بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربّ العالمین، والصلاة والسلام علی سیّدنا ونبیّنا أبي القاسم المصطفی محمد، وآله الأطیبین الأطهرین المنتجبین الهداة المهدیّین المعصومین.
اللهمّ صلّ علی فاطمة وأبیها وبعلها وبنیها صلواتك وصلوات ملائکتك وأولیائك علیهم.
أزفّ التهاني والتبريكات بمناسبة هذا العيد المبارك، وأشكر الإخوة الأعزاء الذين كانت لهم إلقاءات أفادتنا وأمتعتنا حقاً. وهذه الأنشودة في آخر الجلسة أيضاً، والتي يتولى نظمها السيد سازكار في كل عام، تمثل حسن ختامٍ لهذه الجلسة، وقد تم إلقاؤها في هذه السنة بصورة رائعة، بما تنطوي عليه من مضامين بديعة ومفاهيم جيدة ودروس وتعليمات وتذكرة.
في هذا الاجتماع الذي يحضره الإخوة الأعزاء والأخوات المكرمات، أوجّه خطابي في الأغلب للإخوة الذين يتقلّدون وسام شرف مدح وذكر سيد الشهداء (سلام الله عليه) وأهل البيت (عليهم السلام). فمن الناحية الكمية يعتبر عدد المادحين ولاسيما الشباب في هذه الساحة عدد مطلوب وكبير وجيد جداً، ومن الناحية النوعية ترقى عملية المدح في بعض المواطن إلى مراتب نوعية راقية. وقضية المدح في بلادنا تمثل ظاهرة لا نجد لها مثيلاً في أي مكان آخر. علماً بأن اختصاصات المجتمع الشيعي التي ليس لها وجود في سائر المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية عديدة، فإن أصل إقامة مراسم العزاء وقراءة المصائب والرثاء على أهل البيت (عليهم السلام)، والتي تقترن في الأغلب بالموعظة والنصيحة وبيان المعارف والقضايا المعاصرة والمسائل المختلفة وكل ما يقتضيه الزمن في كل عصر، تدخل في عداد اختصاصات الشيعة التي كانت شائعة منذ عهد الأئمة (عليهم السلام) واستمرت حتى يومنا هذا، ولا يوجد لها أثرٌ في سائر المواطن ما أدى إلى أن يتلمّسوا الفراغ في ذلك ويحاولوا ملء هذا الفراغ بطريقة أو بأخرى ولكن دون جدوى. وبالتالي فإن إنشاد الأشعار والألحان في مقام المدح والمصيبة والرثاء والذكر وما إلى ذلك، من الاختصاصات التي لا نظير لها في سائر الأماكن بهذه الطريقة والشمولية والسعة - سواء من الناحية الكمية أو من ناحية المضامين والمفاهيم وأمثال ذلك -. وهي ظاهرةٌ تستحق البحث العلمي، وحقيقٌ بطلاب جامعاتنا وأساتذتنا وباحثينا أن يتداولوا هذه الظاهرة بالفكر والبحث والتفسير والتحليل واستعراض الطرق العلمية لتوسيع دائرتها. وفي الحقيقة فقد استسهلنا هذه الظاهرة التي تتسم ببالغ الأهمية.
نحمد الله على ما منّ به علينا من توفيق، حيث وفّر لنا الفرصة لأن نعقد هذه الجلسة في مثل هذا اليوم مع إخواننا المادحين والذاكرين في كل عام على مدى الأعوام الثلاثين ونيف المنصرمة. ولعل عدد الذين تقلّ أعمارهم عن عمر هذه الجلسة بين جموعكم ليس بالقليل. فإنه منذ ثلاثين عاماً ونيف وهذه الجلسة قائمة. وهي تشكل فرصة جيدة للتحدث قليلاً بشأن هذه الظاهرة.
فيما يتعلق بالسيدة الزهراء (سلام الله عليها)، أقول لا على سبيل ما هو دارجٌ ومتداولٌ على الألسن، بل على سبيل الحق والإنصاف بأننا قاصرون، وأننا أقل وأصغر من أن يكون بوسعنا الحديث عن ذلك المقام الشامخ، وعن الحقيقة النورية لتلك السيدة الجليلة وأمثالها من الأئمة المعصومين، فإن ألسنتنا وكلماتنا وأفهامنا تكلّ عن أن نتمكّن من التحدث في هذه المجالات. «خَلَقَکُمُ اللهُ أَنواراً فَجَعَلَکُم بِعَرشِهِ مُحدِقین».. هذه هي حقيقة أنوار الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، فماذا عسانا أن نقول؟ وأما في سيرة هؤلاء العظماء وسلوكهم وكونهم أسوة وقدوة بصفتهم بشراً، فالحديث طويل. وقد جرى كلام كثير في هذا الشأن، وأشار اليوم بعض الإخوة في أشعارهم إلى هذا المعنى أيضاً، والميدان وسيع لتناول هذا الأمر. وسأطرح عليكم جملة من النقاط في هذا المجال.
ينبغي لنا أن ننظر إلى فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) من المنظار الثاني؛ ألا وهو أنها أسوة ومثال يحتذى به. فقد ضرب الله سبحانه وتعالى في القرآن امرأتين مثلاً للمؤمنين وامرأتين مثلاً للكافرين؛ ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ﴾، وبعد آية: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ﴾، حيث جعلهما أسوة لا للنساء المؤمنات وحسب، بل للرجال والنساء معاً. فبالإمكان أن ننظر إلى تلك الشخصيات العظيمة من منظار كونهم أسوة وقدوة وأن نستلهم الدورس منهم. وفاطمة الزهراء (سلام الله عليها) هي الصديقة الكبرى، ومعنى ذلك أن هذه السيدة الجليلة هي أكبر صديقة بين الصديقين والصديقات.
والآن نروم استقاء الدروس منها جميعاً، بما فينا المرأة والرجل والعالم والجاهل. فلننظر ماذا ورد بشأن هذه السيدة العظيمة من مدائحٍ ومناقبٍ في كلمات الأئمة المعصومين. فقد جاء في زيارة الإمام الرضا (عليه السلام)، حين يصل الدور إلى الصلاة على فاطمة الزهراء - وهي زيارة مشحونة بالصلوات من صدرها إلى ذيلها -: «اللّهُمَّ صَلِّ عَلی فاطِمَةَ بِنتِ نَبیِّك»، هذه هي الخصوصية الأولى وهي في غاية الأهمية، ولا يمكن بالطبع التأسي بها، إذ لا يتأتى لكل البنات أن يكنَّ من بنات النبي، إلا أن الانتساب للنبي من حيث البنوّة يدل على علوّ المنزلة. «وَزَوجَةِ وَلِیِّك»، وهذه هي الخصوصية الثانية، وهي الأخرى لا يمكن الاقتداء بها، فلا يتسنى لجميع النساء أن يتزوّجن من وليّ الله، ولكنها تشير إلى رفعة مقام تلك السيدة الجليلة وعلوّ شأنها وجلالة قدرها. «وَأُمِّ السِّبطَینِ الحَسَنِ وَالحُسَینِ سَیِّدَي شَبابِ أَهلِ الجَنَّة»، والجانب العملي في هذه الخصوصية يفوق الصفتين السالفتين، وهو يتمثل في تربية السبطين الذَين هما سيدي شباب أهل الجنة، وأمّهمها تلك السيدة الجليلة. فإنّ الحجر الطاهر لهذه الأم هو الذي استطاع أن يربّيهما. وهذا هو الشيء الذي بالإمكان أن يُطرح كقدوةٍ وأسوةٍ لنا.
ثم يقول: «الطُّهرَةِ الطّاهِرَةِ الـمُطَهَّرَةِ التَّقیَّةِ النَّقیَّةِ الرَّضیَّةِ الزَّکیَّة»، وهذه كلها من الصفات العملية، فقد تم التعبير عن الطهارة بثلاث كلمات: «الطهر» و«الطاهر» و«المطهر»، وبينها اختلاف من حيث المعنى، ولكنها تشير بأجمعها إلى معنى الطهارة: طهارة الروح، وطهارة القلب، وطهارة العقل، وطهارة العفة، وطهارة الحياة بأسرها. وهذه بالتالي صفات عملية تشكل درساً لنا، فلنحاول أن نطهّر أنفسنا، إذ لا يمكن من دون طهارة الباطن الوصول إلى المقامات الرفيعة والدخول في حريم ولاية هؤلاء العظماء، بل لا بد من طهارة الباطن التي تُكتسَب بالتقوى والورع ومراقبة النفس المستمرة. علماً بأن الإنسان قد يخطأ وقد تطرأ على قبله بعض الظُلُمات، ولكنّ الله قد علّمنا ودلّنا على سبيل إزالتها، وذلك من خلال التوبة والاستغفار. فلنستغفر ربنا ونطلب العذر منه، وقولنا: «أستغفر الله» يعني: إلهي أطلب العذر والصفح منك. فلنطلب العذر من الله تعالى ولنستغفره حقاً ومن أعماق قلوبنا، والاستغفار هذا يطهّر القلب من تلك الظلمات والأدران العالقة عليه. «الطُّهرَةِ الطّاهِرَةِ الـمُطَهَّرَةِ التَّقیَّةِ»، والتقية مأخوذة من التقوى. و«النَّقیَّةِ» هي النقاء الباطني القلبي.. هذه هي خصال فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، وعلينا أن ننظر إليها كقدوة وأسوة، وأن نقرّب أنفسنا منها.
وأنتم المداحون إذا ما أردتم الحديث عن فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، عليكم تضمين هذه المسائل في كلماتكم وأشعاركم ومدائحكم. أجل، فإن الحديث عن المقامات المعنوية للأئمة الأطهار (عليهم السلام) وفاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، ينير قلب المستمع ويضيء سريرته ويجعله يعيش حالة من الحضور والخشوع، وهذا أمرٌ مطلوب جداً، وهو محفوظٌ في محله، ولازمٌ ولكنه ليس كافياً. وينبغي لنا بعد حالة الحضور وإنارة القلب، أن نستلهم الدورس، وهذا ما هو كامنٌ في هذه الصفات العملية. ومعنى ذلك أنه يتعيّن في كل منبر - سواء في أيام الفاطمية أو في محرم أو في مناسبات أخرى - السعي لإدراج دروسٍ من الأئمة (عليهم السلام) فيه، بما في ذلك درس الإنسانية ودرس الكمال ودرس التقرب إلى الله. فالواجب علينا هو استقاء الدروس والتعلّم، ولا تكفي مجرّد المحبة. علماً بأن المحبة لها آثارها الناجعة ولكنها غير كافية، ويجب إقرانها بالولاية. والولاية هي التولي والاتباع والتمسك بأذيالهم، والسير على خطاهم، فإن هذا هو المطلوب. هذه نقطة يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار في عملية المدح والرثاء، ولاسيما للشعراء الذين يُنشدون الأشعار. فأحياناً ما يرى المرء أن الفضائل التي يذكرونها لم ترد في أية رواية وفي أي حديث عن المعصوم، بل ولا تعتبر فضيلة أساساً. قال الشاعر: «من قارن وجهك بالقمر خطأً، فقد قرنه به وحدّ من قدرك». فإن التشبيه بالقمر وبالشمس لا يمنح المشبَّه فضلاً وقيمة، إذا كان من أمثال هؤلاء العظماء الذين لهم من المقامات المعنوية والإلهية ما تبهر أبصار أهل المعنى، ناهيك عن أمثالنا الفاقدين لهذه الأبصار، حيث لا يتسنى لنا إدراكها. وأحياناً ما تُطرح أمورٌ عامة وكلية لا يُفهم منها شيئاً ولا تنفع المستمع. إذن فالتوصية الأولى لكم أيها الإخوة الأعزاء هي أن تستفيدوا بالتأكيد في مدائحكم تجاه هذه الشخصيات العظيمة - سواء السيدة الزهراء (سلام الله عليها) أو أئمة الهدى (عليهم السلام) - من المسائل العملية والتطبيقية الموجودة في حياتهم. وهناك نقطة أخرى شائعة اليوم ولحسن الحظ في مجتمع المداحين إلى حدّ كبير، وهي الاهتمام بالقضايا المعاصرة، وقد سمعتم اليوم جوانب مختلفة منها فيما يخص المدافعين عن الحرم وقضايا معاصرة أخرى، وهي قضايا هامة وأساسية، ولا ينبغي أن نخال بأنها خارجة عن دائرة تديّننا. فانظروا إلى النبي الأكرم، وهو سيد الكائنات الذي لم يخلق الله سبحانه وتعالى أفضل منه، وهو الذي جاء بهذا الدين وهذا الإسلام الذي ندعيه اليوم، كم كان في الشؤون السياسية الجارية في بلده - ذلك البلد الصغير الذي أسسه يومذاك - يبذل الجهود ويتجشّم العناء. ولم يكن يقتصر مجهوده على تعليم الناس أحكام الصلاة والصيام وعلى توصيتهم بالتوجه والعبادة وصلاة الليل، بل كان في مسجده يجمع الناس ويدعوهم إلى الجهاد وإلى الوحدة وإلى الوعي واليقظة حيال العدو، وهذه هي نفس الأمور المطروحة اليوم لي ولكم. فإن القضايا المعاصرة ليست بالقضايا التي يمكن التغاضي عنها.
ثمة نظام قائم في العالم وهو نظام الاستكبار والغطرسة والظلم، علماً بأن هذه الأنظمة كانت منذ الأزمنة الغابرة، سوى أنها اليوم قد تجدّدت، وتسلّحت بالتجهيزات والمعدات. وهذه القوى العظمى أخذت تفرض مطاليبها على الشعوب بمنطق القوة، ولا يعرف هذا المنطق حداً ومقداراً، فلو كانت لهم أموالٌ نهبوها، ولو كانت لهم طاقات إنسانية كفوءة سرقوها، ولو كانت لهم مواهب تهدّدهم وتنحت لهم أنداداً سحقوها. ولهذه الغطرسة أنواع وأقسام. وهي قائمة في العالم المعاصر. فإن النظام الدولي الذي يعبّرون عنه بالمجتمع العالمي، يمثل نظام التعسف والغطرسة، وإلا فليس المراد من المجتمع العالمي، حكومات العالم وشعوبها، لأنها بريئة من القوى العالمية العظمى القليلة التي تُطلق على نفسها عنوان المجتمع العالمي. فالمجتمع العالمي يتمثل في أناسٍ يستند عملهم إلى فرض منطق القوة على كل الشعوب وجميع البلدان. ونحن بدورنا قد شاهدنا نماذج من هذه الغطرسة قبل تشكيل نظام الجمهورية الإسلامية وفي عهد الطاغوت بطريقة، وكذلك بعد تشكيله بطريقة أخرى، فإن هذا نظامٌ له وجوده في العالم المعاصر. وهو نظام خلق لنفسه أعداءاً كثيرين، فالكثير من الشعوب في استياء منه، غير أن الشعوب لا يسعها القيام بشي، ولا يسمع صوتها أحد، ولا تمتلك وسيلة إعلامية، ولا تُحسب أساساً كلمتها بالحسبان، حتى ولو افترضنا أن يجتمع عشرة آلاف مثلاً في إحدى شبكات التواصل الاجتماعي وأمثال ذلك ويعبّرون عن رأيهم، أو يجتمعون في الشوارع، ولكن ثم ماذا؟ ففي قضية الهجوم الأمريكي على العراق قبل نحو ثلاثة عشر عاماً، انطلقت مسيرات احتجاجية ضد أمريكا في شوارع باريس وبعض البلدان الأوروبية الأخرى، ولكن ما هي الآثار التي تركتها؟ إن الشعوب بحد ذاتها لا تستطيع القيام بشيء، والحكومات هي التي بمقدورها أن تعبّر عن رأيها وتطرح كلمتها في العالم إذا ما تمتعت بمساندة شعوبها، ولا يوجد في العالم مثل هذه الحكومة. وهناك بالطبع بعض الدول التي تشعر بالاستياء حيالهم ولكنها تخاف منهم. ولقد أشرت على ما يبدو خلال حديثي في بداية السنة إلى أن زعماء نظام الطاغوت أيضاً كانوا في كثير من المواطن في استياء من ممارسات أمريكا. وحينما يطالع المرء مذكرات أخلافهم يشاهد استياءهم الشديد في بعض الموارد وإساءتهم لها في خلواتهم ولكنهم لا يجرأون على المعارضة، بصفتهم حكومة ومركزاً سياسياً وإدارياً للمجتمع. وهذه هي الأوضاع السائدة في العالم المعاصر، فإن الكثير من البلدان مستاءة ولكنها لا تجرأ على إعلان معارضتها.
وفي خضم هذه الأوضاع المتفاقمة، وفي وسط هذه الغابة التي تسودها الفوضوية، وفي معمعة الظلم والتعسف، ظهر في العالم نظامٌ أثبت ركائزه على أساسٍ يقف على النقيض تماماً مما يرتكز عليه النظام العالمي المعاصر، فهو على الضدّ من الظلم ومن الاستثمار ومن تأجيج نيران الحروب ومن الفساد؛ ألا وهو نظام الجمهورية الإسلامية. فقد تأسس هذا النظام على أساس الدين والإسلام والأفكار الإسلامية الأصيلة، ومنذ انبثاقه تزعّمته جماعة لا تهاب بطبيعتها القوى الكبرى وهم رجال الدين. وهذا ما يقوله اليوم المحللون وعلماء الاجتماع الغربيون، وكانوا يقولونه منذ بداية الثورة أيضاً بأن العلماء لا يهابوننا. وقد يكون البعض منهم عميلاً وهذا ما هو موجود بالفعل، بيد أن النظام العلمائي في المجتمع الشيعي، يتسم بمثل هذه الطبيعة. وصادف أن تقلّد هؤلاء زمام الأمور في هذا النظام، وسايرهم الشعب في ذلك. والشعب أولاً شعب موهوب، وثانياً يحتل الشباب جزءاً كبيراً منه - فقد بلغ السكان في بلدنا بعد أن كان 35 مليون نسمة في أول الثورة إلى نحو ثمانين مليون نسمة في الوقت الراهن، وهذا يعني تضاعف عدد السكان بشكل فجائي، على الرغم من أنهم يعملون ضدّ هذه الظاهرة أيضاً - وبالتالي فهو شعب له استعداد كبير وشجاع لا يتسرب الخوف إليه. فإن كان هناك بلدٌ، شعبه يفكر بهذه الطريقة، وزعماؤه لا يخافون من الهيمنة العالمية، يشكّل هذا أمام الاستبكار خطراً أساسياً كبيراً. ولهذا يصطفون لمجابهته، كما اصطفوا حالياً لمجابهة الجمهورية الإسلامية، وشكلوا جبهة معادية لمواجهتها لا في هذا اليوم، بل منذ اليوم الأول من انطلاق الثورة الإسلامية. وكانت تتألف هذه الجبهة من الاتحاد السوفيتي آنذاك وأمريكا الذَين كانا يقفان على الضدّ من بعضهما الآخر، ولو أنهما كانا يختلفان في مئة قضية - على قلتها وكثرتها -، ولكنهما اتحدا فكرياً وعملياً في قضية الجمهورية الإسلامية ومناهضتها. فإن طبيعة الاستكبار تقتضي أن يعادي مثل هذا النظام.
إذن فقد شكّلوا جبهة معادية ضدنا، وهي مازالت قائمة إلى يومنا هذا، وباتت توظّف أنواع الأساليب وصنوفها، فالشبكة العنكبوتية على سبيل الفرض لم يكن لها وجود قبل عشرين عاماً واليوم موجودة، حيث أخذت الأدوات تتطور يوماً بعد آخر. وهم يعبّئون أكثر الأدوات وأوسعها وأسرعها لمناوءة الجمهورية الإسلامية، وعلى الأخيرة أيضاً أن تستمثر كافة الأدوات والمعدات. ومنها أداة الدبلوماسية؛ فإن الدبلوماسية والحوار السياسي والمفاوضة السياسية والأخذ والعطاء السياسي تمثل إحدى الأدوات التي يستخدمها العدو. وأنا بدوري لا أعارض الحوار السياسي، لا مع الجميع بالطبع، فإن لهذه القضية استثناءاتها، بل أؤيّد المباحثات السياسية على صعيد القضايا الدولية، وكان لي كلام في هذه المجالات منذ عهد رئاسة الجمهورية، وكنتُ أتابع هذه القضية، فلا يروّجوا للأمر وكأننا نعارض أساس الحوار.. كلا، نحن نؤيّد ذلك أكثر منهم، ومعرفتنا لهذا الأمر في بعض المواطن تفوق معرفتهم، ونعلم ما الذي ينبغي فعله.
إذن فالعدو يستثمر الحوار السياسي، ويجب علينا توخي الحيطة والحذر. إن العدوّ يستفيد من المفاوضات، ومن المبادلات الاقتصادية، ومن الحظر الاقتصادي، ومن التهديد بالحرب والسلاح، ويجب في قبال كل ذلك أن نمتلك قوة دفاعية.
أن يقول البعض بأن «مستقبل العالم، مستقبل المفاوضات لا مستقبل الصاروخ»، إن كان نابعاً كلامه عن غير وعي وقصد، فهو ينمّ عن جهل القائل، وإن كان عن وعي ودراية فهو خيانة. أفهل يمكن ذلك؟ فلو سعى نظام الجمهورية الإسلامية وراء العلم والتقنية والمفاوضات السياسية والممارسات التجارية والاقتصادية المختلفة، وهي مطلوبة بأجمعها، ولكن دون أن يمتلك قوة دفاعية، ودون أن يكون قادراً على الدفاع، ألم يوفّر الفرصة لكل حكومة وضيعة وحقيرة أن تهدده قائلة بأنك إن لم تفعل كذا لقصفناك بالصواريخ؟ فإن لم تكن قادراً على الدفاع ستكون مُرغماً على التراجع.
وما ترونه من عربدة القوى العالمية وعسفها وغلطها وإساءتها وغطرستها، فهو ناجم في الأغلب عن الاتكاء على تلك الأسلحة التي يمتلكونها، وفي مثل هذه الظروف، هل يسعنا أن نجعل شعبنا أمامهم أعزلاً صفر اليدين؟ فإن استعراض الحرس الثوري لصواريخه المتطورة لم يكن مدعاة لفخر الشعب الإيراني ومباهاته وحسب، بل كان سبباً لفرحة الكثير من الشعوب التحررية المحيطة بنا والدامية قلوبها من أمريكا والكيان الصهيوني، وذلك لما يرونه من دقة وبداعة حين اختبار هذه الصواريخ التابعة للحرس الثوري.
وإذا بنا بعد هذا الإنجاز نقف في وجههم قائلين بأن زمن الصاروخ اليوم قد ولّى! كلا، لم يمضِ عهد الصواريخ. فإنّ العدوّ في شُغُلٍ دائمٍ لتطوير قدراته وتجهيز نفسه، ونحن هنا نرجع القهقرى عن سذاجة قائلين لا حاجة لنا بذلك. كما في بداية الثورة حيث أرادوا بيع المقاتلات من طراز (F-14) وإرجاعها ولكني منعتهم من ذلك. حيث بلغني خبرٌ بأن أحد رجال الحكومة المؤقتة آنذاك قال إن هذه المقاتلات من طراز(F-14) التي اشتراها نظام الطاغوت لا تنفعنا، وماذا نفعل بها! فلنرجعها إليهم. ولكننا ثبتنا يومها وأثرنا ضجيجاً وأجرينا لقاءات ومقابلات عدة، فلم يجرأوا على تنفيذ ما كانوا يبتغونه من إعادتها. وبعد فترة وجيزة اندلعت نيران الحرب الإيرانية العراقية وشنّوا هجوماً علينا، فتبيّن أننا كم بحاجة إلى هذه الآليات والمعدات التي نمتلكها، بما فيها مقاتلات من طراز (F-14) و(F-4) وأمثالها.
واليوم أخذ البعض يعزف على نفس هذا الوتر قائلاً: ما شأننا والصاروخ، وماذا نصنع به؟ فالزمن ليس زمن الصاروخ! إذن زمن أي شيء؟ إنه زمن كل شيء، وزمن التفاوض كذلك. فعلينا أن نخوض ساحة المفاوضات بكل قوة واقتدار، وأن نتفاوض بطريقة لا تنطلي علينا بعد ذلك الـخُدَع. وأما أن نتفاوض، ونكتب حبراً على الأوراق، ونوقّع عليها، ويقوم الطرف الآخر ببعض الأعمال بحسب الظاهر، ولكن دون أن يزول الحظر ودون أن تنطلق مسيرة التجارة، فهذا يدلّ على أن هناك إشكال في الأمر، وعلينا أن نحول دون حدوث هذه الإشكالات، وأن نقوم بتعزيز أنفسنا في ذلك الميدان أيضاً.
وكذلك الحال في الاقتصاد الداخلي للبلد، ولقد قلنا «مبادرة وعمل»، ويكفي الكلام، «كثير من القول لا يضاهي قليلاً من العمل». فإن التكرار المستمر لمصطلح الاقتصاد المقاوم، يحطّ من قيمته ويثير الملل والكسل، فلنعمل في هذا المجال. والقصد من وراء هذا الكلام هو أن البلد بحاجة إلى ذلك. هذا كله يمثل أحد جوانب القضية، والجانب الآخر يتمثل في الجهد والسعي الذي يبذله العدو لتغيير معتقدات الناس وقناعاتهم. وهنا يتجلى دوركم الهام الذي ينبغي لكم أداؤه. فإنكم حينما تناصرون المدافعين عن الحرم، إنما تنهضون بعمل يتسم بقيمة بالغة. وإن هذه الأشعار التي أُنشدت، وهذه الكلمات التي أُطلقت، لها قيمة كبيرة، ولا يوجد شك في ذلك - كما أن الأشعار والأناشيد التي كان يتم إنشادها في فترة الدفاع المقدس، كانت تترك تأثيراً فائقاً، ولا شك في أن لها تأثيرها اليوم أيضاً - ولكن إلى جانب هذا هناك عملٌ آخر إن لم تكن أهمية تفوق الأول فهي لا تقلّ عنه، وهو تعزيز معتقدات الشباب.
فإن العدو يهدف إلى تغيير العقيدة بالإسلام والإيمان بكفاءة النظام الإسلامي وفاعليته وبإمكانية استدامته ومواصلة طريقه. وهو يعمل ويروّج لما يخالف المسائل البديهية أيضاً، وأحياناً ما يمارس عملاً مضاداً لقضية واضحة، وكأنه يريد إثباتها عبر الخداع والتزوير والتحايل. ولقد أصبح النظام الإسلامي منذ ولادته وحتى يومنا هذا غرضاً لهجوم متواصل شرس، في المجال العسكري والإعلامي وفرض الحظر وما إلى ذلك، ولكنه تنامى على مدى هذه الأعوام السبع والثلاثين؛ أي أنه لم يمر عليه يوم توقف فيه عن الحركة، وأنه اتسم بالتكامل والاقتدار والشموخ والعظمة من جميع الجهات. والعدوّ يرى أن تلك النبتة الدقيقة الرقيقة التي غُرست في بداية الثورة، تبدّلت اليوم إلى شجرة باسقة ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾.. هذا ما هو ماثلٌ أمام أعينهم. فإن هذا النظام الذي تتوافر فيه القدرة على البقاء وعلى الاتساع وعلى الاقتدار لهذه الدرجة، سيكون قادراً بعد اليوم أيضاً على الاتسام بمزيد من القوة والاقتدار يوماً بعد يوم. وإن تلك الأمور التي نتطلّع إليها في الآفاق المستقبلية ليست أوهاماً وإنما هي حقائق.
قبل ثلاثة أو أربعة أعوام قلتُ لطلاب الجامعات وأهل العلم أن يعملوا للوصول بعد خمسين عاماً إلى حيث يضطر الباحث الذي يبغي التوصل للمستجدات العلمية يومذاك إلى أن يتعلم اللغة الفارسية، وهذا أمرٌ ممكن، كما تحققت الحركة العلمية والتقدم العلمي خلال الأعوام العشر أو الخمسة عشر الماضية طبقاً لما ذكرناه. فإن شمّر الشباب وأصحاب هذا البلد عن ساعد همّتهم وعزيمتهم، سوف تُذلَّل جميع الصعاب؛ ذلك أننا قادرون على المضيّ قُدماً. وفي الوقت ذاته فإن العدو بات يترك بصماته على معتقدات شبابنا [ويزرع فيهم روح]: «لا فائدة من ذلك، ولا يمكننا تحقيق هذه القضية، ولا جدوى من هذا الأمر».
هذه هي الساحات التي يعمل فيها العدوّ لشنّ حربٍ نفسية، وأنتم بصفتكم ذاكرين يمكنكم أن تتركوا أثراً في نفوس الشباب، وأن تعملوا على تقويتهم من حيث البنية الفكرية. إنني أحياناً أعترض على بعض مجالس العزاء لما يشاهده المرء من ممارسات تؤدى خلال هذه المراسيم التي تقام مثلاً في العشرة الأولى من محرم - وأحياناً ما يجلبون صُوَرَها، والآن قد ازدادت هذه الوسائل، وأنا لا أملكها بالطبع، ولكن قد يجلبونها لي لمشاهدة الصور ونحو ذلك - فيشاهد الجميعَ على سبيل المثال في مجلسٍ يقفزون إلى الأعلى والأسفل، ولكن ما هي ثمرة هذا العمل؟ وما هو الأثر الذي يتركه؟ وأين محلّه من العزاء؟ فالسبب من هذا الاعتراض لا يكمن في استيائي من حماس الشباب وهياجهم، لأن الشاب منبع للهياج ومصدر للطاقة، ويرغب دوماً في تصريف طاقته، وإنما السبب من وراء ذلك هو أن لا تبقى هذه الوظائف الكبرى منبوذة في الأرض.
فإن اجتمع في مكان خمسة آلاف أو عشرة آلاف شابّ ووضعوا قلوبهم بين أيديكم، يمكنكم عبر أداء فنيّ مميّز زاخر بالمضامين أن تصنعوا منهم أناساً ذووا كفاءة يمارسون مهامّهم بعزيمة وإرادة، ويمكنكم كذلك أن تصنعوا منهم أناساً غير مكترثين، وفاقدين للفكر والأمل، وصفر اليدين من الناحية المعنوية؛ هذا أيضاً ما يمكن القيام به. فاغتنموا هذه الفرصة واختاروا الشقّ الأول.. هذه هي توصيتي. إن عملية المدح على الرغم من كونها تمثل مدح أفضل الخلق في العالم - لأن موضوعها هو مديح أهل البيت (عليهم السلام) ومن هنا فإن لها شأناً ومنزلة رفيعة؛ هذا هو المدح بطبيعة حاله - ولكن لكم أن تنظروا إلى شاعرٍ كدعبل الخزاعي مثلاً ماذا يقول في قصيدته «مدارس آيات»؛ تلك القصيدة التي أشاد بها الإمام الرضا (عليه السلام) ومنحه عليها كسوة وصلة. فإنها قد زلزلت عرش بني العباس وندّدت بفلسفة وجودهم، وهذا يعني أنها كانت سياسية محضة، ولم تكن تتلخص في مجرد ذكر المصائب والمراثي، وهو مطلوب بالطبع، إلا أن الذي يسترعي اهتمام الأئمة (عليهم السلام)، هو ذلك الأمر الذي يُطرح إلى جانب ذكر المصائب. كما في قصيدة دعبل، وقصيدة الكميت، وقصائد أخرى، حيث كان الشعراء وغيرهم ينشدونها ويقرأونها على الناس بالصوت والتلحين، كما تقومون به من قراءةٍ للأشعار بالصوت واللحن؛ سواء الشاعر أو غيره. وهذه هي وسائل الإعلام العامة في ذلك اليوم. وبإمكانكم في هذا اليوم أيضاً أن تستثمروا نفس هذه الوسائل لهداية الناس، وهذا باعتقادي عملٌ أساسي كبير.
معروفٌ بأن شرف كل علم بشرف موضوعه، وكلما ازداد الموضوع شرفاً، ازداد العلم الذي يتناوله شرفاً. ولو سرّينا هذا الأمر من العلم إلى المشاغل، يكون موضوع شغلكم وعملكم ومهمتكم هو عبارة عن مديح أهل البيت (عليهم السلام) ومنح البصيرة للمستمعين وتوعيتهم، وهذه هي أفضل الغايات ولها قيمة بالغة، فاستثمروها. وإن جماعة المادحين والذاكرين كثيرة والحمد لله، وهذه الحشود التي تفضلت بالمجي إلى هنا في هذا اليوم حشود غفيرة، بيد أن تعداد الطبقة المادحة والذاكرة في كافة أرجاء البلاد يفوق ذلك، وهم في كثرة متزايدة والحمد لله، وهناك الكثير ممن يرغب في هذا الأمر ويمارسه.
وعلى أي حال فإن هذه هي رسالة فائقة الأهمية، فاحملوها على محمل الجد. علماً بأن الشعراء أيضاً يؤدون دوراً هاماً في هذا المجال، غير أن الشعر لا يترك أثراً بليغاً إذا ما لم يقترن بأداءٍ جيد، ويزداد أثره حين تمزجونه بأدائكم الجيّد والرائع.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقكم وإيانا لتشخيص وظائفنا ومعرفتها أولاً ثم العمل بها ثانياً.
والسلام علیکم ورحمة الله