بسم الله الرحمن الرحيم
إنها لفرصة كبيرة ومهمة للغاية أن التقي ـ في أسبوع التعبئة (البسيج) ـ بأبناء هذا البلد الشجعان ويتاح لنا تجديد ذكرى بطولات هؤلاء البواسل طوال هذه الأعوام.
كما يصادف هذا اليوم ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصادق (عليه السلام).
هناك ارتباط بين مسيرة الإمام الصادق (عليه السلام) خصوصاً وحركة أئمة الهدى عموماً ـ بالأخص الأئمة التسعة الذين تصدّوا لمنصب الإمامة بعد واقعة عاشوراء إلى عصر غيبة الإمام صاحب العصر والزمان(أرواحنا فداه) ـ وسلوكية التعبويين من أبناء شعبنا حالياً وهويتهم ومسيرتهم.
عندما تقرؤون تاريخ الإسلام تشاهدون فترة تحوّلت فيها الخلافة ـ أي الحكومة القائمة على أسس الدين ـ إلى مُلك، وكانت هذه المرحلة من أخطر مراحل التاريخ الإسلامي.
طبعاً كان من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ الكبار ـ مَنْ حذَّر المجتمع الإسلامي آنذاك من وقوع هذا المحذور, إلاّ أنَّ المحذور قد وقع.
أما لماذا وقع، وما هي علله, ومن الذي تسبب في وقوعه؟ فلسنا بصدد بحثه، وكانت نتيجة هذه الحادثة أن المجتمع الذي بُني على أسس وقيم دينية وإسلامية ـ لغرض صَلاح الإنسان ولإسعاد البشرية ـ قد تغيّر مساره بشكل لا يحمد عقباه.
عندما تنعدم التقوى في مراكز ومؤسسات حكومة مجتمعٍ ما, ولا يكون لقيم الدين وأسس المعرفة والهداية وجود, بحيث ترى هذا المجتمع حكومة وشعباً متكالباً على الدنيا والارستقراطية والمادية وإتباع الغرائز والشهوات, فمصير القيم الأصلية في هذا المجتمع نتيجتها تكون واضحة ومعلومة.
وهذا ما حدث في برهة زمنية في صدر الإسلام بعد سنوات من رحيل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
فما هي مسؤولية المؤمنين الصادقين في مثل هذه الظروف؟ إنَّ على رأس من يتحملون المسؤولية أكثر من غيرهم هم الأئمة المعصومون (عليهم السلام)؛ وذلك لأن الله تعالى خصّهم بنصيب وافر من علمه وروحه وهدايته، وجعلهم علماء معصومين وهداة مهديين، وقد رأى أئمتنا أنَّ من واجبهم في هذه المرحلة الوقوف بوجه هذا الانحراف العجيب.
وقد قاموا بمسؤوليتهم مدّة بالمواجهة السياسية الواضحة التي تركت آثارها العميقة, كما في عصر الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام)، وقد أدّى ذلك إلى استذكاء جذوة الاعتراض على الوضع الجديد والانحراف الطارئ على المجتمع الإسلامي، وبعد ذلك استمر هذا المشروع في أدوار سائر الأئمة بصعوبة وتعقيد بالغين.
فقد كان الأئمة يرون من جهة أن من واجبهم ترسيخ القيم والأفكار الإسلامية في ذهن المجتمع، كما عليهم من جهة ثانية تحطيم أسس المُلك الطارئ والمتربّع على عرش النبوة بغير حق، وبناء صرح حقيقي وصحيح بدلاً منه، فكان الأئمة (عليهم السلام) يقومون بهذين الأمرين في وقت واحد.
وما أقوله هو أن هذا الموضوع يحتاج إلى بحث طويل ودقيق تحتويه مجلدات، وما هذا إلا تصوير إجماليّ من بعيد.
كان الأئمة (عليهم السلام) يمارسون جهاداً عصيباً وثرّاً وشاملاً على الصعيد المعنوي والثقافي؛ بغية الحفاظ على أسس العقيدة الإسلامية, والحيلولة دون الانحراف الذي كان يخشى من ظهوره في ظل حكم السلطان الجائر، والذي كان ظاهراً، وعلى الصعيد السياسي أيضاً.
وقد تجلّت قمة هذه الحركة في عصر الإمام الصادق (عليه السلام), ولا يعني ذلك أنها لم تكن متجلّية في الأزمنة الأخرى، فقد كانت في الذروة أيضاً في عصر الإمام الرضا (عليه السلام) وفي الأزمنة الأخرى كذلك، سوى أنَّ توفّر الفرصة السانحة في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) والذي تمكن من اغتنامها لبناء أسس المعرفة الإسلامية الصحيحة في المجتمع وتعميقها, بحيث لم يعد بإمكان التحريف أن يطالها ويزعزعها، فقام بهذا العمل الجبَّار؛ لكي تبقى أرضية مهيئة يستفيد منها الصالحون في كل مرحلة من مراحل التاريخ، ويقيم النظام الإسلامي والصرح المبني على القيم الإسلامية، ويقيمون هذا البناء الرفيع.
هذه هي مهّمة الإمام الصادق (عليه السلام).
وإنَّ ما نواجهه حالياً في مضمار نظام الجمهورية الإسلامية يضارع هذه الحركة العظيمة والعميقة التي تحتاج إلى صبر الأئمة (عليهم السلام) وسعة صدورهم، وأنَّ لها ذلك المقدار من التأثيرات العميقة.
إنَّ العالم الإسلامي يضم حالياً في حدود مليار ونصف المليار مسلم موزعون على حوالي خمسين دولةٍ وبلد.
فلو ساد هذه الجماهير العظيمة ـ التي تسكن في أهم بقاع العالم ـ ركون إلى القيم الإسلامية؛ لاحتلت الأمة الإسلامية العظمى من دون شك مكان الصدارة في العلم والحضارة والمعرفة ومظاهر الدين والدنيا والأخلاق والحياة، وهو ما نفتقر إليه في العالم المعاصر، ولا يوجد في الدنيا نظير ما يخلق هذه الصورة في أذهاننا.
تتمتع الشعوب والحكومات الغربية بتقدم علمي وتشاهد مظاهر خلاَّبة في حياتهم، إلا أنَّ هذا لا يشكل إلا جانباً من كيان الإنسان، فإن حياتهم تفتقر إلى الأخلاق والمعنوية والتراحم والإنصاف, والتعلّق بالأهداف الإلهية السامية والارتباط بالله وجلاء القلوب وتصفيتها من الأدران، بل هي آخذة بالتراجع يوماً بعد يوم.
فإذا كانت معابدهم وكنائسهم تحتوي على مسحة من المعنوية, فإنها آخذة بالضعف التدريجي بفعل الهيمنة المادية في العالم، إلا أننا في العالم لم نعثر ـ طوال القرون المتمادية ـ على حشود إنسانية هائلة يمكنها بناء دنياها من خلال الاستفادة من الخيرات الطبيعية والتقدم العلمي، وفي الوقت نفسه تهتم بالمعنويات والأخلاق كجزءٍ رئيس في حياتهم، ولا يقطعون صلتهم بالله، ولا يحرمون أنفسهم من التعليم والهداية الإلهية في علاقاتهم المهمة بالحياة.
كان بإمكان العالم الإسلامي أن يحظى بهذا الوضع، إلا أنَّ ذلك لم يتحقق للأسف الشديد.
إنَّ العالم الإسلامي حتى ما قبل انبثاق الثورة الإسلامية العظيمة لم يجرّب نظاماً مستنداً إلى تعاليم الإسلام وهدايته.
فكانت هذه الثورة تتجه على خطى الأئمة (عليهم السلام) تماماً، لو أننا في هذه السنوات السبعة والعشرين استطعنا وتحركنا بمقدار ما يسعنا على الوتيرة التي سار عليها الأئمة (عليهم السلام) لكنا قد بلغنا قمماً عالية جدّاً، إلا أننا ضعفاء ومحدودون.
إنَّ ما أنجزه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) خلال عقد من الزمن ـ هي مدة حكومته ـ لا تنجزهُ المجتمعات والقادة الاعتياديون المؤمنون بذلك النهج حتى خلال قرنٍ من الزمن.
إنَّ وتيرة أعمالنا وإيقاع حركتنا إيقاع منبثق من ضعفنا، فنحن ضعفاء بالقياس إلى تلك الوجودات العظيمة والمقدسة، ولكننا على أي حال تحركنا، وأمكننا التقدم بالمقدار الذي يسعنا.
فقد بذل الشعب الإيراني من روحه وعزمه وإرادته الحديدية، وأنجز حتى الآن أموراً عظيمة، يضاهي بعضها الأساطير.
إنَّ المسيرة التي تحركت في بلادنا منذ بداية الثورة إلى يومنا هذا من أجل إقامة صرح اجتماعي رفيع قائم على الهداية الدينية ورهن إشارة القرآن، إنما هي استمرار لمسيرة الأئمة (عليهم السلام), وقد كان التعبوييون منذ بداية الثورة هم اللب اللباب, والتجسيد الخالص والكامل لهذه المسيرة.
عندما نذكر (التعبويين) لا نعني مجرد جماعة عسكرية ترتدي اللباس العسكري الخاص وتتلقى التدريبات العسكرية، بل نعني بذلك أولئك الذين يوظفون جميع طاقاتهم لينشطوا بها في الجهاد الشامل؛ من أجل وطنهم وشعبهم, وإيصاله إلى المراتب العليا ويمدون لأبناء شعبهم يد العون ويساهمون في حلّ مشاكلهم.
إنَّ تلك الأم التي برغم حبِّها لولدها ـ وهذا الحب أشبه شيءٍ بالاساطير، وهو اسطورة تتكرر كل يوم في حياتنا آلاف وآلاف المرات ـ ترسله بكل شوق ورغبة إلى جبهات الدفاع، وبعد أن تستلم جثمانه الطاهر لا تبدي ندماً أو شكايةً فحسب، بل تظهر فخرها واعتزازها تجسيداً للتعبوي الكامل.
إنَّ الأسر التي ساهمت في حلّ جميع المشاكل التي تمثلت في طريق هذا الشعب في المراحل العصيبة لهذا البلد، بأقوالهم وأموالهم وأعمالهم اليدوية وحضورهم, هم من التعبويين.
إنَّ السياسي التعبوي والعسكري والجامعي وعالم الدين والفلاح والعامل والمحقق والعالم والأستاذ التعبوي هو الذي يأتي بكل كفاءاته وإمكاناته ويوظفها في سبيل أهداف هذا الشعب العظيمة، ويرى نفسه شريكاً له ومسؤولاً عنه, والتعبوي هو الذي لا ينسحب من الساحة ليباشر العمل غيره, مكتفياً باتخاذ موقف المتفرج, ولا يتخذ المواقع التي تدّر عليه ربحاً أكبر, وما أن يصاب بكلم حتى يأخذ بالإشكال والاعتراض، ولدينا نماذج في المجتمع من هذا النوع, إلا أن هذا لا ينسجم مع شيم التعبوي.
فالتعبوي إذا وجد حاجة إليه في الذهاب إلى المضمار العسكري كان سبَّاقاً, دون فرق بين أن يكون شاباً أو طاعناً في السن, ومن دون فرق بين البعيد والقريب.
وعندما تمسّ الحاجة إلى التواجد في الميدان السياسي كان فعّالاً وناشطاً، وعندما تمس الحاجة إلى تواجده في مختلف المجالات العالمية سواء السياسية والثقافية والرياضية كان نموذجاً لعزة شعبه ووطنه، فيحضر ويتواجد في ذلك الموقع بهذه النفسية وهذا الشعور.
وفي مواطن العلم والتحقيق والصبر على معضلات الابداع العلمي يبذل من روحه وذهنه، وعندما تمس الحاجة إلى بذل ماله بذله إذا كان له مال. هذا هو التعبوي, وللتعبوي شدّة وضعف.
فهناك من التعبويين من يسطع إخلاصه وصفاؤه سطوع الشمس, ويترك الإنسان منجذباً إليه. وباختصار فالتعبوي ثقافة وذهنية بارزة وسامية في مجتمعنا.
إنَّ وسيلة العداوة مع التعبوي تعني وسيلة العداوة مع المجاهدة والسعي والنشاط والعمل في كافة الميادين.
من الواضح جداً أن الذين يتمنون إخفاق هذا الشعب مستاؤون من التعبويين.
فجميع الأعداء والحاسدين, والمنافقين في الداخل لا يودّون التعبويين.
فلو استطعتم توسيع نطاق التعبئة وتستهووا أفئدة أكثر وتوجيهها بكثافة نحو سوح العمل، سوف يكون مستقبل البلد أكثر ضماناً.
إنَّ روحية التعبوي بنحوٍ لو ظهرت في ظل نقطة أو طبقة فإنها تنشر النشاط والحركة والحياة أضعافاً مضاعفة، هذا هو معنى التعبئة.
يتصور البعض أن التعبئة مؤسسة حكومية، مع أن الأمر ليس كذلك.
فلو أن كل واحدة من أجهزة البلد المختلفة تحلّت بنفسية التعبوي ستكون هناك نجاحات أكثر وأكبر.
لحسن الحظ فإنَّ الدولة الحالية ورئيس الجمهورية ومجلس الشورى الإسلامي ومختلف المسؤولين يفخرون بانتسابهم إلى التعبويين.
إنَّ ثقافة التعبي هي التي يمكنها التغلّب على جميع المنعطفات في هذا البلد، وتكون ضمانةً لحركتها.
أعزتي! لقد تمَّ إقصاء هذا الشعب عقوداً من الزمن عن مواكبة ركب التقدم، فعلينا جبران هذا التخلّف.
هذه من الحقائق، وهذه وقائع تاريخنا، إنَّ شعبنا ـ الذي يدخل حالياً عرصة العلم ـ يجترح الأعاجيب, حيث يذهل الأعداء مع عدتهم وعددهم في المواجهات العسكرية، وحينما يدخل المعترك السياسي يكون نداً لمنافسيه, لقد كان بإمكان هذا الشعب بما يملكه من الثروات والكفاءات الإنسانية وأرضه العريضة والخصبة والمفعمة بالمصادر الطبيعية أن يقف على أعلى قمم العلم والحضارة والتقدم المادي والمعنوي، إلا أنهم عملوا جاهدين على إقصائه حتى تمّ تصنيفه ضمن دول العالم الثالث, بل وفي قعر تسلسل دول العالم الثالث، وبذلك لم يأتِ هذا الكم الهائل من اللعن الذي يكيله عقلاء هذا البلد على نظام الطاغوت عن فراغ.
لقد تعرض بلدنا لهذه الجريمة وفرضت على شعبنا، إذ كان بإمكان هذا الشعب أن يحلّق عالياً في جوّ السماء, إلا أنهم عملوا على كسر جناحيه وقيّدوا قدميه ولم يكتفوا بذلك, حتى أحدثوا فيه جرحاً بالغاً, وقد جعلوا من شعبنا شعباً فاقداً للثقة بنفسه، غير متفائل بالمستقبل، لا يصبوا إلى بلوغ الآفاق البعيدة، منبهراً بالأجانب، إلا أن الثورة جاءت وحركت فيه روح التفاؤل والأمل, فأحدثت تغييراً عميقاً وأيقظته من سباته، حتى وجد ذاته وأخذ بالتحرك وآمن بقدرته فكان قادراً وهو الآن متقدم.
إنَّ ماكنة حركتنا هي إيماننا واعتمادنا على الله, والهداية والإرشاد الموجودة في معارف ديننا وأحكامنا.
ولقد كانت حركتنا حركة جيدة، وإن أعداءنا يستهدفون بالتحديد هذه النقطة ألا وهي نقطة إيماننا.
وهناك حالياً من يفخر في مجتمعنا بإيمانه ويشيد به بحماسة بالغة ولهذا قيمة عالية، وهذا هو التعبوي.
لقد وظَّفوا جميع الوسائل الثقافية والأبواق الإعلامية طوال قرنٍ من الزمن أو أكثر, كي يزعزعوا ثقة الشعب بنفسه، حتى إنَّ بعض الشخصيات المعروفة كان يقول: إنَّ الشخص الإيراني لا يمكنه أن يصنع حتى إبريقاً خزفياً.
هكذا كانوا يستخفون بقدرات الشعب, وحالياً يحقق هذا الشعب إنجازات في مجالات الإحياء ومختلف الأنشطة العلمية والتحقيقية، كي يكون في عداد البلدان العشرة الأولى في العالم، وليس هذا بالأمر الهيِّن.
وهذه المسألة تنبّه شعبنا وشبابنا حيثما كانوا وأيّاً كان نشاطهم إلى الثقة بكفاءتهم, وتدعوهم إلى الحركة وعدم اليأس.
إنكم الجيل الذي إذا أحسن العمل فإنه سيضمن مستقبل هذا البلد لمئة عام أو مئتي عام أو أكثر. إنَّ هذه اليقظة وهذا الشعور والدافع والإيمان والأمل والثقة بهداية الله, والاعتماد على عونه يشكّل اللحمة الأصلية للتعبويين، وهذه ثقافة.
فإذا تحركنا على هذه الشاكلة فإنَّ الله تعالى سيمدنا بعونه.
إنَّ عون الله يعود لجميع الكائنات؛ بشرط أن يوفّروا الأرضية لنزول العون، وعليهم أن يمدوا أيديهم إذا أرادوا قطف هذه الثمرة، وعليهم أن ينهضوا ويهمّوا كي يستفيدوا من هذه الثمرة، وهذا بمتناول الجميع.
وطبعاً هناك من لا يريد أن تَحول شهواته أو أنواع الضلالات دون ذلك، أو لا يسمح له العمى بأن يرى ويفهم ويهّم، إلا أنكم شعب قد أراد وعرف وانتفض وحصلتم على فوائد جمّة، وعليكم مواصلة الجهود كي تستفيدوا من الرحمة الإلهية إن شاء الله، وإن شاء الله ستشملكم جميعاً أدعية الإمام بقية الله أرواحنا فداه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته