موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم خلال مشاركته في جلسة تلاوة القرآن الكريم في اليوم الأول لشهر رمضان المبارك 1436 هجرية.

بسم الله الرحمن الرحيم (1)

نتقدم بجزيل الشكر للإخوة الأعزاء. الحقيقة أنّنا استفدنا اليوم؛ إنّها جلسة جيّدة جدًا ومتنوّعة ورائعة وجميلة وجذّابة الشكل وعميقة المضمون؛ الحمد لله. يُسعدني كثيرًا ولله الحمد أن أرى في كل عام مؤشّرات التقدّم في أمر التلاوة، تبدو مشهودة وملموسة بين شبابنا وأبناء شعبنا، وأشكر الله على ذلك.
لقد كانت جلستنا اليوم أيضًا والحمد لله بفضل هذه التلاوات الرائعة جلسة مفعمة بالعمق والمعنى وتسودها الروح المعنوية، سيما بعد أن أشار مقدّم البرنامج صاحب الذوق الرفيع والبيان البليغ إلى إهداء ثواب هذه التلاوات وسائر البرامج التي أُجريت في هذه الجلسة إلى الأرواح الطيّبة للشهداء الذين شُيّعوا مؤخّرا في طهران (الشهداء الغواصين).(2)
إنّ تلاوة القرآن بالصوت الجميل واللحن الجيّد، إلى جانب مراعاة آداب وأعراف التلاوة، إنّما هي مقدمة لنفوذ مفاهيم القرآن إلى القلوب. ولو انتزعنا هذه الثمرة من تلاوة القرآن واقتصرت نظرتنا إليها على الصوت الحسن والقراءة بالألحان، لسقطت من تلك المنزلة الرفيعة لا محالة. إنّ كلّ التأكيد على تلاوة القرآن بالصوت الحسن وبالآداب والألحان المطلوبة هو من أجل أن تترك المفاهيم القرآنية أثرها في القلوب، وأن نأنس بالقرآن ونتلوّن بلون القرآن ونتخلّق بخلقه ونتشكّل  بشاكلته.
إذا كان هذا هو الهدف المنشود، فإنّ له شروطًا وآداباً؛ الأدب الأول هو أن يقوم قارئ القرآن وتاليه بتلاوته مقرًّا مذعنًا للقرآن ومعتقدًا مؤمنًا بمفاهيم القرآن ومفاهيم الآيات التي يتلوها. فلو جهلنا ما نتلو، ولم ندرك مفاهيمه، ولم تؤثّر في أعماق وجودنا، فلن تترك تلاوتنا ذلك الأثر البليغ في نفوسنا ونفوس الآخرين؛ هذا هو الشرط الأول.
رجائي من القارئين المحترمين والأساتذة وتالي القرآن أن يلتفتوا إلى هذه المسألة، وهي أن يستعرضوا الآيات التي يريدون تلاوتها في أذهانهم، أن يتدبّروا فيها ويثبّتوا أعماق هذه المفاهيم في قلوبهم ومعتقداتهم بشكل صحيح، وأن يعمدوا إلى التلاوة بهذه الروح وهذه الأرضية وهذا الاستعداد، وعندها ستترك هذه التلاوة أثرها في أعماق نفوس السامعين.  بالتأكيد لقد حقّقتم حتى اليوم تقدّمًا باهرًا، فإنّني ولسنوات مديدة أشاهد مسار الحركة القرآنيّة في بلدنا، لقد تقدّم شبابنا في الوقت الحاضر بشكل ممتاز، والحق يقال إنّ قرّاءنا وأساتذتنا ذوو مستوىً عالٍ جدًّا، لكنّ المجال لا يزال واسعًا للتأثير بشكل أكبر.
لقد دوّنت بعض النقاط؛ الأولى هي أنّكم تريدون، من خلال تلاوتكم، إلقاء المفاهيم القرآنية في قلوب السامعين. صحيح أنّ غالبيّة المستمعين إليكم لا يجيدون اللغة العربية ولغة القرآن، غير أنّ معجزة القرآن تكمن في أنّكم إذا ما تلوتم آياته في هذه الحالة أيضًا -في حال عدم معرفتهم بها- من أعماق وجودكم ومع مراعاة شروطها، لانتقلت مفاهيمها إلى أذهانهم ولو بصورة إجمالية، وهذا ما يتطلّب بعض الشروط بطبيعة الحال.
إنّني أستمع إلى التلاوات التي تُبثّ في إذاعة التلاوة -والتي وفّرت فرصة حسنة وإمكانيّة جيّدة للاستماع إلى التلاوات- وإلى ما يتلوه أساتذتنا وقرّاؤنا الجيّدون. فإنّ قرّاءنا يتميّزون حقًا بأصواتهم الرائعة، وهذا ما أقرّ به القراء الأجانب ويؤكّدونه، حيث سمعنا أنّهم يمدحون الأصوات الإيرانية ويثنون عليها. إنّ بعضكم يتمتّع حقًا بصوت رائع أصيل يحمل كل ما ينطوي عليه الصوت المتميز من مواصفات، وهذا ما يجب إرفاقه بشروط التلاوة:
إنّ واحدة من شروط التلاوة هي التأكيد على النقاط الهامة في الآية التي تتلونها، كما تؤكّدون في الحالة الطبيعية على النقاط التي تريدون تبيينها. ولو أردت تشبيه ذلك لقارنته بالسادة المداحين الذين يقرأون الأشعار الفارسية، حيث تلاحظون أنّهم يقرأون تلك النقطة المطلوبة المودعة في جملة أو كلمة أو فقرة بطريقة تؤدّي إلى رسوخ وتعميق ذلك المفهوم في ذهن السامع. وكذلك الحال في الكلام الطبيعي، فإنّكم عندما تتحدّثون بشكل عادي، ستنطقون بتلك الكلمات البارزة في نظركم - التي تحمل تلك المفاهيم - بتأكيد خاص. وهذا ما يجب عليكم انتهاجه في قراءة القرآن من التأكيد على الكلمات الخاصة، وأداء الجمل والفقرات بطريقة تؤدّي إلى نفوذ مضمونها ومفهومها في ذهن السامع؛ أي البيان الجيّد والأداء الحسن. وأحيانًا يتطلّب الأمر تكرار الجملة من أجل أن يستقرّ الموضوع في ذهن السامع، فقوموا بهذا وكرّروا تلك الجملة.
قبل بضع سنواتٍ تقريبًا وفي مثل هذه الجلسة، اعترضتُ على الذين يكرّرون الآيات كثيرًا. وأريد القول إنّ التكرار يكون ضروريًّا وحتميًّا في بعض الموارد، فإنّ القراءة لمرة واحدة قد لا تعكس المعنى، ولا بد من تكرارها مرتين أو ثلاث. وقد يتطلّب الأمر تكرار آية واحدة، أو تكرار آيتين أو ثلاث آيات. ولا أقصد الإفراط في هذا المجال، فقد شاهدنا بعض القراء المصريّين يبالغون في هذه المسألة، ولذلك تأثير سلبي. فإنّني لم أقصد الإفراط، وليس بالأمر المرغوب تكرار الشيء عشر أو ثماني مرات. ولربّما يعدّ هذا العمل متداولًا في الأناشيد العربيّة، ولكنّه لا يعتبر مطلوبًا في تلاوة القرآن. وأما التكرار بالمقدار الذي يؤدّي إلى نفوذ المفهوم في ذهن السامع، فهو مطلوب. إذ قد يشعر المرء أحيانًا أنّ القارئ وكأنّه قد حمل كتابًا بيده وهو يسترسل في قراءة عباراته ويتابع التلاوة هكذا! هذا ليس بالعمل الجيّد والمطلوب، بل يجب عليكم أن تقوموا بنقل المفاهيم وترسيخها في ذهن السامع، وهذا يتم تارةً بالتكرار، وأخرى بالتأكيد إمّا على جملة أو على كلمة، فلا بد من القيام بهذا العمل.
هناك نقطة أخرى ينبغي الاهتمام بها هي مراعاة قواعد اللحن. علمًا أنّ الألحان العربيّة تعتبر لأبناء شعبنا وقرّائنا أجنبيّة غير مأنوسة. ولذا تلاحظون أنّ الأشعار الفارسية تُقرَأ بالألحان التي تناسبها، ولو أراد هذا الشخص نفسه أن يقرأ شعرًا أو نثرًا عربيًا، قد لا يستطيع اختيار اللحن المناسب له. لأنّ هذه الألحان تعتبر بالنسبة لنا ألحانًا أجنبيّة غير معروفة ومأنوسة، وهي ليست كالألحان والأنغام الفارسيّة. لكنّ الألحان القرآنيّة وبسبب تكرارها بين أهل القرآن وأرباب التلاوة أصبحت مأنوسة شيئًا فشيئًا، وبدأ الناس يتعرّفون عليها، فلا بد من أداء هذه الألحان بشكلٍ صحيح. أحيانًا أستمع إلى قارئ يتلو الآيات القرآنيّة بصوت جميل رائع يتمتّع بالأصالة والقوة والمدّ والتحرير الجيّد ولكنّه يقرأ آية ولا يراعي اللحن فيها. والمراد من مراعاة اللحن في الكلام هو تلك النغمة المتناسقة التي تقوم تلاوتكم على أساسها . وهذا لازم. فإنّكم لا تقرأون القرآن بصورة طبيعية، وإنّما تتلونه بالتلحين. ولربما تقوم جميع الأديان - بحسب ما شاهدته بنفسي من بعض الأديان التوحيدية بل وحتى غير التوحيدية - بقراءة النصوص المقدسة باللحن، وهذا ما شاهدناه عن قرب. فيجب عليكم إذن تلاوة القرآن باللحن، وأداء هذا اللحن بشكل صحيح وبمراعاة قواعده، وإلّا فإنّها بالتأكيد سوف لا تترك ذلك الأثر المطلوب، بل قد تترك أثرًا سلبيًا.
هناك نقطة أخرى أودّ أن أطرحها عليكم أنتم الحاضرون في هذا المحفل وكلّكم تقريبًا من القراء، وهي أنّ من الأمور الرائجة بين القرّاء العرب -بما فيهم المصريين وغيرهم- وتسرّبت منهم إلى داخل بلدنا، هي الاهتمام بالنَفَس الطويل. ولا أعرف ما هو الداعي لهذا الأمر؟ فلا توجد أي ضرورة تقتضي أن نقوم بوصل الكلمات أو الآيات أحيانًا بعضها بالآخر من أجل أن نمدّ في نَفَسِنا. وباعتقادي لا حاجة لهذا الأمر. ففي بعض الأحيان يتطلّب الأمر ذلك ويتوقّف أداء مفهوم الآية على تلاوتها بنَفَس واحد، فلا بأس بالقيام بذلك. وإلا فجمال التلاوة وتأثيرها لا يرتبط بالنفس الطويل إطلاقًا. ورغم هذا نجد بعض القراء المصريّين المعروفين يلخّصون كل فنّهم وإبداعهم في القراءة بنفس طويل، والمستمعون عن جهل يزيدون من تشجيعهم لمثل هذا القارئ، ويُتبعون تلاوته بقولهم: "الله الله". وأظن أن عمل القارئ والمستمع كليهما خاطئ. فإنّ لدينا مِن بين المقرئين المصريّين المجيدين والبارزين مَن لا يتمتّع بنفس طويل، ورغم ذلك نجد تلاوته رائعة وتأثيره جيّد. ومنهم عبد الفتاح الشعشاعي. فإنّكم تعلمون أن نَفَسه قصير، ولكن في الوقت ذاته تعتبر تلاوته من أروع التلاوات وأكثرها تأثيرًا. نسأل الله تعالى أن يتغمّده وجميع قرّاء القرآن برحمته ومغفرته. ولذا أطلب من السادة أن لا يشقّوا على أنفسهم في قضيّة النَفَس، فلا توجد أي ضرورة لإضافة وتكرار الكلمات والآيات واحدة تلو الأخرى.
وبما أنّ الوقت قد أدركنا وحلّ موعد الآذان على ما يبدو، أحببت في الختام أن أطلب منكم مراعاة الحدود في التشجيع وتكرار قول "الله الله" الذي يعدّ أيضًا تقليدًا من العرب. فإنّ البعض وبمجرّد أن يشرع القارئ بالتلاوة يترنّم بعده بقول "الله"؛ وكأنّ من مستلزمات التلاوة أن يقول الإنسان بعدها "الله"! ولكن لا داعي لذلك. ففي بعض الأحيان تتأثّر بالتلاوة أو تسمع منه تلاوة جميلة ومؤثّرة للغاية، فتقوم لا إراديًا بتشجيعه . وتكرار قول "الله الله" في التشجيع القرآني أيضًا أمرٌ متداولٌ بين العرب. وهذا لا يختص عندهم بالقرآن، وإنّما يشمل حتى الأناشيد والأنغام العادية. ولا إشكال في ذلك. وأما أن تتعالى أصواتنا بقول "الله الله" بمجرّد أن يبدأ القارئ بتلاوته، فهذا لا ضرورة له.
إني أطلب منكم في الجلسات التي تشاركون فيها كأساتذة أن توصوا السامعين بعدم الإفراط في تكرار قول "الله الله". فإنّ التشجيع يرد في المواطن التي تكون تلاوة القارئ جميلة ورائعة جدًا. لا أن يبدأ التشجيع بمجرّد البدء بالتلاوة، بحيث يتوقّع الإنسان قول "الله أكبر" فور الابتداء بـ"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وهذا أمر غير صحيح.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحشركم جميعًا مع القرآن وأن يعمر دنياكم وآخرتكم ببركة القرآن.

والسلام عليكم ورحمة الله وبرکاته‌


(1) اُقيمت هذه الجلسة في اليوم الأول من شهر رمضان المبارك عصر يوم الخميس المصادف 18/06/2015، في حسینیة الإمام الخمیني و لمدة أكثر من ثلاثة ساعات، وقبل كلمة الإمام الخامنئي، زينت مجموعة من القراء الايرانيين بتلاواتهم العطرة أجواء المجلس واستقطبت المدح والثناء.

(2) الشهداء الغواصون الـ 175: تقول الإحصاءات ان هناك المئات وربما الآلاف من الشهداء الإيرانيين الذين أُسروا ثمّ قتلوا أو دفنوا أحياءً أو ألقي بهم في الأنهر والمستنقعات المائية على يد النظام البعثي أثناء الحرب المفروضة وبقوا في عداد مفقودي الأثر، وبين وقت وآخر يتم العثور على عدد منهم ؛ وتمّ العثور على رفاة 175 شهيد في مقبرة جماعية خلال عمليّة البحث التي تقوم بها السلطات الإيرانيّة باستمرار. أقيم لهم تشييع مهيب في طهران يوم الثلاثاء 16-6-2015، حضر فيه الآلاف، وقد أطلق الإمام الخامنئي نداءً بهذه المناسبة، وصّف الحدث بأنّه من أروع أحداث الثورة، كما سلّم على أرواح الشهداء وحيّا الشعب الإيراني الذي تفاعل بشكل كبير وكان حاضرًا بحماسة لافتة.