افتتح قائد الثورة الاسلامية سماحة اية الله العظمى السيد علي الخامنئي اليوم السبت المؤتمر الدولي الاول للصحوة الاسلامية الذي يقام في طهران بمشاركة حوالي ستمائة مفكر اسلامي من الخارج بكلمة قيمة استعرض فيها جذور الصحوة الاسلامية التي تشهدها المنطقة والمخاطر التي تهددها والخطوات التي ينبغي اتخاذها للحيلولة دون انحراف هذه الثورات عن مسارها الصحيح .
وفيما يلي نص كلمة قائد الثورة الاسلامية : .
بسم الله الرحمن الرحيم .
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على نبينا محمد و آله الطيبين و صحبه المنتجبين ، قال الله العزيز الحكيم : بسم الله الرحمن الرحيم ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ) .
أرحّب بالحضور الكرام و الضيوف الأعزاء .
إن ما جمعنا هنا هو الصحوة الإسلامية ، أعني حالة النهوض و الوعي في الأمة الإسلامية ، التي أدت إلى تحوّل كبير بين شعوب المنطقة ، والى انتفاضات و ثورات لم تكن تستوعبها أبداً محاسبات الشياطين الاقليميين و العالميين. ثورات عظيمة هدمت قلاع الاستبداد و الاستكبار و ألحقت الهزيمة بحرّاسها.
إن مما لاشك فيه أن التطورات الاجتماعية الكبرى تستند دائماً الى خلفية تأريخية و حضارية ، و هي حصيلة تراكم معرفي و تجارب طويلة. في الأعوام المائة و الخمسين الماضية كان حضور الشخصيات الفكرية والجهادية الكبيرة و الفاعلة الإسلامية في مصر و العراق و إيران و الهند و البلدان الأخرى الآسيوية و الأفريقية مقدمة تمهيدية لهذا الوضع الراهن في العالم الإسلامي .
إنّ ماجرى في العقدين الخامس و السادس من القرن الميلادي الماضي في عدد من البلدان من تطورات أدت إلى تولّي أنظمة تميل غالباً إلى مدارس فكرية مادية ، وقد تورّطت بمقتضى طبيعتها بعد أمد في شراك القوى الاستكبارية و الاستعمارية الغربية ، إنما هو أيضاً من التجارب المليئة بالعبر و كان له حيز كبير في بلورة الأفكار العامة و العميقة في العالم الإسلامي .
إن ما شهدته إيران من ثورة إسلامية كبرى هي على حد تعبير الإمام الخميني العظيم انتصار الدم على السيف ، و إقامة نظام متجذّر و مقتدر و شجاع و متطوّر و موثّر في الصحوة الإسلامية الراهنة ، هو أيضاً يشكل فصلاً مُسهباً يحتاج الى بحث و تحقيق ، و سيستوعب حتماً مساحة هامة في تحليل و تدوين الوضع الحالي للعالم الإسلامي .
و الحصيلة أن الحقائق المتزايدة الحالية في العالم الإسلامي ، ليست بالحوادث المنفصلة عن جذورها التأريخية و أرضيتها الاجتماعية و الفكرية ، ولذلك من العبث أن يعمد الأعداء أو السطحيون الى اعتبارها موجة عابرة و حادثة سطحية ، و أن يحاولوا بتحليلاتهم المنحرفة و المغرضة إطفاء جذوة الأمل في قلوب الشعوب.
إنني في حديثي الأخوي هذا أريد أن أقف عند ثلاث نقاط أساسية : .
1- إلقاء نظرة اجمالية على هوية هذه النهضات و الثورات .
2- الآفات و الأخطار و العقبات الكبرى التي تعترض طريقها.
3- اقتراحات بشأن مواجهة هذه الآفات و الأخطار و معالجتها.
1- في الموضوع الأول ، أعتقد أن أهم عنصر في هذه الثورات الحضور الواقعي و الشمولي للشعوب في ميدان العمل و ساحة النضال و الجهاد ، لا فقط بقلبهم و بعواطفهم و إيمانهم ، بل أيضاً بأجسامهم و إقدامهم.
إن الفرق كبير و عميق بين مثل هذا الحضور ، و بين انقلاب يقوم به جمع من العسكريين أو مجموعة مناضلة مسلحة أمام شعب لايتفاعل معهم أو حتى أن لا يكون راضياً عنهم.
في حوادث العقدين الخامس و السادس من القرن الميلادي الماضي كان عبء الثورات في عدد من بلدان آسيا و أفريقيا لاتحمله الجماهير و الشباب ، بل تنهض به مجموعات انقلابية أو فئات صغيرة و محدودة مسلحة. أولئك عزموا و أقدموا ، ولكن حين غيروا هم أو الجيل الذي تلاهم طريقهم على أثر دوافع و عوامل عديدة فإن الثورات قد انقلبت الى ضدها و عاد العدو ليفرض سيطرته مرة أخرى .
إن هذا يختلف كل الاختلاف مع تغيير تنهض به جماهير الشعب التي تندفع بأجسامها و أرواحها إلى الميدان و تطرد العدو من الساحة.
و هنا ، وهنا فقط تصنع الجماهير شعاراتها ، و تحدد أهدافها و تشخّص عدوّها و تفضحه و تتعقبه ، و ترسم - ولو بإجمال ¬- مستقبلها ، و بالنتيجة تقطع الطريق أمام الخواص المداهنين و الملوثين بل أمام المندسّين و بذلك تحول دون الانحراف و مداهنة العدو و تغيير المسار.
إن التحرك الجماهيري قد يؤدّي إلى تأخر الانتصار النهائي للثورة ، ولكنه يبتعد عن السطحية و عن عدم الثبات. إنه الكلمة الطيبة التي قال عنها سبحانه : .
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء) .
إنني حين رأيت التجمع الجماهيري الضخم والمقاوم للشعب المصري الفخور من على شاشة التلفاز في ميدان التحرير أيقنت أن هذه الثورة منتصرة بإذن الله.
أذكر لكم هذه الحقيقة و هي : أنه بعد انتصار الثورة الإسلامية و إقامة النظام الإسلامي في إيران و ما نزل على أثر ذلك من زلزال عظيم هزّ القوى الطامعة الشرقية و الغربية و ما ولّده من موجة هائلة فريدة بين الشعوب المسلمة.. كنا نتوقع أن مصر سوف تنهض قبل غيرها . والذي أثار في قلوبنا هذا التوقع ما كنا نعرفه عن مصر من تاريخ جهادي و فكري و لما أنجبته من شخصيات مجاهدة و فكرية كبرى . لكننا لم نسمع صوتاً واضحاً من مصر. كنت مع نفسي أخاطب الشعب المصري بقول أبي فراس الحمداني : .
أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر أما للهوة نهى عليك و لا أمر ؟ .
ولكن حين تدفقت الجماهير المصرية إلى ساحة التحرير و الساحات المصرية الأخرى سمعت الجواب ، فإن الشعب المصري كان يقول لي بلسان قلبه : .
بلى أنا مشتاق و عندي لوعة ولكن مثلي لايذاع له سرُّ .
هذا السّر المقدس ، يعني العزم على الثورة قد تبلور و نضج في أعماق الشعب المصري بالتدريج ، و تجلّى بإذن الله و بحوله و قوته في الساحة بشكله العظيم.
تونس و اليمن و ليبيا و البحرين سوف تجري على نفس هذه القاعدة إن شاء الله تعالى . ( وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ) .
في مثل هذه الثورات ، المبادىء و القيم و الأهداف لم تدوّن في مشاريع مسبقة على يد الفئات و الأحزاب ، بل هي مدوّنة في أذهان كل أفراد الشعب المتواجد في الساحة و في قلوبهم و إرادتهم ، ومعلنة و مثبتة في شعاراتهم و سلوكهم.
بهذه المحاسبة يمكن بوضوح تشخيص أن أصول الثورات الحالية في مصر و بقية البلدان تتجلّى بالدرجة الأولى فيما يلي : .
- إحياء وتجديد العزة و الكرامة الوطنية التي انتُهكت على يد الهيمنة الدكتاتورية للحكام الفاسدين و السلطة السياسية لأمريكا و الغرب.
- رفع راية الإسلام الذي يمثل العمق العقائدي والعاطفي للشعب و توفير الأمن النفسي و العدالة و التقدم و الازدهار مما لايتحقق إلاّ في ظلّ الشريعة الإسلامية .
- الصمود أمام النفوذ و السيطرة الأمريكية و الأُوربية التي أنزلت خلال أعوام أكبر الضربات و الخسائر و الإهانات بشعوب هذه البلدان.
- نضال الكيان الصهيوني الغاصب و دولته اللقيطة التي غرسها الاستعمار مثل خنجر في خاصرة بلدان المنطقة و جعلها وسيلة لاستمرار سلطته المتجبرة ، و شرّد شعباً من أرضه التأريخية.
مما لاشك فيه أن تبنّي ثورات المنطقة لهذه الأصول و سعيها لتحقيقها لاينسجم مع رغبات أمريكا و الغرب و الصهيونية ، و هؤلاء يبذلون ما بوسعهم من جهد لينكروا ذلك ، لكن الواقع لايتغيّر بإنكاره.
إن شعبية هذه الثورات هي أهم عنصر في تشكيل هويتها . القوى الطامعة بذلت كل جهدها و مارست كل أساليبها الملتوية لحفظ الحكام المستبدّين و الفاسدين و التابعين في هذه البلدان ، ولم تكفّ عن دعمهم إلاّ حينما انقطع أملها على أثر ثورة الجماهير و عزمها.
من هنا فإن هذه القوى لايحق لها أن تعتبر نفسها مساهمة في هذه الثورات. وفي بلد مثل ليبيا لايستطيع تدخّل أمريكا و الناتو أن يكدّر هذه الحقيقة. في ليبيا أنزل الناتو خسائر فادحة لاتعوّض. لو لم يكن هذا التدخّل فإن انتصار الشعب الليبي كان من الممكن أن يتأخر قليلاً ، ولكن سوف لاينزل بالبلد كل هذا الدمار في بُناه التحتية ، و لاتزهق كل هذه الأرواح من النساء و الأطفال ، و لا يدّعي اولئك الأعداء الذين كانت يدهم لسنوات بيد القذافي بأنّ لهم حق التدخّل في هذا البلد المظلوم المُدمّر.
إن جماهير الشعب و النخب الجماهيرية و الذين انطلقوا من الجماهير هم أصحاب هذه الثورات و الأمناء على حراستها و الذين يرسمون مستقبلها و يدفعون بعجلتها إن شاء الله تعالى .
2- موضوع الآفات و الأخطار.. لابد من التأكيد اولاً أن الآفات و الأخطار موجودة ، ولكنّ هناك أيضاً سبلاً للوقاية منها. لاينبغي أن تكون الأخطار مبعث خوف الشعوب ، دعوا الأعداء يخافوكم و اعلموا ( إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ) ربّ العزة و الجلال يقول بشأن فئة من المجاهدين في عصر الرسالة : ( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ).
لابدّ من معرفة الأخطار والآفات للوقاية من الحيرة و الترديد عند مواجهتها ، و لنكون على معرفة مسبقة بتشخيص علاجها.
إننا واجهنا هذه الأخطار بعد انتصار الثورة الإسلامية و عرفناها و جربناها و خرجنا من أكثرها بسلام بفضل الله و قيادة الإمام الخميني و وعي جماهيرنا وبصيرتهم و تضحياتهم . طبعاً لايزال الأعداء يحوكون المؤامرات ولايزال الشعب يقاوم بعزيمة راسخة لا تلين.
إنني أقسّم هذه الأخطار و الآفات الى قسمين : ماكان لها جذور في داخلنا و تنبثق من ضعفنا ، وماهي نتيجةً مباشرةً لتخطيط أعدائنا.
القسم الأول هو من قبيل : الشعور و الظن بأن سقوط الحاكم العميل و الفاسد و الديكتاتور هو نهاية الطريق. إن هذا سوف يبعث على الارتخاء و راحة البال و الغرق في نشوة النصر ، وما يتبع ذلك من ضعف الدوافع و هبوط العزائم. هذا هو الخطر الأول . و سوف يتفاقم هذا الخطر حين يعمد أشخاص إلى الحصول على حصة خاصة في الغنيمة. ماجرى في " معركة أُحد " حيث طمع المحافظون على مضيق الجبل بالغنيمة وما أدى ذلك إلى هزيمة المسلمين و إلى لوم ربّ العالمين إنما هو نموذج بارز ينبغي أن لاننساه أبداً.
إن الشعور بالخشية من الهيمنة الظاهرية للمستکبرين و الإحساس بالخوف من أمريکا و سائر القوى الطامعة ، خطر آخر من هذا القبيل ، و لا بّد من توخّيه. النخب الشجاعة و الشباب يجب أن يطردوا من قلوبهم هذا الخوف .
إن الثقَة بالعدوّ و الانخداع بابتسامته و وعوده و دعمه إنما هو من الآفات الکبرى الأخرى التي يجب أن يحذر منها بشکل خاص النخب و قادة المسيرة . يجب معرفة العدوّ بعلاماته مهما تلبس من لباس ، و صيانة الشعب و الثورة من کيده الذي يدبره في مواضع خلف ستار الصداقة و مّد يد المساعدة . و من جانب آخر قد يعتري الأفراد غرور و يحسبون العدوّ غافلاً، لا بّد من اقتران الشجاعة بالتدبير و الحزم و حشد کل الإمکانات الإلهية في وجودنا لمواجهة شياطين الجنّ و الإنس .
إثارة الاختلافات و خلق الصراعات بين الثوريين و الاختراق من خلف جبهة النضال هي أيضاً من الآفات الکبري التي يجب الفرار منها بکل ما أوتينا من قوة .
أما أخطار القسم الثاني : .
فإن شعوب المنطقة قد خبرتها غالباً في الحوادث المختلفة . و أولها تولّي الأمور عناصر تعتقد أن لها التزامات أمام أميرکا و الغرب . الغرب يسعى بعد السقوط الإضطراري للعناصر التابعة أن يحافظ على أصل النظام و المحاور المفصلية للقدرة و يضع رأساً آخر على هذا البدن وبذلك يواصل فرض سيطرته . و هذا يعني إهدار کل المساعي و الجهود ، و في هذه الحالة إن واجهوا مقاومة الجماهير و وعيها فسوف يسعون إلى بدائل انحرافية أخرى يضعونها أمام الثورة و الجماهير . هذه البدائل يمکن أن تتمثل باقتراح نماذج للحکم و الدستور تدفع بالبلدان إلاسلامية مرة أخرى الى شراك التبعية الثقافية و السياسية و الاقتصادية للغرب ، ويمکن أن تتمثل في اختراق صفوف الثورة و تقديم الدعم المالي و الإعلامي لتيار مشکوك و عزل التيارات الثورية الأصلية . و هذا يعني أيضاً عودة هيمنة الغرب و تثبيت النماذج المتهرئة الغربية والبعيدة عن مبادئ الثورة ثم سيطرة الأجنبي على الأوضاع .
و لو أن هذه الخطط لم تفلح بأجمعها فإن تجربتنا تقول إنهم سيعمدون إلى أساليب منها إثارة الفوضى و الاغتيالات و الحرب الداخلية بين أتباع الأديان أو القوميات و القبائل و الأحزاب ، بل بين الشعوب و البلدان الجارة ، إلى جانب و فرض الحصار الاقتصادي و المقاطعة و تجميد الأرصدة الوطنية و أيضاً الهجوم الشامل الإعلامي و الدعائي . إن الهدف من وراء کل ذلك جعل الشعوب تشعر بالتعب و اليأس ، و الثوار بالترديد و الندم ، و الأعداء يعلمون أن مثل هذه الحالة تجعل هزيمة الثورة ممکنة و ميسورة . اغتيال النخب الصالحة و الفاعلة و الإساءة إلى سمعة الآخرين ، و من جهة أخرى شراء ذمم العناصر الهزيلة هي أيضاً من الأساليب المتداولة للقوى الغربية و أدعياء الحضارية والأخلاق!! .
إن وثائق وکر التجسس الأمريکي التي وقعت بيد الثورة الإسلامية في إيران الإسلام ، أوضحت بدقة أن کل هذه الدسائس قد خطط لها نظام الولايات المتحدة الأمريکية . إعادة الرجعية و الاستبداد و الحاکمية التابعة في البلدان الثورية مبدأ يجيز لهم ممارسة کل هذه الأساليب القذرة .
3- و في آخر قسم من حديثي أضع أمام تشخيصکم و انتخابکم توصيات استقيها من تجاربنا العينية في إيران و من مطالعة دقيقة لبقية البلدان .
من المؤکد أن ظروف الشعوب و البلدان ليست على نحو واحد في جميع الأمور. لکن ثمة بيّنات تستطيع أن تکون للجميع مفيدة.
أول الحديث هو أنه من الممکن تخطى كل هذه العقبات والتغلب على الآفات و اجتيازها اجتياز منتصر بالاتکال على الله و الاعتماد عليه و حسن الظن بما ورد في کتابه العزيز من وعد بالنصر ، و التحلّي بالعقلانية و العزيمة و الشجاعة ، إنکم طبعاً قد نهضتم بعمل کبير و مصيري. لذلك لا بّد أن تتحملوا من أجله أيضاً متاعب کبيرة ، أمير المؤمنين علي عليه السلام يقول: « فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْصِمْ جَبَّارِي دَهْرٍ قَطُّ إِلَّا بَعْدَ تَمْهِيلٍ وَ رَخَاءٍ وَ لَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بَعْدَ أَزْلٍ وَ بَلَاءٍ وَ فِي دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْبٍ وَ مَا اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْبٍ مُعْتَبَر...» .
نصيحتي الهامة أن تروا أنفسکم دائماً في الساحة : (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) و اجعلوا الله سبحانه نصب أعينکم و ثقوا بأنه في عونکم ( وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) و أن لا تکون الانتصارات مبعث غرور و غفلة : ( اِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الْفَتْحُ وَ رَاَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دينِ اللهِ اَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ اِنَّهُ كانَ تَوّاباً ) هذه دعامات حقيقية لکل شعب مؤمن .
نصيحتي الأخرى إعادة قراءة أصول الثورة بشکل مستمر . الشعارات و الأصول يجب أن تخضع للتنقيح و التطبيق مع أصول الإسلام و محکماته. الاستقلال و الحرية و العدالة ، و عدم الاستسلام أمام الاستبداد و الاستعمار ، و رفض التمييز القومي و العنصري و المذهبي، و رفض الصهيونية رفضاً صريحاً وهي التي تشكل أركان النهضات المعاصرة في البلدان الإسلامية ، هي بأجمعها مستقاة من الإسلام و القرآن .
دوّنوا مبادئکم ، و حافظوا بحساسية کبيرة على أصالتکم ، و لا تسمحوا لاعدائکم بتدوين نظام مستقبلکم ، لا تدعوا أصولکم الإسلامية تُقدم قرباناً على مذبح المصالح العابرة .
الانحراف في الثورات يبدأ من الانحراف في الشعارات و الأهداف ، لا تثقوا إطلاقاً بأمريکا و الناتو و بالأنظمة المجرمة مثل بريطانيا و فرنسا و إيطاليا التي جثمت لأمد طويل على صدور بلدانکم و وزّعت بينها بلدانكم و نهبت ثرواتكم ، تعاملوا معها بسوء ظن و لا تصدّقوا ابتساماتهم ، فوراء هذه الابتسامات و الوعود تکمن الخيانات و المؤامرات. ابحثوا عن حلولکم من منبع الإسلام الفيّاض وردّوا وصفات الأجانب إليهم .
نصيحتي المهمة الأخرى الحذر من الاختلافات المذهبية و القومية و العنصرية و القبلية و الحدودية . اعترفوا بالتفاوت و وجّهوه بإدارة حاذقة . التفاهم بين المذاهب مفتاح النجاة .
أولئک الذين يثيرون نيران التفرقة المذهبية أو يعمدون إلى تکفير هذا و ذاك ، هم عملاء الشيطان و جنده حتى لو لم يعلموا هم بذلك .
إقامة النظام عمل کبير و أساسي ، إنه عمل معقد و صعب . لا تدعوا النماذج العلمانية أو الليبرالية الغربية ، أو القومية المتطرفة ، أو الاتجاهات اليسارية المارکسية تُفرض عليکم .
إن المعسکر الشرقي قد انهار و المعسکر الغربي يتشبث بالعنف و الحرب و الخداع، ليحافظ على بقائه و ليس له عاقبة خير متصورة في الأفق .
مرور الزمان بضررهم و لصالح تيار الإسلام.الهدف النهائي يجب أن يتمثل في التوجه نحو الأمة الواحدة الإسلامية و بناء الحضارة الإسلامية الجديدة على أساس الدين و العقلانية و العلم و الأخلاق.
تحرير فلسطين من مخالب الوحش الصهيوني هو أيضاً هدف كبير . بلدان البلقان و القوقاز وغرب آسيا قد تحررت من سيطرة الاتحاد السوفيتي السابق بعد ثمانين سنة من الاحتلال ، فلماذا لا تستطيع فلسطين المظلومة بعد سبعين سنة أن تتحرر من أسر السيطرة الصهيونية ؟! .
الجيل المعاصر في البلدان الإسلامية له قدرة النهوض بمثل هذا العمل الكبير. جيل الشباب مبعث فخر مَنْ سبقه من أجيال . يقول الشاعر العربي: .
قالوا:أبو الصخر من شيبان قلت لهم كلا لعمري و لكن منه شيبانُ .
و كم أبٍ قد علا بابنٍ ذُري شَرَفٍ كما عـلا برسولِ الله عدنانُ .
ثقوا بجيل شبابكم أحيوا روح الثقة بالنفس في وجودهم و غذّوهم بتجارب الآباء و الأجداد .
و ثمة ملاحظتان مهمتان في هذا المجال :.
الأولى : أن أحد أهم مطالب الشعوب الثائرة و المتحررة أن يکون لها الحضور و أن يکون لأصواتها الدور الحاسم في إدارة البلاد.
و لما کانت هذه الشعوب مؤمنة بالإسلام فإن مطلوبها هو « نظام السيادة الشعبية الإسلامي » أي إن الحکام يُنتخبون وفق تصويت الناس، و أن تکون القيم و الأصول الحاکمة على المجتمع وفق أصول قائمة على المعرفة و الشريعة الإسلامية .
و هذا يمکن تحقيقه في البلدان المختلفة بأساليب و أشکال مختلفة بمقتضى ظروفها، لکن يجب المراقبة بحساسية کاملة کي لا يختلط هذا المشروع بالديمقراطية الليبرالية الغربية . الديمقراطية الغربية العلمانية أو المعادية للدين أحياناً ليس لها أي ارتباط بسيادة الشعب الاسلامية الملتزمة بالقيم و بالخطوط الأصلية الإسلامية في نظام البلاد .
الملاحظة الثانية أن التوجه الإسلامي يجب أن لا يختلط بالتحجّر و القشرية و التعصب الجاهل و المتطرف .
لا بدّ أن يکون الفاصل بين هذين الاثنين واضحاً. التطرف الديني المقرون غالباً بالعنف الأعمى هو سبب التخلف و الابتعاد عن الأهداف السامية للثورة ، و هذا بدوره سبب ابتعاد الجماهير و في النتيجة سيکون عامل فشل الثورة.
خلاصة القول أن الکلام عن الصحوة الإسلامية ليس بحديث عن مفهوم مبهم غير مشخص و يقبل التأويل و التفسير . إنه حديث عن واقع خارجي مشهود و محسوس ملأ الأجواء و فجّر الثورات الکبرى و أسقط عناصر خطرة في جبهة الأعداء و أخرجهم من الساحة . و مع ذلك فالساحة لا تزال هشّة و تحتاج إلى بلورة و إلى تحقيق الأهداف النهائية .
الآيات التي تليت في مطلع الحديث تشتمل على منهج کامل للعمل و له الفاعلية الدائمة و خاصة في هذه البرهة الحساسة المصيرية . إنها تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم لکننا جميعا في الواقع مخاطبون بها و مکلفون .
أول توصية في هذه الآيات بالتقوى بمعناها السامي و الواسع ، ثم رفض الطاعة للکافرين و المنافقين ، ثم اتباع الوحي و بالتالي التوکل على ألله و الاعتماد عليه .
مرة أخرى أمرّ على هذه الآية الکريمة : ) بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ) .
و السلام عليکم و رحمة الله و برکاته .
وفيما يلي نص كلمة قائد الثورة الاسلامية : .
بسم الله الرحمن الرحيم .
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على نبينا محمد و آله الطيبين و صحبه المنتجبين ، قال الله العزيز الحكيم : بسم الله الرحمن الرحيم ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ) .
أرحّب بالحضور الكرام و الضيوف الأعزاء .
إن ما جمعنا هنا هو الصحوة الإسلامية ، أعني حالة النهوض و الوعي في الأمة الإسلامية ، التي أدت إلى تحوّل كبير بين شعوب المنطقة ، والى انتفاضات و ثورات لم تكن تستوعبها أبداً محاسبات الشياطين الاقليميين و العالميين. ثورات عظيمة هدمت قلاع الاستبداد و الاستكبار و ألحقت الهزيمة بحرّاسها.
إن مما لاشك فيه أن التطورات الاجتماعية الكبرى تستند دائماً الى خلفية تأريخية و حضارية ، و هي حصيلة تراكم معرفي و تجارب طويلة. في الأعوام المائة و الخمسين الماضية كان حضور الشخصيات الفكرية والجهادية الكبيرة و الفاعلة الإسلامية في مصر و العراق و إيران و الهند و البلدان الأخرى الآسيوية و الأفريقية مقدمة تمهيدية لهذا الوضع الراهن في العالم الإسلامي .
إنّ ماجرى في العقدين الخامس و السادس من القرن الميلادي الماضي في عدد من البلدان من تطورات أدت إلى تولّي أنظمة تميل غالباً إلى مدارس فكرية مادية ، وقد تورّطت بمقتضى طبيعتها بعد أمد في شراك القوى الاستكبارية و الاستعمارية الغربية ، إنما هو أيضاً من التجارب المليئة بالعبر و كان له حيز كبير في بلورة الأفكار العامة و العميقة في العالم الإسلامي .
إن ما شهدته إيران من ثورة إسلامية كبرى هي على حد تعبير الإمام الخميني العظيم انتصار الدم على السيف ، و إقامة نظام متجذّر و مقتدر و شجاع و متطوّر و موثّر في الصحوة الإسلامية الراهنة ، هو أيضاً يشكل فصلاً مُسهباً يحتاج الى بحث و تحقيق ، و سيستوعب حتماً مساحة هامة في تحليل و تدوين الوضع الحالي للعالم الإسلامي .
و الحصيلة أن الحقائق المتزايدة الحالية في العالم الإسلامي ، ليست بالحوادث المنفصلة عن جذورها التأريخية و أرضيتها الاجتماعية و الفكرية ، ولذلك من العبث أن يعمد الأعداء أو السطحيون الى اعتبارها موجة عابرة و حادثة سطحية ، و أن يحاولوا بتحليلاتهم المنحرفة و المغرضة إطفاء جذوة الأمل في قلوب الشعوب.
إنني في حديثي الأخوي هذا أريد أن أقف عند ثلاث نقاط أساسية : .
1- إلقاء نظرة اجمالية على هوية هذه النهضات و الثورات .
2- الآفات و الأخطار و العقبات الكبرى التي تعترض طريقها.
3- اقتراحات بشأن مواجهة هذه الآفات و الأخطار و معالجتها.
1- في الموضوع الأول ، أعتقد أن أهم عنصر في هذه الثورات الحضور الواقعي و الشمولي للشعوب في ميدان العمل و ساحة النضال و الجهاد ، لا فقط بقلبهم و بعواطفهم و إيمانهم ، بل أيضاً بأجسامهم و إقدامهم.
إن الفرق كبير و عميق بين مثل هذا الحضور ، و بين انقلاب يقوم به جمع من العسكريين أو مجموعة مناضلة مسلحة أمام شعب لايتفاعل معهم أو حتى أن لا يكون راضياً عنهم.
في حوادث العقدين الخامس و السادس من القرن الميلادي الماضي كان عبء الثورات في عدد من بلدان آسيا و أفريقيا لاتحمله الجماهير و الشباب ، بل تنهض به مجموعات انقلابية أو فئات صغيرة و محدودة مسلحة. أولئك عزموا و أقدموا ، ولكن حين غيروا هم أو الجيل الذي تلاهم طريقهم على أثر دوافع و عوامل عديدة فإن الثورات قد انقلبت الى ضدها و عاد العدو ليفرض سيطرته مرة أخرى .
إن هذا يختلف كل الاختلاف مع تغيير تنهض به جماهير الشعب التي تندفع بأجسامها و أرواحها إلى الميدان و تطرد العدو من الساحة.
و هنا ، وهنا فقط تصنع الجماهير شعاراتها ، و تحدد أهدافها و تشخّص عدوّها و تفضحه و تتعقبه ، و ترسم - ولو بإجمال ¬- مستقبلها ، و بالنتيجة تقطع الطريق أمام الخواص المداهنين و الملوثين بل أمام المندسّين و بذلك تحول دون الانحراف و مداهنة العدو و تغيير المسار.
إن التحرك الجماهيري قد يؤدّي إلى تأخر الانتصار النهائي للثورة ، ولكنه يبتعد عن السطحية و عن عدم الثبات. إنه الكلمة الطيبة التي قال عنها سبحانه : .
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء) .
إنني حين رأيت التجمع الجماهيري الضخم والمقاوم للشعب المصري الفخور من على شاشة التلفاز في ميدان التحرير أيقنت أن هذه الثورة منتصرة بإذن الله.
أذكر لكم هذه الحقيقة و هي : أنه بعد انتصار الثورة الإسلامية و إقامة النظام الإسلامي في إيران و ما نزل على أثر ذلك من زلزال عظيم هزّ القوى الطامعة الشرقية و الغربية و ما ولّده من موجة هائلة فريدة بين الشعوب المسلمة.. كنا نتوقع أن مصر سوف تنهض قبل غيرها . والذي أثار في قلوبنا هذا التوقع ما كنا نعرفه عن مصر من تاريخ جهادي و فكري و لما أنجبته من شخصيات مجاهدة و فكرية كبرى . لكننا لم نسمع صوتاً واضحاً من مصر. كنت مع نفسي أخاطب الشعب المصري بقول أبي فراس الحمداني : .
أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر أما للهوة نهى عليك و لا أمر ؟ .
ولكن حين تدفقت الجماهير المصرية إلى ساحة التحرير و الساحات المصرية الأخرى سمعت الجواب ، فإن الشعب المصري كان يقول لي بلسان قلبه : .
بلى أنا مشتاق و عندي لوعة ولكن مثلي لايذاع له سرُّ .
هذا السّر المقدس ، يعني العزم على الثورة قد تبلور و نضج في أعماق الشعب المصري بالتدريج ، و تجلّى بإذن الله و بحوله و قوته في الساحة بشكله العظيم.
تونس و اليمن و ليبيا و البحرين سوف تجري على نفس هذه القاعدة إن شاء الله تعالى . ( وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ) .
في مثل هذه الثورات ، المبادىء و القيم و الأهداف لم تدوّن في مشاريع مسبقة على يد الفئات و الأحزاب ، بل هي مدوّنة في أذهان كل أفراد الشعب المتواجد في الساحة و في قلوبهم و إرادتهم ، ومعلنة و مثبتة في شعاراتهم و سلوكهم.
بهذه المحاسبة يمكن بوضوح تشخيص أن أصول الثورات الحالية في مصر و بقية البلدان تتجلّى بالدرجة الأولى فيما يلي : .
- إحياء وتجديد العزة و الكرامة الوطنية التي انتُهكت على يد الهيمنة الدكتاتورية للحكام الفاسدين و السلطة السياسية لأمريكا و الغرب.
- رفع راية الإسلام الذي يمثل العمق العقائدي والعاطفي للشعب و توفير الأمن النفسي و العدالة و التقدم و الازدهار مما لايتحقق إلاّ في ظلّ الشريعة الإسلامية .
- الصمود أمام النفوذ و السيطرة الأمريكية و الأُوربية التي أنزلت خلال أعوام أكبر الضربات و الخسائر و الإهانات بشعوب هذه البلدان.
- نضال الكيان الصهيوني الغاصب و دولته اللقيطة التي غرسها الاستعمار مثل خنجر في خاصرة بلدان المنطقة و جعلها وسيلة لاستمرار سلطته المتجبرة ، و شرّد شعباً من أرضه التأريخية.
مما لاشك فيه أن تبنّي ثورات المنطقة لهذه الأصول و سعيها لتحقيقها لاينسجم مع رغبات أمريكا و الغرب و الصهيونية ، و هؤلاء يبذلون ما بوسعهم من جهد لينكروا ذلك ، لكن الواقع لايتغيّر بإنكاره.
إن شعبية هذه الثورات هي أهم عنصر في تشكيل هويتها . القوى الطامعة بذلت كل جهدها و مارست كل أساليبها الملتوية لحفظ الحكام المستبدّين و الفاسدين و التابعين في هذه البلدان ، ولم تكفّ عن دعمهم إلاّ حينما انقطع أملها على أثر ثورة الجماهير و عزمها.
من هنا فإن هذه القوى لايحق لها أن تعتبر نفسها مساهمة في هذه الثورات. وفي بلد مثل ليبيا لايستطيع تدخّل أمريكا و الناتو أن يكدّر هذه الحقيقة. في ليبيا أنزل الناتو خسائر فادحة لاتعوّض. لو لم يكن هذا التدخّل فإن انتصار الشعب الليبي كان من الممكن أن يتأخر قليلاً ، ولكن سوف لاينزل بالبلد كل هذا الدمار في بُناه التحتية ، و لاتزهق كل هذه الأرواح من النساء و الأطفال ، و لا يدّعي اولئك الأعداء الذين كانت يدهم لسنوات بيد القذافي بأنّ لهم حق التدخّل في هذا البلد المظلوم المُدمّر.
إن جماهير الشعب و النخب الجماهيرية و الذين انطلقوا من الجماهير هم أصحاب هذه الثورات و الأمناء على حراستها و الذين يرسمون مستقبلها و يدفعون بعجلتها إن شاء الله تعالى .
2- موضوع الآفات و الأخطار.. لابد من التأكيد اولاً أن الآفات و الأخطار موجودة ، ولكنّ هناك أيضاً سبلاً للوقاية منها. لاينبغي أن تكون الأخطار مبعث خوف الشعوب ، دعوا الأعداء يخافوكم و اعلموا ( إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ) ربّ العزة و الجلال يقول بشأن فئة من المجاهدين في عصر الرسالة : ( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ).
لابدّ من معرفة الأخطار والآفات للوقاية من الحيرة و الترديد عند مواجهتها ، و لنكون على معرفة مسبقة بتشخيص علاجها.
إننا واجهنا هذه الأخطار بعد انتصار الثورة الإسلامية و عرفناها و جربناها و خرجنا من أكثرها بسلام بفضل الله و قيادة الإمام الخميني و وعي جماهيرنا وبصيرتهم و تضحياتهم . طبعاً لايزال الأعداء يحوكون المؤامرات ولايزال الشعب يقاوم بعزيمة راسخة لا تلين.
إنني أقسّم هذه الأخطار و الآفات الى قسمين : ماكان لها جذور في داخلنا و تنبثق من ضعفنا ، وماهي نتيجةً مباشرةً لتخطيط أعدائنا.
القسم الأول هو من قبيل : الشعور و الظن بأن سقوط الحاكم العميل و الفاسد و الديكتاتور هو نهاية الطريق. إن هذا سوف يبعث على الارتخاء و راحة البال و الغرق في نشوة النصر ، وما يتبع ذلك من ضعف الدوافع و هبوط العزائم. هذا هو الخطر الأول . و سوف يتفاقم هذا الخطر حين يعمد أشخاص إلى الحصول على حصة خاصة في الغنيمة. ماجرى في " معركة أُحد " حيث طمع المحافظون على مضيق الجبل بالغنيمة وما أدى ذلك إلى هزيمة المسلمين و إلى لوم ربّ العالمين إنما هو نموذج بارز ينبغي أن لاننساه أبداً.
إن الشعور بالخشية من الهيمنة الظاهرية للمستکبرين و الإحساس بالخوف من أمريکا و سائر القوى الطامعة ، خطر آخر من هذا القبيل ، و لا بّد من توخّيه. النخب الشجاعة و الشباب يجب أن يطردوا من قلوبهم هذا الخوف .
إن الثقَة بالعدوّ و الانخداع بابتسامته و وعوده و دعمه إنما هو من الآفات الکبرى الأخرى التي يجب أن يحذر منها بشکل خاص النخب و قادة المسيرة . يجب معرفة العدوّ بعلاماته مهما تلبس من لباس ، و صيانة الشعب و الثورة من کيده الذي يدبره في مواضع خلف ستار الصداقة و مّد يد المساعدة . و من جانب آخر قد يعتري الأفراد غرور و يحسبون العدوّ غافلاً، لا بّد من اقتران الشجاعة بالتدبير و الحزم و حشد کل الإمکانات الإلهية في وجودنا لمواجهة شياطين الجنّ و الإنس .
إثارة الاختلافات و خلق الصراعات بين الثوريين و الاختراق من خلف جبهة النضال هي أيضاً من الآفات الکبري التي يجب الفرار منها بکل ما أوتينا من قوة .
أما أخطار القسم الثاني : .
فإن شعوب المنطقة قد خبرتها غالباً في الحوادث المختلفة . و أولها تولّي الأمور عناصر تعتقد أن لها التزامات أمام أميرکا و الغرب . الغرب يسعى بعد السقوط الإضطراري للعناصر التابعة أن يحافظ على أصل النظام و المحاور المفصلية للقدرة و يضع رأساً آخر على هذا البدن وبذلك يواصل فرض سيطرته . و هذا يعني إهدار کل المساعي و الجهود ، و في هذه الحالة إن واجهوا مقاومة الجماهير و وعيها فسوف يسعون إلى بدائل انحرافية أخرى يضعونها أمام الثورة و الجماهير . هذه البدائل يمکن أن تتمثل باقتراح نماذج للحکم و الدستور تدفع بالبلدان إلاسلامية مرة أخرى الى شراك التبعية الثقافية و السياسية و الاقتصادية للغرب ، ويمکن أن تتمثل في اختراق صفوف الثورة و تقديم الدعم المالي و الإعلامي لتيار مشکوك و عزل التيارات الثورية الأصلية . و هذا يعني أيضاً عودة هيمنة الغرب و تثبيت النماذج المتهرئة الغربية والبعيدة عن مبادئ الثورة ثم سيطرة الأجنبي على الأوضاع .
و لو أن هذه الخطط لم تفلح بأجمعها فإن تجربتنا تقول إنهم سيعمدون إلى أساليب منها إثارة الفوضى و الاغتيالات و الحرب الداخلية بين أتباع الأديان أو القوميات و القبائل و الأحزاب ، بل بين الشعوب و البلدان الجارة ، إلى جانب و فرض الحصار الاقتصادي و المقاطعة و تجميد الأرصدة الوطنية و أيضاً الهجوم الشامل الإعلامي و الدعائي . إن الهدف من وراء کل ذلك جعل الشعوب تشعر بالتعب و اليأس ، و الثوار بالترديد و الندم ، و الأعداء يعلمون أن مثل هذه الحالة تجعل هزيمة الثورة ممکنة و ميسورة . اغتيال النخب الصالحة و الفاعلة و الإساءة إلى سمعة الآخرين ، و من جهة أخرى شراء ذمم العناصر الهزيلة هي أيضاً من الأساليب المتداولة للقوى الغربية و أدعياء الحضارية والأخلاق!! .
إن وثائق وکر التجسس الأمريکي التي وقعت بيد الثورة الإسلامية في إيران الإسلام ، أوضحت بدقة أن کل هذه الدسائس قد خطط لها نظام الولايات المتحدة الأمريکية . إعادة الرجعية و الاستبداد و الحاکمية التابعة في البلدان الثورية مبدأ يجيز لهم ممارسة کل هذه الأساليب القذرة .
3- و في آخر قسم من حديثي أضع أمام تشخيصکم و انتخابکم توصيات استقيها من تجاربنا العينية في إيران و من مطالعة دقيقة لبقية البلدان .
من المؤکد أن ظروف الشعوب و البلدان ليست على نحو واحد في جميع الأمور. لکن ثمة بيّنات تستطيع أن تکون للجميع مفيدة.
أول الحديث هو أنه من الممکن تخطى كل هذه العقبات والتغلب على الآفات و اجتيازها اجتياز منتصر بالاتکال على الله و الاعتماد عليه و حسن الظن بما ورد في کتابه العزيز من وعد بالنصر ، و التحلّي بالعقلانية و العزيمة و الشجاعة ، إنکم طبعاً قد نهضتم بعمل کبير و مصيري. لذلك لا بّد أن تتحملوا من أجله أيضاً متاعب کبيرة ، أمير المؤمنين علي عليه السلام يقول: « فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْصِمْ جَبَّارِي دَهْرٍ قَطُّ إِلَّا بَعْدَ تَمْهِيلٍ وَ رَخَاءٍ وَ لَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بَعْدَ أَزْلٍ وَ بَلَاءٍ وَ فِي دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْبٍ وَ مَا اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْبٍ مُعْتَبَر...» .
نصيحتي الهامة أن تروا أنفسکم دائماً في الساحة : (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) و اجعلوا الله سبحانه نصب أعينکم و ثقوا بأنه في عونکم ( وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) و أن لا تکون الانتصارات مبعث غرور و غفلة : ( اِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الْفَتْحُ وَ رَاَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دينِ اللهِ اَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ اِنَّهُ كانَ تَوّاباً ) هذه دعامات حقيقية لکل شعب مؤمن .
نصيحتي الأخرى إعادة قراءة أصول الثورة بشکل مستمر . الشعارات و الأصول يجب أن تخضع للتنقيح و التطبيق مع أصول الإسلام و محکماته. الاستقلال و الحرية و العدالة ، و عدم الاستسلام أمام الاستبداد و الاستعمار ، و رفض التمييز القومي و العنصري و المذهبي، و رفض الصهيونية رفضاً صريحاً وهي التي تشكل أركان النهضات المعاصرة في البلدان الإسلامية ، هي بأجمعها مستقاة من الإسلام و القرآن .
دوّنوا مبادئکم ، و حافظوا بحساسية کبيرة على أصالتکم ، و لا تسمحوا لاعدائکم بتدوين نظام مستقبلکم ، لا تدعوا أصولکم الإسلامية تُقدم قرباناً على مذبح المصالح العابرة .
الانحراف في الثورات يبدأ من الانحراف في الشعارات و الأهداف ، لا تثقوا إطلاقاً بأمريکا و الناتو و بالأنظمة المجرمة مثل بريطانيا و فرنسا و إيطاليا التي جثمت لأمد طويل على صدور بلدانکم و وزّعت بينها بلدانكم و نهبت ثرواتكم ، تعاملوا معها بسوء ظن و لا تصدّقوا ابتساماتهم ، فوراء هذه الابتسامات و الوعود تکمن الخيانات و المؤامرات. ابحثوا عن حلولکم من منبع الإسلام الفيّاض وردّوا وصفات الأجانب إليهم .
نصيحتي المهمة الأخرى الحذر من الاختلافات المذهبية و القومية و العنصرية و القبلية و الحدودية . اعترفوا بالتفاوت و وجّهوه بإدارة حاذقة . التفاهم بين المذاهب مفتاح النجاة .
أولئک الذين يثيرون نيران التفرقة المذهبية أو يعمدون إلى تکفير هذا و ذاك ، هم عملاء الشيطان و جنده حتى لو لم يعلموا هم بذلك .
إقامة النظام عمل کبير و أساسي ، إنه عمل معقد و صعب . لا تدعوا النماذج العلمانية أو الليبرالية الغربية ، أو القومية المتطرفة ، أو الاتجاهات اليسارية المارکسية تُفرض عليکم .
إن المعسکر الشرقي قد انهار و المعسکر الغربي يتشبث بالعنف و الحرب و الخداع، ليحافظ على بقائه و ليس له عاقبة خير متصورة في الأفق .
مرور الزمان بضررهم و لصالح تيار الإسلام.الهدف النهائي يجب أن يتمثل في التوجه نحو الأمة الواحدة الإسلامية و بناء الحضارة الإسلامية الجديدة على أساس الدين و العقلانية و العلم و الأخلاق.
تحرير فلسطين من مخالب الوحش الصهيوني هو أيضاً هدف كبير . بلدان البلقان و القوقاز وغرب آسيا قد تحررت من سيطرة الاتحاد السوفيتي السابق بعد ثمانين سنة من الاحتلال ، فلماذا لا تستطيع فلسطين المظلومة بعد سبعين سنة أن تتحرر من أسر السيطرة الصهيونية ؟! .
الجيل المعاصر في البلدان الإسلامية له قدرة النهوض بمثل هذا العمل الكبير. جيل الشباب مبعث فخر مَنْ سبقه من أجيال . يقول الشاعر العربي: .
قالوا:أبو الصخر من شيبان قلت لهم كلا لعمري و لكن منه شيبانُ .
و كم أبٍ قد علا بابنٍ ذُري شَرَفٍ كما عـلا برسولِ الله عدنانُ .
ثقوا بجيل شبابكم أحيوا روح الثقة بالنفس في وجودهم و غذّوهم بتجارب الآباء و الأجداد .
و ثمة ملاحظتان مهمتان في هذا المجال :.
الأولى : أن أحد أهم مطالب الشعوب الثائرة و المتحررة أن يکون لها الحضور و أن يکون لأصواتها الدور الحاسم في إدارة البلاد.
و لما کانت هذه الشعوب مؤمنة بالإسلام فإن مطلوبها هو « نظام السيادة الشعبية الإسلامي » أي إن الحکام يُنتخبون وفق تصويت الناس، و أن تکون القيم و الأصول الحاکمة على المجتمع وفق أصول قائمة على المعرفة و الشريعة الإسلامية .
و هذا يمکن تحقيقه في البلدان المختلفة بأساليب و أشکال مختلفة بمقتضى ظروفها، لکن يجب المراقبة بحساسية کاملة کي لا يختلط هذا المشروع بالديمقراطية الليبرالية الغربية . الديمقراطية الغربية العلمانية أو المعادية للدين أحياناً ليس لها أي ارتباط بسيادة الشعب الاسلامية الملتزمة بالقيم و بالخطوط الأصلية الإسلامية في نظام البلاد .
الملاحظة الثانية أن التوجه الإسلامي يجب أن لا يختلط بالتحجّر و القشرية و التعصب الجاهل و المتطرف .
لا بدّ أن يکون الفاصل بين هذين الاثنين واضحاً. التطرف الديني المقرون غالباً بالعنف الأعمى هو سبب التخلف و الابتعاد عن الأهداف السامية للثورة ، و هذا بدوره سبب ابتعاد الجماهير و في النتيجة سيکون عامل فشل الثورة.
خلاصة القول أن الکلام عن الصحوة الإسلامية ليس بحديث عن مفهوم مبهم غير مشخص و يقبل التأويل و التفسير . إنه حديث عن واقع خارجي مشهود و محسوس ملأ الأجواء و فجّر الثورات الکبرى و أسقط عناصر خطرة في جبهة الأعداء و أخرجهم من الساحة . و مع ذلك فالساحة لا تزال هشّة و تحتاج إلى بلورة و إلى تحقيق الأهداف النهائية .
الآيات التي تليت في مطلع الحديث تشتمل على منهج کامل للعمل و له الفاعلية الدائمة و خاصة في هذه البرهة الحساسة المصيرية . إنها تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم لکننا جميعا في الواقع مخاطبون بها و مکلفون .
أول توصية في هذه الآيات بالتقوى بمعناها السامي و الواسع ، ثم رفض الطاعة للکافرين و المنافقين ، ثم اتباع الوحي و بالتالي التوکل على ألله و الاعتماد عليه .
مرة أخرى أمرّ على هذه الآية الکريمة : ) بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ) .
و السلام عليکم و رحمة الله و برکاته .