كلتا حالتين: حالة ظهور الآداب والأخلاق الحسنة بين المسافرين وهي الحالة الفضلى، وحالة سوء الخلق. والسيارة سوف تصل الهدف وإن كان قد حدث ما لا ينبغي حدوثه أثناء المسير، وطبيعي أن للخلق السئ دوافع وله آثار ونتائج ولكن على المسافرين أن يتحملوا كل هذا للوصول إلى هدفهم، خلافاً لحركة تلك السيارة التي ينبغي أن توصلك إلى نيشابور لكنها اتجهت نحو مسير آخر فلن تصل هذه السيارة بمسافريها إلى هدفهم وإن كانت الأخلاقية العالية تسودهم، لأن طلاقة الوجه والابتسامة والتعامل الأدبي الرزين والاحترام الوافر لن يغير من اتجاه حركة السيارة، إنما الذي يغير مسيرها ووجهتها هو قيام هؤلاء بوجه قائدها، فهؤلاء مؤدبون رحماء فيما بينهم لكنهم لن يصلوا إلى الهدف. في المثال الأول كان القائد أميناً مخلصاً إماماً من الله، لهذا فهو يوصلهم إلى أهدافهم وإن كانت بعض أعمالهم سيئة، وامام المجموعة الثانية لا يهتدي إلى طريق وليس خبيراً بمسيره وعابد لهواه ورأيه قد ضيع الطريق لعدم وعيه قدم هدفه على أهداف الآخرين، ولهذا فأتباعه لن يصلوا إلى هدفهم وإن كانوا فيما بينهم رحماء مؤدبون، وإن كانت في أعمالها برة تقية، فهم في النتيجة معذبون ولن يصلوا إلى الهدف الذي خلقوا من أجله. وعلى كل حال، فإن المجتمع الذي تحكمه ولاية الطاغوت كالسيارة التي يقودها سائق غير أمين، لن يصل هذا المجتمع إلى هدفه، لهذا لن يكون المجتمع مسلماً خالص الإسلام وهو يعيش في كنف ولاية الطاغوت، ولهذا يرد هذا التساؤل: ما الذي يلزم المسلمين فعله في مثل هذا الوضع؟
وتجيب الآية القرآنية:
{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}.
والآن أحلل أجزاء هذه الآية:
{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}، هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ومستقبلهم وكل طاقاتهم تخاطبهم الملائكة كما يخاطب الطبيب أو الجراح مريضه الذي لا أمل في شفائه: أين كنت وفي أي وضع أنت، مما يدل على أن الوضع الذي وصلوا إليه سئ غاية في السوء. وأنا أشعر أن الملائكة عجبوا من الوضع الهابط الذي وصل إليه هؤلاء ومن حالتهم النفسية المنهارة ومن العذاب الذي ينتظرهم، ولهذا قالوا لهم أين كنتم تعيشون وأي ظلم ألحقتموه بأنفسكم في دنياكم؟! قالوا كنا مستضعفين في الأرض لا نملك إرادتنا. والمستضعفون في المجتمع هم الذين سحقت إرادتهم وشلت فليس لهم إرادة في الخط الاجتماعي المرسوم ولا في المسير في هذا الخط ولا في الوقوف فيه ولا في تصحيح مسارهم، وليس لهم اختيار في أفعالهم فهم يسيرون وفق الخط الذي يرسمه واضعوه ومن غير معرفة بالوجهة التي يتحركون نحوها.
افرضوا طفلاً صغيراً من طلاب المدرسة الابتدائية وليس له من العمر سبع سنوات، فإن عيون أبناء السبع هذه الأيام وآذانهم واعية تتلقى بصورة جيدة ولا يضلون الطريق، بل افرضوه ابن الأربع أو الخمس سنوات كالطفل الذي كان يوضع في الكتاتيب ليتعلم قراءة القرآن. ولا زلت أتذكر أنه عندما نخرج من المكتب على شكل مجموعة لم نكن نعلم أو نفهم إلى أين نذهب، ولكن ثمة مراقب معنا أكبر منّا سناً ويحمل بيده العصا هو الذي يحدد لنا الطريق، فيقول: سيروا في هذا الاتجاه أو ذاك، ونحن لا نعلم إلى أين ينتهي سيرنا، ولكن بعد ذلك نجد أنفسنا في بيوتنا بشكل يشبه المفاجأة. لو أراد المراقب أن يطوف بأولئك الصغار في الشوارع، فلا أحد منهم يشعر بما يجري، وسيكون له ما يريد.
ومستضعفو الأرض هم أولئك الذي ليس لهم أي تأثير أو رأي في التيارات الاجتماعية وفي المناهج التي تسيّرها، كما أنهم لا يملكون إرادة في حركتهم الاجتماعية، لا يعلمون ماذا يجري، ولماذا يجري، وأين يجري، لا يعلمون أين هم والى أين يسيرون، لا يعلمون نقطة الشروع في حركتهم ولا نقطة الانتهاء، ولا يعرفون من هو الذي يقودهم في هذا التحرك ولا يعرفون كيف يقفون، ولو توقفوا فهم لا يعلمون ماذا يفعلون بعد هذا التوقف، لا يعرفون هذا أساساً ولا يلتفتون إليه ولا يثير انتباههم..
ومن غير أن نشبههم تشبيهاً حقيقياً، نقول أنهم كالحصان الذي شدت عيناه فهو يحسب أنه يمشي في طريق طويل بينما هو يدور ويدور حول نقطة معينة، فلو قدر لهذا الحيوان أن يفهم لأوحى لنفسه أنه قريب من باريس، ولكن عندما يقرب وقت الغروب تفتح العصابة من عينيه ليرى نفسه في ذات المكان الذي كان فيه أول الصبح، فهو لا يدري أين ذهب، ولا يعلم إلى أين يتحرك. وطبيعي أن هذا مثال للمجتمع الذي لا يحكمه نظام عادل، بل يديره نظام لا يؤمن بأي قيمة للإنسان وإرادته وكرامته. لا يأتي هذا الكلام في مجتمع يقوده النبي (ص) حيث يخاطبه القرآن {وشاورهم في الأمر}، فمع أنه نبي ومعصوم لا يحتاج إلى مشورة الناس يأتيه الأمر بأن يشاور المسلمين ليشعرهم بعزتهم وكرامتهم وقيمتهم وشخصيتهم، مثل هذا المجتمع ليس فيه من لا يعي ولا يفهم ما يجري خلافاً للمجتمعات التي يتسلط فيها نظام فردي أو نظام استبدادي ظالم أو نظام جاهلي فإن أكثر أفرادها مستضعفون، وهؤلاء يقولون كنا مستضعفين في الأرض، نُقادُ ولا ندري إلى أين، كانوا يأخذوننا هنا وهناك، لقد جعلونا نرتكب السوء ونفعل القبيح ونحن لا نعلم. هذا هو تبرير المستضعفين، لكن الملائكة يجيبون {قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} هل ضاقت الأرض عليكم فليس فيها مساحة تسعكم غير البقعة التي كنتم فيها؟! وهل كان كل الناس يسكنون في تلك النقطة التي كنتم تستضعفون فيها؟! ألم تكن أرض الله واسعة حتى تخرجوا من ذلك السجن أحراراً طليقين؟! ألم تكن في هذه الارض الفسيحة نقطة حرة من سلطة الجبارين تذهبون إليها لتعبدوا الله فيها وتصرفوا طاقاتكم بالطريقة الصحيحة وفي المسير الصحيح؟! ألم تكن ثمة نقطة لا يسودها الاستضعاف في كل أنحاء الأرض الواسعة؟! وإجابة الملائكة هذه تنسجم تماماً مع المنطق العقلاني المقبول، وهذا ما يدركه عقل الإنسان، ومن الطبيعي أنه ليس لأولئك إجابة مقبولة، ولهذا يعقب القرآن {فأولئك مأواهم جهنم} بما وهبوا للطاغوت من الطاقات {وساءت مصيرا}. وهناك استثناء من إطلاق الأمر بالهجرة وعمومه حيث لا يمكن للجميع أن يهاجروا وينقذوا أنفسهم من قيود النظام الجاهلي، فهناك العاجزون والطاعنون في السن والأطفال والنساء اللواتي لا يمكنهن القيام بهذا العمل، ولهذا فهذه الطوائف مستثناة.
{إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا} ولا يعرفون نقطة مضيئة يحكمها الإسلام وتسودها عبودية الله {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم}. لاحظوا جملة التمني وأداتها "عسى" {وكان الله عفواً غفوراً}.
وبعد أن أُلقيت الحجة على المستضعفين بوجوب الهجرة، يدفع القرآن تصور من يتخيل أن الهجرة تسبب الشقاء والحرمان والضرر، ويتسائل في كل حين عن عواقب الهجرة وعن إمكان هذه الهجرة، وعن احتمال وجود منطقة لا يحكمها الطاغوت. من أجل دفع كل هذه التخيلات والتصورات، يقول القرآن الكريم:
{ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة}. انظروا كيف يحلق الإنسان في آفاق الأرض وكيف يطوي من مساحات وكيف تنفتح أمامه الآفاق، ونفس هذا الإنسان كان يطمح تحت حاكمية النظام الجاهلي إذا اراد أن يطمع بفكره نحو أعلى وأوسع الآفاق فهو يفكر في سطح السقف الذي يظله، سطح القفص الذي سجنه وحبسه، أما الآن فإن الآفاق الوسيعة الشاسعة منفتحة أمام ناظريه.
ويوم كان المسلم يعيش في مكة في أيام الإسلام الأولى كان أقصى ما يطمح إليه وأوسع الآفاق التي يحلم بها أن يدخل المسجد الحرام ويصلي فيه ركعيتن وهو يواجه حدة قريش وشدتها، وما أن ينتهي من صلاته حتى يتلقى الضربات والصفعات..
أما بعد الهجرة إلى الأفق الوسيع والأرض غير المستضعفة، إلى المجتمع الإسلامي الذي يعيش الولاء لله ورسوله فسيرى المهاجر عجباً؛ فالمسلمون {يسارعون في الخيرات}، والآية تحدد ميزان التفاضل بين أفراد المجتمع الإسلامي؛ فالذي يتحرك في سبيل الله أكثر ويتعبد له ويكدح في سبيله ويجاهد لإعلاء كلمته وينفق على عباده في سبيله هو الأكثر عزة وفضلاً وإيماناً، وفي مجتمع الأمس في مكة كان جزاء إنفاق درهم واحد في سبيل الله، الكي بالنار والتعذيب بالإحراق، ولكن المسلم يجد مراغماً كثيراً وفرصاً عظيمة للعمل الصالح وآفاقاً واسعة يحلق فيها بعد الهجرة في سبيل الله وإليه والوصول إلى المدينة المنورة.
{ومن يهاجر في سبيل الله} ويتوجه نحو المجتمع الإسلامي {يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة}، ومن يخرج مهاجراً من دار الكفر إلى دار الإسلام متخذاً سبيل الله سبيلاً ومنهجه منهجاً ويمت وهو في دار الهجرة، فماذا يكون مصيره؟
والإجابة القرآنية أن أجره على الله لأنه أدى وظيفته ووفى، حيث كانت الحركة والهجرة مسؤوليته وقد أداها، وقدم ما في وسعه من جهد، وهذا ما يريده الإسلام، أن يتحرك الإنسان لله وفي سبيله بمقدار استطاعته وقدرته. {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً}.
وهذا المبحث لم يتم بعد وبقي على النصف، وهذه المقالة هي آخر بحث الولاية، ولكننا نشير إلى هذه الملاحظة وهي أنه في حالة عدم وجود دار للهجرة، فماذا يعمل الإنسان تجاه مسؤوليته بالانتقال من دار الكفر، والهجرة عن ولاية الطاغوت والشيطان إلى دار ولاية الله والنبي والإمام أو الولي الإلهي؟
وثمة احتمالات: أن يبقى في دار الكفر، أو أن يكفر في تأسيس وبناء دار للهجرة.
وهناك هجرات يبتدأها بعض الناس وتكون نقطة انطلاق لهجرات موسعة، وتصير أساساً لبناء المجتمع الإسلامي، وعندها تبنى دار الهجرة وتبدأ أفواج المؤمنين بالمهاجرة إليها. هذا ما يعود إلى بحث الهجرة.
خلاصة المقالة السادسة
ولاية الطاغوت والشيطان في النظام الجاهلي والطاغوتي تربط المؤمن وتقيده بآلاف القيود والعلاقات بمركز القدرة الطاغوتية وتحاصره في شبكة النظام الجاهلي غير المرئية، فتسلبه حريته وتدفعه من غير اختياره نحو النهاية التي تنتظر ذلك النظام وتمنعه من توظيف طاقاته في سبيل الله، وعلى ضوء المنهج الذي رسمه الإسلام وهذا الواقع الذي لا يقبل التخلف أو الاستثناء يطرح أمامنا مسألة الهجرة. والهجرة هي الفرار من قيود النظام الجاهلي والوصول إلى المحيط الإسلامي الحر الطليق، حيث تقترب كل الدوافع الإنسانية من الأهداف التي يحبها الله، وحيث تسير الحركة الطبيعية للمجتمع نحو التكامل والسمو الفكري والروحي والمادي.
وهناك حيث تنفتح الطرق المشرقة الصالحة، وتنغلق أبواب الشر والسوء، هناك حيث المجتمع الإسلامي، إذن يترتب على أصل الولاية وجوب الهجرة، وتكون الهجرة من المسؤوليات الفورية والضرورية للمؤمنين، وعندها يضع المؤمنون خطاهم في أرض تحكمها ولاية الله.
{ودٌوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء} في الكفر{فلا تتخذوا منهم أولياء}
{حتى يهاجروا في سبيل الله} فيخرجون من مساندة الشرك والطاغوت {فإن تولوا} بقوا على تلك المساندة {فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم}
{ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً}(46).
{إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله}
{والذين آووا ونصروا}
{أولئك بعضهم أولياء بعض} تسودهم المحبة والتعاون
{والذين آمنوا ولم يهاجروا}
{ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا}
{وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} لأنهم تحركوا من أجل دينكم
{إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق}
{والله بما تعملون بصير}
{والذين كفروا بعضهم أولياء بعض}
{ألا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}
{والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله}
{والذين آووا ونصروا}
{أولئك هم المؤمنون حقاً}
{لهم مغفرة ورزق كريم}(47).
{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}
{قالوا فيم كنتم}
{قالوا كنا مستضعفين في الأرض}
{قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}
{فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً} لأنهم ذلوا أنفسهم وفقدوا عزتهم ولم يهاجروا
{إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان}
{لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً}
{فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم}
{وكان الله عفواً غفوراً}
{ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة}
{ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله}
{ثم يدركه الموت}
{فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً}(48).
أسئلة المقالة السادسة
1 ـ ماذا تعني الهجرة، وأي علاقة لها ببحثنا، وبأي مسألة ترتبط؟
2 ـ لماذا يلزم الإنسان بالفرار من الطاغوت والشيطان؟
3 ـ هل يمكن أن يعيش المسلم محافظاً على إسلامه في كنف الطاغوت؟
4 ـ ما هي أهم المميزات البارزة لولاية الله، وما الذي تمنحه للمجتمع؟
5 ـ هل تكمن سمة الولاية الإلهية في تحريك الفرد والمجتمع وتوجيه طاقاتهما في المنهج الإسلامي؟
6 ـ من هم المستضعفون؟
7 ـ هل أن الهجرة ضرورية مع وجود دار للهجرة وأخرى للإيمان، وهل أن المؤمنين مكلفون بإيجاد دار للإيمان لو لم تكن ثمة دار للإيمان؟
8 ـ احفظ الآيات 97 ـ 100 من سورة النساء، واشرح خلاصة المقالة السادسة على هدي هذه الآيات.
والحمد لله رب العالمين
42 ـ سورة المائدة، الآية: 55.
43 ـ سورة القصص، الآية: 41.
44 ـ سورة إبراهيم، الآية: 28.
45 ـ أصول الكافي ج 1 ، ص 36. كتاب الحجة، باب من دان الله عز وجل بغير إمام من الله جل جلاله.
46 ـ سورة النساء، الآيتان: 88 ـ 89.
47 ـ سورة الأنفال، الآيات: 72 ـ 74.
48 ـ سورة النساء، الآيتان: 99 ـ 100.
-
- المواعظ الحسنة
- حقوق الإنسان في الإسلام
حقوق الإنسان في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهرين المنتجبين وصحبه المهتدين..
إن مسألة حقوق الإنسان هي إحدى المسائل الأساسية المهمة، كما أنها من أكثر قضايا الإنسان حساسية، فقد اتخذت في العقود الأخيرة أبعاداً سياسية فضلاً عن أبعادها الأخلاقية والحقوقية. ومع أن تدخل الأهداف السياسية والتكتلات والمواقف السياسية قد وضع عقبات ومشاكل عديدة أمام الطرح الصحيح لهذه المسألة، إلا أن كل ذلك يجب أن لا يثني المفكرين والمهتمين بالأمر عن مواصلة دراسة حقوق الإنسان وحل مشكلاتها.
وفي الغرب هذه المسألة قد تم إحياؤها من قبل المفكرين، فهي ومنذ نحو مئتي عام تتصدر قائمة المسائل السياسية والإجتماعية للعالم الغربي، حتى أضحت مسألة مهمة نجد بصماتها على الكثير من الإنقلابات والتغييرات السياسية والإجتماعية.
وقد بلغ هذا الإهتمام الغربي ذروته خلال العقود الأخيرة، فكان صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتأسيس منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية مصداقاً عينياً للإهتمام بقضية حقوق الإنسان في العالم، ويمكننا اتخاذ هذا المصداق مقياساً نستند إليه في تحليلنا وحكمنا على ما سمعناه من شعارات وضجيج عن حقوق الإنسان خلال المئتي عام الأخيرة، وخاصة خلال العقود الأخيرة.
وطبيعي أننا نحن المسلمين نعلم جيداً أنه إذا كان الغرب قد أولى هذه المسألة اهتماماً كبيراً خلال العقود الماضية، فإن الإسلام كان قد اهتم بها وبأبعادها الواسعة والشاملة منذ قرون عديدة. فقد عالجها بشكل أساسي وجذري، وهذا ما نلاحظه في الكتب والآثار الإسلامية الموجودة والتي لسنا بحاجة الى تفصيلها الآن ما دمنا نتحدث الى جمع من المسلمين.
إن الآيات القرآنية والأحاديث الواردة عن الرسول الأكرم والأئمة (عليهم السلام) أكدت جميع حقوق الإنسان التي تنبّه إليها العالم واهتم بها خلال العهود الأخيرة، وهي تحظى دوماً باهتمام المسلمين والعلماء، وهم ليسوا بحاجة الى التذكير بها وتكرارها. وفي ختام حديثي، سأذكّر بأن على المجتمع الإسلامي اليوم مسؤولية تعريف العالم بهذه الحقيقة الإسلامية الوضّاءة لكي لا يدع هذه الأصالة الإسلامية تضيع وسط أعاصير الضجيج والأجواء السياسية المفتعلة على الصعيد العالمي.
هنا تطرح عدة أسئلة نفسها، وتشكل الإجابة عنها، هدفنا من هذا البحث. من المؤكد، أيها المفكرون والباحثون، أنكم ستقدمون خلال هذا المؤتمر بحوثاً عميقة ونافعة حول الجوانب والأبعاد المختلفة لحقوق الإنسان، وهذا بحد ذاته سيكون ذخراً للعالم الإسلامي يمكّنه من الإطلاع على الموضوع من منظار إسلامي.
السؤال الأول هو: هل كانت المحاولات التي جرت خلال القرنين الماضيين، وخاصة خلال نصف القرن الأخير، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن وتحت اسم حقوق الإنسان، موفقة أم لا؟ وهل استطاعت كل هذه التصريحات والإجتماعات والمؤتمرات من جانب هيئة الأمم المتحدة والإذاعات حول حقوق الإنسان أن توصل البشر الى حقوقهم الحقة؟ أو في الأقل هل استطاعت إعطاء الإنسان الجزء الأكبر من حقوقه؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست صعبة، فمجرد الإطلاع على حقائق عالمنا اليوم، يكفي لإثبات إخفاق كل ما بذل في هذا المجال لحد الآن، ونظرة عابرة لوضع المجتمعات المتخلفة التي تشكل النسبة الأكبر من سكان العالم ستثبت لنا أن أكثر البشر لم يحصلوا خلال نصف القرن الأخير على حقوقهم، وليس هذا فحسب بل إن أساليب سلب حقوق الإنسان والشعوب المحرومة قد تطورت وتعقدت وأصبح من الصعب علاجها. نحن لا يمكننا تقبّل ادعاءات منظمات حقوق الإنسان ولا ادعاءات هؤلاء الذين يدّعون مناصرة حقوق الإنسان، بينما نحن نشاهد الواقع المر لشعوب أفريقيا وآسيا، وجوع ملايين البشر، وحرمان العديد من الشعوب من أبسط حقوقها الإجتماعية. إن هؤلاء الذين رفعوا عقيرتهم خلال الأربعين عاماً الماضية دفاعاً عن حقوق الإنسان إنما هم أنفسهم قد سلبوا ولا زالوا يسلبون حقوق الشعوب المحرومة في العالم الثالث، واليوم نشاهد حكومات وأنظمة تسلّمت السلطة في العالم الثالث تستند الى تلك القوى نفسها وتنتهج طريقها نفسه في انتهاك حقوق الإنسان في بلدانها.
إن الحكام الجبابرة الذين كثر عددهم خلال نصف القرن الأخير في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، لا يستطيعون انتهاج الدكتاتورية دون الإعتماد على القوى الكبرى في العالم، والقوى الكبرى هي نفسها التي ترفع عقيرتها دوماً بشعارات الدفاع عن حقوق الإنسان، وهي التي أسست الأمم المتحدة التي لا زالت حتى اليوم خاضعة لسيطرتها.
إن تفشي الفقر والجوع والموت في العديد من دول العالم، إنما هو نتيجة التدخل والظلم والإغتصاب الذي تقوم به هذه القوى. فمَن الذي أوصل أفريقيا المليئة بالخيرات الى ما هي عليه اليوم؟ ومَن الذي استغل شعبي بنغلادش والهند لسنوات طوال وأوصلهما الى هذا الوضع بحيث يتفشى فيهما الجوع والموت بينما تملكان من الخيرات والبركات ما شاء الله؟
ومَن الذي ينهب ثروات دول العالم الثالث ويطوّر تكنولوجيته وصناعته ويجمع الأموال الطائلة على حساب الفقراء والجياع في هذه الدول؟
إن الذين أسسوا منظمة الأمم المتحدة، وأصدروا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذين يواصلون اليوم وبكل صلافة الإدعاء بالدفاع عن هذه الحقوق، هم أنفسهم سبب معاناة الشعوب وتعاستها، وإلا فلماذا تبقى أفريقيا الغنية بالثروات والموارد الطبيعية، وأميركا اللاتينية المليئة بالثروات الطبيعية، والهند الكبيرة الواسعة، ودول العالم الثالث التي تمتلك كل هذه الطاقات البشرية والثروات الطبيعية، لماذا تبقى كل هذه المناطق متخلفة عن مواكبة ركب التطور والتقدم؟
إن الذي يحكم العالم اليوم، هم أصحاب المال والقدرة الذين وضعوا بأنفسهم أسس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وها نحن نرى الوضع المأسوي الذي تعاني منه الشعوب وهي ترزح تحت نير تسلّط هذه القوى ونهبها لها.
منظمة الأمم المتحدة التي تعتبر ثمرة كل الجهود الرامية الى حفظ حقوق الإنسان، ما الذي عملته للشعوب، وماذا تفعل اليوم؟ وفي أية قضية سياسية أو كارثة كبرى أصابت الشعوب إستطاعت هذه المنظمة أن تلعب دوراً فعالاً وإيجابياً؟ ومتى نهضت هذه المنظمة لدعم المظلوم؟ ومتى استطاعت هذه المنظمة منع القوى الكبرى من مواصلة سياساتها الظالمة؟ إن هذه المنظمة أكثر تخلفاً من الكثير من الدول والشعوب. فعلى الرغم من كل هذه الإدعاءات، فإنكم تشاهدون في أفريقيا اليوم نظاماً عنصرياً، بل إنكم تشاهدون التمييز العنصري داخل الدول المتقدمة نفسها. إذاً فمنظمة الأمم المتحدة لم تفعل شيئاً من أجل حقوق الإنسان، إذ قُصر دورها في المشاكل العالمية على التوصيات والإرشادات فقط كما تفعل أية كنيسة.
وفي منظمة الأمم المتحدة، يوجد مجلس الأمن الدولي الذي يعتبر النواة المركزية للمنظمة ومركز القرار، وفيه تمتلك الدول الكبرى حق النقض (الفيتو) فتستطيع الدول الكبرى نقض أي قرار يتخذه المجلس ضد المتسببين في إضعاف الشعوب وإبقائها متخلفة. إن منظمة الأمم المتحدة وكل المنظمات التابعة لها، سواء أكانت ثقافية أم إقتصادية أم فنية أم غيرها.. خاضعة لتأثير القوى الكبرى. وقد شاهدتم الضغوط التي مارستها أميركا ضد منظمة اليونسكو الثقافية بسبب مجيء رجل مسلم الى رئاسة المنظمة يسعى الى إبقائها مستقلة؛ فقد شاهدتم خلال السنتين الماضيتين حجم الضغوط التي مارستها أميركا ضد هذه المنظمة ورئيسها.
إذاً فالأمم المتحدة، باعتبارها ثمرة كل الجهود التي بذلت من أجل حقوق الإنسان، تراها اليوم عقيمة لا فائدة منها، بل إنها تتصرف أحياناً وكأنها ملك للقوى الكبرى. ومع ذلك فإننا لا نرفض وجود الأمم المتحدة أساساً، بل نعتقد أنها يجب أن تبقى، ولكن يجب أن يجري إصلاحها، فنحن أيضاً عضو فيها. والذي أريد قوله هو إنه بعد كل تلك الجهود والضجيج والإدعاءات، وبعد كل تلك الآمال التي عُقدت على هذه المنظمة، نشاهد اليوم مدى عجز هذه المنظمة عن تأمين حقوق الإنسان، وهكذا فقط إتضحت الإجابة عن السؤال الأول، إذ يمكننا القول: إن الجهود التي بُذلت من أجل حقوق الإنسان خلال القرون الأخيرة قد باءت جميعها بالإخفاق.
السؤال الثاني هو: هل كانت كل هذه الجهود صادقة ومخلصة؟
من الواضح أن هذا سؤال تاريخي قد لا تكون له آثاره العملية، ولهذا فلن نطيل البحث والتفصيل فيه، ونكتفي بالقول إن أغلب هذه الجهود لم تكن مخلصة. صحيح أنه كان من بين المتصدين لهذا الأمر مفكرون وفلاسفة ومصلحون، إلا أن السياسيين كانوا يتحكمون بكل شيء حتى أن جهود بعض المصلحين أصبحت بالنتيجة تصب في مصلحة تجار السياسة. ففي الماضي، كان الذين يطلقون نداءات الدفاع عن حقوق الإنسان هم الأنبياء والحكماء وأمثالهم، أما اليوم فنشاهد هذه النداءات تصدر عن السياسيين، ولهذا فمن حقنا أن نشك في صدقها وإخلاصها. أنظروا مَن الذي ينادي بحقوق الإنسان اليوم، فالرئيس الأميركي السابق إتخذ من ضمان حقوق الإنسان شعاراً ليصل بواسطته الى الرئاسة، وفي أيام رئاسته الأولى كان يظهر من أحاديثه وتصريحاته أنه يريد العمل بجد بهذا الخصوص، إلا أنه وقف في النهاية الى جانب أظلم الحكام المعارضين لحقوق الإنسان وأقساهم وأشرسهم في المنطقة، فقد وقف الى جانب الشاه والصهاينة المتسلطين على فلسطين وسائر المستبدين المعروفين في هذا العصر.
إن الحكام ورجال السياسة الذين يرفعون عقيرتهم اليوم بالدفاع عن حقوق الإنسان في المؤتمرات والمحافل الدولية، ليسوا بأفضل ممن سبقوهم إذ أننا لا نشاهد الصدق والإخلاص في تحركاتهم. فالذين وضعوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى رأسهم أميركا، كانوا يسعَون الى فرض سلطتهم وهيمنتهم على العالم. إن هؤلاء هم أنفسهم الذين قتلوا عشرات الآلاف من البشر بالقنبلة الذرية، وهم أنفسهم الذين زجّوا بأبناء الهند والجزائر وأفريقيا في جيوش تخوض حروباً لا علاقة لها بهذه الدول من قريب ولا من بعيد. نعم إننا لا يمكن أن نصدّق أبداً أن روزفلت وتشرشل وستالين وأمثالهم قد فكروا يوماً بحقوق الإنسان الحقيقية، أو أنهم كانوا صادقين ومخلصين في تأسيسهم منظمة الأمم المتحدة وإصدارهم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إذاً، فقد اتضح الجواب عن السؤال الثاني، وهو أننا نعتقد أن تحركات السياسيين ومساعيهم وأغلب النداءات والصرخات الداعية الى إعطاء الإنسان حقوقه لم تكن صادقة أبداً.
أما السؤال الثالث، وهو السؤال الأساسي فهو: ما هي أسباب كل هذا العجز والإخفاق في هذه المساعي؟ إن هذه النقطة يجب أن تحظى بقدر أكبر من اهتمامكم، وسأتناولها أنا هنا باختصار. فنحن نعتقد أن ما يطرح اليوم باسم حقوق الإنسان إنما يطرح في إطار نظام معْوَجّ وخاطئ، ألا وهو نظام الهيمنة، نظام الظلم، وهو ما يؤمن به أولئك الذين أوجدوا الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذين يرفعون اليوم عقيرتهم ويملأون الدنيا شعارات دفاعاً عن هذه الحقوق، كما يؤمن به أيضاً - مع الأسف - أغلب الحكام والسياسيين في العالم، ويتلخص معنى هذا النظام في أن هناك مجموعة من الناس تهيمن على الباقين ويجب أن تبقى مهيمنة. هذا النظام تتبعه ثقافة الهيمنة. فالعالم اليوم مقسّم الى قطبين أو مجموعتين: مجموعة المهيمنين، ومجموعة الخاضعين لهذه الهيمنة، فالمجموعة الأولى تعتقد بأن نظام الهيمنة يجب أن يسود، والثانية رضيت بهذا النظام وخضعت للهيمنة. وهذا هو الخلل الكبير في الوضع العالمي اليوم. فالذين يرفضون هذا النظام والذين يتمردون على الوضع الإجتماعي والسياسي السائد في العالم، هم أولئك الثوار التحرريون أو دول قليلة جداً، وهؤلاء يتعرضون لضغوط مستمرة، والجمهورية الإسلامية خير مثال على ذلك، فقد رفضت نظام الهيمنة بكل أشكاله، ورفضت هيمنة أية جهة أو دولة أو مجموعة، سواء أكانت شرقية أم غربية. وقد شاهد الجميع ما واجهته الثورة الإسلامية خلال سنيّ عمرها الثماني من ضغوط سياسية وعسكرية واقتصادية وإعلامية بسبب اتخاذها الموقف الصادق والجاد والمستقل من نظام الهيمنة.
فإن كانت هناك بعض التقدمية تقف بوجه الهيمنة الغربية والأميركية، فسنلاحظ أنها تميل الى المعسكر الشرقي بنسب متفاوتة، فبعضها يرتمي بشكل كامل في أحضان المعسكر الشرقي وروسيا، وبعضها الآخر يميل الى هذا المعسكر مع وضوح الإستقلالية في الكثير من مواقفه وسياساته.
إن الدولة الوحيدة التي رفضت الرضوخ لضغوط أية قوة، هي الجمهورية الإسلامية بشعبها وكل قواها، فقد رفضت نظام الهيمنة جملة وتفصيلاً. فنحن نعلن موقفنا الصريح والواضح وبدون أي تحفظ من أية حالة هيمنة تمارسها قوة أو فئة ضد شعب من شعوب العالم.
إن أكثر العالم رضي بنظام الهيمنة، فأنتم تلاحظون أنه حتى الحكومات الخاضعة للهيمنة، تملك الجرأة على الوقوف بوجه القوى الكبرى ومواجهتها، بينما نحن نعتقد أن هذا الأمر ممكن ويسير.
نحن نعتقد أن الدول الفقيرة، والدول التي رضخت للهيمنة والدول التي أُجبرت على الرضوخ للهيمنة رغم امتلاكها القدرات والثروات، بإمكانها الوقوف بوجه القوى الكبرى إن أرادت ذلك، وهذا الأمر يسير لا يحتاج الى معجزة، إذ يكفي حكومات هذه الدول أن تعتمد على شعوبها.
إن ضعف نفوس وإرادة بعض الحكام، وخيانة بعضهم الآخر أدّيا الى خضوع هؤلاء لنظام الهيمنة، فهذا النظام هو الذي يسيّر الإقتصاد والثقافة والعلاقات والحقوق الدولية، وطبيعي أن تكون مسألة حقوق الإنسان قد انطلقت من هذه النظرة، ووجدت وتنامت في إطار هذا النظام. فالذين ينادون بحقوق الإنسان في الغرب ويسعَون الى إعطاء مواطنيهم بعض الحرية الشكلية والإمكانات الرفاهية، يقومون هم أنفسهم بقتل آلاف البشر من الدول الأخرى، فما الذي يعنيه ذلك غير سيطرة ثفافة الهيمنة على عقول هؤلاء؟ إنهم يقسمون الإنسان في العالم الى نوعين: الأول/ إنسان يجب الدفاع عن حقوقه، والثاني/ إنسان بلا حقوق، يجوز قتله واستعباده واغتصاب ثرواته. هذه هي ثقافة الهيمنة المسيطرة على العالم، وحقوق الإنسان المطروحة اليوم، إنما هي وليدة هذه الثقافة.
هذا هو إطار حقوق الإنسان في عالمنا اليوم، والذي تعمل القوى الكبرى بواسطته على تعميق الهوة بينها وبين الدول الضعيفة، وتزيد من ضغوطها عليها، لتسرع هي في تطورها وتقدمها العلمي والتكنولوجي.
إن الأقمار الصناعية تدور اليوم حول الأرض لتجمع الأسرار والمعلومات الخاصة بالدول والشعوب، فبأي حق يتم كل هذا؟ إن جميع المحادثات واللقاءات بين الناس على سطح هذه الأرض تخضع للإنصات من قبل أولئك الذين يملكون التفوق التكنولوجي ولتجسسهم، فبأي حق يتم هذا؟ هل سأل أحد عن ذلك؟ هل مَن يعترض على ذلك؟ بما أن أميركا تملك أقماراً صناعية إذاً فمن حقها استخدام هذه المعلومات المستحصلة، والجميع يرضخ لذلك! ترى أليس التجسس على أحاديث الآخرين وأسرارهم اعتداءاً على حقوقهم؟ وهل قام أحد بطرح هذا السؤال على أميركا وروسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا؟ ونحن نسأل: هل يمكن طرح مثل هذا السؤال؟ ويأتي الجواب بالنفي، لأن الجميع سيقولون إن هذه الدول تملك القوة والقدرة ويجب أن تقوم بذلك.
إن مسألة القنبلة النووية واستخدام السلاح النووي تُطرح اليوم على الصعيد العالمي، تطرحها الدول الكبرى نفسها لأن كلاً منها تخاف الأخرى، فتقوم بافتعال الضجيج واللجوء الى كل وسيلة لخداع الأخرى ودفعها الى التقليل من تسليحاتها النووية، بينما تقوم هي بزيادة تسليحها. ترى هل فكرت الدول الصغيرة بأن تعلن للدول المنتجة للأسلحة النووية بأنها ستقطع علاقاتها معها وستقطع عنها مواردها وتسهيلاتها وإمكاناتها ما دامت تواصل إنتاج هذا السلاح الذي يحمل خطراً كبيراً يهدد البشرية بالفناء في أية لحظة؟ هل فكرت دول عدم الإنحياز وسائر الدول بأن تشكل محوراً معارضاً لإنتاج الأسلحة النووية؟ بالطبع لا. ولو أنكم عرضتم عليهم هذه الفكرة لقالوا إن هذه الدول تملك تكنولوجيا متطورة وباستطاعتها إنتاج هذه الأسلحة. إن هؤلاء قد استسلموا واقتنعوا بنظام الهيمنة الذي بات مقبولاً من كلا الجانبين: المهيمنين والخاضعين للهيمنة في وقت واحد.
نحن نشاهد في المحافل الدولية أن ممثلي الدول تدهشهم إدانتنا للشرق والغرب ويعتبرون ذلك تهوراً من جانبنا بينما هو موقف طبيعي من شعب مستقل، وعلى الشعوب جميعاً سلوك نفس هذا النهج، كما أن على الحكومات أيضاً أن تتخذ هذا الموقف الذي تتركه وللأسف.
نخلص الى القول بأن ثقافة الهيمنة، تعتبر اليوم أكبر آفة وخطر يهدد العالم كله، خاصة الشعوب المستضعفة.
إن القوى الكبرى، وفقاً لثقافة الهيمنة تسمح لنفسها بنقض حقوق الإنسان حيثما شاءت، فهي تهاجم غرينادا وتساند الصهاينة الذي يقتلون الأبرياء في لبنان، وتساند - مع بعض الدول الأوروبية - النظام العنصري في جنوب أفريقيا في ظلمه واضطهاده لأصحاب البلد الأصليين، أما لو نهض شخص في إحدى بقاع العالم وتمـرّد على هذا الوضع غير المتوازن، فقام بتفجير قنبلة أو عملية ثورية، او قاد حركة ضد هذه المعادلة غير المتوازنة، لتعرَّض للإدانة، ولأُلصقت به صفة الإرهاب، بينما الإغارة على ليبيا وقصف منزل رئيس دولة والإعتداء على أراضي دولة أخرى لا تتعرض لأية إدانة.
عندما يتحدث هؤلاء عن الإرهاب يطرحون عمليات أفراد مظلومين نهضوا غاضبين، من فلسطين ولبنان ودول أفريقيا وأميركا اللاتينية، ويبعدون الأذهان عن الإعتداءات والإنتهاكات والإرهاب الذي تمارسه أميركا وبريطانيا وسائر القوى الكبرى. إن هذه هي ثقافة الهيمنة التي تسيطر، مع الأسف، على أذهان البشر.
في ثقافة الهيمنة، تعطي المصطلحات معاني تتلاءم مع نظام الهيمنة، فمثلاً يطرح معنى الإرهاب بشكل بحيث لا تعتبر الإغارة على ليبيا وتهديد نيكاراغوا والهجوم على غرينادا، مصاديق له، هذا هو الخطأ الكبير في عالمنا اليوم.
إذاً، فسبب عدم نجاح كل المحاولات والمساعي المبذولة باسم حقوق الإنسان من قبل المخلصين الصادقين والحريصين على هذه الحقوق، يكمن في أنهم يطرحون هذه الحقوق في إطار نظام الهيمنة وثقافتها، وفي هذا الإطار يريدون وضع حقوق الإنسان، وهذا أمر مستحيل. إذ يجب تحطيم هذا الإطار، أولاً تجب إدانة نظام الهيمنة ورفضه جملة وتفصيلاً حتى يمكن فهم مسألة حقوق الإنسان، والسعي من أجل ضمانها بالشكل الصحيح.
وهنا نصل الى السؤال الرابع والأخير وهو: ما العلاج؟
برأينا يكمن العلاج في جملة واحدة هي: العودة الى الإسلام والوحي الإلهي. إنها الوصفة الطبية النافعة للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء. إن على المجتمعات الإسلامية أن لا تفكر بغير هذا، عليها أن تحيي القرآن والفكر الإسلامي وتستنبط القوانين والأحكام من المصادر الإسلامية (القرآن والسنّة) فذلك كفيل بتحديد معالم حقوق الإنسان ومصاديقها، ومساعدتنا في ضمان هذه الحقوق. ولأجل إعطاء الإنسان حقوقه علينا ترك التوصيات والنصائح، فهي عديمة الفائدة، {خذوا ما آتيناكم بقوة} فلقد أعطى الله هذه الحقوق للإنسان وعليه أخذها بكل قوة. على الشعوب أن تعتمد على الفكر الإسلامي في مواجهة الهيمنة والضغوط، وهذا الكلام لا يصدر من إنسان يجلس في زاوية المدرسة يفكر بالمسائل والنظريات الإسلامية، بل إنه صادر عن ثورة خاضت تجربة ناجحة ولمست حقائق عديدة، فثورتنا تجربة تقدم نفسها لكل الشعوب. أنا لا أقول إننا استطعنا حل كل مشاكلنا، فبسبب الثورة واتجاهنا نحو الإسلام اختلقوا لنا مشاكل عديدة، إلا أننا استطعنا إنهاء مشكلة الهيمنة، وشعبنا اليوم مستقل عن جميع القوى، ويمكنه اتخاذ أي قرار يريده بكل حرية واستقلالية. وطبيعي أن أمام شعب يريد التحرر من كل أنواع التبعية طريقاً طويلاً وشاقاً، لكن التبعية التي لا تقترن بالهيمنة هي أمر طبيعي يمكن تحمله، وواضح أن ثورتنا وجمهوريتنا الإسلامية قد ورثتا مجتمعاً مدمراً واقتصاداً منهاراً وثقافة منحطة، لقد ورثت ثورتنا. إيران كانت خلال الستين عاماً الأخيرة معرضة للغزو من كل صوب وعلى الأصعدة كافة، ولا يتوقع أحد أن الثورة ستستطيع التعويض عما فات إيران على الصعيد الثقافي والأخلاقي والإقتصادي والعلمي والصناعي في فترة وجيزة، ونحن أيضاً لا ندّعي ذلك.
إننا نعتقد أنه إذا استطاع شعبنا الوصول الى مستوى مادي عالٍ، فيجب أن يتم ذلك في ظل الإستقلال والإعتماد على النفس واستخدام جميع إمكاناته المادية والبشرية.
إن الذي يمكن أن ندّعيه بكل ثقة، هو أن الجمهورية الإسلامية لم تعد تخضع لأية هيمنة أو ضغوط سياسية من جانب أية قوة، وليس بإمكان الضغوط السياسية التي تمارس ضدها تغيير نهجها وخطها، ولا التعديل من مواقفها أو إجبارها على الإتجاه نحو إحدى القوى الكبرى، إننا حررنا أنفسنا من سلطة القوى الكبرى وهيمنتها، وهذا بحد ذاته تجربة غنية.
نحن نعتقد أن أفضل النماذج لحقوق الإنسان في الإسلام هو حق الحياة، وحق الحرية، وحق التمتع بالعدالة، وحق التمتع بالرفاهية، وسائر الحقوق الأساسية التي أعطاها الإسلام للإنسان قبل أن ينتبه لها المفكرون الغربيون.
إن علينا أن نعود الى الإسلام، وعلى المفكرين الإسلاميين الإضطلاع بمسؤولية البحث والدراسة في مجال حقوق الإنسان خاصة، والنظام الحقوقي بشكل عام، وهذا ما أخذه هذا المؤتمر على عاتقه والذي سيكون خطوة على هذا الطريق، وستستمر هذه الجهود إن شاء الله على مستوى عالٍ لتتمكن الشعوب من التمتع بهذه الحقوق، وطبيعي أن بإمكان الحكومات مساعدة شعوبها في هذا الأمر بشرط أن لا تراعي رغبات القوى الكبرى، وهذا ما لا نشاهده الآن بكل أسف، فأغلب الأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية تقع تحت تأثير القوى الكبرى، وأغلبها تحت تأثير الغرب وأميركا، ولهذا فإن جميع مواقفها وقوانينها لا تتماشى مع الموازين والأحكام الإسلامية وإرادة شعوبها، وهذا المؤتمر الذي عقد في الكويت مثال بارز على ذلك، فقد رأيتم كيف أنه لم يبحث القضايا الأساسية والمصيرية للمسلمين، بل ذهب الى طرح قضية وإصدار البيان الختامي بشأنها وهي لا تتفق والإسلام، فبدلاً من أن يدينوا العراق ويطردوه من المؤتمر بسبب اعتدائه على إيران ووقوفه بوجه بلد مسلم، وبدلاً من كشف دور القوى الكبرى في تأجيج هذه الحرب، فإنهم أبدَوا رضاهم عن العراق باعتباره - حسب قولهم - يلبي نداء السلام؛ متجاهلين بذلك واقع هذه القضية وحقيقتها، ومتناسين أن دفاع شعب عن حقوقه أحق أن يُشاد به، وامتثال نظام معين لرغبات الإستكبار العالمي في الوقوف بوجه ثورة شعبية إسلامية أحق أن يدان.
إن هذه البيانات والقرارات ووجهات النظر خاوية لا تستند الى المبادئ والقيم الإسلامية، كما أنها تفقد أية أهمية، فليس هناك شعب ينتظر ما ستتخذه قمة الكويت من قرارات لكي يفرح أو يحزن لها، أي أن هذه المؤتمرات وهذه القرارات بعيدة عن الواقع والأصالة الإسلامية وطموحات الشعوب لدرجة أنها تواجه بعدم اكتراث من قبل الشعوب، فليس هناك من شعب متعطش لما سيصدر عن القمة الإسلامية، ليحدد واجبه على غرارها. لماذا يصل تجمع يضم ستاً وأربعين دولة، على مستوى القمة، الى هذه الدرجة من الخواء والضعف؟ إن السبب يكمن في أن أغلب هؤلاء الرؤساء يقعون تحت تأثير القوى الكبرى، وما دام رعب هيمنة هذه القوى يسيطر على قلوبهم فلن تصلح حال المسلمين، ولو أردنا إصلاح هذه الحال التي نمر بها اليوم، لكان علينا أولاً طرد ما في القلوب من رعب من القوى الكبرى، وكما قال الباري عز وجل {فلا تخشَوا الناس واخشونِ}، وإذا ما حدث ذلك فسينصلح حال الشعوب الإسلامية.
هنا أصل الى نهاية حديثي، وآمل أن يتمكن هذا المؤتمر من قطع خطوات مؤثرة في طريق معرفة الحقائق الإسلامية في مجال حقوق الإنسان، كما آمل أن يؤدي التقاء الإخوة المؤتمرين الى توضيح تجارب الثورة الإسلامية للإخوة غير الإيرانيين ليتسنى لهم دراستها والإستفادة منها ولشعوبها، الإطلاع على ثورة إخوانهم في إيران باعتبارها قدوة ونهجاً يمكن اتباعه.والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
- قيادة الإمام الصادق (عليه السلام)