2015/9/16
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربّ العالمین، والصلاة والسلام علی سیّدنا ونبیّنا أبي القاسم المصطفی محمد، وعلی آله الأطیبین الأطهرین المنتجبین، سیّما بقیّة الله في الأرضینقدمتم خير مقدم أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، فإن اللقاء بكم يمثل بالنسبة لي أحد ألذّ اللقاءات وأكثرها حلاوة، سواء أولئك الذين يُذكّروننا بفترة الدفاع المقدس، ويُحيون في أذهاننا أكبر الذكريات وزناً وقيمة، أو الشباب الأعزاء والأجيال اللاحقة التي التحقت بهذه المجموعة المباركة على مرّ هذه العقود. سائلين الله أن يسبغ عليكم جميعاً بركاته وأن يوفقكم للسير في هذا الصراط المستقيم ومواصلة الجهاد المقدس في جميع الأحوال فهو سرّ سعادة البشر ونجاحه في الدنيا والآخرة.
أولاً، يعتبر شهر ذي الحجة المبارك شهراً مهماً ينبغي علينا معرفة قدره. وما عدا عيد الغدير الأغر وعيد الأضحى السعيد، يتضمن هذا الشهر مناسبة هامة أخرى وهي يوم عرفة الذي يجب علينا أن نعرف قدره، وأن نُعدّ أنفسنا فيه للدخول من باب الخشوع والمثول أمام الله، فإنه يوم عظيم. لأن قلوبنا يعلوها الغبار والصدأ، والتضرّع والخشوع والذكر والتوسل، يزيل الصدأ والغبار. وثمة أيام محددة وفُرصٌ مثلى قد خُصّصت لإزالة الصدأ والأدران ومسح الغبار، ومن أفضلها يوم عرفة، فاعرفوا قدر هذا اليوم الذي يشتمل من ظُهره إلى غروبه على ساعات مهمة، ولكل لحظة من لحظات هذه الساعات أهميتها كالإكسير والكيمياء، فلا ينبغي أن نمر عليها بغفلة.
ونذكر من باب المثال الدعاء العجيب للإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة الذي يعتبر مظهراً للخشوع والتذلل والذكر والابتهال أمام الله، والمثال الآخر دعاء الإمام السجاد (سلام الله عليه) الوارد في الصحيفة السجادية، فاقرؤوا هذه الأدعية بتدبّر وتفكّر، وهي زاد لكم فإن الطريق الماثل أمامكم، طريق طويل صعب وقيّم للغاية. ذلك أن طرق الحياة كثيرة، والجميع يقضون حياتهم، ويكتسبون أرزاقهم، ويمارسون أعمالهم المباحة أو المستحبة أو المحرمة، بيد أن الطريق الذي اخترتموه طريق لا مثيل له، وهو كالجوهرة في قبال الحجر والمدر والحصى، وله من الأهمية بمكان، وهو من سبل الحياة التي تصنع التاريخ، وتسوق الشعوب إلى المجد والشموخ، وتُنقذ البلاد، وتصنع المستقبل، والأسمى من ذلك كله، تستنزل عليكم رضوان الله وتهديكم إلى حيث الجنان في الدنيا والآخرة. فطريقكم هذا، هكذا طريق. وإلى جانب أهميته بالطبع، توجد فيه الكثير من المتاعب والصعاب والعقبات التي تتطلبّ التزّود بالنشاط والحيوية، وهذه الأعمال وحالات التوجه إلى الله، تخلق في نفوسكم هذا النشاط. فلا تغفلوا عن المسائل المعنوية وعن التوسل والخشوع. وكلّ دقيقة يقضيها المرء في التضرع لله، تجعل له في قلبه ذُخراً ورصيداً قيماً وثميناً.. هذه هي النقطة الأولى من حديثنا.
وفيما يخص قوات حرس الثورة الإسلامية، فهي أربع كلمات تنطوي كل واحدة منها على معنى ومغزى عميق وتتطلب شرحاً وبياناً. فإنكم تبذلون جهودكم ومساعيكم في داخل هذه المنظومة، ولربما لا تتاح لكم الفرصة بقدر الأجيال القادمة والمشاهدين والمطالعين في المستقبل أن تستندوا إلى هذه الأمور وتمعنوا النظر فيها، ولكنها موطنٌ للغور والتعمّق: «القوات»، و«الحرس» و«الثورة» و«الإسلام». هذه أربع كلمات قد تكوّن اسمكم وعنوانكم منها. أما كلمة «القوات»، فإنكم تدخلون في عداد هذه القوات، بيد أن حراسة الثورة، لا تختص بقوات الحرس الثوري، بل هي وظيفة تقع على كاهل الجميع، وعلى عاتق كل إنسان مؤمن، غير أن هذه القوات تمتاز بأنها مؤسسة ومجموعة منتظمة، وتتكأ على النظم والانضباط والعمل الإداري الذي يُؤتي ثماره في جميع أجزاء العمل. فإن التشتّت يؤول إلى الاضطراب، ويهدر الكثير من الأعمال، وأما العمل التنظيمي، والجماعي، والمؤسساتي، وإحلال النظم والانضباط، فمَثَله كمَثَل مدّ سواقي الماء تحت سدّ زاخر بالمياه، بحيث لو تم إنجازه بشكل صحيح، لا تُهدَر حتى قطرة ماء واحدة، وتُسيَّر جميعها إلى الأماكن المطلوبة. هذه هي ميزة القوات وخصوصيتها. فإنه لم تُقرَّر لأي منظومة من مؤسسات البلاد واجبات مؤسساتية كما تقرر لهذه القوات في حراسة أعزّ حدث تاريخي جارٍ في البلاد، وهذا ما سأتناوله بالشرح والتفصيل.
والبُعد الآخر التي تمتاز به هذه القوات المنتظمة، هو عدم الشيخوخة، فإن هذه المنظمة لا ترى الشيخوخة. وذلك لأن تعاقب الأجيال، وتداول المعارف والتجارب لا يَدَع أن تتجه المنظمة نحو الشيخوخة، وإنما يجعلها في تجدّد متواصل للحياة. والمعارف لا يتم تداولها فحسب، وإنما تتنامى وتتكامل. فإن ما توصلت إليه قوات الحرس الثوري اليوم من معارف في شتى المجالات، لم تكن لتتوفر عليها بهذا الوضوح والجلاء قبل ثلاثين عاماً، وإن مكاسبها المعرفية أخذت بالتنامي والتعمّق يوماً بعد آخر. وهذه هي ميزة أخرى للعمل التنظيمي المؤسساتي المنظم.
ومن المزايا الأخرى تربية عناصر جديدة، سواء في داخل المنظمة أو خارجها. فإن العمل المؤسساتي المنتظم، يؤدي إلى تربية الأفراد في داخل المؤسسة وظهور عناصر كفوءة واعية، وأما التفسّخ التنظيمي، فإنه لا يؤول إلى التوفر على هذه الميزة. وهناك بالإضافة إلى التربية الداخلية، تربية خارجية أيضاً. فإن قوات الحرس الثوري تترك اليوم أثرها على الرأي العام، وعلى بناء الشباب والناس. والعناصر التي تضعها قوات الحرس في خدمة الأجهزة المختلفة وهي كثيرة جداً - فقد صدَّرَ الحرس على مرّ هذه الأعوام وبشكل متواصل عناصر لإدارة شتى الأجهزة - أخذت تترك أثرها على نفس تلك الأجهزة والمؤسسات. ومن هنا فإن من السمات الأخرى لهذه القوات تربية الناس وترقية العناصر المستعدة.
ومن خصائص قوات الحرس، هي أنها مظهرٌ للاقتدار الميداني. فإن الاقتدار في الساحة السياسية والإعلامية أمرٌ، والاقتدار على أرض الواقع وفي الميدان أمرٌ آخر. والاقتدار الميداني يستتبع الاقتدار السياسي أيضاً. فإن كنتم تتسمون بالقوة والاقتدار على الأرض، ستتوافر لكم إمكانية الإقدام والعمل والدفع والجذب. وإن اتّصف شعبٌ أو مجموعة من شعبٍ بهذه الخصوصية، سيوّلد الاقتدار السياسي والاقتدار في الهوية ويمنح العزة، والحرس الثوري مظهر للاقتدار الميداني. علماً بأن الاقتدار الميداني له مفهومه في الساحة الاقتصادية أيضاً، فإن توفرت هذه الساحة على مجموعة اقتصادية قوية نشيطة نافذة، سيتولّد الاقتدار الميداني، وهذا بحث آخر ينبغي تداوله في محله. ومن هنا فإن حراسة هذه القوات للثورة الإسلامية كقوة ومنظمة ومجموعة لها معناها ومفهومها، بحيث لو لم يكن هذا النظم، لفُقد التنظيم، ولساد التفسخ والتمزق. ولو هبّ عدد من المؤمنين المؤيدين للثورة الإسلامية لحراسة هذه الثورة، من دون عملٍ تنظيمي، لآل الأمر إلى شيء آخر. فإن العمل التنظيمي المؤسساتي، يعتبر من البركات الكبيرة المختصة بقوات الحرس الثوري
وبهذه الخصوصيات التي أشرنا إليها، ذكرنا بأن الحرس الثوري متجدد وعصيٌ على الإندثار والشيخوخة - فالأفراد يشيبون، ولكن المؤسسة لا تشيب - وهذا يعني ضرورة استثمار كافة العناصر التي يمكنها أن تساعد على هذا التجدد. فإن ميزة النزعة الشبابية - التي حظيت في أوساط الحرس لحسن الحظ بالاهتمام والاعتناء وهي ميزة إيجابية - لا بد وأن تترافق مع الانتفاع من أصحاب التجارب والمتمرسين والقدامى، فيجب أن يُستفاد في عملية التجديد من العناصر القديمة والخبيرة في الحرس الذين أدّوا امتحانهم، ومارسوا أعمالهم، وأنجزوا الكثير من الأنشطة، وإن عملية التجديد من دون مشاركتهم تتعسر بل قد تتعذر أحياناً، ولذا لا ينبغي أن يحدث انقطاع بين الأجيال في قوات الحرس، سيما وأن قدامانا قاموا بأعمال جسام، وأدوا امتحانات كبيرة، فإنني رغم اطلاعي حينذاك على مجريات الأمور برمتها، وقراءتي فيما بعد لكمٍ كبير من الكتب المدونة في مجال الحرب، ولكن إذا ظهر كتاب جديد، وأتيحت لي الفرصة وحالفني التوفيق لقراءته، تتفتح أمامي أبواباً جديدة، وأسمع أقوالاً حديثة. فيا لها من عالم عجيب تلك الفترة التي طالت ثمانية أعوام والتي وضعت الشعب الإيراني ماثلاً أمام بحرٍ لجيٍّ لا ينضب بهذه السرعة والسهولة. وبالتالي يجب الاستفادة من العناصر التي كانت نشيطة ومؤثرة، ولا أروم القول بالطبع أن نمنح الدرجة لكل من كان نشيطاً في ذلك اليوم عبر تقييمه في تلك الفترة، ولطالما ذكرت بأننا جميعاً - أنا الذي ذرّفت على الثمانين بطريقة، وأنتم الشباب بطريقة، والشيوخ بطريقة أخرى - معرَّضون للامتحان والزلات، وقد يزل الإنسان في كل لحظة، فإن الأمور بخواتيمها، ولا يعلم المرء ماذا ستكون عاقبته. فقد يعيش الإنسان بصلاح مدة مديدة، ولكنه ينقلب بامتحان عسير رأساً على عقب. فلا نريد الادّعاء بأن كل من شارك في ذلك اليوم، يتعيّن علينا أن نجعل له حاجزاً أمنياً، ولا نجرأ على الاقتراب منه؛ كلا، ولكن لا بد من الإشادة بذلك الماضي، ومعرفة قدره. وكم هو قيّم وثمين ذلك الذي استطاع على مدى هذه الأعوام أن يحافظ على ذلك الرصيد لنفسه، وأن يبقى سليم النفس. إذن هذا هو معنى القوات التي تعطي مفهوم المنظمة والمجموعة المنتظمة. وهذا هو الجزء الأول من اسمكم. علماً بأن المرء إذا أراد أن يسوق الحديث وأن يشرح في هذا المجال، فهناك كلام كثير، ولكن تكفي حالياً هذه الكلمات القلائل.
وأما «الحرس»، فإنكم من الحرس الثوري. وحراسة الثورة تمثل في الحقيقة رمز الإرادة الثورية في البلد والوجود الثوري والهوية الثورية. فإن قولكم بأن مهمة هذه المؤسسة حراسة الثورة، يعني أن الإرادة الثورية مازالت قويمة، وأن الثورة لها حضورها الحاسم في الساحة، وهذا مفهوم بالغ الأهمية. فلا ينبغي تحديد الثورة بالأحداث الثورية التي وقعت في بداية الثورة وأيام انتصارها، لأنها تشكل جانباً من الثورة. ولربما لو اطلع أحدٌ على معنى الثورة بشكل صحيح، لوجد أن الحركة والنهضة الثورية تشكل جانباً صغيراً من منظومة الثورة. فإن الثورة تعني التحوّل الشامل في مجموعة بشرية - سواء على مستوى شعب، أو أعلى من ذلك على مستوى جيل وحضارة - هذا هو مفهوم الثورة الذي هو أعمق بكثير من مفهوم الانقلابات العسكرية، وهو الذي تحقق في هذا البلد. فإن الذي حصل في بلدنا هذا كان ولا يزال وسيبقى ثورة بكل ما للكلمة من معنى. وسأشير في بحث الثورة إلى التفاسير المتعلقة بها، ولكن في بحث الحراسة، عندما تقولون بأننا حُرّاس الثورة، يعني أن الثورة حيّة حاضرة موجودة. ولو كانت الثورة قد ماتت كما يدعيه أو يتمناه البعض، فلا حاجة للحارس، لأن الميت لا يحتاج إلى حراسة، فالثورة حاضرة إذن. ومعنى حراسة الثورة يتضمن معنى حضور الثورة أيضاً؛ وهذا يعني أنكم تبتغون القول بأن الثورة موجودة، وسأشير بعد ذلك إلى أن الثورة موجودة بالفعل وبكل قوة واقتدار، ثم إن قولكم نحن حُرّاس الثورة، يدلّ في إحدى معاني الحراسة وإحدى أبعادها المفهومية، على أن الثورة تتعرض للتهديد، ولو لم يكن هناك تهديد، لما اقتضت الحاجة إلى الحراسة. فإن الإنسان يحرس المكان الذي يتعرض للتهديد. وعلى هذا فإنكم ومن خلال عنوانكم تؤيّدون وجود الثورة، وتبيّنون كذلك التهديدات المحدقة بها وتخبرون عنها. وعلى حرّاس الثورة معرفة هذه التهديدات. فإن من مهام الحرس الثوري الرئيسية هي رصد القضايا الدولية للوقوف على التهديدات فقط. لأن رصد المسائل والأحداث والأخبار الدولية يؤدي إلى أن نطّلع على الأمور التي تهددنا، وذلك إلى جانب رصد القضايا الداخلية في البلد أيضاً. ومن هنا فإن الحرس الثوري لا يعدّ مؤسسة منكّسة الرأس معزولة ومشغولة بأعمالها الإدارية، بل هي مؤسسة واعية مشرفة بصيرة، تراقب أطرافها على الصعيد الداخلي والدولي والإقليمي، وتنظر كالموجود الحيّ اليَقِظ، لترى من أين يُوجَّه التهديد؟ ومن أو ما هو الشيء الذي يتعرض للتهديد؟ والكلام هنا لا يرد حول الأشخاص، بل التهديد مُوجَّه للثورة، ولذا لا بد من الرصد المستمر. والقطاعات الاستخباراتية في الحرس الثوري وكل ما هو مرتبط بها ناظرة إلى هذا المعنى. وعلى مختلف أصحاب الرتب العسكرية وسلسلة المسؤولين والكوادر أن يطّلعوا على مجريات الأمور، وأن يقفوا على التهديدات، ليعلم الجميع ماذا يفعلون وماذا يريدون أن يفعلوا؟ ولو لم يطلع قوات الحرس الثوري بمختلف رتبهم على التهديدات المحدقة بالشيء الذي يحرسونه، ليس من المعلوم أن يتمكنوا من العمل بوظيفتهم على النحو المطلوب. ولو أدرك الإنسان ما هو التهديد ومن أين يصدر، سيكون له الدافع والمحفّز على مواجهته.
إذن فإن واحدة من أبعاد كلمة الحراسة، هي أن يكون المرء على أهبة الاستعداد للدفاع عن الثورة وأن يكون في يقظة وصحوة مستمرة، كما ورد في رسالة أمير المؤمنين: «وَإِنَّ أَخَا الـحَرْبِ لَأَرِق». ولا ضرورة لأن تكون الحرب قائمة بالفعل، فمن أعدّ نفسه للحرب، لا بد أن يكون يَقِظاً. ولكن الحرب مع من؟ نحن لم ولن نبدأ بقتال أبداً، ولا قتال لنا مع الناس ومع الشعوب ومع الحكومات المحايدة التي لا تريد إلحاق الضرر بنا، وإنما قتالنا مع من يضايقنا ويعارضنا ويهددنا. «لَأَرِق»، والأرق هو اليَقِظ بشكل مستمر. إذن فإن من أبعاد كلمة الحراسة، هي اليقظة والاستعداد التام، علماً بأنكم إن اطلعتم على التهديدات، ستكتسبون الاستعدادات المناسبة. ففي يوم لم يكن هناك تهديد في الجانب الإلكتروني، ولذا لم تقتض الحاجة إلى يسعى البعض وراء القضايا الإلكترونية، ولكنه اليوم موجود، ويتطلب الأمر السعي وراءه، وقد بيّن قائد الحرس الثوري العزيز ذلك. ففي هذه الحسينية اجتمعت قوات الحرس وعرضت إنجازاتها الباهرة والمتقدمة والمتطورة لأولى الاختصاص، وتبيّن أن الحرس الثوري قد قطع خطىً شاسعة في هذا المجال وفي كافة المجالات. فإن عرفتم التهديد، ستعرفون الوسيلة التي تقوم بإحباطه، وتتابعونها، فإن كانت موجودة عندكم، حافظتم عليها، وإن لم تكن موجودة، أعددتموها، والحراسة والرعاية تنطوى في الحقيقة على معنيين:
الأول؛ هي الحفظ والصيانة، والثاني؛ هو التكريم؛ فرعاية الإنسان أو الشيء، يعني تثمينه واحترامه. وحراسة الثورة الإسلامية لا يقتصر معناها على صيانة الثورة التي تناولنا الحديث عنها، بل يشمل تكريم الثورة والاهتمام بها وتعظيمها أيضاً. فأن يرعى الإنسان شخصاً، يعني أن يقوم بتكريمه وتقديره والاهتمام به، وهذا ما يتطلب معرفة الثورة بشكل صحيح، فعليكم أن تتعرفوا على الثورة. ولا بد أن تكون هذه المعرفة في كل قطاعات الحرس ومدارجها معرفة واعية واضحة شاملة وصحيحة. وإن كان ثمة نقص في الأنشطة الثقافية، يجب إزالته بالتأكيد، وعليكم التحري في ذلك. كما ويجب على الإخوة والأخوات في الحرس الثوري من أولهم وآخرهم أن يتسلحوا بمنطق الثورة الرصين، لأن المناهضين للثورة باتوا اليوم يتغلغلون من طرق شتى، ومنها النفوذ والتوغل - الذي سأتناول الحديث عنه، وهو أمرٌ لطالما كررته وشدّدت عليه - والإخلال بالمعتقدات الثورية والدينية والمعارف الثورية وإيجاد الثغرات فيها. علماً بأنهم يستخدمون جميع الطرق، ويستغلون صنوف الناس، بما فيهم أساتذة الجامعات والناشطين من الطلبة الجامعيين والنخب الفكرية والعلمية، إلى غير ذلك من أصناف الناس لتوظيفهم في إيجاد الثغرات. وعلى الإخوة في شتى المدارج من الحرس الثوري أن يتحلوا بهذه الجهوزية وهذا الاقتدار المنطقي.
كنا قبل الثورة نستفيد من قوة المنطق هذه في مواطن كثيرة، وكان الشباب الذين يشاركون في الجلسات التي كنت أعقدها آنذاك حول القرآن ونهج البلاغة وأمثال ذلك، يقولون لي بأننا في الجامعة لا نتراجع بعدُ أمام الماركسيين، على خلاف ما كنا عليه في السابق، لأن لنا الآن كلمتنا ومنطقنا واستدلالنا، ولا نردّ رأيهم فحسب، بل نقوم بإثبات آرائنا وبيان بعض الحقائق. وعلى الشاب الذي يمارس دوره اليوم في الحرس الثوري أن يتسلح بمثل هذه القوة وهي قوة الإقناع وقوة المنطق وقوة البيان، وهي تعدّ من المهام الرئيسية، وهذا هو المراد من حراسة الثورة وتكريمها والاحتفاء بها وأداء حقها ومعرفة قدرها.
والبعد الآخر من أبعاد حراسة الثورة وتكريمها، معرفة العدو الواجبة في أعناقنا. علماً بأنكم تعرفون العدوّ، فإنه يتمثل في الاستكبار العالمي الذي يتجسد بكامله في أمريكا وأياديها من الأنظمة الرجعية والعملاء وضعاف النفوس وأمثالهم، فالعدوّ معروف لديكم، ولا بد من استثمار هذه المعرفة، واكتشاف نقاط ضعف العدو المعرفية والعملية، وعرضها على أولئك الذين هم بحاجة إلى معرفة هذه الأمور. فإن أعداء الثورة الإسلامية هم الذين دخلوا هذه المنطقة قبل عشرة أو خمسة عشر عاماً بشعار إحلال الأمن، ولكم أن تنظروا اليوم، ففي أي بقعة من بقاع هذه المنطقة قد استتبّ الأمن؟ لقد انعدم الأمن في كافة أرجاء هذه المنطقة من غرب آسيا إلى شمال أفريقيا. وحين هجموا على أفغانستان كان شعارهم مكافة الإرهاب، واليوم قد انتشر الإرهاب في كل أنحاء المنطقة، وأيّ إرهاب! إرهابٌ وحشي همجي يقوم عناصره بإحراق أعدائهم أمام أنظار الجميع وهم أحياء، ويستخدمون شتى الوسائل الفنية لعرض هذا المشهد بشكل صحيح على أنظار أهل العالم وزجّه في قناعاتهم؛ هكذا إرهاب! وهكذا تنتهج العناصر التكفيرية في هذا اليوم، حيث يقتلون الطفل أمام أمه، ويذبحون الأب والأم أمام أبنائهم. فقد جاؤوا لاقتلاع جذور الإرهاب من هذه المنطقة بحسب شعاراتهم ومدعياتهم - ولا أقول أنها كانت بغيتهم الحقيقية - واليوم في أي مكان من هذه المنطقة لا يوجد إرهاب؟ وجاؤوا لإرساء الديمقراطية بحسب ادّعائهم، واليوم نجد أن أشدّ الأنظمة رجعية واستبداداً ودكتاتورية في المنطقة تعزّز ركائزها وتواصل جرائمها بدعم من أمريكا وحلفائها. وقد تبدّل ذلك إلى واحدة من المشاكل الرئيسية لأمريكا التي أحدقت بالساسة الأمريكيين وأوقعتهم في دوامة. فإن دعمهم لهذه الأنظمة تسبب في أن تنتقض شعاراتهم المناهضة للدكتاتورية والمناصرة لحقوق الإنسان على مدى أعوام طويلة، وقد أثارت هذه الظاهرة في الوقت الراهن معضلة في أوساط المثقفين والنخب السياسية والفكرية في أمريكا، لا يمكنهم الإجابة عليها.
هذا هو العدو الذي يواجهنا، فانظروا إلى ما ينادي به من قضايا كحقوق الإنسان، والديقراطية، ومكافحة الإرهاب، وإحلال الأمن والسلام، حيث قالوا بأننا نحارب من أجل السلام، ولكن أين هو السلام؟ فقد تلوثّت جميع المنطقة بالحرب، وفي أي قطر من أقطار هذه المنطقة لم تشتعل نيران الحرب؟ هذا هو العدو، وهذا هو الذي وقفت الثورة في مواجهته، ولبستم قلوبكم فوق الدورع أمامه، بكل هذا التناقض، وبكل نقاط الضعف التي يحملها، وبكل هذا الخلل في المعرفة والعمل؛ هذا هو العدو. فإن من سمات حراسة الثورة وصيانتها هي أن نفتح أعيننا ونرى العدو ونعرفه، ونعرف الثورة أيضاً، إلى جانب معرفة العدو. هذا ما يتعلق بالحراسة. علماً بأن الحديث عن الحراسة ومعناها ومغزاها يحتاج إلى كتاب كامل.
وأما «الثورة»، حيث قلنا: حراسة الثورة. فالثورة حقيقة مستمرة، ولم تتبلور دفعة واحدة بأن نقول مثلاً: اتفق أن وقع حدثٌ في التاريخ الفلاني، حيث نزل عدد من الناس إلى الشوارع، واستمرت حركتهم عشرة أيام أو عشرين يوماً أو شهرين أو ستة أشهر، حتى سقطت الحكومة، وهذه هي الثورة؛ كلا، هذه ليست الثورة، وإنما هي جانبٌ منها. فإن الثورة حقيقة خالدة دائمة. والثورة يعني التحول، والتحول العميق لا يتحقق خلال ستة أشهر أو خلال سنة أو خمس سنوات، بالإضافة إلى أن التحول والصيرورة - وهي بمعنى الانتقال من حال إلى حال - لا تقف عند حدٍّ أساساً، ولا تنتهي أبداً؛ هذا هو مفهوم الثورة. فالثورة حقيقة مستمرة. والتصريحات التي تتردّد على ألسنة البعض - ومصدرها على حدّ تعبيرهم غرف العمليات الأجنبية، وبات البعض في الداخل يكررها في الصحف والمجلات والخطابات المختلفة ويعيدها إلى اللغة الفارسية - بأن الثورة قد انتهت. وقد يظهر شخص عديم العقل ويقول صراحة بأن الثورة لا بد من إيداعها في المتحف، والبعض الآخر لا يبلغون إلى هذه الدرجة من فقدان العقل، ولا يصرّحون بهذا القول، وإنما يتفوّهون به من وراء حجاب، ويتحدثون بطريقة وكأن الثورة قد انتهت وتبدّلت إلى جمهورية إسلامية، بيد أن الثورة أساساً لا يمكن تبديلها، ولا بد أن تكون الجمهورية الإسلامية مظهراً للثورة ولتلك الحركة التي هي في تجدّد وتحوّل دائم، وهذه حالة يجب أن تكون مودعة في الجمهورية الإسلامية، وإلا فإنها ليست جمهورية إسلامية، وليست حكومة إسلامية، لأن الثورة حقيقة مستمرة.
ولكن ما هي إنجازات الثورة؟ الأمر الذي تقوم الثورة بإنجازه في بادئ الأمر، هو رسم الـمُثُل والمبادئ، علماً بأن الـمُثُل العليا لا تقبل التغيير، فإن الوسائل في تغيّر والتطورات اليومية في تغيّر، ولكن الأسس والمبادئ الرئيسية لا يمكن تغييرها. فالعدالة مبدأ من المبادئ منذ بداية خلقة البشر وحتى يومنا هذا، ولم تخرج العدالة عن كونها مبدأً ومثالاً في أيّ زمن من الأزمنة، كما أن حرية الإنسان مثال ومبدأ أيضاً، إلى غير ذلك من الأمور التي على هذا الغرار. فإن الثورة تصوّر المبادئ وترسمها، ثم تتجه باتجاهها. ولو أردنا أن نعبّر عن المبدأ بكلمة واحدة ونجد له تعبيراً قرآنياً نقول: «الحياة الطيبة» حيث قال: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاة طَيِّبَة﴾ و﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾. فإن دعوة نبي الإسلام وكافة الأنبياء هي للحياة، ولكن أي نمط من الحياة؟ الحياة الطيبة.
ما هو المراد من الحياة الطيبة؟ المراد منه هو كل تلك الأمور التي يحتاج إليها البشر لحياته الرغيدة ولسعادته. فإن العزة الوطنية على سبيل المثال من سمات الحياة الطيبة؛ ذلك أن الشعب الذليل الخنوع لا ينعم بحياة طيبة. كما أن الاستقلال وعدم التبعية للأجانب وللآخرين أيضاً من خصائص الحياة الطيبة. فلا ينبغي أن نبحث عن الحياة الطيبة في العبادة وفي كتب الأدعية فحسب، بل لا بد أن نرى حقائق الأمور في حياتنا. وإن من سمات الحياة الطيبة للشعب هي أن يعيش عزيزاً شامخاً مستقلاً غير تابع، ولقد بادر البعض إلى تأليف كتاب في رفض الاستقلال! وهو أمرٌ يثير استغراب الإنسان حقاً، فكيف لا يشعر البعض بالخجل اليوم من التفوّه بهذه الأمور. لصٌّ يعترض طريق قافلة ليسرق منها كل ما فيها، فيقول أحدهم: المصلحة اليوم تقتضي أن ندخل في زمرته وأن نعمل وفق إرادته! فإن الحديث في رفض الاستقلال يعطي مثل هذا المعنى. وسبق أن ذكرنا بأن الاستقلال، هو الحرية على مستوى شعب. فإنهم يدافعون عن الحرية بالاسم، ويرفضون الاستقلال، غير أن الاستقلال هو الحرية، ولكن لا يراد به الحرية الفردية، وإنما هي حرية الشعب وتحرره من حالات الفرض والإملاء والإركاع وفرض التخلف والاستثمار والاستعباد، فإن تحرر الشعب من هذه الأمور، سيكون مستقلاً، وإن من الأمور التي تضمن الحياة الطيبة، هي التقدم في العلم والحضارة العالمية. فأن يتمكن شعب من أن يسير مسيرة تقدمية في منظومة العلم العالمي والمدنية العالمية، وأن يضع سُلماً جديداً أمام البشرية لارتقائها بأسرها، يكون قد حقق جانباً من جوانب الحياة الطيبة. والغربيون لا يسلكون هذا المسلك، فإنهم قد حققوا نجاحات مادية كبيرة، وعبّروا ومازالوا يُعبّرون عن آراء جديدة في هذه المجالات، إلا أنهم أرفقوا ذلك بما سيؤول إلى السقوم المحتَّم من هذا السُلّم، فإنهم يضعون السلّم أمام أبناء البشر، ولكنهم يفعلون ما من شأنه أن يؤدي إلى سقوط البشر من هذا السلم بالتأكيد، وهو العمل على إفساد الأخلاق. فانظروا اليوم إلى الثقافة الغربية حيث أخذت أقبح الأعمال وأفضعها تتخذ طابعاً عادياً وعرفياً وقانونياً، ولو عارضهم أحد في ذلك، يستنكرون عليه قائلين لماذا تُعارضنا؟ وهذا كله لمجرد ميل الإنسان ورغبته! ولكن الإنسان يرغب في ارتكاب الكثير من الأمور. فإلى أين سيُفضي أمر الغرب في كل هذا التهتك والاستهتار؟ ولا يوجد لهم سبيل للعلاج وطريق للنجاة بالتأكيد. فإن هذا الطريق الذي يسلكه الغرب، وهذا التمادي في الانحطاط الأخلاقي، سيُذيقهم الأمَرّين ويقضي عليهم. والمساكين هم شعوبهم، فإن الإنسان يعتصر قلبه على أهالي وشعوب هذه البلدان، وهم أناسٌ مساكين. وأما النخب والمؤثرون والذين يضعون البرامج ويرسمون السياسات فهم يبذلون جهودهم لتحقيق أهدافهم الخبيثة والشريرة.
إذن؛ فالتقدم في العلم والحضارة البشرية المصحوب بالمعنوية. ولقد ذكرت قبل فترة في إحدى الاجتماعات - وأظن أنها بُثّت على شاشات التلفاز - قائلاً: تصوّروا الجمهورية الإسلامية بعد عشرين أو ثلاثين عاماً يبلغ عدد سكانها مثلاً 200 أو 180 أو 150 مليون نسمة، وقد حققت نجاحات مادية وعلمية وصناعية باهرة، وأحكمت في داخلها المعنوية والعدالة، فانظروا ماذا سيحدث؟ وكم ستكون لها من جاذبية بين أبناء البشر من المسلمين وغير المسلمين، وبغيتهم هي الحيلولة دون تحقيق ذلك. وهذا هو المراد من الحياة الطيبة التي تعني أن نتجه لحياتنا في البلد باتجاه هذه الأوضاع، والثورة تبغي أن تهدينا إلى هذا السبيل. فالرفاهية والعدالة والحيوية والنشاط في العمل وممارسته بشوق ورغبة والعلم والتقنية كلها تدخل في عداد الحياة الطيبة، إلى جانب المعنوية والرحمة والأخلاق الإسلامية ونمط الحياة الإسلامية التي هي الأخرى من سمات الحياة الطيبة. كما أن النظم أيضاً يعدّ من خصائص الحياة الطيبة، فإن الحركة باتجاه الحياة الطيبة لا غاية له ولا نهاية، ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾. هذه هي الصيرورة إلى الله، فالصيرورة تعني الانتقال من حال إلى حال، وإيجاد التغيير في باطن الإنسان وسريرته، والسير نحو الأمثل يوماً بعد آخر؛ هذا ما يُعبّر عنه بالصيرورة، والبشرية في صيرورة إلى الله. والمجتمع الإسلامي المنشود هو الذي يتحلى بهذه الصيرورة، وهي مستمرة بشكل متواصل لا ينقضي لها أمد؛ وهذا هو مفهوم الثورة.
وإن من خصائص الحياة الطيبة وسمات الثورة التي صرّح القرآن بها هي الإيمان بالله والكفر بالطاغوت: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾. و«العروة الوثقى» يعني أنكم مثلاً تجتازون طريقاً خطراً مليئاً بالمزالق، وهناك حبل أو شيء آخر تتمسكون به لئلا تزلوا وتقعوا على الأرض وتسقطوا إلى الأسفل، وهذا ما يعبّرون عنه بـ«العروة الوثقى». فإن كنتم تؤمنون بالله وتكفرون بالطاغوت، فإنكم متمسكون بالعروة الوثقى. ثم إن الإيمان بالله والكفر بالطاغوت أمران متلازمان لا ينبغي فصل أحدهما عن الآخر. وأشيرُ هنا أيضاً إلى أن الإيمان بالله يصعب انتزاعه من الناس، إلا أن إعلام الأعداء قد تركّز على الكفر بالطاغوت، حيث باتوا يضعّفون حالة الكفر بالطاغوت تدريجياً، ويسلبون هذا الجانب من الناس قائلين لهم: آمنوا بالله وآمنوا بالطاغوت معاً. بيد أن هذا أمرٌ غير ممكن، لأن الإيمان بالله والكفر بالطاغوت عِدلان متكافئان، ومن التصريحات التي كانت رائجة لعدة أعوام وتعطلت لبضع سنوات ثم عادت ثانية هي إزالة الأيديولوجية وحذفها من الساحة الدبلوماسية والسياسة الداخلية، بيد أن هذا بالضبط كلام مضادّ للحق والحقيقة، ومعناه نبذ الأسس والمبادئ الثورية والإسلامية عن السياسة الداخلية والخارجية، ولكن كيف ننبذها؟ فإن هذه السياسات لا بد وأن تقوم على أساس هذه المبادئ، وكذلك الحال في جميع المجالات.
التفتوا إلى هذه النقطة الظريفة؛ العلم هو السير نحو واقع وحقيقة واكتشافها والوقوف عليها، وبالطبع لا معنى للأيديولوجية في هذا المجال، ولكن ما هو الواقع الذي يجب علينا تقصيه، وما هو الواقع الذي يجب علينا نبذه، هذا ما يتدخل فيه الفكر والعقيدة والأيديولوجية - على حدّ تعبير التغريبيين -. ثمة عِلم مضرّ لا نبتغي السعي وراءه، وثمة علم نافع نروم اكتسابه؛ ذلك أن لدينا علم نافع وعلم ضار. ومن هنا فإن الفكر والإيمان والعقيدة والأيديولوجية على حد قول التغريبيين مؤثرة حتى في مسألة العلم. وإن من الأمور التي كثيراً ما تصل إلى أسماعنا، عبارتان متناقضتان في الحقيقة تتردد على لسان معارضينا وأعدائنا، وتتكرر من قبل البعض في الداخل أيضاً، ولكن بقي التناقض فيهما أمراً مغفولاً عنه. العبارة الأولى التي طالما يكررونها هي أن بلدكم بلد له قدرته ونفوذه وتأثيره، وهذا ما نسمعه كثيراً في عالم اليوم. علماً بأن هناك من أصحاب النفوس الضعيفة والرؤى الضيقة في الداخل من لا يقبل حتى بهذه القضية أيضاً، بيد أن المراقبين في الخارج من أصدقائنا وأعدائنا يعترفون مراراً وتكراراً بأن الجمهورية الإسلامية اليوم بلد مقتدر يترك أثره على أحداث المنطقة وله نفوذه. هذه عبارة، والعبارة الثانية هي أنهم يقولون: لا تُصرّوا كل هذا الإصرار على مفردة الثورة وقضية الثورة والروح الثورية. بيد أن هاتين العبارتين متناقضتان. وأساساً فإن السبب من هذا الاقتدار والنفوذ هو الثورة، ولو لم تكن الثورة، ولم تكن الروح الثورية، ولم يكن الأداء الثوري، لما كان هذا النفوذ. وقولهم بأنكم أصحاب نفوذ وأولوا قوة واقتدار، فدَعوا الثورة ليتسنى لنا أن نتعايش مع بعض، يعني أنكم تخلوا عن الثورة لتذهب ريحكم ويتأتى لنا ابتلاعكم. وهذا ما يصرّحونه للبعض في الجمهورية الإسلامية ولكن لا يُلتفَت إلى المعنى والمفهوم الحقيقي من هذا الكلام. إلى متى تريدون البقاء على الحالة الثورية؟ إلى متى تريدون التحدث عن الثورة؟ تعالوا وانضموا إلى المجتمع العالمي! هذا الكلام يعني أنكم دَعوا هذا النفوذ، وهذا الاقتدار، وهذا التأثير في المنطقة، وهذا العمق الاستراتيجي الذي تتسمون به في أوساط الشعوب، وتخلوا عن هذه الأمور، لتضعفوا، وليستنى لنا ابتلاعكم. ويطلبون منا أن نلتحق بالمجتمع العالمي، ومرادهم من المجتمع العالمي بضعة قوى مستكبرة متغطرسة ظالمة، ومعنى هذا الكلام الدعوة إلى الاضمحلال في مخططاتهم. إذن فالثورة تتسم بمثل هذه الأبعاد، وهناك كلام كثير فيما يخص حراسة الثورة، ولكننا نكتفي بما ذكرناه في هذا المجال.
وأما «الإسلام»، فالثورة هي ثورة إسلامية. علماً بأن البعض يصرّ على قول «ثورة 79»، ابتعاداً منه عن اسم الإسلام، لأنه يخاف من هذا الاسم، ويهاب عنوان الثورة الإسلامية. بيد أن الإسلام يمثل ركيزة الثورة ورصيدها وكل ما فيها، وإسلامنا بالطبع هو الإسلام الأصيل، وليس من نمط الإسلام التابع للأفكار المنحرفة والمغلوطة والسطحية والحمقاء لأناس كالتكفيريين، وإنما هو الإسلام المبنيّ على العقل - الإسلام العاقل - والقائم على القرآن، والمرتكز على المعارف النبوية ومعارف أهل البيت (عليهم السلام)، بأفكار جليّة، ومنطق قويم بيّن؛ هذا هو الإسلام الذي يمكن الدفاع عنه في كل الأوساط العالمية العصرية بالكامل وقد فُتحت أبواب الأبعاد المختلفة لهذه الثورة على المجتمعات الإسلامية والحمد لله، وعلى الرغم من أنهم أنفقوا كل هذه الأموال، وبذلوا كل هذه الدولارات النفطية ليتمكنوا من الوقوف أمام هذه الحركة، فقد شقّ هذا الفكر القويم الرصين طريقه إلى الأمام لحسن الحظ، دون أن نقطع في هذا المضمار خطىً حثيثة - فإننا مقصرون كثيراً في الجانب التبليغي والإعلامي -. وهذا ما نشاهده اليوم في أقطار العالم الإسلامي ولله الحمد، وتدل عليه شواهد كثيرة، فإن الشعوب الإسلامية تحب الجمهورية الإسلامية بكل معنى الكلمة، وتحب المسؤولين فيها. ورؤساء الجمهورية في بلدنا وعلى مرّ هذه الأعوام، أينما رحلوا وأتيح المجال للناس، نجدهم يقيمون الدنيا ولم يقعدوها، كما حدث ذلك في باكستان، وفي لبنان، وفي السودان، وفي الكثير من البلدان الأخرى. علماً بأن بعض البلدان تمنع الناس من ذلك، وهذه مسألة أخرى، إلا أن الشعوب في البلدان الإسلامية إذا شعروا بأنهم يتمكنون من الإفصاح عن عقيدتهم والتعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم فعلوا ذلك، وهذا هو ببركة الإسلام وبفضل التمسك بالقرآن. ثم إن الإسلام المحدود في إطار الأعمال الفردية، والإسلام العلماني، وإسلام من يؤمن ببعض ويكفر ببعض، والإسلام المجرد عن الجهاد، والبعيد عن النهي عن المنكر، والعاري عن الشهادة في سبيل الله، ليس هو إسلام الثورة. فإن إسلام الثورة هو ذلك الإسلام الذي يشاهده المرء في العديد من الآيات القرآنية، وكذلك في وصية الإمام الخميني وفي خطاباته وكتاباته. هذا هو إسلامنا، والثورة التي يجب حراستها هي التي تتمتع بهذا الرصيد وهذا المحتوى الإسلامي، وهي ليست مجرد حركة ملحمية وحسب، وإنما تنطوي على مضمون إسلامي وفّرَ لها إمكانية أن تترك أثرها على العالم ولحسن الحظ.
إذن فقوات حرس الثورة الإسلامية تحمل مثل هذا المعنى العميق، ولذا عليكم أن تبذلوا الكثير من الجهود، وأن تتحلوا بأتم الوعي واليقظة، وأن تعرفوا قدر ذلك كثيراً، بل وعلى الجميع أن يعرفوا قدر الحرس الثوري. وإن إضعاف الحرس والكلمات الواهية التي أحياناً ما تصدر ضده، تسرّ العدوّ وتُثلج صدره. ولا أقول بأن كل من يتحدث بهذه المسائل فهو عميل للعدو؛ كلا، ولكن البعض يتصدى لذلك عن غفلة وجهل، ويُحتمل أن يكون البعض الآخر مأموراً على أن يتحدث بهذا الأسلوب، ويُطلق مثل هذه التصريحات. فلا بد من تكريم الحرس الثوري الذي يعتبر نعمة إلهية كبرى في البلد، وأقول لكم بأن أول من يجب عليه التصدي لتكريمه هو أنتم أنفسكم. فعليكم بتعزيز البناء المعنوي والفكري والعقائدي والعملي للحرس الثوري ما استطعتم، وتجنّب الذرائع التي قد يتمسك بها البعض ضدّكم بشدة، والسير على نهج الثورة القويم والمستقيم في شتى المجالات الاقتصادية والمالية والسياسية وأمثال ذلك، والابتعاد التام عن كل ما من شأنه أن يمس بكرامة الحرس. وأنتم أول من يجب عليكم صيانة هذا الشأن وهذه الحيثية الحقيقية - لا المفروضة، إذ أننا لا نريد أن نفرض عليكم التفكير بهذه الطريقة؛ كلا، فهذا هو الواقع - كما ويجب عليكم مراقبة التهديدات لأنكم قوات حرس الثورة الإسلامية.
وقد أشرنا إلى أن نفوذ العدو وتوغله يشكل اليوم إحدى التهديدات الكبرى للبلد، فإنهم يسعون وراء النفوذ والاختراق. ولكن ما هو النفوذ؟ قد يكون هذا النفوذ نفوذاً اقتصادياً وهو من أقل حالات النفوذ أهمية، وقد يكون نفوذاً أمنياً وهو الآخر أيضاً من أقلها أهمية، رغم أن النفوذ والاختراق الأمني ليس بالشيء الصغير، بيد أنه بالقياس إلى التوغل الفكري والثقافي والسياسي قليل الأهمية. علماً بأن للتصدي إلى النفوذ الأمني قطاعاته، وسيقف مختلف المسؤولين بما فيهم الحرس الثوري أمام تغلغل العدو ونفوذه الأمني بكل قوة واقتدار إن شاء الله. وعلى المسؤولين الاقتصاديين أيضاً أن يفتحوا أعينهم ويراقبوا تحرك العدو وتوغله في المجالات الاقتصادية؛ ذلك أن نفوذ العدوّ يزعزع ركائز الاقتصاد الرصينة. ففي الأماكن التي بسطوا فيها نفوذهم الاقتصادي، واستطاعوا الجثوم على صدور البلدان والشعوب للسيطرة على اقتصادهم، ساقوا تلك البلاد إلى الدمار والانهيار. قبل عشرة أو خمسة عشر عاماً قال لي رئيس إحدى البلدان التي كانت متقدمة في منطقتنا، خلال زيارة له إلى طهران بأننا وعلى أثر النفوذ الاقتصادي تبدلنا بين ليلة وضحاها إلى بلد فقير متسول، وهو صادق فيما يقول. فإن الرأسمالي الفلاني، ولسبب ما، يفكر في تركيع هذا البلد، فيسحب رأسماله منه أو يتلاعب فيه بحيث يؤدي إلى شلّ اقتصاده. وهذا بالطبع بالغ الأهمية، غير أنه أقل أهمية بالقياس إلى التوغل السياسي والثقافي، فإن هذان النمطان يعدان من أهم حالات النفوذ والتوغل، والعدوّ يسعى في المضمار الثقافي قلب معتقدات المجتمع التي آلت إلى استقامته وثباته وتغييرها والمساس والإخلال بها وإيجاد الثغرات فيها، ويبذلون في ذلك المليارات تحقيقاً لهدفهم؛ هذا عن الاختراق والنفوذ الثقافي.
وفي إطار النفوذ السياسي يسعى العدوّ للتغلغل في مراكز اتخاذ القرار، وإن لم يتمكن ففي مراكز صنع القرار. فإن تأثرت الأجهزة السياسية والإدارية لبلد ما بالعدو المستكبر، ستُتخذ كل القرارات في هذا البلد قسراً وفق ميل المستكبرين ورغبتهم وإرادتهم، وإن أصبح بلد ما رازحاً تحت وطأة النفوذ السياسي، ستدور خطواته وتوجهاته في الأجهزة الإدارية على مدار إرادتهم، وهذه هي بغيتهم، فإنهم لا يرغبون في أن يُسلّطوا أحداً منهم على بلد، كما فعلوا في الهند في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث أناطوا رئاسة ذلك البلد إلى رجل بريطاني. فاليوم لا يمكن القيام بذلك، ولذا فمن المفضل بالنسبة لهم أن يترأس البلد جماعة من أبناء شعبه يتبعون أفكارهم، ويسيرون وفق إرادتهم، ويتخذون القرارات على أساس مصالحهم، وهذا هو النفوذ السياسي. حيث يهدفون إلى التوغل في مراكز اتخاذ القرار، فإن لم يستطيعوا ففي مراكز صنع القرار التي تقع على عاتقها مهمة صناعة القرارات. هذه هي الممارسات التي يقوم بها العدو0 وإن يقظتنا تؤدي إلى خيبة آمالهم، لأنهم ينتظرون يوماً يرقد فيه الشعب الإيراني ونظام الجمهورية الإسلامية. ويقدّمون الوعود بأن إيران لا تبقى على ما هي الآن عليه بعد عشر سنوات وسيتخلى عنها الآخرون أيضاً بحسب مزاعمهم! ولكن لا ينبغي السماح بأن تترسخ هذه الأفكار والأماني الشيطانية في قلوبهم، ويجب إرساء دعائم الثورة وتعزيز الفكر الثوري لدرجة لا يؤثر موت وحياة هذا وذاك وزيد وعمرو على المسيرة الثورية للبلد، وهذه وظيفة أساسية تقع على عاتق النخب في الحرس الثوري وجميع النخب الثورية في البلاد.
إلهنا! أسبغ بركاتك وهدايتك علينا جميعاً، واجعل ما قلناه وما سمعناه لك وفي سبيلك، وتقبله منا بكرمك.
والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته.