بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المعصومين المكرمين سيما بقية الله في الأرضين.
أشكر الله تعالى أن وفقني مرةً أخرى لأكون مطلع العام بجوار الحرم الطاهر لسيدنا أبي الحسن الرضا (عليه آلاف التحية والثناء) وبين أيديكم أيتها الجماهير العزيزة من سكان هذه العتبة المقدسة وزوّارها؛ أبارك هذا العيد السعيد والولادة المباركة لسيدنا النبي المكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وميلاد الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) وعيد النيروز الذي يعد احتفالاً وطنياً وعيداً رمزياً لشعبنا.
لدي كلمة حول ميلاد النبي المكرم سيدنا محمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).. ميلاد حامل راية التوحيد والعدالة والعلم والطهر؛ »هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكّيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة« مظهر كل هذه الأمور هو ذلك الكيان المقدس؛ فمنذ ولادته وحتى مبعثه ـ أي خلال أربعين عاماً ـ كانت هذه الفترة فترة اختبار للطهر والأمانة والمروءة والصدق عند رسولنا العزيز. الصديق والعدو، من رؤساء القبائل إلى كل فرد من الناس، والمسافرون الذين كانوا يقصدون مكة، أو الذين التقوا الرسول الأكرم في أسفارهم التجارية، اعترفوا وشهدوا كلهم أن هذا الإنسان الجليل النجيب مظهر للطهر والأمانة والصدق والمروءة. لم ير أي بشر أية نقطة سلبية في حياة هذا العظيم، لم يسمع أية كذبة، لم يشاهد أي أعتداء أو تطاول منه على حقوق الآخرين. الناس كلهم اعترفوا بهذا الشيء، وعرفوا الرسول الأكرم بهذه الخصال والصفات طيلة أربعين عاماً.
وبعد الأربعين ـ حينما انطلقت دعوة الرسول ـ انهمرت سيول العداء والحقد والاتهام والافتراء على الرسول من قبل قسم كبير من أولئك الناس أنفسهم. نفس الناس الذين كانوا يشهدون للرسول بالنـزاهة والطهر والعلم والصدق قبل البعثة، قالوا عنه بعد البعثة، إنه ساحر، ومجنون، وكذاب، وغيرها من التهم المذكورة في القرآن. إذن، لم تكن مشكلة أعداء الرسول مع شخص الرسول، إنما مع رسالته. كل الذين شكلوا جبهة متحدة ضده كانوا يعادون رسالته في التوحيد والعدل وسائر تعاليم مدرسته.
وطوال هذه الألف وأربعمائة سنة أيضاً لم تكن القضية سوى هذه. إنْ كنا نلاحظ إهانات توجه للرسول في أدبيات بعض البلدان الغربية، وعلى أقلام وألسنة سياسيين من أكناف العالم الغربي، فالقضية هنا أيضاً قضية الجاهلية الأولى. الذين يعادون الرسول اليوم أيضاً، والذين يوجهون الإهانة لاسمه وذكراه، إنما يعادون ويعارضون رسالة التوحيد والعدل والتحرر التي جاء بها للبشر. كل الذين أحرزوا القوة والثروة عن طريق الظلم، والخداع، والإكراه، وإهانة البشر واستعبادهم، يعادون هذه الرسالة.. يعادون رسالة التوحيد.. رسالة التوحيد التي تدعو الناس لعبودية الله الواحد؛ من يغدو عبداً لله الواحد سيخرج طبعاً من عبودية أرباب الثروة والمكنة والقوة. الذين أرسوا دعائم حياتهم على أساس التمييز بين الشعوب والبشر لا يرغبون في نبي العدل، ويعادونه. لقد كان هذا العداء مؤشر ضعف وخوف يومذاك، وهو اليوم أيضاً مؤشر ضعف وخوف. الذين يعارضون الرسول والإسلام، ويحقدون عليهما، ويوجّهون لهما التهم، يمارسون هذا السلوك السيء من موضع الضعف لا من موضع القوة. خافوا يومها من رسالة التوحيد والعدل التي جاء بها الرسول وشعروا بالخطر، واليوم أيضاً ـ حيث قلوب الناس في كل أنحاء العالم ظامئة للمعنوية نافرة من منطق القوة الذي يعتمده جبابرة العالم ـ يشعرون بالخطر من الإسلام الذي يرفع راية العدل والمساواة والمعنوية والعبودية في العالم، ويدعو البشر المرهقين من النظم المادية إلى نفسه. اليوم أيضاً، يوجه مستكبرو العالم ومرتزقتهم الإهانات للرسول بسبب خوفهم؛ هذه علامة هزيمتهم وليست مؤشر قوتهم أو اقتدارهم.
يخطئ من يتصور ـ في هذا المضمار ـ أن شخصاً واحداً أو كاتباً مأجوراً مثل سلمان رشدي أو رسام كاريكاتير مأجوراً ـ كالذي كان في بعض البلدان الأوربية ـ هو الطرف الذي يقف مقابل الإسلام. هؤلاء هم قوات المشاة البائسون سود الوجوه للاستكبار العالمي. إنما الطرف في القضية هو السياسات... الطرف في القضية هم أعضاء الشبكة الاستعمارية والاستكبارية في العالم، شبكة الصهاينة الغدارين السفاحين والساسة الخاضعين لنفوذهم. لذا تلاحظون مسؤولاً في الاتحاد الأوربي يعلن صراحةً أن على جميع وسائل الإعلام الغربية إهانة رسول الإسلام وبشكل جماعي. ليس هذا سوى كشف للنقاب وفضح للذات في مثل هذه القضايا. واضح أن الإسلام بتغلغله إلى قلوب الناس في كافة أرجاء العالم بث الخوف بشدة في قلوب المستكبرين والجبابرة، فصاروا يرون الحل في معاداة رسول الإسلام. وقد هزموا في الماضي وسيهزمون اليوم أيضاً على يد المسلمين بحول من الله وقوة.
وأقول كلمة عن الميلاد السعيد للإمام الناطق بالحق جعفر بن محمد الصادق (عليه الصلاة والسلام).
وجد هذا الإمام الكبير خلال فترة حياته فرصة أكبر لعرض معارف أهل البيت ـ أي معارف الإسلام الأصيل ـ على قلوب المشتاقين والمتعطشين مقارنة بما توفر لسائر الأئمة. من الخطأ أن يتصور شخص أن كل أولئك الآلآف الذين تتلمذوا على يد الإمام الصادق كانوا من الشيعة والمؤمنين بإمامته عليه السلام. لا؛ الكثيرون لم يكونوا يعتقدون بإمامة الإمام الصادق ـ كما يعتقد بها الشيعة ـ لكنهم انتهلوا من علمه والمعارف الإسلامية التي كانت عنده. لدينا في رواياتنا الكثير مما رواه أهل السنة ـ من غير الشيعة ـ نقلوا ورووا عن الإمام أبي عبد الله الصادق. معنى ذلك أن العالم الإسلامي والأمة الإسلامية لا تزال اليوم أيضاً بحاجة لمعارف الإمام الصادق وأهل البيت. العالم الإسلامي بحاجة للاطلاع على معارف أهل البيت وتعاليم الإمام الصادق وسائر الأئمة؛ ينبغي أن ينتهلوا منها؛ على الشرائح والفئات المختلفة في الأمة الإسلامية أن تتعاون فيما بينها في هذا المجال من أجل رفع مستوى المعارف الإسلامية. من لوازم هذه المهمة أن لا تفصل حجب الخصام والعداء والأحقاد بين فرق المسلمين؛ هذا هو معنى الوحدة الإسلامية التي ننادي بها.
أسبوع الوحدة على الأبواب. لا تدعو الجمهورية الإسلامية في أسبوع الوحدة لأن يتراجع الشيعة أو السنة عن مذاهبهم ويعتنقوا المذهب الآخر. الجمهورية الإسلامية تدعو إلى التشديد على المشتركات بين المذاهب الإسلامية والقضاء على حالات العناد والضغينة والجدران التي بناها أعداء الإسلام؛ ليجتمعوا ويتداولوا ويتحاوروا في مضمار معارف أهل البيت. يكرس الأعداء اليوم هذه الجدران والعوازل وأدوات الخصومة والحقد أكثر من السابق، ويحاولون فصل الإخوة المسلمين عن بعضهم.
أمريكا والصهاينة ومستكبرو العالم لا يودون الشيعة ولا أهل السنة؛ إنهم يعادون كلا الطرفين. يعادون المسلم حيثما يقف ـ باسم الله وبالإيمان الإسلامي ـ بوجه غطرستهم. لاحظوا أنهم يعادون حزب الله الشيعي في لبنان بنفس درجة عدائهم لحماس والجهاد السنّيين في فلسطين. وفي إيران زمن الطاغوت كانوا يحالفون أجهزة الملكية البهلوية التابعة المرتزقة الفاسدة ـ المسماة شيعية ـ بنفس مقدار تحالفهم مع أشباهها ونظائرها في البلدان المسماة سنية! إنهم يعارضون الإسلام الذي يقف بوجه الغطرسة، والاستكبار، ونهب المصادر الطبيعية للشعوب، والذي يطالب بحقوقه. لا معنى للشيعة والسنة بالنسبة لهم، ولكن لأجل أن لا تقتدر الأمة الإسلامية ولا تتمكن من قول كلمتها بشكل حاسم، تبتني سياستهم على زرع الخلافات بين الإخوة المسلمين؛ بين الشيعة والسنة؛ وبين الفرق الشيعية والفرق السنية. مهمتهم بث الاختلاف والفُرقة. هذا ما ينبغي أن نفهمه نحن وتفهمه نخبنا وجماهيرنا. نحن فخورون باتباعنا لمدرسة أهل البيت، وبأننا شيعة، ومن أتباع إمامة الإمام علي وخلافته المباشرة. هذا ما نفخر به؛ بيد أن الشوارع ليست المكان المناسب لإثبات هذه الأفكار. المكان المناسب لإثبات هذه الأفكار هو بين أهل الاختصاص والعلماء والنخبة. ثم إن النقاش في مثل هذه القضايا ينبغي أن يكون نقاشاً كلامياً منطقياً. البذاءة وتسقّط العثرات والشتائم وإشهار السيوف بوجه البعض مساعدة لأعداء الإسلام الذين يناصبون الشيعة والسنة العداء سواء بسواء. هذا ما رفعناه في الثورة الإسلامية رايةً للوحدة الإسلامية. هذا ما يريده ويقوله الشعب الإيراني.
وأما حول النيروز. النيروز بحد ذاته فصل الإبداع والازدهار. قلنا إن هذا العام هو عام الإبداع والازدهار، وفصل الربيع بذاته فصل الإبداع والازدهار. يرتدي العالم والطبيعة ثوباً قشيباً وتكتسي الطبيعة كلها الخضرة والازدهار، ونريد أن يكون عامنا هذا، عام 87، كله ربيعاً لإبداع الشعب الإيراني وازدهاره. لماذا نرفع هذه السنة شعار الإبداع والازدهار؟
الثورة الإسلامية بحد ذاتها كانت إبداعاً تاريخياً كبيراً سجله الشعب الإيراني في تاريخه وتاريخ الإنسانية. كانت الثورة إبداعاً؛ والجمهورية الإسلامية كانت إبداعاً. منذ بداية عهد الاستعمار فما بعد توزّع العالم إلى شطرين: شطر مهيمن وشطر خاضع للهيمنة. استطاعت بعض الدول والقوى اعتماداً على علومها وأسلحتها وحيلها أن تُخضِع البلدان الأخرى لهيمنتها، فكانت هي بلداناً مهيمنة وصارت تلك الشعوب والبلدان ـ شاءت أم أبت ـ خاضعة للهيمنة. تعوّد العالم على تصنيف المهيمن والخاضع للهيمنة. تقليدياً، كان يجب على بعض الشعوب أن ترزح تحت نير حكم واستغلال واستكبار دولٍ وشعوب أخرى. وجاءت الثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية فنسفت هذا التصنيف والنظام المغلوط. أعلنت الجمهورية الإسلامية أنها تعارض الهيمنة، وهي نفسها لن تمارس الهيمنة حتى لو استطاعت وتوفرت لها القدرات اللازمة؛ لن تهيمن على شعب آخر، ولن يهيمن مسؤولو البلاد على شعبهم ويفرضوا عليه سلطتهم بالإكراه. إنها تعارض ممارسة الهيمنة، لكنها تعارض الخضوع للهيمنة أكثر.
الخضوع للهيمنة معناه الاستسلام أمام المهيمن وتشجيعه. الشعب الذي يقعد ليأتي الآخرون وينهبوا خيراته ويتحكموا في مصيره، إنما يشجع المهيمنين ويحفر قبره بيديه. أخلاقياً، تعد الهيمنة على بلد من البلدن واستغلاله والسيطرة الظالمة عليه إهانةً للشعوب، ومصادرةً لهويتها. حينما يخضع الشعب للهيمنة يفقد تدريجياً ثقافته وهويته وشخصيته، ويُسلب عزته الوطنية وحميّته الشعبية والوطنية العامة. ومن الناحية السياسية تعني الهيمنة الإمساك بمصير شعب من الشعوب، كما كان الأمريكان والنظام الأمريكي في عهد الطاغوت مهيمناً على بلدنا ولم يكن للشعب من أمره شيء. نصّبوا حاكماً مستبداً على رأس السلطة، وأخضعوا الشعب لهيمنتهم بواسطته، فراحوا يتدخلون في شؤونه الداخلية؛ ينصّبون، ويعزلون، ويرسمون المسار للدولة ويحددون لها الأمور؛ يأتون برئيس وزراء، ويعزلون رئيس وزراء؛ بل كانوا يتدخلون حتى في تعيين الوزراء وقادة الجيش. والهيمنة من الناحية الاقتصادية معناها نهب مصادر البلد أو تعطيلها. هذه هي نتائج الهيمنة.
جاءت الثورة الإسلامية وشطبت على كل هذا. منذ نحو ثلاثين عاماً والجمهورية الإسلامية صامدة بموقفها التاريخي المميّز هذا حيال المهيمنين الذين يرون العالم كله ملكاً لهم. النظام الأمريكي كان يحكم في هذه المنطقة وكان الشرق الأوسط بساطاً تحت أقدام المستكبرين والساسة الأمريكيين، وإيران التي تعد جوهرة الشرق الأوسط والمركز الجغرافي للمنطقة كانت تحت نفوذهم، فجاءت الثورة وقلبت كل هذه الأوضاع. وقف نظام الجمهورية الإسلامية بشجاعة في صميم هذه المعركة وانقلبت المعادلة.
انظروا اليوم وسترون الشرق الأوسط معرضاً لإخفاقات أمريكا وهزائمها. فعلوا طوال هذه الأعوام كل ما استطاعوه للحؤول دون تنامي النظام الإسلامي واقتداره. من الخطأ الظن أنهم استطاعوا توجيه ضربة ولم يفعلوا ذلك. فعلوا كل ما استطاعوه. وكل ما لم يفعلوه لم يفعلوه لعجزهم. وقفت الجمهورية الإسلامية بقوة وبدعم من هذا الشعب الرشيد الكبير بوجه حربهم المفروضة، وهجماتهم اللصوصية، وحصارهم الاقتصادي، وحربهم النفسية، ودعاياتهم وصخبهم وضجيجهم وألاعيبهم الصبيانية ضد الجمهورية الإسلامية. ولم يكن وقوف الجمهورية الإسلامية بمعنى أنها استطاعت الحفاظ على نفسها وعدم الانهيار وحسب، بل بمعنى أنها تمكنت من مضاعفة قدراتها يوماً بعد يوم.
رسالة الثورة الإسلامية تنتشر اليوم أفقياً وتتجذر عمقاً. الشعوب التي تنظر اليوم بعين الإعجاب والإجلال لكم أيها الشعب الإيراني ليست من شعوب الجوار فقط. الشعوب التي تودّ وتحبّ شخصيات الجمهورية الإسلامية ومسؤولينا ورؤساءنا ليست من الشعوب المحيطة بنا وحسب، بل لقد بلغت سمعة الثورة الإسلامية وصمود الشعب الإيراني والتزامه بمبادئه وقيمه مناطق كثيرة من العالم.. هذا هو الانتشار في الأفق. واستطاعت الجمهورية الإسلامية على مستوى العمق أيضاً التقدم بالبلاد علمياً، وتقنياً، واجتماعياً، ومن حيث الخدمات العظيمة الهائلة التي تقدمها لكل الناس؛ فحجم الخدمات التي قدمته الحكومات طوال هذه التسعة وعشرين أو الثلاثين عاماً لا يقبل المقارنة بالمدد المماثلة في عهد الطاغوت. حصلت قفزة هائلة في الحركة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في إيران. العزة الوطنية لبلادنا وشعبنا حالياً على كل الأفواه. وعلى الصعيد العلمي قفز البلد الذي كان في المراتب الأخيرة عالمياً إلى المراتب الأولى في كثير من الفروع. تلاحظون أن الجمهورية الإسلامية تقدمت في بعض الأمور على البلدان الثمانية أو التسعة أو العشرة الأولى في العالم، أو لحقت بها على الأقل. الطريق الذي قطعوه في سنوات طوال استطاع شعب إيران بهمة شبابه ومواهبه قطعه في بعض الميادين. والأفق مشرق والمستقبل في أعين الجماهير الإيرانية يبعث على الأمل؛ هذا هو التقدم الذي حققه الشعب الإيراني.
طيب، سندخل في العقد الرابع. على أعتاب العقد الرابع من عمر الجمهورية الإسلامية علينا أن ننظر لساحة حياتنا ونحدد النواقص. لدينا الكثير من النواقص. قلتُ في ندائي للشعب الإيراني اليوم إننا ورثنا في الكثير من المجالات تأخر عهد الطاغوت على مدى مائة عام، فنحن متأخرون في كثير من المجالات. قلنا إننا نريد التقدم إلى الصفوف الأولى من المسيرة الإنسانية، ويجب أن نعلم أن الشعوب الأخرى لن تبقى واقفة حين نتقدم. هي أيضاً تسير وتتحرك. علينا تنظيم سرعتنا ونمط حركتنا بحيث نستطيع بلوغ الصفوف الأمامية. وإلا لو أردنا السير بنفس السرعة التي تسير بها الشعوب عادةً، فسنبقى متأخرين.
حينما ننظر نجد مؤشرين أساسيين للعقد الرابع ـ الأعوام العشرة التي نستقبلها ـ لابد من تحقيقهما: الأول التقدم، والثاني العدالة. نحن لا نفكر بالتقدم فقط كما في بعض البلدان والأنظمة في العالم. نريد التقدم إلى جانب العدالة. كثير من البلدان تقدمت علمياً، وحين ننظر لأحصاءاتها ومؤشراتها الاقتصادية نجد على سبيل المثال أن دخل الفرد لديها مرتفع جداً، بيد أن القضية المهمة هي كيف يتوزع هذا الدخل الفردي بين الشعب. هذه هي النقطة التي لا تكترث لها الأنظمة غير الإلهية والأنظمة المستنسخة عن الوصفات الاستكبارية. أما نحن فلا نستطيع عدم الاكتراث. نريد لبلدنا أن يتقدم على كافة الصعد العلمية، والاقتصادية، والتقنية، والسياسية، وأن تتمتع جماهيرنا بالرفاه. ولكن إلى جانب التقدم نروم لبلادنا أن تدار بشكل عادل. هذا هو المهم. لا العدالة من دون التقدم محبذة ولا التقدم من دون العدالة. العدالة من دون التقدم تعني التساوي في التخلف والفقر، وهذا ما لا نرومه. والتقدم بدون العدالة أيضاً مما لا نطالب به إطلاقاً، إنما نطالب بالتقدم إلى جانب العدالة. يجب أن تتضاءل الفوارق الطبقية، ولابد لأصحاب القدرة على العمل والحركة أن يجدوا أمامهم فرصاً متكافئة، وإذا تكاسل أحد فهو المسؤول عن تكاسله. ينبغي أن لا يكون الواقع بحيث لا يتوفر في بعض مناطق البلاد المجال للسعي العلمي أو الاقتصادي، بينما يستثمر البعض مصادر البلاد وإمكاناتها إلى ما لا نهاية؛ كلا؛ هذا ما ينبغي أن يطالبه الشعب من الحكومات ومن مجالس الشورى الإسلامية المتعاقبة، ومن السلطة القضائية، ومن كل المسؤولين. لابد للبلد أن يتقدم.. التقدم في كافة القطاعات، في إنتاج الثروة، في مضاعفة الأرباح، في العزيمة والإرادة الوطنية، في الاتحاد الوطني وتقريب الشرائح المختلفة من بعضها، في الإنجازات العلمية والتقنية، في الأخلاق والمعنوية، في التقليل من الفوارق الطبيعية، في الرفاه العام، والانضباط الاجتماعي، وتكريس الإخلاص في العمل لدى كل واحد من أبناء الشعب.. التقدم في الأمن الأخلاقي، وفي الوعي والنضج السياسي، وفي الثقة الوطنية بالذات ـ وقد تحدثت قبل أشهر عن قضية الثقة الوطنية بالذات؛ وعلى الشعب التحلي بالثقة بنفسه وأن يعلموا أنهم قادرون؛ وهذا على الضد تماماً مما أراد أعداء الشعب طوال سنوات متمادية الإيحاء به لنا وإثبات أننا غير قادرين ـ التقدم في كل هذه الميادين حالة ضرورية ولازمة؛ بيد أن كل هذا التقدم لابد أن يكون في ظل العدالة وإلى جانب تأمين العدل.
قد يقول بعض أصحاب الرأي والمنظرين الاقتصاديين كما يصطلح عليهم: هذا غير ممكن؛ إذا أردتم إحراز التقدم الاقتصادي فأنتم مضطرون لقبول الفوارق الطبقية! وهاهنا نقول بـ »الإبداع«. يجب أن لا نتوهم الوصفات الاقتصادية الغربية آخر الإنجازات البشرية الممكنة؛ لا، هذه أيضاً وصفة ولها فترتها التي ستنقضي ثم تأتي مكانها أفكار جديدة؛ يجب أن تبحثوا لتجدوا هذه الأفكار الجديدة؛ هذا ما ينبغي أن يكون معياراً لنا. نطمح إلى أن يكون البلد ثرياً، وأن يعمّ الاستثمار في القطاعات الإنتاجية. يوجد في بلادنا اليوم أثرياء كثار بوسعهم توظيف ثرواتهم في استثمارات نافعة وباعثة على الفخر والاعتزاز. إنها استثمارات نافعة لهم وللناس وموجبة لرضا الله. استثمارات الأثرياء في المشاريع المفضية إلى زيادة الإنتاج داخل البلد ـ بأرباح عالية ـ إنما هي عبادة وثواب. هذا الطريق مفتوح وبوسعهم الاستثمار وإنتاج الثروة. وعلى إدارة البلد أن تدقق في تمتع كافة الطبقات بالفرص وأن تستطيع الطبقات الضعيفة استثمار الفرص لتخرج من دائرة الضعف؛ يجب أن يتمتع الجميع بالمقدرة. لقد تقدمنا كثيراً في هذه الأعوام الثلاثين. وقد هُزم عدونا إلى هنا. إلى حد هذه الساعة وهذا اليوم، هزم الأعداء ـ أي الشبكة الصهيونية الشيطانية والنظام الأمريكي المستكبر ـ على يد الشعب الإيراني.
أمريكا اليوم مكروهة ومعزولة لدى الرأي العام العالمي، ولم يعد لشعاراتهم إيقاع وصدى لدى الناس ولا أحد يصدقها. من يصدق أن النظام الأمريكي نصير لحقوق الإنسان والديمقراطية؟ حقوق الإنسان الأمريكية! منذ شهريور سنة 1380 [أيلول] حيث وقعت حادثة أبراج نيويورك استجوبت الحكومة الأمريكية 32 مليون شخص داخل أمريكا! 32 مليون شخص! هذا إحصاءاتهم هم. يراقبون المحادثات الهاتفية للناس، ويمارسون التعذيب في سجونهم. صادقوا في الكونغرس على قانون لمنع التعذيب، لكن رئيس الجمهورية الأمريكي الحالي استخدم الفيتو ضده؛ أي إن التعذيب ليس ممنوعاً! هل يفهم هؤءلا معنى حقوق الإنسان؟ للأمريكان نحو 200 معتقل سري في أنحاء العالم بعضها في أوربا... الأوربيون الذين يلعقون بألسنتهم حقوق الإنسان ويتشدقون بها أينما حلّوا ويؤكدون أنهم ملتزمون بها! هل هذه حقوق الإنسان؟! الكل يتعبّأون ضد من يستفسر عن الهولوكوست ـ محاكمهم، حكوماتهم، صحفهم ـ أما حيال إهانة نبي الإسلام الكريم فلا يمتنعون عن الاعتراض وحسب، بل يتجاوبون ويتناغمون! هذه حقوق الإنسان؟! هذا هو احترام الإنسانية؟! هذا هو احترام البشر؟! يقولون إننا أنصار للديمقراطية، لكنهم يتصدّون بقبضة من حديد للديمقراطية والحكومة المنتخبة شعبياً أينما جاءت أصوات الجماهير بما يناقض مصالحهم! أحد النماذج حكومة حماس في فلسطين. أليست منتخبة من قبل الناس؟ ومن النماذج التهديدات العبثية الفارغة ضد الجمهورية الإسلامية؛ الجمهورية الإسلامية بهذه الديمقراطية الواسعة التي لا نظير لها في كل المنطقة وفي كثير من أنحاء العالم، حيث أقيمت نحو ثلاثين انتخابات في هذا البلد طوال أقل من ثلاثين سنة. يتشدقون ضد الجمهورية الإسلامية ويهذرون ويهددون؛ يهددون بالحظر؛ يهددون بالهجوم العسكري؛ ألم تهاجموا عسكرياً؟ ألم تفرضوا حظراً اقتصادياً؟ وهل كان تعاملكم حسناً مع الشعب الإيراني لحد الآن؟ كل ما يمتلكه هذا الشعب إنما هو ثمرة صبره وشجاعته وصموده، فقد اكتسب قوته من ذاته ومن داخله. يتشدقون بحقوق الإنسان ويدافعون عن الكيان الصهيوني الغدار السفاح الذي ارتكب كل هذه الجرائم. أنا استغرب لِمَ لا تعتبر بعض الحكومات الأوربية من مصير النظام الأمريكي رغم أنها ترى كم أصبح مكروهاً في العالم. البعض منهم يقصدون بلد فلسطين المغتصب للترحيب بأصحاب الرساميل الصهاينة، ويصرحون ضد إيران ويذمونها في برلمان الدولة الصهيونية المصطنعة، من أجل أن يكسبوا قلوبهم! لماذا لا يعتبرون؟ الكيان الصهيوني مبغوض اليوم. أمريكا التي تدعمه مكروهة لدى الشعوب. وحقوق الإنسان تملي على كافة الحكومات والشعوب حالياً أن تقف صفاً واحداً ضد غطرسات أمريكا والصهاينة المهيمنين على أمريكا والحكومة الأمريكية. الشعب الإيراني يقف في هذا المضمار بصراحة وشجاعة أكبر قياساً إلى باقي الشعوب.
بهذه النية والعزيمة الراسخة التي لدى شعبنا، وبهذه الجهوزية التي تتحلى بها اليوم حكومتنا ومسؤولونا والحمد لله، وبهذا المجلس الجديد التي تولى المسؤولية، والنواب الموجودين في المجلس حالياً ـ السائرين جميعهم باتجاه القيم الإسلامية ولله الحمد ـ وعلى أمل دعم هذا الشعب، نستطيع أن نتقدم بهذا البلد أكثر شريطة أن يعتبر المسؤولون الإبداع والابتكار في الأساليب المختلفة واجباً على عواتقهم، ويحاولوا تثمير ما تم البدء به طوال الثلاثين عاماً الماضية؛ ما تم إنجازه أو بقي نصف منجز. أوصي الحكومة ومجلس الشورى الإسلامي أن يركزوا هممهم على إتمام الأعمال والمشاريع التي شُرع العمل بها منذ فترات، وبقي بعضها نصف منته ولم يبلغ البعض الآخر نتائجه وثماره؛ وأن يستخدموا المصادر الوطنية حسب الأولوية وبمنتهى الدقة. وسيشهد شعبنا الإيراني، وشبابنا، ومسؤولونا إن شاء الله ازدهاراً مضطرداً في هذا البلد. أتمنى أن تكون لشعب إيران في نهاية عام 87 وبتوفيق من الله وبدعاء سيدنا بقية الله أيامٌ أفضل بكثير من اليوم وهو أول أيام هذه السنة.
اللهم، أرضِ عنا القلب المقدس لإمامنا المهدي. وفقنا لخدمة الإسلام والمسلمين وهذا البلد والشعب. اللهم أرفع من درجات إمامنا العزيز وشهدائنا الشامخين. زد يوماً بعد يوم من عزة وشموخ الشعب الإيراني.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.