موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم خلال لقائه الآلاف من أهالي مدينة قم المقدّسة.

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربّ العالمین، والصلاة والسلام على سیّدنا ونبیّنا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الأطیبین الأطهرین المنتجبین، سیّما بقیّة الله في الأرضین.
قدمتم خير مقدم أيها الإخوة والأخوات الأعزاء من أهل قم! لقد سطع اسم هذه المدينة في التأريخ بجهود أهاليها على أنهم هم الروّاد والطلائع. وكلما تقادمت الأيام منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، كلما استدام هذا المفهوم وترسّخ بالأحداث التي عاشها والتجارب التي اكتسبها أبناء قم الأعزاء. ولله الحمد فقد أضحت مدينة قم مصدراً ومركزاً ومنبتاً للثورة، وستغدو إن شاء الله موطناً لمواصلة طريقها وإرساء دعائمها يوماً بعد آخر. نرحّب بكم أجمل ترحيب، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجازيكم خير الجزاء.
إن هذه الأنشودة الرائعة التي أنشدتموها، يجب أن تقتصر الفقرة المتكررة فيها على مخاطبة ولي العصر (أرواحنا فداه) ولا غير. فلنتعوّد على أن نهب ونهدي وافر إخلاصنا وجميع تضحياتنا وبالغ محبتنا وكل قلوبنا لتلك الشخصية العظيمة. فإن الدعاء له يستوجب دعاءه للداعي، وهذا ما ورد في أحاديثنا.
لقد دار الحديث كثيراً طيلة هذه الأعوام على لساني ولسان الآخرين بشأن اليوم التاسع عشر من شهر دي (9/1/1978)؛ اليوم الذي عقدتم أيها الأعزاء من أجله هذا الاجتماع الذي يسوده الودّ والوئام. وبعض هذه الكلمات بالطبع متكررة لا تنطوي على كلام جديد، ولكن رغم كل ذلك، فإن قضية التاسع عشر من دي، قضية متجددة لا تبلى. وما يتكرر على ألسنتنا مما قد تكلمنا عنه سابقاً لا يؤول إلى أن تصطبغ بصبغة البلاء والاندراس؛ مَثَلها كمَثَل واقعة كربلاء، ولا نريد بالطبع المقارنة بين أهمية تلك الواقعة مع أي واقعة أخرى، ولكن نقول في مقام التشبيه أنها كواقعة كربلاء، فإنه نحو ألف وثملاثمئة عام وهذه الواقعة تتكرر وتجري على الألسن مرات ومرات دون أن تبلى، وهي كما الشمس الساطعة تشرق كل يوم دون أن يعتليها غبار القِدَم، وفي كل عام وكل شهر تنشر النور والطاقة والقوة في حياة هذا المجتمع والمجتمعات الإسلامية. والحال ذاته في هذه الحادثة، وهي من جنس حادثة عاشوراء. والسبب في ذلك هو أن العمل الذي تم إنجازه في التاسع عشر من دي، كان إنجازاً عظيماً إذا ما تكرر نظيره في أي شعب أو جماعة سيخلّف آثاراً مُذهلة.
كانت الأرضية قد تهيّأت في وسط الشعب الإيراني، إذ لا يمكن لأيّ مهمة أن تُؤتي ثمارها دون تهيئة الأرضية لها. فقد كانت كلمات الإمام الخميني على مدى سنوات الكفاح، ونضال الذين ناضلوا، وبيان الأفكار الثورية ونشرها في كافة أرجاء البلاد، بالإضافة إلى منزلة العلماء والمراجع في أوساط الناس ومكانتهم التي كانت قد ترسخت منذ قرون؛ كل ذلك قد هيّأ تلك الأرضية، بيد أن هذه الأرضية كانت بحاجة إلى مفتاح يحرّكها ويشغّلها، وهذا ما تصدى له أهل قم. فقد أنجزوا إنجازاً كبيراً، حيث نزلوا إلى الساحة دفاعاً عن الإمام الخميني العظيم، ولكن لم تكن الساحة هذه ساحة متداولة، بل كانت ساحة رصاصٍ وإطلاق نار، وساحة رعبٍ وقمع. إلا أنهم دون أن ينتاهم خوف ورعب، وبشجاعة كاملة، وإدراك الموقف في أوانه - وإني أشدّدُ على هذه الكلمة: إدراك الموقف في أوانه والشعور بالتكليف في وقته، لا في وقتٍ متأخر - نزلوا إلى الساحة. وبالتالي فإن دماء شهداء التاسع عشر من دي التي أريقت ظلماً وعدواناً، وشجاعة أهالي قم، ونزولهم إلى الساحة في أوانه، ومعرفة التكليف في وقته المناسب، قد فعلت فعلتها. وهذا في الحقيقة هو ذلك المفتاح الذي شغّل هذه الحركة، وآل إلى تفعيل تلك الأرضية، ونهوض أبناء الشعب. ومن هذا المنطلق، فإن المهمة التي اضطلع بها أهالي قم، لا يمكن أن تذهب في غياهب النسيان.
لا أريد سرد أحداث التأريخ، فإن لدينا قضايانا المعاصرة، وعلينا أن نعرف اليوم ما هو واجبنا ليوم غد. لقد انتصرت الثورة الإسلامية، وكان هذا الانتصار أمراً مستحيلاً وفق الحسابات الدارجة في العالم. إذ لم يكن أحدٌ يصدّق أنّ بلداً كإيران، بما تحمله القوى الاستكبارية من حساسية تجاهه - حيث كان منتزهاً للصهاينة، ومحلاً لحضور المستشارين الأمريكيين، وموطناً يشعر فيه الأجانب بالهدوء والراحة، فقد قال الرئيس الأمريكي في خطابٍ له بطهران قبل عشرة أيام تقريباً من 19 دي، بأن إيران جزيرة مستقرة؛ هكذا كانوا يحسبون الحساب لهذا البلد - في مثل هذا المكان، وفي مثل هذا البلد، وتحت ظل مثل هذه الحكومة القامعة الجائرة التي كانت تواجه الناس بلا رادع، وتحت وطأة أمريكا، كان من المستحيل وفق الحسابات الطبيعية أن تنتصر ثورة قائمة على أساس الدين والمعتقدات الدينية وإيمان الناس، على يد الناس أنفسهم، وبقيادة مرجع تقليد وعالمٍ مبرَّز؛ هذا ما كان يبدو أمراً متعذراً. ومن هنا لم يقدّر أيّ جهاز استخباراتي في تقديراته حدوث هذا الأمر، لأنه لم يكن ينسجم مع الحسابات الطبيعية على الإطلاق. في مثل هكذا بلدٍ، تنتصر ثورة بهذه الطريقة دون أن تشهد إخفاقاً وفشلاً - وسوف أقارن بين هذا الحدث وبين ما جرى في البلد من أحداث أخرى - وتقوم بوضع أسس نظامٍ، وإقامة جمهورية إسلامية، وهكذا تواصل الجمهورية الإسلامية مسيرتها، وتقوى وتتجذر وتترسخ يوماً بعد يوم.
كل القواعد والحسابات المادية كانت لا تتقبل مثل هذا الشيء، ولم تكن تراه أمراً ممكناً، ولكنه تحقق بالفعل. وتحقُّقه هذا مؤشرٌ على أن هناك قوانين تتحكم في عالم الكون وعالم الوجود لا يعرفها ولا يشهدها الماديون؛ ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ (1)، وفي مكان آخر: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ (2)، وسنة الله هي القوانين الألهية الحاكمة على عالم الوجود وعلى جميع أرجاء هذا الكون العظيم. وهي تماثل القوانين الطبيعية، كقانون الجذب، وقانون الكواكب والشمس والقمر وجريانهما في الليل والنهار، فإن هذه بأسرها قوانين طبيعية. وكذلك ثمة قوانين تتحكم في المجتمعات البشرية لا يتأتى للماديين إدراكها ورؤيتها بأبصارهم الكليلة، ولكنها موجودة. فلو عمدنا إلى تمهيد السبيل لهذه القوانين بأيدينا، سيقوم الله سبحانه وتعالى بتحكيمها. فالنار ]على سبيل المثال[ حارقة، ولكن عليكم بتهيئة الأرضية، وإضرام النار، ومن ثمّ وضع شيء غير مرطوب عليها، ليحترق. فإن تمهيدكم للسبيل، هو الذي يتسبب في أن يؤدي القانون الطبيعي مفعوله. ولذا يجب تمهيد الأرضية، وهذا ما نهض به الشعب الإيراني. وقد ورد هذا المعنى في كلمات الأعلام، وآيات القرآن، وروايات الأئمة (ع)، وأحاديث رسول الله (ص). كما في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع): «فَلَمّا رَأَى اللهُ صِدقَنا أَنزَلَ بِعَدُوِّنَا الکَبتَ وَأَنزَلَ عَلَینا النَّصر» (3). وهذا قانون وقاعدة عامة، وقد تحققت هذه القاعدة في الثورة الإسلامية أيضاً، حيث نزل الناس إلى الساحة واستقاموا بصدق.
ولنستخلص هنا نتيجة وهي أن ثمة جبهة معادية واسعة تواجهنا، وهذه الجبهة الواسعة تتمثل في زعماء الكيان الصهيوني، وساسة الإدارة الأمريكية، وأيادي الاستكبار العالمي، والجماعات والتكفيرية، وداعش، فانظروا كم هذه الجبهة واسعة النطاق وتتشكل من ائتلاف عظيم غير متآلف، وهؤلاء بأسرهم يعادون نظام الجمهورية الإسلامية، وبالتالي فهناك جبهة متواجدة، بإمكانها أن تُنجز الكثير من الأعمال والهجمات الإعلامية، لأن كل وسائل الإعلام العالمية هي في قبضتها، ولذلك يشيعون وينشرون ضد الجمهورية الإسلامية كل ما يحلو لهم. إضافة إلى أن مقاليد الشؤون الاقتصادية بأيديهم، والقوى السياسية بأيديهم، والأنظمة الأمنية بأيديهم، والأجهزة الاستخباراتية بأيديهم، وهم يواجهون نظام الجمهورية الإسلامية. وهناك جماعة إذا ما نظروا إلى هذه الجبهة ارتعدت فرائصهم، والسبب في هذا أنهم غافلون عن ذلك المفهوم الرئيسي الهام المتمثل في السُنة الإلهية. فلقد واجهت الثورة نفس حالات العِداء هذه بل أشدّ وأنكى، ولكنها انتصرت، واليوم أيضاً نواجه نفس هذا العداء، واليوم أيضاً لو عملتم بلوازمه لحالفكم النصر لا محالة، واليوم أيضاً يصدق هذا القول: «فَلَمّا رَأَى اللهُ صِدقَنا أَنزَلَ بِعَدُوِّنَا الکَبتَ وَأَنزَلَ عَلَینا النَّصر». فلو نزلنا - أنا وأنتم - إلى الساحة بصدق، وعملنا بلوازمها، وصمدنا، وتحلّينا بالبصيرة، واتخذنا الموقف في أوانه، وتكلمنا بصواب، وعملنا بشكل صحيح، وخضنا الميدان بصدق، سوف يصدق علينا نفس ما قاله أمير المؤمنين: «فَلَمّا رَأَى اللهُ صِدقَنا أَنزَلَ بِعَدُوِّنَا الکَبتَ وَأَنزَلَ عَلَینا النَّصر»، حيث يكون النصر حليفنا، والكبت والقمع حليف الأعداء. إلى هنا عرفنا بأن الثورة كنقطة أساسية بيّنة، تُلهمنا درساً كبيراً لمستقبلنا.
وأما المقارنة التي أشرت إليها ما بين الثورة الإسلامية وبين أحداث أخرى، فإذا ما قارنّا بين هذه الثورة وبين سائر الأحداث التي وقعت في هذا البلد أو في العالم ]لوجدنا أنها حادثة منقطعة النظير[. ولو أردتُ أن أخوض البحث للمقارنة بينها وبين بعض الثورات الكبرى، لطال الكلام، وقد أشرنا إلى هذه المقارنة قبل ذلك في بعض الأحيان. وأما بالمقارنة مع أحداث بلدنا الداخلية، فلنقارن الثورة على سبيل المثال مع نهضة تأميم النفط التي كانت حادثة كبيرة في البلد، فإن الناس فيها أيضاً تواجدوا في الميدان ونزلوا إلى الساحة، ولذلك أُطلق عليها واشتهرت على ألسن السياسيين بنهضة التأميم. ولكن ماذا كانت مطاليب هذه النهضة؟ كانت تطالب بالحدّ الأدنى من المطاليب، إذ لم تكن تسعى وراء الاستقلال الاقتصادي والاستقلال السياسي والاستقلال الشامل، وإنما كان نفطنا تحت سيطرة الإنجليز بالكامل، وكنّا نطالب في نهضة تأميم النفط بانتزاع البترول من أيديهم وسيطرتنا عليه. ولم يكن هذا مطلباً كبيراً جداً، وعلى الرغم من أهميته ليس كفيلاً بإحلال الاستقلال الكامل. ففي هذه النهضة أيضاً نزل الناس إلى الساحة، وتخللتها بعض الأحداث، ولكنها لم تستمر أكثر من عامين أو ثلاث! واستطاع العدوّ القضاء عليها، والحيلولة دون استمراريتها. وبعد أن قُمعت النهضة، ساءت أوضاع النفط بشدة؛ أي أن الائتلاف التجاري الذي تم تأسيسه في البلد بعد انقلاب الثامن والعشرين من مرداد (19/11/1953)، هو أسوءُ بكثير مما كان عليه قبل ذلك، ولو كان البترول فيما مضى تحت سيطرة الإنجليز، فقد أضحى الآن تحت هيمنة إنجلترا وأمريكا معاً، وأصبح تحت قبضتهم بالكامل، واستمر الوضع على هذا المنوال حتى انتصار الثورة الإسلامية. وأما الكلام في الثورة الإسلامية فإنه لم يدور حول النفط، وإنما كان يدور حول الاستقلال التام في الجانب السياسي والاقتصادي والثقافي، فقد اندلعت الثورة بهذه الشعارات، ولا يمكن مقارنتها بنهضة التأميم، بيد أن تلك النهضة لم تستقم، وهذه النهضة نجحت من جهة، واستقامت وتخلّدت من جهة أخرى.
والحركة الدستورية هي الأخرى التي نبغي مقارنتها بالثورة الإسلامية. فإنها كذلك تقع على جانب كبير من الأهمية في البلد، ولكن ماذا كانت مطاليب هذه النهضة والحركة الدستورية؟ تحديد الحكومة الملكية المطلقة والمستبدة. فإن الملك يبقى متكئاً على عرشه، ويبقى على ما كان عليه من تصديرٍ للأوامر والنواهي، ولكن تتحدد سلطته المطلقة التي كانت خاضعة لصلاحياته، وذلك من خلال تشكيل مجلس.. هذا ما كانت تطالب به الحركة الدستورية. وفي غضون ذلك نزل الكثير من الناس إلى الساحة بمختلف أطيافهم، وبذلوا أنفسهم، وقدموا الشهداء، إلا أن العدو قد فرض سيطرته على هذه النهضة وأخذها في قبضته وقمعها في حقيقة الأمر. وبعد القضاء على الحركة الدستورية، تضاعف الاستبداد والدكتاتورية! فإنه بعد خمسة عشر عاماً من المصادقة على الدستورية، تسلّم رضاخان مقاليد الأمور، وهو الذي لا يُقارَن استبداده بأي واحد ممن سبقه من المستبدين، فقد كان ظالماً، جبّاراً، عدواً بكل معنى الكلمة، وخادماً للأجنبي. فإن سائر الحكّام رغم استبدادهم، لم يستسلموا للأجنبي بهذا الشكل، غير أنه جاء بأمر الأجنبي وخرج بأمر الأجنبي، وكانت مقاليد الأمور كلها بيد الإنجليز، وحينما أراد قليلاً أن يحرّك ساكناً أمامهم، ألقموه حجراً وطردوه وانتهى أمره. إذن فالحركة الدستورية رغم الحدّ الأدنى من مطاليبها، لم تكن قادرة على مواصلة الطريق، وأخفقت، وقُضي عليها.
ولكن ماذا عن الثورة الإسلامية؟ الثورة الإسلامية لم تدعُ إلى تحديد حكومة السلاطين، وإنما قالت: ماذا تعني السلطنة أساساً؟ وما هو المراد بها؟ ثمة شعبٌ يعيش في مملكة تعود إليه، فلِمَ يتسلّط شخصٌ على رقاب الناس، ويجري أمره في حياتهم؟ لقد قامت الثورة باقتلاع جذور السلطنة وأساس الحكومة المطلقة. ومع ذلك فقد بقيت وتخلّدت، وهناك تحليل يبيّن ما هو السرّ في هذا البقاء والخلود؟ لماذا لم تتمكن نهضة تأميم النفط رغم تواجد الناس فيها - إلى حدّ كبير، وليس كما كان في الثورة - ورغم مطاليبها الدنيا، لم تتمكن من مواصلة الطريق، والثورة الإسلامية على الرغم من مطاليبها القصوى المتمثلة في الاستقلال بقيت وواصلت طريقها؟ لماذا لم تكن الحركة الدستورية رغم الحد الأدنى من مطاليبها في تحديد السلطة المطلقة، لم تكن قادرة على الاستمرارية والبقاء، والثورة الإسلامية رغم الحد الأقصى من مطاليبها في استئصال شأفة السلطنة والنظام الملكي في البلد، نجحت وتخلدت؟
هذا ما يتطلّب دراسة وتحليلاً. وعليكم أنتم الشباب التصدي لتحليل هذه القضية، فإنها واضحة بالنسبة لي، ولكن على الشباب أن يتداولوا هذا الأمر، ويتجالسوا، ويفكروا، وينظروا ما هو الأمر الذي لعب دوراً في هذا المضمار؟ وأيّ عنصر ترك بصماته على تلك النهضات بحيث أنها لم تتمكن من أن تواصل طريقها وأن تؤتي ثمارها المنشودة، أما الثورة الإسلامية فقد تمكنت من الثبات والصمود بكل قوة واقتدار؟ ما هو السبب في ذلك؟ يجب على شبابنا أن يتجالسوا ويحللوا هذه القضية. ولو توصلنا في شأن هذه الأحداث إلى تحليل صائب، لتضاءلت عندذاك مساعي البعض في بثّ بذور الخوف والرعب واليأس في قلوب الناس ولاضمحلّت كلّياً. ولو أدركنا وعرفنا بشكل صحيح، لاستنار في هذا البلد درب التطلع إلى المستقبل بشكل كامل. فإن البقاء والخلود والاستقامة في خضم حادثة اجتماعية، تمثل عنصراً هاماً للغاية. وهناك بالتالي أحداث عالمية أحياناً ما تكون كبيرة جداً ولكنها تتعرض للزوال والاضمحلال، ويقوم العدو باحتوائها والقضاء عليها. وأما أن تتمكن ثورة من المحافظة على ديموميتها واستمراريتها فذلك غاية في الأهمية. وهذا ما يتطلب بحوثاً مطوّلة، وعلى الشباب أن يتداولوا هذه القضية بحثاً ودراسة.
ولنفترض على سبيل المثال الثورة الفرنسية الشهيرة، والمعروفة بالثورة الفرنسية الكبرى، فكانت في حقيقة أمرها ثورة كاملة شاملة مشفوعة بحضور الناس وتواجدهم، ورغم ما تخللتها من أحداث مريرة، فقد انتصرت في نهاية الأمر، ولكنها لم تصل إلى الخامسة عشرة من عمرها حتى. فإنها كانت ثورة مناهضة للسلطنة، ولكن بعد أقل من خمسة عشر عاماً من اندلاع الثورة، بدأت سلطنة نابليون، وهي سلطنة مطلقة تامة، وغابت الثورة في مدارج النسيان! فإن نفس تلك الأسرة التي طُردت بالثورة، عادت أدراجها، وتربّعت على كرسي السلطنة، وامتدت حكومتها لسنوات طوال، ثم أثار الناس بعد ذلك ضجة أخرى، وتكررت الأحداث، واستمرت هذه المنازعة والمغالبة في فرنسا نحو مئة عام، حتى استقرت في نهاية المطاف تلك الجمهورية التي كانت تنشدها الثورة بعد زهاء تسعين عاماً أو مئة عام. فإنهم بالتالي لم يتمكنوا من صيانة الثورة والمحافظة عليها. والثورة الروسية أيضاً هي الأخرى التي شهدت نفس هذا المصير بطريقة مختلفة. وأما أن تتمكن ثورة من البقاء والمحافظة على نفسها ومغالبة أعدائها والتغلب عليهم، فذلك في غاية الأهمية. وثورتنا هي الثورة الوحيدة التي استطاعت أن تقوم بهذا الأمر، ويجب عليها القيام به بعد ذلك أيضاً.
وأقولها لكم بأن جميع مراكز الفكر السياسي اليوم في العالم الاستكباري - سواء في أمريكا أو في بعض البلدان الاستكبارية الأخرى - قد استجمعت فكرها وقواها لترى ماذا تصنع لاقتلاع جذور هذه الشجرة وهذه الدوحة التي كانت ذات يوم غرسة صغيرة ومع ذلك لم تتمكن من القضاء عليها واليوم قد أصبحت شجرة باسقة. التفتوا إلى هذه القضية لتستقر في أذهانكم. فالأنباء التي تصلنا والتحليلات التي تُرفَع إلينا من قِبَل من يقدّم تحليلاته لنا، تفيد بأن الذي يدور في أفكارهم على الدوام، هو أنهم ماذا يفعلون للقضاء على هذه الثورة. والثورة حالياً وبفضل الله وجهودكم أنتم أيها الناس تشقّ طريقها نحو الأمام، وتقوى وتتقدم يوماً بعد آخر.
لقد استنفروا كل طاقاتهم للإخلال في عناصر بقاء الثورة وخلودها، وعلينا جميعاً - أنا وأنتم - أن نشحذ كل همتنا لإرساء دعائم هذا الخلود والبقاء. فلقد كانوا منذ بداية الثورة يفكرون دوماً في القضاء عليها، وكان هذا هو السبب في تأجيج نيران الحرب المفروضة، وإثارة الصراعات القومية في أطراف البلاد، وفرص الحصار الاقتصادي، والعقوبات الشديدة في السنوات الأخيرة، وتأسيس الجماعات التكفيرية في شرق البلد وغربه، كل ذلك من أجل دحض هذه الثورة، ودحر عناصر البقاء التي تعتبر بالنسبة لهم مذهلة ومريرة وموجعة للغاية. وقد جنّدوا في ذلك كل همهتم وطاقتهم.
وأخذوا كل يوم يحوكون مؤامرة جديدة، نظير الأحداث التي اندلعت عام 2009 والتي تعتبر من الإبداعات الأمريكية الجديدة. علماً بأنهم قد جرّبوا ذلك في عدة أماكن أخرى، ولم يكن الأمر مختصاً بنا، حيث نفّذوا هذه الخطة في بضعة دولٍ أخرى، ثم جاؤوا ليطبّقوا نفس هذه التجربة على بلدنا أيضاً، ولكنهم صُفعوا بتلك الطريقة. والإبداع هذا هو أنهم يقومون في بلدٍ قد أقيمت فيه انتخابات وتم التصويت فيها لحكومة لا تؤيّدها أمريكا، ولا تضمن المصالح الأمريكية بالشكل الذي يروق لها، يقومون وبذريعة الانتخابات بجرّ تلك الأقلية التي لم تحرز أكثرية الأصوات إلى الساحة، وسوقهم إلى الشوارع. وبغية أن يجعلوا هذه الأقلية بارزة وظاهرة إلى العيان، يحدّدون لها لوناً معيناً، كاللون الأرجواني والوردي والأخضر وما شابه ذلك، والذي وصل إلينا هو اللون الأخضر...!، وكانوا قد حددوا قبل ذلك في أماكن أخرى اللون الأحمر والبرتقالي ونحو ذلك ليجروا تلك الأقلية التي لم تحقق فوزاً في الانتخابات بهذه الحيلة إلى الشوارع. وعلى هذه الأقلية - التي هي من أبناء الشعب حقاً، ولا شك في ذلك، سوى أنه لم يخرج مرشحها من صناديق الاقتراع - أينما كانت أن تثبت على مطاليبها، وهم بدورهم يدعمونهم مالياً وسياسياً متى ما اقتضت الضرورة لذلك، ويزوّدوهم بالسلاح حتى إن تطلب الأمر، وذلك لإفساد نتائج الانتخابات. وهذا ما نفّذوه في عدة بلدان ونجحوا في ذلك، وجاؤوا إلى بلدنا لتنفيذ هذه العلمية أيضاً، ولكنهم لم ينجحوا في تحقيق مآربهم، وتكررت هنا أيضاً نفس تلك القضية بعينها.
علماً بأن أصدقاءنا كانوا يوصونني باستمرار في ذلك الحين بأن لا أعبّر عن تلك الأحداث بالثورة الملونة، ولكوني أؤمن بالاستشارة - وللمستشارين آراؤهم وأفكارهم - لم أُطلق عليها عنوان الثورة الملونة، إلا أنها بالتالي كانت ثورة ملونة، وكانت في الحقيقة انقلاباً ملوّناً فاشلاً. وهذا أمرٌ بالغ الأهمية، فإن الخطة التي نفذها الأمريكيون بالأموال والإمكانيات في أربعة أو خمسة دول أخرى ونجحوا فيها، لم ينجحوا في الجمهورية الإسلامية رغم دعمهم ومساندتهم لها.
قُبَيل تلك الأحداث، بعث الرئيسي الأمريكي إليَّ رسالة - وكانت الرسالة الثانية - مشحونة بالتصريحات المؤيدة لي أنا الحقير ولنظام الجمهورية الإسلامية، وكنت عازماً على الإجابة، وما كنت قاصداً عدم الردّ، ولكن بعد بروز تلك الأحداث، اتخذ على الفور موقفاً لصالح أولئك الذين نزلوا إلى شوارع طهران لمناهضة النظام والثورة، ومجابهة اسم الإسلام في الجمهورية الإسلامية، وحظيت كل أعمال المعارضين بتأييدهم، علماً بأنهم كانوا يريدون أن يفعلوا المزيد، ولكن لم يتمكنوا من ذلك. واليوم أيضاً يقول عددٌ من معارضي الرئيس الأمريكي الحالي بأنك لم تدعم أولئك الذين ناهضوا الجمهورية الإسلامية في سنة 2009 بالكامل. ولكنه دعمهم، غير أن الشعب الإيراني تحرك ونزل إلى الساحة في الوقت المناسب، وقام بإنجاز العمل الصحيح.
والحاصل أن هذا البقاء والخلود أمرٌ يتسم بالأهمية، ولا بد من أخذه كهدفٍ بنظر الاعتبار، والتفكير في كيفية ضمانه وتأمينه. فانظروا وفتشوا عن عناصر بقاء الثورة وديموميتها؛ العناصر التي يجب علينا جميعاً تأمينها واحدة بواحدة. وقد أشرت إلى أن تحليل هذه المسألة يقع على عاتقكم أنتم الشباب.
لقد أطلق الأمريكيون على فترة ما بعد المفاوضات النووية بـ«فترة التشدّد مع إيران»، ولكن ليس هذا التشدد بأقسى من حالات التشدد والتضييق السابقة. فعلى شباب إيران والشعب الإيراني ومسؤولي البلاد التحلي بالوعي واليقظة والأمل والشجاعة والتوكل على الله والاتكاء على نقاط القوة الكثيرة، لمواجهة عِداء الأعداء، وهذا أمرٌ بالغ الأهمية. فإن لكل لحظة وظيفة معينة، والواجب هو معرفة تلك الوظيفة وأداؤها. لقد أسهبنا في الكلام بشأن هذا الموضوع.
ولنتحدث في قضية الانتخابات التي هي واحدة من هذه الوظائف والمهام. فإن الانتخابات في حقيقة أمرها تبعث روحاً جديدة في أبناء الشعب الإيراني، والشعب يكتسب بها أنفاساً جديدة، وهذه هي طبيعة الانتخابات. فأن ينزل كل واحد من أبناء الشعب الإيراني إلى الساحة، ويدلي بصوته للمرشح الفلاني معتقداً بضرورة أن يكون هو المسؤول - سواء في رئاسة الجمهورية، أو في مجلس الشورى الإسلامي، أو في مجلس الخبراء؛ ولكل واحد منفصلاً عن غيره أهمية بالغة - وأن يشعر كل فرد من أفراد الشعب بالمسؤولية، فإنّ هذا بحد ذاته يعدّ واحداً من تلك العناصر التي تصون الثورة وتحافظ عليها. وتواجد الناس يعتبر واحداً من تلك العوامل التي تلحق الهزيمة بالعدو. وهذا هو السبب في تأكيدنا وتشديدنا وإصرارنا على مشاركة كل الناس في الانتخابات. ولطالما ذكرت سابقاً - ولا أعلم بالضبط كم قد كررت هذا الأمر - مطالباً بأن يشارك في الانتخابات حتى أولئك الذين لا يؤيدون النظام، من منطلق صيانة البلد وسمعته. فقد يوجد من لا يقبل بي، ولا ضير في ذلك، غير أن الانتخابات لا تعود للقائد، وإنما هي لإيران الإسلام، ولنظام الجمهورية الإسلامية. فعلى الجميع المشاركة في هذه الانتخابات، لأن ذلك سيؤدي إلى إرساء دعائم نظام الجمهورية الإسلامية، وضمانة استقراره واستمراريته، وبقاء البلد مصاناً في حصار الأمن الكامل - وهو اليوم كذلك والحمد لله - واكتساب الشعب الإيراني سمعة حسنة ورصيداً متصاعداً في أنظار الشعوب الأخرى، ومجداً وشموخاً في أنظار أعدائه.. هكذا هي الانتخابات. ومن هنا فإن الأساس في الانتخابات هو حضور الناس عند صناديق الاقتراع والإدلاء بأصواتهم فيها. فعلى الجميع المشاركة في الانتخاب لأنها مبعث عزة نظام الجمهورية الإسلامية، وعزة الإسلام، وعزة الشعب الإيراني، وعزة البلد. هذه هي القضية الأولى.
والقضية الثانية هي الانتخاب الصائب. فقد تختلف الآراء والتوجهات، ولا إشكال في ذلك، ولكن على الجميع أن يجتهدوا في الوصول إلى الانتخاب الصحيح. فلنبذل سعينا، فقد يصل هذا السعي إلى النتيجة المرجوّة ويكون انتخابنا صحيحاً، وقد لا يصل إلى النتيجة المطلوبة ويكون انتخابنا خاطئاً، ولا بأس في ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى سوف يتقبل منا، لأننا أنجزنا ما علينا، وبذلنا جهدنا وسعينا. وأمامنا عمليتان انتخابيتان: انتخابات مجلس الشورى الإسلامي وانتخابات مجلس الخبراء.
يتسم مجلس الشورى الإسلامي بأهمية فائقة، سواء في تشريع القوانين، أو في تعبيد الطريق وإعداد السكك لحركة الحكومات - فإن المجلس هو الذي يتصدى لإعداد السكك الحديدية من أجل أن يتحرك القطار ويتجه باتجاه الأهداف - أو على الصعيد الدولي. وتلاحظون بأن المجلس الحالي - ولله الحمد - يتخذ مواقفاً جيدة جداً حيال القضايا الدولية، وهذا أمرٌ مغتنمٌ للغاية بالنسبة إلى البلد. وشتان ما بين هذا المجلس وبين أن نشكّل مجلس شورى يتحدث باسم الأعداء الدوليين والجبهة المعادية الموحدة، فهناك بونٌ شاسع بينهما. وكم هو فارق بين مجلسٍ يردد على لسانه قول العدوّ، سواء في الملف النووي، أو في الملفات المختلفة الأخرى، وبين مجلس مستقلٍ، حرٍّ، شجاعٍ، يعكس في هتافاته هتافات الناس، ويعبّر في مواقفه عن المواقف التي ينشدها الناس، وهذا أمرٌ بالغ الأهمية. ومن هذا المنطلق، فإن مجلس الشورى الإسلامي يتسم بأهمية كبيرة، سواء في البعد الداخلي للبلد، أو في سمعته العالمية والدولية، وهذا ما يساهم فيه كل واحد من نوّاب المجلس.
إنكم تريدون الإدلاء بأصواتكم، والمدينة الفلانية مثلاً فيها نائب واحد، والمحافظة الفلانية فيها عشرة نواب، ولكل واحد منهم دوره ونشاطاته، فعلى المرء أن يصل إلى النتيجة التي يثق بها ويعتمد عليها. وباعتقادي، بما أننا لا نعرف الأشخاص فرداً فرداً - وأنا شخصياً حينما يعرضون عليَّ القوائم الانتخابية للإدلاء بالصوت، لا أعرف بعض من سُجِّلت أسماؤهم في هذه القوائم، وإنما أثق بمن عرّفهم، وأنظر لأرى من هم أولئك الذين قاموا بإعداد هذه القائمة، فلو وجدتهم من المتدينين المؤمنين الثوريين، أثق بكلامهم، وأصوّت لصالح قائمتهم، ولو رأيت أنهم لا يأبهون كثيراً بقضايا الثورة والدين واستقلال البلاد، وقلوبهم ميالة إلى ما تمليه أمريكا وغير أمريكا عليهم، لا أثق بقولهم، وهذا برأيي طريق جيد - يجب علينا أن نفتّش لنرى من الذي أعدّ هذه القائمة الانتخابية لمجلس الشورى الإسلامي أو مجلس الخبراء، ولنثق بمن نعتقد حقاً بتديّنه والتزامه، ونعرف أنه من المتدينين الثوريين السائرين على خط الإمام الخميني ونهجه والمؤمنين به حقاً؛ فإن التعرف على هؤلاء هو السبيل. ومن سلك هذا السبيل، وتصدى للبحث والتحري في هذا الإطار، فقد أدى ما عليه، وسيثيبه الله تعالى على ذلك، حتى ولو أخطأ في مجال من المجالات. كما إذا كنتُ أتصور على سبيل المثال أن الشخص الذي أدليتُ بصوتي له شخصاً صالحاً، واتفق أنه لم يكن من المؤهلين الصالحين، إلا أني قد بذلت جهدي، وإن الله تعالى سوف يمنح الأجر والثواب.
ومجلس خبراء القيادة هو الآخر الذي يقع على جانب كبير من الأهمية. فإذا ما نظرنا إلى هذا المجلس بعين ظاهرية، لوجدنا أن أعضاءه يجتمعون في كل سنة مرتين، لمداولة الأبحاث السياسية وغيرها، ثم يتفرقون من بعد ذلك، ولكن لا ينبغي أن ننظر إلى هذا المجلس من هذا المنظار. فإن من المقرر أن ينهض مجلس الخبراء بمهمة اختيار القائد، أفهل هذا مزاح؟ وأن يختار قائداً لذلك اليوم الذي يرتحل القائد الحالي فيه عن دار الدنيا، أو يفتقر فيه إلى وجود قائدٍ أساساً. ولكن من الذي سيقع اختيارهم عليه؟ هل سيختارون أحداً يقف أمام عدوان العدو، ويتكل على الله، ويثبت بشجاعة وبسالة، ويسير على نهج الإمام الخميني؟ هل سيختارون مثل هذا الشخص، أم يختارون فرداً يتسم بسمات أخرى؟ هذا أمرٌ شديد الأهمية. فإنكم تريدون أن تنتخبوا لمجلس الخبراء من ينهض في الحقيقة بمسؤولية اختيار القائد التي تكون مقاليد مسيرة الثورة بيده، وهذه قضية بالغة الأهمية، ولا تصَنَّف في صنف الأعمال الصغيرة. ولذا يجب التقصي والتحري واكتساب الثقة.
إذن فإن أساس الانتخابات والمشاركة فيها كمسألة رئيسية، قضيةٌ، وانتخاب الأصلح أو الصالح قضية أخرى يجب أخذها بنظر الاعتبار.
والمعالم والمؤشرات الثورية أيضاً قضية فائقة الأهمية، فلنعرف ما هي المؤشرات الثورية حقاً، ولنفتش عنها بشكل صحيح، ونحددها في أذهاننا، ونسأل فيها من هو أعلم بها منا. ولو قمنا بذلك سوف تتسم الثورة بالبقاء والخلود والاستمرار لا محالة.
ثمة خصوصيتان في إطار أداء الواجبات: الخصوصية الأولى هي استمرارية الثورة وديموميتها. ومن البديهي أن لنا حالات من التساقط والنماء كذلك، وهذا ما ذكرته مرات عديدة. فإن هناك من كان ثورياً في يوم، ثم تخلى عن الثورة لعارضة عرضت عليه، سواء بحق أو ظلم. فالبعض يُعرض عن الثورة لحادثٍ حدثَ على خلاف ما كان يتوقعه - كما إذا تعرض لظلم في مكان ما - والحق معه، بيد أنه في عمله هذا لم يسلك جادة الحق. والبعض الآخر يُعرض عن الثورة لقضايا شخصية وعائلية ومتنوعة أخرى. وهذه هي حالات التساقط في الثورة، فإن جميع الثورات وكل النهضات الاجتماعية تتعرض لحالاتٍ من التساقط، ولكن إلى جانب التساقط هناك حالات من النماء والتجدد. فإنني أملك الغزير من المعلومات، وأنا على علم واطلاع بالكثير من الأماكن، وحينما أُجيل بصري، أجد أن حالات النماء أكبر من حالات التساقط؛ ذلك أن لدينا هذا الكمّ الهائل من المؤمنين في الشريحة الشابة والمتخرجة والمحلّلة والكفوءة في القضايا التقنية والعلمية، وهذه هي حالات النماء في الثورة. ففي فترة من الفترات كان بلدنا يعاني من مشكلة أن كل الذين يتمكنون من ممارسة التدريس في الجامعات لا يبلغون خمسة آلاف أستاذ.. هكذا كنا في بداية الثورة، حيث هاجر البعض، وأعرض البعض عن التدريس، ولم يتسم البعض الآخر بالأهلية والصلاحية. واليوم لدينا عشرات الآلاف من الأساتذة المؤمنين الذين يزاولون أعمالهم في شتى المجالات الجامعية، وكلهم من المؤمنين والملتزمين والمعتقدين بالثورة حقاً ومن أعماق قلوبهم، بل وقد ترعرعوا في أحضان هذه الثورة، وهذا ليس بالشيء الصغير والأمر اليسير. فإن كل هؤلاء الشباب المؤمنين في مجال التأليف والفنّ والعلم والتقنية والتبليغ والخطابة، على مختلف الأصعدة، وفي القضايا الداخلية والخارجية، يدخلون في عداد حالات النماء الخضراء اليانعة للثورة، وهذا ما يكتسب أهمية وقيمة كبيرة. ومن هنا فإن العمل بواجباتنا في إطار الثورة، يعني تنامي هذه الحالات الخالدة وتضاعف هذه الأنماط.
والخصوصية الثانية هي السكينة التي تحلّ في قلب الإنسان. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه حول مبايعة النبي: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ (4)، فإن هذه البيعة التي كانت نابعة عن صدقٍ وإخلاصٍ، استوجبت أن يُنزل الله تعالى السكينة والطمأنينة على القلوب. وحينما تحلّ السكينة في القلوب، ترحل الهواجس وحالات القلق واليأس. فإن من أهم الأعمال التي تمارسها الأعداء في الظرف الراهن، هي بثّ اليأس وتزريق القنوط. ففي شتى المجالات يبثون اليأس في قلب الشاب والشيخ والثوري السابق. وهذه الطمأنينة والسكينة الإلهية تبعث الأمل في قلب الإنسان، وهي من ثمار البيعة مع النبي. فإنكم حينما تقطعون العهد وتجددون البيعة اليوم مع الثورة، فكأنما تبايعون النبي (ص). وكل من يهبّ اليوم لمبايعة الإمام الخميني، فهو كمن بايع النبي (ص). وعندما تحافظون على نهج الإمام الثوري، وتحولون دون اندراسه وبلائه، فإنكم تبايعون النبي في حقيقة الأمر، ومن يبايع النبي ]يكون مصداقاً لقوله[: ﴿أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (5)، كما في آية أخرى، وفي الآية المذكورة أعلاه: ﴿فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾. وإذا ما نزلت عليكم السكينة، واطمأنّت قلوبكم، عندذاك سوف لا تصابون بالتيه والحيرة واليأس والتزلزل في ساحة مواجهة العدو. وبالاستناد إلى هذه السكينة والطمأنينة يستطيع الإنسان اليوم أن يقطع بأن الشعب الإيراني، سوف يتغلّب على أمريكا ودسائسها لا محالة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنّ عليكم جميعاً بالتوفيق، وأن يثبّت أقدامنا جميعاً في هذا الطريق، وأن يجعلنا من الجنود الذين يبذلون جهودهم في سبيل الحفاظ على هذه الثورة وبقائها والذين لا يدّخرون شيئاً في بذل النفس والنفيس في هذا الدرب.
إلهنا! نقسم عليك بمحمد وآل محمد إلا ما أسبغت ألطافك وأفضالك على هذا الشعب، وجعلت الروح الطاهرة للإمام الخميني راضية عنا، والقلب المقدس لولي العصر (أرواحنا فداه) راضياً عنا.

والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته


الهوامش:
1- سورة الأحزاب، جزء من الآية 38.
2- سورة الفتح، جزء من الآية 23.
3- نهج البلاغة، الخطبة رقم 56.
4- سورة الفتح، جزء من الآية 18.
5- سورة التوبة، جزء من الآية 26.