بسم الله الرحمن الرحيم
أرحّب بجميع الأخوة والأخوات الحاضرين، وأبارك لكم ذكرى مبعث خاتم الأنبياء وإشراقة نور التاريخ البشري الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم). كما أهنّئكم وأهنّئ المسلمين جميعاً بالنصر المؤزّر الذي حققه الأخوة في لبنان في المواجهة مع الكيان الصهيوني، والذي كان في الحقيقة نصر للإسلام.
لقد كان إخوتنا في لبنان، والذين خاضوا تلك المواجهة ضد الصهاينة المعتدين، رأس الحربة والخط الأول للأمة الإسلامية.
إنّ هذا الاجتماع يتّصف بالأهمية والعظمة البالغة. وإنكم تلتقون هنا قادمين من كافة بقاع العالم الإسلامي. إنّ مما لاشك فيه أنّ استشراف مستقبل العالم الإسلامي يكون من خلال ما أعدّته النخبة من برامج ومشاريع، سواء في ذلك النخبة العلمية أو الدينية أو السياسية.
إنّ هذا الجمع وهذه الجماعة البارزة من أقطار العالم الإسلامي إذا ما ألقت نظرة واقعية على راهن الأمة الإسلامية، وتلمّست ما يعتورها من آلام، وفكّرت في علاج ناجع، فإن الأمل سيشرق بمستقبل زاهر لأمتنا الإسلامية. ولكننا إذا ما تجاهلنا واجباتنا، أو تقاعسنا في العمل بما تمليه علينا هذه الواجبات، فإن الأمة الإسلامية ستظل تعاني من هذه الآلام على مدى أعوام مديدة قادمة. إنّ مسؤوليات جسيمة تقع على عواتقنا. وإنكم أنتم المعنيون بهذا الخطاب الذي يخص الأقليات الإسلامية في البلدان غير الإسلامية. إنها قضية مهمة، وعلى مجمع التقريب والنخب المعنية في العالم الإسلامي اتخاذ ما يلزم من إجراءات بصددها.
إنني أنظر بعين التقدير لِما حققتموه في هذا المجال، إلا أنني أودّ أن ألفت انتباهكم إلى أنّ (وحدة الأمة الإسلامية) هي همّنا الأول في العالم الإسلامي.
إننا سنجد الحلول للكثير من مشاكلنا فيما لو قُدّر لنا الغلبة على كيد الشيطان وإحباط خططه الرامية لزرع الفرقة والخلاف.
وستكون مشكلة الأقليات الإسلامية من تلك المشاكل التي سنعثر لها على حل. إننا نعاني من مرض قاتل، وعلينا أن نتحلّى بالعزم الأكيد لنتغلب على هذا المرض. إنّ الخلافات والتشتت وإثارة العداء بين أبناء العالم الإسلامي مرض بالغ الخطورة، وإنني أوجّه عنايتكم إلى أن أيادي التآمر السياسي تعمل الآن على زيادة تغلغل هذا المرض في جسد الأمة والعالم الإسلامي، حتى ولو كان له وجود غير ذي أهمية في الأزمنة الغابرة، إننا نرى نماذج لذلك تقشعر لها الأبدان في العالم الإسلامي.
إننا لا نخشى أعداء الخارج، وإن صلف أمريكا والقوى الاستكبارية لم يبلغ منّا حتى الآن مبلغاً من الهلع والحيرة، وإننا لم ولن نقف موقفاً انفعالياً مما يشنّونه ضدنا من هجمات عدائية ودعائية وسياسية وعسكرية واقتصادية مهما بلغت، غير أنّ ما يجعلنا نشعر بالرهبة والخوف هو ذلك المرض الذي ينخر في أحشاء العالم الإسلامي، فعليكم بمعالجته. إنّ أعداء الإسلام لم يكفّوا عن وضع خطط الخلاف وما انفكوا يحوكون مؤامرات الفرقة والنزاع بدقة فائقة منذ أن رفرف لواء الإسلام على ربوع إيران وإقامة الجمهورية الإسلامية وبلوغ الأهداف المرجوّة.
فعندما شعر المسلمون بالعزة والكرامة، وعندما وجدوا أنّ راية الإسلام يمكن أن تخفق، وعندما نهضوا واستيقظت في وجودهم روح الهوية الإسلامية، وعندما رفع المسلمون شعار الإسلام في كل مكان، أدرك الأعداء أن خطراً جسيماً يهدد مصالح الاستكبار في هذه المنطقة الإسلامية العظيمة، وأنّ الأخطار تحدق بأطماعهم الجائرة.
إن باستطاعة العالم الإسلامي أن يشكّل كياناً عظيماً ومتّحداً بفضل ما يتمتع به من تعداد يبلغ المليار ونصف المليار نسمة، وما يتميّز به من طاقات إقليمية وجغرافية وطبيعية وإنسانية عظيمة، وما يملكه من رؤوس أموال ليس لها من نظير. لقد ظلّ الاستعمار الغربي يملأ خزائنه من ثروات هذه المنطقة على مدى أكثر من مئتي عام سواء أكان ذلك خلال المرحلة الاستعمارية القديمة أو الزمن الاستعماري الجديد، حتى باتت هذه المنطقة في خدمة الأهداف السياسية للعالم الاستكباري وعلى رأسه أمريكا.
إنه لو حققت الأمة الإسلامية وحدتها، ولو كشفت القوة الإسلامية عن معناها الحقيقي، ولو تحقق الاستقلال الإسلامي بمعنى الكلمة في هذه المناطق، لاستطعنا قطع دابر الأعداء وتغلّبنا على سيطرتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية. ولكنهم يرفضون ذلك ويحولون دون تحققه بكل ما لديهم من قوة. إنّ وسيلتهم في ذلك هي إثارة النعرات والخلافات، وللأسف الشديد فقد تغلغل هذا الداء في كيان العالم الإسلامي. إنني أناشدكم التفكير بجدّية في هذه المشكلة.
إننا دائماً ما نتحدث عن الوحدة الإسلامية، وندعو إليها، كما نتحدث عن الأخوّة الإسلامية، وهناك على أرض الواقع من يشعر حقيقة بالأخوة الإسلامية من نخب العالم الإسلامي ـ وها هي روح الأخوة الإسلامية تتجلى في هذا الاجتماع ـ وإننا ننظر إلى بعضنا البعض نظرة التآلف والانسجام بلا فرق بين الواحد والآخر. إنّ هذه هي الحقيقة، سوى أننا لا نعبّر عن حقيقة وواقع العالم الإسلامي بالمعنى الصحيح للكلمة في المحافل السياسية وعلى صعيد الحكومات وفي الأوساط الجماهيرية.
إنّ الأعداء يبذرون بذور الخلاف بين أبناء الأمة الإسلامية، وإنّ السياسيين المزيَّفين، والعصبيات العمياء، والعجز عن مشاهدة الآفاق العالية للعالم الإسلامي، والتقوقع في بيئات مضمحلّة، كلها من الأمور التي تمهّد السبيل أمام تفاقم هذه العصبيات.
لقد أشار بعض الأصدقاء إلى أحداث العراق، فانظروا ما يجري هناك. إنّ بعض الإخوان من السنة والشيعة في العراق، وبعض البلدان الأخرى يخوضون صراعاً ضد بعضهم البعض، ويعادي أحدهم الآخر تقرّباً إلى الله تعالى، فلماذا؟! ومن الذي حقن هؤلاء بتلك الأباطيل؟ وهي ليست من الإسلام في شيء.
تعالوا لنحقق معاً الوحدة الإسلامية على أرض الواقع، ولنتّفق على ميثاق عمل يرضى به كافة علماء ومثقفي العالم الإسلامي، وتصدّق عليه النخبة السياسية المخلصة؛ وذلك حتى لا يتجرّأ أحد على تكفير من ينطق بكلمة التوحيد مهما كانت عقيدته ومذهبه، وحتى نصبح أخوة حقيقيين. إننا لا نعني بالوحدة الإسلامية أن يكون الجميع على عقيدة ومذهب إسلامي واحد. إنّ ساحة الخلاف بين المذاهب والعقائد الإسلامية والعقائد الكلامية والفقهية هي ساحة علمية، ولكل فرقة أن تحتفظ بمذهبها وعقيدتها، فالساحة ساحة بحث فقهي، وميدان بحث كلامي، ومن الممكن ألاّ يكون لاختلاف الآراء الفقهية والكلامية أي تأثير على واقع الحياة وعلى صعيد السياسة.
إنّ عدم التنازع هو ما نقصده بوحدة العالم الإسلامي: «ولا تنازعوا فتفشلو». والقرآن يقول:«واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقو»[1]. إنّ الاعتصام بحبل الله واجب على كل مسلم، ولكن القرآن لا يكتفي بمجرد الاعتصام بحبل الله، بل يريد منّا الاجتماع على ذلك؛ فيقول: «جميع» وهذا الاجتماع والاتحاد هو واجب آخر. ولهذا فإنّ على كل مسلم أن يعتصم بحبل الله في صورة جماعية مع سائر المسلمين الآخرين، فعلينا أن نفهم هذا الاعتصام على الوجه الصحيح، وأن نجهد في تحقيقه.
إنّ الآية القرآنية الشريفة تقول: «فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى»[2] وهذا يوضّح لنا معنى الاعتصام بحبل الله، فكيف يكون التمسّك بحبل الله؟ يكون بالإيمان بالله والكفر بالطاغوت. إنّ الطاغوت الأعظم في العالم اليوم هو نظام الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك لأنه هو الذي ابتدع الصهيونية ويقوم بمساندتها. إنّ أمريكا هي خليفة الطاغوت الأعظم السابق، أي انجلترا.
إنّ عدوانية الإدارة الأمريكية وحلفائها وأعوانها تضع العالم الإسلامي في مأزق عسير، وتعرضه لضغوطهم في السعي للتقدم، وفي اتخاذ القرارات، وفي تحقيق تطوره المادي والمعنوي. لقد نزلت أمريكا إلى الساحة على رؤوس الأشهاد في هذا العدوان الذي شنّه الكيان الصهيوني على لبنان خلال الشهر الماضي، والذي انتهى إلى ملحمة إسلامية عظيمة سّطرها حزب الله وتكللت بالنصر الإلهي، حيث لم تكتف الولايات المتحدة بالدعم الإعلامي والمالي والسياسي للكيان الصهيوني، بل وفّرت له الدعم العسكري أيضاً وأمدّته بالسلاح والعدّة والعتاد. وفي الحقيقة فإن الأمريكيين هم الذين أرادوا هذه الحرب وهم الذين أشعلوا فتيلها. إنّ الطاغوت الأعظم في هذا العصر هم الأمريكيون. إنّ الإيمان بالله متوفّر في الكثير من بقاع الأمة الإسلامية، ولكن لا يوجد كفر بالطاغوت. إنّ الكفر بالطاغوت أمر ضروري، وإنّ التمسّك بالعروة الوثقى الإلهية لا يمكن أن يتحقق بلا كفر بالطاغوت.
إننا لا نؤلّب الدول والشعوب ولا ندعوها لشنّ حرب على أمريكا، ولكننا ندعوها إلى عدم الاستسلام لأمريكا، وإلى عدم التعاون مع أعداء الإسلام والمسلمين، ومن مصاديق ذلك عدم الوقوع في حبائلهم، وإحباط مؤامراتهم الرامية لزعزعة الوحدة الإسلامية، والحفاظ على الأمة الإسلامية من خلال اتّحادهم. إننا نعتقد أنّ الاتحّاد من أهم قضايا العالم الإسلامي اليوم، وإذا ما تحقق هذا الاتحاد فإننا سنكون قادرين على إحراز التطور العلمي والتطور السياسي.
إنكم تشاهدون كيف يركّز أعداء العالم الإسلامي على الملف النووي في إيران، مع أنهم يعلمون أننا لا نهدف إلى تصنيع القنبلة النووية، ولكنهم يشعرون بعدم الارتياح إذا ما حقق هذا البلد تطوراً علمياً، ويصابون بالامتعاض إذا ما حقق بلد إسلامي تقدماً تقنياً، هذا البلد الإسلامي الذي لم يستسلم للسياسات الأمريكية وأظهر أنه لا يخشى أمريكا. إنّ هذا البلد الإسلامي يجب أن يكون مجهّزاً بأحدث تقدم تكنولوجي في عالم اليوم، أي التكنولوجيا النووية. ولهذا فإنهم يمارسون ضده الضغوط، ولكننا اتخذنا قرارنا.
لقد أدرك الشعب الإيراني خلال سبعة وعشرين عاماً مضت من عمر الثورة، ومن خلال التجربة، أن التوكّل على الله والتسلّح بالجهاد والصبر في الميدان هو السبيل الوحيد للتخلص من كيد الأعداء. لقد قطعنا هذا الشوط، وقطفنا ثماره اللذيذة، ولسوف نواصل مسيرتنا بحول الله وقوّته بكل ما لدينا من عزم وقوة، وها نحن نشهد النتائج.
أيها الأخوة والأخوات الأعزاء، إنّ العالم الإسلامي يمرّ الآن بمرحلة استثنائية، ومن الممكن القول: إنّ العالم الإسلامي لم تتهيّأ له هذه الفرصة منذ قرون عديدة، إنها لفرصة عظيمة جداً، فلقد نهضت الشعوب الإسلامية، وغطّت أمواج الوعي الإسلامي كافة زوايا عالم الإسلام، وباتت الشعوب الإسلامية تعرف حقوقها، وثمة كثيرون من حكّام البلدان الإسلامية يكنّون في صدورهم شديد البغض والعداء للاستكبار ـ حتى ولو لم يفصحوا عن ذلك ـ وهو ما نراه رأي العين.
إنّ هناك في العديد من الدول الإسلامية قادةً ورؤساء وسياسيين ومسؤولين يشعرون بالاستياء والغضب الشديد جرّاء سياسات أمريكا والقوى الاستكبارية. وهذه فرصة ثمينة أمام عالم الإسلام وينبغي انتهازها. إنّ على السياسيين واجباً، وعلى عاتق المسؤولين عن الفكر والثقافة يقع واجب آخر، وليس هذا الواجب الثاني بأقل من الواجب الأول.
إنّ على علماء الإسلام والمثقفين والأساتذة والمفكرين البارزين والذين بإمكانهم إيصال أصواتهم إلى الجماهير والتأثير عليهم أن يتحمّلوا مسؤولياتهم الجسام، وأن يُطلِعوا الجماهير على ما تتمتع به من قوة وطنية وسلطة شعبية عظيمة. لقد بذلت الأجهزة الاستكبارية ـ منذ بداية الاستعمار وحتى الآن ـ جهودها القصوى لإيهام الشعوب الإسلامية بأنه لا قيمة لها، وأنها لا تقوى على المواجهة. ولقد نجح الاستعمار في إقناع الكثيرين من أبناء الشعوب المسلمة بصحة هذا الوهم على مدى أعوام طويلة، وساعده على ذلك خيانة بعض الحكّام، فكان هذا الاعتقاد الخاطئ سبباً في حدوث مشاكل وكوارث مستفحلة، وعلى رأسها قضية القدس الشريف ومشكلة فلسطين. لقد مضى نحو ستين عاماً على احتلال فلسطين التي هي دار الإسلام، وبها القبلة الأولى للمسلمين، وبات الفلسطينيون مشرّدين في البلدان أو بقوا في أراضيهم تحت نير الاحتلال الغاصب الذي يحظى بدعم أعداء الإسلام رغم ما يمارسه من وحشية وعدوان. وإنّ هذه الكارثة العظيمة والمصيبة الكبرى مردّها إلى عدم معرفة المسلمين بما يتمتعون به من إمكانيات.
إنّ صحوة العالم الإسلامي اليوم لو كان لها وجود في الثلاثينيات أو الأربعينيات من القرن الميلادي الماضي لما وقعت مشكلة فلسطين، ولما تجرّأ الاستعمار الانجليزي آنذاك على انتزاع أرض فلسطين الإسلامية من يد أبنائها وتسليمها للصهاينة الأجانب. وما علينا اليوم سوى تسوية حساباتنا وتعويض ما خسرناه تدريجياً، وهو أمر ممكن إذا ما اعتمدنا تخطيطاً صحيحاً، واستخدمنا العقل والتدبير، وتسلّحنا بالعزم الراسخ، دون انفعال أو استسلام؛ لأن الانفعال والخوف من الأعداء وعدم الثقة في قوة الشعوب لن تجعل الأمة الإسلامية قادرة على بلوغ أهدافها.
إنّ هذه الجماهير المليونية التي تشاهدونها في البلدان الإسلامية تعتبر قوة عظيمة إذا ما حظيت بالتفعيل، ولن تقوى أية قدرة أجنبية على الصمود أمامها، ومثالاً على ذلك ما حدث مؤخراً في لبنان وأتمّ الله به الحجة علينا. إنّ ما وقع في لبنان والنصر المبين لحزب الله الذي يعدّ مصداقاً لقوله تعالى { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}[3] وقد أقام الحجة علينا. إنّ أعداء الإسلام تجاهلوا القوى الجماهيرية وأوهموا الحكام بعدم الثقة في قدرات شعوبهم. إنّ من أهم انجازات إمامنا الراحل في رأينا هو اكتشاف القوى الشعبية وثقته بها والاستفادة منها على الوجه الصحيح.
إنّ الأوضاع في إيران لم تكن على ما يرام قبل انتصار الثورة، فلقد كان الشعب في حيرة من أمره، وكان الأعداء يفرضون سيطرتهم على البلاد، وكانت إيران قاعدة لإسرائيل ومحل استجمام للمسؤولين الصهاينة الذين كانوا يستنزفون ثرواتنا ويحققون أطماعهم السياسية والمالية، وفي تلك الأثناء قررت بعض البلدان العربية الاستفادة من سلاح النفط ضد إسرائيل، ولكنّ شاه إيران طمأن الصهاينة ووعدهم بإمدادهم بالنفط. لقد كانت الأوضاع هكذا في إيران، ولم تكن ثمة بارقة من الأمل، ولكنّ إمامنا الراحل(قدس الله نفسه الزكية) شمّر عن ساعد العزم واتخذ قرار المواجهة، ولم يكن لديه سوى قوة الجماهير الشعبية.
لقد كان يعرف قدر هذه القوة، وكان يعتمد عليها، فآزره الله الذي بيده ملكوت كل شيء، وأعاد النبض للقلوب وأحيا الأفئدة {وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى}[4]. وعندما تفتحت أبواب القلوب على هذه الحقيقة، هرعت الجماهير إلى ساحة الصراع فأسقطت سلطة النظام الطاغوتي العميل، وأقامت عماد الحكومة الإسلامية في إيران. إننا نقع على مفترق الطرق وفي موقع استراتيجي حساس للغاية، وكانت أمريكا والقوى الاستكبارية في هذه المنطقة تعتمد اعتماداً كاملاً على النظام الشاهنشاهي.
لابدّ من معرفة القوى الشعبية، فهي قوة عظيمة فاعلة، ولكنّ إنزالها إلى الميدان في حاجة إلى همّة وعزم وإخلاص وكفاح. إنّ الجماهير إذا ما نزلت إلى الساحة وحظيت القوى الشعبية المليونية بدعم الساسة والحكّام لَما استطاعت قوة أخرى الوقوف أمامها أو تهديدها بأي شكل من الأشكال.
ولكن لا سبيل إلى بلوغ الأهداف بدون نضال وتحمّل للمصاعب، وعلى الأمة الإسلامية تحمّل المشاق حتى تحقق آمالها الكبرى، وهذه هي مسؤولياتنا الجسام اليوم في عالم الإسلام.
نحمد الله تعالى على تأليفه لقلوب الكثيرين من أبناء الشعوب الإسلامية وبارزيها وعلمائها ونخبها وهدايتهم إلى الطريق المستقيم. إنّ أساس النجاح هو ألاّ تدعوا الجماهير تصاب باليأس والإحباط. وألاّ تدعوا الآفاق تَدْلهمّ أمام الشعوب، وألاّ تدعوا الغطرسة الاستكبارية تلقي بظلالها الكثيفة على قلوبنا وعزمنا وإرادتنا، وألاّ تدعوا الخلافات تصيبنا بالضعف والانهيار.
إنّ المرء وللأسف الشديد يجد أنّ بعض حكّام العالم الإسلامي اليوم يرددون أقوال أمريكا وانجلترا..! إنهم يكررون جميع ما يصبون إليه؛ ويشعلون فتيل الاختلافات المذهبية ويثيرون بؤر الخلاف بين الشيعة والسنة في العالم الإسلامي، وهذا على وجه الدقة ما يثلج صدور أعداء الإسلام. فلابدّ من مواجهة مثل هذه الممارسات.
ندعوا الله سبحانه وتعالى أن يوفّقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا على القيام بواجباتنا. إننا في الجمهورية الإسلامية نشعر بالفرحة الغامرة على أنّ الله تعالى أنجز وعده، ومازلنا نشهد إنجاز الوعود الإلهية من حين لآخر. وبالطبع فإن القوى الاستكبارية مازالت تمارس ضدّنا التهديد، وهذا ليس بالأمر الجديد ـ فإنهم يهددوننا منذ انتصار الثورة وقيام الجمهورية الإسلامية، غير أنّ الجمهورية الإسلامية استطاعت بعزمها وصمودها إحباط كل تلك الممارسات، ولسوف يهددوننا مرة أخرى، وسنحبط تهديداتهم من جديد ـ وبإمكان أية دولة إسلامية أن تكتسب هذه التجربة الناجحة وأن تقف بوجه التهديدات الاستكبارية دون أن تفقد ثقتها بنفسها، وأن تشاهد بأم عينها إنجاز الوعود الإلهية.
إننا نمدّ يد الأخوّة نحو كافة الشعوب الإسلامية وجميع الرؤساء وزعماء الفكر والسياسة في العالم الإسلامي، وندعوهم إلى توثيق عُرى الأخوّة فيما بيننا أكثر فأكثر، داعين الله تعالى أن يفتح عيون دنيا الإسلام على المزيد من الانتصارات على شتّى الأصعدة والمجالات إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
________________________________________
[1] سورة آل عمران، الآية: 103.
[2] سورة البقرة، الآية: 256.
[3] سورة البقرة، الآية: 249.
[4] سورة الأنفال، الآية: 17.
أرحّب بجميع الأخوة والأخوات الحاضرين، وأبارك لكم ذكرى مبعث خاتم الأنبياء وإشراقة نور التاريخ البشري الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم). كما أهنّئكم وأهنّئ المسلمين جميعاً بالنصر المؤزّر الذي حققه الأخوة في لبنان في المواجهة مع الكيان الصهيوني، والذي كان في الحقيقة نصر للإسلام.
لقد كان إخوتنا في لبنان، والذين خاضوا تلك المواجهة ضد الصهاينة المعتدين، رأس الحربة والخط الأول للأمة الإسلامية.
إنّ هذا الاجتماع يتّصف بالأهمية والعظمة البالغة. وإنكم تلتقون هنا قادمين من كافة بقاع العالم الإسلامي. إنّ مما لاشك فيه أنّ استشراف مستقبل العالم الإسلامي يكون من خلال ما أعدّته النخبة من برامج ومشاريع، سواء في ذلك النخبة العلمية أو الدينية أو السياسية.
إنّ هذا الجمع وهذه الجماعة البارزة من أقطار العالم الإسلامي إذا ما ألقت نظرة واقعية على راهن الأمة الإسلامية، وتلمّست ما يعتورها من آلام، وفكّرت في علاج ناجع، فإن الأمل سيشرق بمستقبل زاهر لأمتنا الإسلامية. ولكننا إذا ما تجاهلنا واجباتنا، أو تقاعسنا في العمل بما تمليه علينا هذه الواجبات، فإن الأمة الإسلامية ستظل تعاني من هذه الآلام على مدى أعوام مديدة قادمة. إنّ مسؤوليات جسيمة تقع على عواتقنا. وإنكم أنتم المعنيون بهذا الخطاب الذي يخص الأقليات الإسلامية في البلدان غير الإسلامية. إنها قضية مهمة، وعلى مجمع التقريب والنخب المعنية في العالم الإسلامي اتخاذ ما يلزم من إجراءات بصددها.
إنني أنظر بعين التقدير لِما حققتموه في هذا المجال، إلا أنني أودّ أن ألفت انتباهكم إلى أنّ (وحدة الأمة الإسلامية) هي همّنا الأول في العالم الإسلامي.
إننا سنجد الحلول للكثير من مشاكلنا فيما لو قُدّر لنا الغلبة على كيد الشيطان وإحباط خططه الرامية لزرع الفرقة والخلاف.
وستكون مشكلة الأقليات الإسلامية من تلك المشاكل التي سنعثر لها على حل. إننا نعاني من مرض قاتل، وعلينا أن نتحلّى بالعزم الأكيد لنتغلب على هذا المرض. إنّ الخلافات والتشتت وإثارة العداء بين أبناء العالم الإسلامي مرض بالغ الخطورة، وإنني أوجّه عنايتكم إلى أن أيادي التآمر السياسي تعمل الآن على زيادة تغلغل هذا المرض في جسد الأمة والعالم الإسلامي، حتى ولو كان له وجود غير ذي أهمية في الأزمنة الغابرة، إننا نرى نماذج لذلك تقشعر لها الأبدان في العالم الإسلامي.
إننا لا نخشى أعداء الخارج، وإن صلف أمريكا والقوى الاستكبارية لم يبلغ منّا حتى الآن مبلغاً من الهلع والحيرة، وإننا لم ولن نقف موقفاً انفعالياً مما يشنّونه ضدنا من هجمات عدائية ودعائية وسياسية وعسكرية واقتصادية مهما بلغت، غير أنّ ما يجعلنا نشعر بالرهبة والخوف هو ذلك المرض الذي ينخر في أحشاء العالم الإسلامي، فعليكم بمعالجته. إنّ أعداء الإسلام لم يكفّوا عن وضع خطط الخلاف وما انفكوا يحوكون مؤامرات الفرقة والنزاع بدقة فائقة منذ أن رفرف لواء الإسلام على ربوع إيران وإقامة الجمهورية الإسلامية وبلوغ الأهداف المرجوّة.
فعندما شعر المسلمون بالعزة والكرامة، وعندما وجدوا أنّ راية الإسلام يمكن أن تخفق، وعندما نهضوا واستيقظت في وجودهم روح الهوية الإسلامية، وعندما رفع المسلمون شعار الإسلام في كل مكان، أدرك الأعداء أن خطراً جسيماً يهدد مصالح الاستكبار في هذه المنطقة الإسلامية العظيمة، وأنّ الأخطار تحدق بأطماعهم الجائرة.
إن باستطاعة العالم الإسلامي أن يشكّل كياناً عظيماً ومتّحداً بفضل ما يتمتع به من تعداد يبلغ المليار ونصف المليار نسمة، وما يتميّز به من طاقات إقليمية وجغرافية وطبيعية وإنسانية عظيمة، وما يملكه من رؤوس أموال ليس لها من نظير. لقد ظلّ الاستعمار الغربي يملأ خزائنه من ثروات هذه المنطقة على مدى أكثر من مئتي عام سواء أكان ذلك خلال المرحلة الاستعمارية القديمة أو الزمن الاستعماري الجديد، حتى باتت هذه المنطقة في خدمة الأهداف السياسية للعالم الاستكباري وعلى رأسه أمريكا.
إنه لو حققت الأمة الإسلامية وحدتها، ولو كشفت القوة الإسلامية عن معناها الحقيقي، ولو تحقق الاستقلال الإسلامي بمعنى الكلمة في هذه المناطق، لاستطعنا قطع دابر الأعداء وتغلّبنا على سيطرتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية. ولكنهم يرفضون ذلك ويحولون دون تحققه بكل ما لديهم من قوة. إنّ وسيلتهم في ذلك هي إثارة النعرات والخلافات، وللأسف الشديد فقد تغلغل هذا الداء في كيان العالم الإسلامي. إنني أناشدكم التفكير بجدّية في هذه المشكلة.
إننا دائماً ما نتحدث عن الوحدة الإسلامية، وندعو إليها، كما نتحدث عن الأخوّة الإسلامية، وهناك على أرض الواقع من يشعر حقيقة بالأخوة الإسلامية من نخب العالم الإسلامي ـ وها هي روح الأخوة الإسلامية تتجلى في هذا الاجتماع ـ وإننا ننظر إلى بعضنا البعض نظرة التآلف والانسجام بلا فرق بين الواحد والآخر. إنّ هذه هي الحقيقة، سوى أننا لا نعبّر عن حقيقة وواقع العالم الإسلامي بالمعنى الصحيح للكلمة في المحافل السياسية وعلى صعيد الحكومات وفي الأوساط الجماهيرية.
إنّ الأعداء يبذرون بذور الخلاف بين أبناء الأمة الإسلامية، وإنّ السياسيين المزيَّفين، والعصبيات العمياء، والعجز عن مشاهدة الآفاق العالية للعالم الإسلامي، والتقوقع في بيئات مضمحلّة، كلها من الأمور التي تمهّد السبيل أمام تفاقم هذه العصبيات.
لقد أشار بعض الأصدقاء إلى أحداث العراق، فانظروا ما يجري هناك. إنّ بعض الإخوان من السنة والشيعة في العراق، وبعض البلدان الأخرى يخوضون صراعاً ضد بعضهم البعض، ويعادي أحدهم الآخر تقرّباً إلى الله تعالى، فلماذا؟! ومن الذي حقن هؤلاء بتلك الأباطيل؟ وهي ليست من الإسلام في شيء.
تعالوا لنحقق معاً الوحدة الإسلامية على أرض الواقع، ولنتّفق على ميثاق عمل يرضى به كافة علماء ومثقفي العالم الإسلامي، وتصدّق عليه النخبة السياسية المخلصة؛ وذلك حتى لا يتجرّأ أحد على تكفير من ينطق بكلمة التوحيد مهما كانت عقيدته ومذهبه، وحتى نصبح أخوة حقيقيين. إننا لا نعني بالوحدة الإسلامية أن يكون الجميع على عقيدة ومذهب إسلامي واحد. إنّ ساحة الخلاف بين المذاهب والعقائد الإسلامية والعقائد الكلامية والفقهية هي ساحة علمية، ولكل فرقة أن تحتفظ بمذهبها وعقيدتها، فالساحة ساحة بحث فقهي، وميدان بحث كلامي، ومن الممكن ألاّ يكون لاختلاف الآراء الفقهية والكلامية أي تأثير على واقع الحياة وعلى صعيد السياسة.
إنّ عدم التنازع هو ما نقصده بوحدة العالم الإسلامي: «ولا تنازعوا فتفشلو». والقرآن يقول:«واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقو»[1]. إنّ الاعتصام بحبل الله واجب على كل مسلم، ولكن القرآن لا يكتفي بمجرد الاعتصام بحبل الله، بل يريد منّا الاجتماع على ذلك؛ فيقول: «جميع» وهذا الاجتماع والاتحاد هو واجب آخر. ولهذا فإنّ على كل مسلم أن يعتصم بحبل الله في صورة جماعية مع سائر المسلمين الآخرين، فعلينا أن نفهم هذا الاعتصام على الوجه الصحيح، وأن نجهد في تحقيقه.
إنّ الآية القرآنية الشريفة تقول: «فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى»[2] وهذا يوضّح لنا معنى الاعتصام بحبل الله، فكيف يكون التمسّك بحبل الله؟ يكون بالإيمان بالله والكفر بالطاغوت. إنّ الطاغوت الأعظم في العالم اليوم هو نظام الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك لأنه هو الذي ابتدع الصهيونية ويقوم بمساندتها. إنّ أمريكا هي خليفة الطاغوت الأعظم السابق، أي انجلترا.
إنّ عدوانية الإدارة الأمريكية وحلفائها وأعوانها تضع العالم الإسلامي في مأزق عسير، وتعرضه لضغوطهم في السعي للتقدم، وفي اتخاذ القرارات، وفي تحقيق تطوره المادي والمعنوي. لقد نزلت أمريكا إلى الساحة على رؤوس الأشهاد في هذا العدوان الذي شنّه الكيان الصهيوني على لبنان خلال الشهر الماضي، والذي انتهى إلى ملحمة إسلامية عظيمة سّطرها حزب الله وتكللت بالنصر الإلهي، حيث لم تكتف الولايات المتحدة بالدعم الإعلامي والمالي والسياسي للكيان الصهيوني، بل وفّرت له الدعم العسكري أيضاً وأمدّته بالسلاح والعدّة والعتاد. وفي الحقيقة فإن الأمريكيين هم الذين أرادوا هذه الحرب وهم الذين أشعلوا فتيلها. إنّ الطاغوت الأعظم في هذا العصر هم الأمريكيون. إنّ الإيمان بالله متوفّر في الكثير من بقاع الأمة الإسلامية، ولكن لا يوجد كفر بالطاغوت. إنّ الكفر بالطاغوت أمر ضروري، وإنّ التمسّك بالعروة الوثقى الإلهية لا يمكن أن يتحقق بلا كفر بالطاغوت.
إننا لا نؤلّب الدول والشعوب ولا ندعوها لشنّ حرب على أمريكا، ولكننا ندعوها إلى عدم الاستسلام لأمريكا، وإلى عدم التعاون مع أعداء الإسلام والمسلمين، ومن مصاديق ذلك عدم الوقوع في حبائلهم، وإحباط مؤامراتهم الرامية لزعزعة الوحدة الإسلامية، والحفاظ على الأمة الإسلامية من خلال اتّحادهم. إننا نعتقد أنّ الاتحّاد من أهم قضايا العالم الإسلامي اليوم، وإذا ما تحقق هذا الاتحاد فإننا سنكون قادرين على إحراز التطور العلمي والتطور السياسي.
إنكم تشاهدون كيف يركّز أعداء العالم الإسلامي على الملف النووي في إيران، مع أنهم يعلمون أننا لا نهدف إلى تصنيع القنبلة النووية، ولكنهم يشعرون بعدم الارتياح إذا ما حقق هذا البلد تطوراً علمياً، ويصابون بالامتعاض إذا ما حقق بلد إسلامي تقدماً تقنياً، هذا البلد الإسلامي الذي لم يستسلم للسياسات الأمريكية وأظهر أنه لا يخشى أمريكا. إنّ هذا البلد الإسلامي يجب أن يكون مجهّزاً بأحدث تقدم تكنولوجي في عالم اليوم، أي التكنولوجيا النووية. ولهذا فإنهم يمارسون ضده الضغوط، ولكننا اتخذنا قرارنا.
لقد أدرك الشعب الإيراني خلال سبعة وعشرين عاماً مضت من عمر الثورة، ومن خلال التجربة، أن التوكّل على الله والتسلّح بالجهاد والصبر في الميدان هو السبيل الوحيد للتخلص من كيد الأعداء. لقد قطعنا هذا الشوط، وقطفنا ثماره اللذيذة، ولسوف نواصل مسيرتنا بحول الله وقوّته بكل ما لدينا من عزم وقوة، وها نحن نشهد النتائج.
أيها الأخوة والأخوات الأعزاء، إنّ العالم الإسلامي يمرّ الآن بمرحلة استثنائية، ومن الممكن القول: إنّ العالم الإسلامي لم تتهيّأ له هذه الفرصة منذ قرون عديدة، إنها لفرصة عظيمة جداً، فلقد نهضت الشعوب الإسلامية، وغطّت أمواج الوعي الإسلامي كافة زوايا عالم الإسلام، وباتت الشعوب الإسلامية تعرف حقوقها، وثمة كثيرون من حكّام البلدان الإسلامية يكنّون في صدورهم شديد البغض والعداء للاستكبار ـ حتى ولو لم يفصحوا عن ذلك ـ وهو ما نراه رأي العين.
إنّ هناك في العديد من الدول الإسلامية قادةً ورؤساء وسياسيين ومسؤولين يشعرون بالاستياء والغضب الشديد جرّاء سياسات أمريكا والقوى الاستكبارية. وهذه فرصة ثمينة أمام عالم الإسلام وينبغي انتهازها. إنّ على السياسيين واجباً، وعلى عاتق المسؤولين عن الفكر والثقافة يقع واجب آخر، وليس هذا الواجب الثاني بأقل من الواجب الأول.
إنّ على علماء الإسلام والمثقفين والأساتذة والمفكرين البارزين والذين بإمكانهم إيصال أصواتهم إلى الجماهير والتأثير عليهم أن يتحمّلوا مسؤولياتهم الجسام، وأن يُطلِعوا الجماهير على ما تتمتع به من قوة وطنية وسلطة شعبية عظيمة. لقد بذلت الأجهزة الاستكبارية ـ منذ بداية الاستعمار وحتى الآن ـ جهودها القصوى لإيهام الشعوب الإسلامية بأنه لا قيمة لها، وأنها لا تقوى على المواجهة. ولقد نجح الاستعمار في إقناع الكثيرين من أبناء الشعوب المسلمة بصحة هذا الوهم على مدى أعوام طويلة، وساعده على ذلك خيانة بعض الحكّام، فكان هذا الاعتقاد الخاطئ سبباً في حدوث مشاكل وكوارث مستفحلة، وعلى رأسها قضية القدس الشريف ومشكلة فلسطين. لقد مضى نحو ستين عاماً على احتلال فلسطين التي هي دار الإسلام، وبها القبلة الأولى للمسلمين، وبات الفلسطينيون مشرّدين في البلدان أو بقوا في أراضيهم تحت نير الاحتلال الغاصب الذي يحظى بدعم أعداء الإسلام رغم ما يمارسه من وحشية وعدوان. وإنّ هذه الكارثة العظيمة والمصيبة الكبرى مردّها إلى عدم معرفة المسلمين بما يتمتعون به من إمكانيات.
إنّ صحوة العالم الإسلامي اليوم لو كان لها وجود في الثلاثينيات أو الأربعينيات من القرن الميلادي الماضي لما وقعت مشكلة فلسطين، ولما تجرّأ الاستعمار الانجليزي آنذاك على انتزاع أرض فلسطين الإسلامية من يد أبنائها وتسليمها للصهاينة الأجانب. وما علينا اليوم سوى تسوية حساباتنا وتعويض ما خسرناه تدريجياً، وهو أمر ممكن إذا ما اعتمدنا تخطيطاً صحيحاً، واستخدمنا العقل والتدبير، وتسلّحنا بالعزم الراسخ، دون انفعال أو استسلام؛ لأن الانفعال والخوف من الأعداء وعدم الثقة في قوة الشعوب لن تجعل الأمة الإسلامية قادرة على بلوغ أهدافها.
إنّ هذه الجماهير المليونية التي تشاهدونها في البلدان الإسلامية تعتبر قوة عظيمة إذا ما حظيت بالتفعيل، ولن تقوى أية قدرة أجنبية على الصمود أمامها، ومثالاً على ذلك ما حدث مؤخراً في لبنان وأتمّ الله به الحجة علينا. إنّ ما وقع في لبنان والنصر المبين لحزب الله الذي يعدّ مصداقاً لقوله تعالى { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}[3] وقد أقام الحجة علينا. إنّ أعداء الإسلام تجاهلوا القوى الجماهيرية وأوهموا الحكام بعدم الثقة في قدرات شعوبهم. إنّ من أهم انجازات إمامنا الراحل في رأينا هو اكتشاف القوى الشعبية وثقته بها والاستفادة منها على الوجه الصحيح.
إنّ الأوضاع في إيران لم تكن على ما يرام قبل انتصار الثورة، فلقد كان الشعب في حيرة من أمره، وكان الأعداء يفرضون سيطرتهم على البلاد، وكانت إيران قاعدة لإسرائيل ومحل استجمام للمسؤولين الصهاينة الذين كانوا يستنزفون ثرواتنا ويحققون أطماعهم السياسية والمالية، وفي تلك الأثناء قررت بعض البلدان العربية الاستفادة من سلاح النفط ضد إسرائيل، ولكنّ شاه إيران طمأن الصهاينة ووعدهم بإمدادهم بالنفط. لقد كانت الأوضاع هكذا في إيران، ولم تكن ثمة بارقة من الأمل، ولكنّ إمامنا الراحل(قدس الله نفسه الزكية) شمّر عن ساعد العزم واتخذ قرار المواجهة، ولم يكن لديه سوى قوة الجماهير الشعبية.
لقد كان يعرف قدر هذه القوة، وكان يعتمد عليها، فآزره الله الذي بيده ملكوت كل شيء، وأعاد النبض للقلوب وأحيا الأفئدة {وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى}[4]. وعندما تفتحت أبواب القلوب على هذه الحقيقة، هرعت الجماهير إلى ساحة الصراع فأسقطت سلطة النظام الطاغوتي العميل، وأقامت عماد الحكومة الإسلامية في إيران. إننا نقع على مفترق الطرق وفي موقع استراتيجي حساس للغاية، وكانت أمريكا والقوى الاستكبارية في هذه المنطقة تعتمد اعتماداً كاملاً على النظام الشاهنشاهي.
لابدّ من معرفة القوى الشعبية، فهي قوة عظيمة فاعلة، ولكنّ إنزالها إلى الميدان في حاجة إلى همّة وعزم وإخلاص وكفاح. إنّ الجماهير إذا ما نزلت إلى الساحة وحظيت القوى الشعبية المليونية بدعم الساسة والحكّام لَما استطاعت قوة أخرى الوقوف أمامها أو تهديدها بأي شكل من الأشكال.
ولكن لا سبيل إلى بلوغ الأهداف بدون نضال وتحمّل للمصاعب، وعلى الأمة الإسلامية تحمّل المشاق حتى تحقق آمالها الكبرى، وهذه هي مسؤولياتنا الجسام اليوم في عالم الإسلام.
نحمد الله تعالى على تأليفه لقلوب الكثيرين من أبناء الشعوب الإسلامية وبارزيها وعلمائها ونخبها وهدايتهم إلى الطريق المستقيم. إنّ أساس النجاح هو ألاّ تدعوا الجماهير تصاب باليأس والإحباط. وألاّ تدعوا الآفاق تَدْلهمّ أمام الشعوب، وألاّ تدعوا الغطرسة الاستكبارية تلقي بظلالها الكثيفة على قلوبنا وعزمنا وإرادتنا، وألاّ تدعوا الخلافات تصيبنا بالضعف والانهيار.
إنّ المرء وللأسف الشديد يجد أنّ بعض حكّام العالم الإسلامي اليوم يرددون أقوال أمريكا وانجلترا..! إنهم يكررون جميع ما يصبون إليه؛ ويشعلون فتيل الاختلافات المذهبية ويثيرون بؤر الخلاف بين الشيعة والسنة في العالم الإسلامي، وهذا على وجه الدقة ما يثلج صدور أعداء الإسلام. فلابدّ من مواجهة مثل هذه الممارسات.
ندعوا الله سبحانه وتعالى أن يوفّقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا على القيام بواجباتنا. إننا في الجمهورية الإسلامية نشعر بالفرحة الغامرة على أنّ الله تعالى أنجز وعده، ومازلنا نشهد إنجاز الوعود الإلهية من حين لآخر. وبالطبع فإن القوى الاستكبارية مازالت تمارس ضدّنا التهديد، وهذا ليس بالأمر الجديد ـ فإنهم يهددوننا منذ انتصار الثورة وقيام الجمهورية الإسلامية، غير أنّ الجمهورية الإسلامية استطاعت بعزمها وصمودها إحباط كل تلك الممارسات، ولسوف يهددوننا مرة أخرى، وسنحبط تهديداتهم من جديد ـ وبإمكان أية دولة إسلامية أن تكتسب هذه التجربة الناجحة وأن تقف بوجه التهديدات الاستكبارية دون أن تفقد ثقتها بنفسها، وأن تشاهد بأم عينها إنجاز الوعود الإلهية.
إننا نمدّ يد الأخوّة نحو كافة الشعوب الإسلامية وجميع الرؤساء وزعماء الفكر والسياسة في العالم الإسلامي، وندعوهم إلى توثيق عُرى الأخوّة فيما بيننا أكثر فأكثر، داعين الله تعالى أن يفتح عيون دنيا الإسلام على المزيد من الانتصارات على شتّى الأصعدة والمجالات إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
________________________________________
[1] سورة آل عمران، الآية: 103.
[2] سورة البقرة، الآية: 256.
[3] سورة البقرة، الآية: 249.
[4] سورة الأنفال، الآية: 17.