بسم الله الرحمن الرحیم
إن أرض الوحي قد جمعت، مرة أخری، حشود المؤمنین في ضیافتها السنویة. و قد جاءت النفوس التواقة من أرجاء العالم إلی مهد الإسلام و القرآن بهدف أداء المناسك التي تجسد وجهاً للدرس الأبدي الذي یعلمه الإسلام و القرآن للبشریة ـ إذا أمعِن النظرُ فیها. كما أن تلك المناسك تشكل بدورها خطیً رمزیة لترجمة هذا الدرس إلی حیّز العمل و التطبیق.
إن الهدف من هذا الدرس العظیم، هو فلاح الإنسان و عزته الأبدیة؛ و طریق تحقیق ذلك یتمثل في تربیة الإنسان الصالح و تكوین المجتمع الصالح :
ـ ذلك الإنسان الذي یعبد الله الواحد الأحد بقلبه و سلوكه، و یطهر نفسه من الشرك و الأدران الأخلاقیة و الأهواء المنحرفة،
ـ و ذلك المجتمع الذي یعتمد ـ في تكوینه ـ علی العدالة و الحریة و الإیمان و الحیویة و النشاط و جمیع معالم الحیاة و التقدم.
إن العناصر الرئیسیة لتحقیق هذه التربیة الفردیة و الإجتماعیة مُدرَجة و مضمَّنة في فریضة الحج؛ فمنذ لحظة الإحرام و الخروج من حیّز الممیزات الفردیة و ترك الكثیر من اللذائذ و الأهواء النفسانیة، ... إلی عملیة الطواف حول رمز التوحید، و إقامة الصلوة في مقام إبراهیم المضحّي و محطّم الأصنام، ... و من السعي المتسارع بین الجبلین، إلی الإستقرار والإطمئنان في رحاب وادي عرفات بین حشد كبیر من الموحدین من كل لون و عرق، ... إلی قضاء لیلة مصحوبة بالذكر و الإبتهال في المشعر الحرام حیث یأنس كل قلب إلی الله بانفراد، رغم تواجده بین ذلك الحشد المكثف، ... ثم الحضور في منی و رجم رموز الشیطان، ثم تجسید عملیة التضحیة المفعمة بالمعاني العمیقة ، و إطعام الفقیر و ابن السبیل، ...كل ذلك یشكل عملیة تعلیم و تدریب وتذكار.
و تنطوي هذه المجموعة المتكاملة علی الإخلاص و الصفاء و الإنقطاع عن الشواغل المادیة من جهة، و علی السعي و الجهد و المثابرة من جهة أخری؛ كما تنطوي علی الأنس إلی الله و الإختلاء لذكره من جهة، و علی التلاحم و الإخلاص و التناغم مع المخلوق من جهة؛ ... علی الإهتمام بتنقیة القلب و الروح من جهة، و تعليق الأمل علی انسجام الأمة الإسلامیة بكيانها العظيم من جهة؛ ... علی الخشوع أمام الحق جل و علا من جهة، و الوقوف بعزیمة صلبة أمام الباطل من جهة؛ ... وعلی العروج شوقا إلی نعیم الآخرة من جهة و العزیمة الراسخة لإضفاء الجمال و الحلاوة علی الحیاة الدنیا من جهة أخری . إن كل تلك الأمور الشائكة یتم تعلیمها و التدریب علیها جملةً واحدةً :
« وَ مِنهُم مَن یَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنیا حَسَنَةً و في الآخرةِ حَسَنَةً و قِنا عَذَابَ النَّارِ».
و هكذا تكون الكعبة المشرفة و مناسك الحج مصدراً لقوام المجتمعات البشریة و قیامها، كما أنها مفعمة بالمنافع و المكاسب للناس: « جَعَلَ اللهُ الكعبةَ البَیـــتَ الحَرَامَ قِیاماً لِلنَّاسِ » و « لیَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم و یَذكرُوا اسمَ اللهِ فِي أیَّامٍ مَعلُومَاتٍ » .
علی المسلمین ـ من أي بلد وأي عرق كانوا ـ أن یقدّروا اكثر من أي وقت مضی هذه الفریضة الكبری حق قدرها، و أن یستفیدوا منها. إذ إن الأفق الیوم قد أصبح أكثر وضوحاً و إشراقاً من أي وقت مضی أمام الأمة الإسلامیة، كما أن الأمل في تحقیق الأهداف التي رسمها الإسلام للمسلمین ـ أفراداً و مجتمعات - قد ازداد أكثر من أي وقت مضی. فإذا كانت الأمة الإسلامیة تعاني خلال القرنین الماضیین من الإنهیار و الهزیمة أمام الحضارة المادیة الغربیة و المدارس الإلحادیة بنوعیها الیمیني و الیساري ، فإن المدارس السیاسیة و الاقتصادیة الغربیة هي التي باتت الیوم ـ في القرن الخامس عشر الهجري ـ متورطة في الأوحال و معرّضة للضعف و الإنهیار و الهزیمة. و إن الإسلام قد بدأ مرحلة جدیدة من ازدهاره و عزته بفضل صحوة المسلمین و استعادتهم هویتهم، و من خلال طرح الفكر التوحیدي و منطق العدالة و القیم الروحیة.
إن الذین كانوا في الماضي القریب یعزفون علی وتر الیأس ، معتبرین أنه قد ضاع الإسلام و المسلمون ، بل ضاع أساس التدیّن و القیم الروحیة ، أصبحوا الیوم یرون بأم أعینهم انتعاش الإسلام و عودة حیاة القرآن و الإسلام ، كما یرون بالمقابل ما یعتري تدریجیاً أولئك المهاجمین من ضعف و زوال. إنهم یصدّقون فعلاً هذه الحقیقة باللسان كما بالقلب.
إنني أقول و بكل ثقةٍ إن هذا لیس إلا بدایة الطریق، فإن الوعد الإلهي ـ أي انتصار الحق علی الباطل و إعادة بناء أمة القرآن و الحضارة الإسلامیة الحدیثة ـ علی وشك التحقق بصورة كاملة :
« وَعَدَ اللهُ الذِینَ آمَنُوا مِنكم وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَیَستَخلِفَنَّهُم فِي الأرضِ كمَا استَخلَفَ الّذِینَ مِن قَبلِهِم وَ لَیُمَكنَنَّ لَهُم دِینَهُمُ الّذِي ارتَضَی لَهُم وَ لَیُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أمناً یَعبُدُونَنِي لایُشرِكونَ بِي شَیئاً وَ مَن كفَرَ بَعدَ ذَلِك فَأولئِك هُمُ الفَاسِقُونَ » .
إن انتصار الثورة الإسلامیة في إیران و تشیید صرح النظام الإسلامي الذائع الصیت، كان دلیلاً علی تحقق هذا الوعد المحتوم و ذلك في أول مرحلة له و أهمها، ما حوّل أیران إلی قاعدة متینة لفكرة سیادة الإسلام و الحضارة الإسلامیة. فقد انبعث أمل جدید في العالم الإسلامي و اندفع حماس في النفوس مع بزوغ هذه الظاهرة الشبیهة بالمعجزة، سیما في ذروة صخب المادّیة وتعرض الإسلام لمهاجمة الیمین و الیسار ـ الفكري منهما و السیاسي ـ ثم صمود هذه الظاهرة و صلابتها أمام الضربات السیاسیة و العسكریة و الاقتصادیة و الإعلامیة الموجَّهة إلیها من كل حدب و صوب. و كلما مرت الأیام، ازدادت هذه الصلابة ، بحول الله و قوته، و تجذر ذلك الأمل أكثر فأكثر. فخلال العقود الثلاثة التي مرت علی هذا الحدث، ظلت منطقة الشرق الأوسط و البلدان الإسلامیة في آسیا و أفریقیا مسرحاً لهذه المواجهة الظافرة. فإن في كل من :
فلسطین و الإنتفاضة الإسلامیة و تشكيل الحكومة الفلسطینیة المسلمة؛
ولبنان و الإنتصار التاریخي الذي سجله حزب الله و المقاومة الإسلامیة ضد الكیان الصهیوني المستكبر السفاح؛
و العراق و إرساء أسس حكومة مسلمة شعبیة علی أنقاض حكم الطاغیة صدام و نظامه الدكتاتوري الملحد؛
و أفغانستان و الهزیمة المخزیة للمحتلین الشیوعیین و النظام المحلي العمیل لهم؛
و فشل جمیع المشاریع الاستكباریة الأمریكیة الرامیة إلی السیطرة علی الشرق الأوسط؛
و ما يشهده الكيان الصهيوني الغاصب من تورط و اضطراب لاعلاج لهما في داخله؛
و الإنتشار الواسع للمد الإسلامي في معظم دول المنطقة أو جمیعها، و بوجه خاص بین الشباب و المثقفین؛
و التقدم الهائل الذي أحرزته إیران الإسلامیة في المجالات العلمیة و التقنیة علی الرغم من تعرضها للمقاطعة و الحصار الإقتصادي؛
و هزيمة الذين يدقون طبول الحرب في أمريكا سياسياً و اقتصادياً؛
و الشعور بالهویة و التمایز بین الأقلیات المسلمة في غالب الدول الغربیة ...
... في كل ذلك أدلة واضحة علی انتصار الإسلام وتقدمه في ساحة مواجهة الأعداء خلال هذا القرن ، أي القرن الخامس عشر الهجري.
أیها الإخوة و الأخوات، إن هذه الانتصارات كلها حصیلة الجهاد والإخلاص. فعندما سُمع صوت الله من حناجر عباده، و عندما دخلت المعادلة هممُ مجاهدي سبیل الحق و قوتُهم، و عندما وَفی المسلمُ بعهده مع الله، ... عندئذ حقق العليّ القدیرُ وعده و تغیَّر مسار التأریخ : « أوفوا بِعَهدِي أوفِ بِعَهدِكم » . « إن تَنصُرُوا اللهَ یَنصُركم و یُثَبِّت أقدامَكم » « و لَیَنصُرَنَّ اللهُ مَن یَنصرُهُ إنَّ اللهَ لَقَويٌّ عَزِیز » « إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا و الَّذین آمنوا في الحَیاةِ الدُّنیَا و یَومَ یَقُومُ الأشهَادُ ».
إن هذا لیس إلا بدایة الطریق، فهناك عقبات كأداء مازالت تعترض طریق الشعوب المسلمة.
و إن اجتیاز هذه العقبات لن یكون ممكناً إلا بالإیمان و الإخلاص، و بالأمل و الجهاد، و بالبصیرة و الصبر و الصمود. فلا یمكن طيّ هذا الطریق بالیأس و التعامل السلبي، أو باللامبالاة و ضعف الهمة، أو من خلال التسرّع و التهور، أو إساءة الظنّ بصدق ما وعد به الله تعالی.
إن العدوّ المنكوب قد دخل الساحة بكل ما لدیه و بما سيعدّ من قوة. فلابد من یقظة و عقلانیة و شجاعة مع معرفة بالفرص المتاحة. و في هذه الحالة ســـــتبوء كل محاولات العدو بالفشــــل. كما أن خلال هذه العقود الثـــلاثة ، ظل العدو ـ المتمثـــل بشكل رئیسي في أمریكا و الصهیونیة ـ يمارس التحديات في الساحة مستخدماً كل ما كان بحوزته من حول و قوة . و لكن لم یكن نصیبه سوی الفشل. كما أنه سیفشل في المستقبل أیضاً، إن شاء الله.
إن قسوة العدو تنم في أغلب الأحیان عن ضعفه و عدم حكمته. أنظروا إلی الساحة الفلسطینیة و إلی قطاع غزة خاصة. إن التحركات الهمجیة الفظیعة التي یقوم بها العدو هناك، والتي قل مثیلها في تاریخ الإضطهاد البشري، إنما تدل علی ضعفه و عجزه عن التغلب علی الإرادة الصلبة لدی أولئك الرجال و النساء و الشباب و الأطفال الذین وقفوا ـ و بأیدٍ خالیة من السلاح ـ بوجه الكیان الغاصب و حامیته أمریكا و هي قوة عظمی، وداسوا بأقدامهم إرادة هؤلاء الأعداء الذین یریدون منهم الإعراض عن حكومة حماس. سلام الله علی هذا الشعب الصامد العظیم. لقد فسّر أهالي غزة و حكومة حماس عملیاً هذه الآیات القرآنیة الخالدة :
« وَ لَنَبلُوَنَّكم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَ الجُوعِ و نَقصٍ مِنَ الأَموالِ و الأنفُسِ و الثَّمَرَاتِ و بَشِّرِ الصَّابِرِینَ * الذینَ إذا أصابَتهُم مُصِیبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ و إنّا إلَیهِ رَاجِعُونَ* أولَئِك عَلَیهِم صَلَوَاتٌ مِن رَبِّهِم و رَحمَةٌ و أولَئِك هُمُ المُهتَدُونَ » و « وَ لَتُبلَوُنَّ فِي أَموَالِكم و أنفُسِكم و لَتَسمَعُنَّ مِنَ الّذِینَ أوتُوا الكتَابَ مِن قَبلِكم و مِنَ الّذینَ أشرَكوا أذیً كثیراً و إن تَصبِرُوا و تَـتَّقُوا فَإنَّ ذَلِك مِن عَزمِ الأمُورِ ».
و لن یكون المنتصر النهائي في هذا الصراع القائم بین الحق و الباطل إلا الحق. إن الشعب الفلسطیني الصابر المظلوم هو الذي سینتصر علی العدو في نهایة المطاف. « وَكانَ اللهُ قَویّاً عَزیزا » .
و حتی في یومنا هذا، یُلاحَظ أنه بالإضافة إلی فشل هؤلاء في تحطیم مقاومة الفلسطینیین، تعرضت مصداقیة النظام الأمریكي و معظم الأنظمة الأوروبیة لهزیمة نكراء في الساحة السیاسیة بعد ما انكشف زیف مزاعم تلك الأنظمة في دعم الحریة و الدیمقراطیة و شعارات حقوق الإنسان، حیث لایمكنها تدارك هذه الهزیمة بسهولة. إن الكیان الصهیوني المفضوح، بات مسودّ الوجه اكثر من أي وقت مضی، كما أن بعض الأنظمة العربیة قد خسرت في هذا الإختبار الغريب ما كان قد تبقّی لها من مصداقیة ـ إن كانت تملكها أصلاً.
وَ سَیَعلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أيَّ مُنقَلَبٍ یَنقَلِبُونَ. و السلام علی عباد اللهِ الصَّالِحینَ
السیّد علي الحسیني الخامنئي
4 ذي الحجة الحرام 1429 هـ
إن أرض الوحي قد جمعت، مرة أخری، حشود المؤمنین في ضیافتها السنویة. و قد جاءت النفوس التواقة من أرجاء العالم إلی مهد الإسلام و القرآن بهدف أداء المناسك التي تجسد وجهاً للدرس الأبدي الذي یعلمه الإسلام و القرآن للبشریة ـ إذا أمعِن النظرُ فیها. كما أن تلك المناسك تشكل بدورها خطیً رمزیة لترجمة هذا الدرس إلی حیّز العمل و التطبیق.
إن الهدف من هذا الدرس العظیم، هو فلاح الإنسان و عزته الأبدیة؛ و طریق تحقیق ذلك یتمثل في تربیة الإنسان الصالح و تكوین المجتمع الصالح :
ـ ذلك الإنسان الذي یعبد الله الواحد الأحد بقلبه و سلوكه، و یطهر نفسه من الشرك و الأدران الأخلاقیة و الأهواء المنحرفة،
ـ و ذلك المجتمع الذي یعتمد ـ في تكوینه ـ علی العدالة و الحریة و الإیمان و الحیویة و النشاط و جمیع معالم الحیاة و التقدم.
إن العناصر الرئیسیة لتحقیق هذه التربیة الفردیة و الإجتماعیة مُدرَجة و مضمَّنة في فریضة الحج؛ فمنذ لحظة الإحرام و الخروج من حیّز الممیزات الفردیة و ترك الكثیر من اللذائذ و الأهواء النفسانیة، ... إلی عملیة الطواف حول رمز التوحید، و إقامة الصلوة في مقام إبراهیم المضحّي و محطّم الأصنام، ... و من السعي المتسارع بین الجبلین، إلی الإستقرار والإطمئنان في رحاب وادي عرفات بین حشد كبیر من الموحدین من كل لون و عرق، ... إلی قضاء لیلة مصحوبة بالذكر و الإبتهال في المشعر الحرام حیث یأنس كل قلب إلی الله بانفراد، رغم تواجده بین ذلك الحشد المكثف، ... ثم الحضور في منی و رجم رموز الشیطان، ثم تجسید عملیة التضحیة المفعمة بالمعاني العمیقة ، و إطعام الفقیر و ابن السبیل، ...كل ذلك یشكل عملیة تعلیم و تدریب وتذكار.
و تنطوي هذه المجموعة المتكاملة علی الإخلاص و الصفاء و الإنقطاع عن الشواغل المادیة من جهة، و علی السعي و الجهد و المثابرة من جهة أخری؛ كما تنطوي علی الأنس إلی الله و الإختلاء لذكره من جهة، و علی التلاحم و الإخلاص و التناغم مع المخلوق من جهة؛ ... علی الإهتمام بتنقیة القلب و الروح من جهة، و تعليق الأمل علی انسجام الأمة الإسلامیة بكيانها العظيم من جهة؛ ... علی الخشوع أمام الحق جل و علا من جهة، و الوقوف بعزیمة صلبة أمام الباطل من جهة؛ ... وعلی العروج شوقا إلی نعیم الآخرة من جهة و العزیمة الراسخة لإضفاء الجمال و الحلاوة علی الحیاة الدنیا من جهة أخری . إن كل تلك الأمور الشائكة یتم تعلیمها و التدریب علیها جملةً واحدةً :
« وَ مِنهُم مَن یَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنیا حَسَنَةً و في الآخرةِ حَسَنَةً و قِنا عَذَابَ النَّارِ».
و هكذا تكون الكعبة المشرفة و مناسك الحج مصدراً لقوام المجتمعات البشریة و قیامها، كما أنها مفعمة بالمنافع و المكاسب للناس: « جَعَلَ اللهُ الكعبةَ البَیـــتَ الحَرَامَ قِیاماً لِلنَّاسِ » و « لیَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم و یَذكرُوا اسمَ اللهِ فِي أیَّامٍ مَعلُومَاتٍ » .
علی المسلمین ـ من أي بلد وأي عرق كانوا ـ أن یقدّروا اكثر من أي وقت مضی هذه الفریضة الكبری حق قدرها، و أن یستفیدوا منها. إذ إن الأفق الیوم قد أصبح أكثر وضوحاً و إشراقاً من أي وقت مضی أمام الأمة الإسلامیة، كما أن الأمل في تحقیق الأهداف التي رسمها الإسلام للمسلمین ـ أفراداً و مجتمعات - قد ازداد أكثر من أي وقت مضی. فإذا كانت الأمة الإسلامیة تعاني خلال القرنین الماضیین من الإنهیار و الهزیمة أمام الحضارة المادیة الغربیة و المدارس الإلحادیة بنوعیها الیمیني و الیساري ، فإن المدارس السیاسیة و الاقتصادیة الغربیة هي التي باتت الیوم ـ في القرن الخامس عشر الهجري ـ متورطة في الأوحال و معرّضة للضعف و الإنهیار و الهزیمة. و إن الإسلام قد بدأ مرحلة جدیدة من ازدهاره و عزته بفضل صحوة المسلمین و استعادتهم هویتهم، و من خلال طرح الفكر التوحیدي و منطق العدالة و القیم الروحیة.
إن الذین كانوا في الماضي القریب یعزفون علی وتر الیأس ، معتبرین أنه قد ضاع الإسلام و المسلمون ، بل ضاع أساس التدیّن و القیم الروحیة ، أصبحوا الیوم یرون بأم أعینهم انتعاش الإسلام و عودة حیاة القرآن و الإسلام ، كما یرون بالمقابل ما یعتري تدریجیاً أولئك المهاجمین من ضعف و زوال. إنهم یصدّقون فعلاً هذه الحقیقة باللسان كما بالقلب.
إنني أقول و بكل ثقةٍ إن هذا لیس إلا بدایة الطریق، فإن الوعد الإلهي ـ أي انتصار الحق علی الباطل و إعادة بناء أمة القرآن و الحضارة الإسلامیة الحدیثة ـ علی وشك التحقق بصورة كاملة :
« وَعَدَ اللهُ الذِینَ آمَنُوا مِنكم وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَیَستَخلِفَنَّهُم فِي الأرضِ كمَا استَخلَفَ الّذِینَ مِن قَبلِهِم وَ لَیُمَكنَنَّ لَهُم دِینَهُمُ الّذِي ارتَضَی لَهُم وَ لَیُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أمناً یَعبُدُونَنِي لایُشرِكونَ بِي شَیئاً وَ مَن كفَرَ بَعدَ ذَلِك فَأولئِك هُمُ الفَاسِقُونَ » .
إن انتصار الثورة الإسلامیة في إیران و تشیید صرح النظام الإسلامي الذائع الصیت، كان دلیلاً علی تحقق هذا الوعد المحتوم و ذلك في أول مرحلة له و أهمها، ما حوّل أیران إلی قاعدة متینة لفكرة سیادة الإسلام و الحضارة الإسلامیة. فقد انبعث أمل جدید في العالم الإسلامي و اندفع حماس في النفوس مع بزوغ هذه الظاهرة الشبیهة بالمعجزة، سیما في ذروة صخب المادّیة وتعرض الإسلام لمهاجمة الیمین و الیسار ـ الفكري منهما و السیاسي ـ ثم صمود هذه الظاهرة و صلابتها أمام الضربات السیاسیة و العسكریة و الاقتصادیة و الإعلامیة الموجَّهة إلیها من كل حدب و صوب. و كلما مرت الأیام، ازدادت هذه الصلابة ، بحول الله و قوته، و تجذر ذلك الأمل أكثر فأكثر. فخلال العقود الثلاثة التي مرت علی هذا الحدث، ظلت منطقة الشرق الأوسط و البلدان الإسلامیة في آسیا و أفریقیا مسرحاً لهذه المواجهة الظافرة. فإن في كل من :
فلسطین و الإنتفاضة الإسلامیة و تشكيل الحكومة الفلسطینیة المسلمة؛
ولبنان و الإنتصار التاریخي الذي سجله حزب الله و المقاومة الإسلامیة ضد الكیان الصهیوني المستكبر السفاح؛
و العراق و إرساء أسس حكومة مسلمة شعبیة علی أنقاض حكم الطاغیة صدام و نظامه الدكتاتوري الملحد؛
و أفغانستان و الهزیمة المخزیة للمحتلین الشیوعیین و النظام المحلي العمیل لهم؛
و فشل جمیع المشاریع الاستكباریة الأمریكیة الرامیة إلی السیطرة علی الشرق الأوسط؛
و ما يشهده الكيان الصهيوني الغاصب من تورط و اضطراب لاعلاج لهما في داخله؛
و الإنتشار الواسع للمد الإسلامي في معظم دول المنطقة أو جمیعها، و بوجه خاص بین الشباب و المثقفین؛
و التقدم الهائل الذي أحرزته إیران الإسلامیة في المجالات العلمیة و التقنیة علی الرغم من تعرضها للمقاطعة و الحصار الإقتصادي؛
و هزيمة الذين يدقون طبول الحرب في أمريكا سياسياً و اقتصادياً؛
و الشعور بالهویة و التمایز بین الأقلیات المسلمة في غالب الدول الغربیة ...
... في كل ذلك أدلة واضحة علی انتصار الإسلام وتقدمه في ساحة مواجهة الأعداء خلال هذا القرن ، أي القرن الخامس عشر الهجري.
أیها الإخوة و الأخوات، إن هذه الانتصارات كلها حصیلة الجهاد والإخلاص. فعندما سُمع صوت الله من حناجر عباده، و عندما دخلت المعادلة هممُ مجاهدي سبیل الحق و قوتُهم، و عندما وَفی المسلمُ بعهده مع الله، ... عندئذ حقق العليّ القدیرُ وعده و تغیَّر مسار التأریخ : « أوفوا بِعَهدِي أوفِ بِعَهدِكم » . « إن تَنصُرُوا اللهَ یَنصُركم و یُثَبِّت أقدامَكم » « و لَیَنصُرَنَّ اللهُ مَن یَنصرُهُ إنَّ اللهَ لَقَويٌّ عَزِیز » « إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا و الَّذین آمنوا في الحَیاةِ الدُّنیَا و یَومَ یَقُومُ الأشهَادُ ».
إن هذا لیس إلا بدایة الطریق، فهناك عقبات كأداء مازالت تعترض طریق الشعوب المسلمة.
و إن اجتیاز هذه العقبات لن یكون ممكناً إلا بالإیمان و الإخلاص، و بالأمل و الجهاد، و بالبصیرة و الصبر و الصمود. فلا یمكن طيّ هذا الطریق بالیأس و التعامل السلبي، أو باللامبالاة و ضعف الهمة، أو من خلال التسرّع و التهور، أو إساءة الظنّ بصدق ما وعد به الله تعالی.
إن العدوّ المنكوب قد دخل الساحة بكل ما لدیه و بما سيعدّ من قوة. فلابد من یقظة و عقلانیة و شجاعة مع معرفة بالفرص المتاحة. و في هذه الحالة ســـــتبوء كل محاولات العدو بالفشــــل. كما أن خلال هذه العقود الثـــلاثة ، ظل العدو ـ المتمثـــل بشكل رئیسي في أمریكا و الصهیونیة ـ يمارس التحديات في الساحة مستخدماً كل ما كان بحوزته من حول و قوة . و لكن لم یكن نصیبه سوی الفشل. كما أنه سیفشل في المستقبل أیضاً، إن شاء الله.
إن قسوة العدو تنم في أغلب الأحیان عن ضعفه و عدم حكمته. أنظروا إلی الساحة الفلسطینیة و إلی قطاع غزة خاصة. إن التحركات الهمجیة الفظیعة التي یقوم بها العدو هناك، والتي قل مثیلها في تاریخ الإضطهاد البشري، إنما تدل علی ضعفه و عجزه عن التغلب علی الإرادة الصلبة لدی أولئك الرجال و النساء و الشباب و الأطفال الذین وقفوا ـ و بأیدٍ خالیة من السلاح ـ بوجه الكیان الغاصب و حامیته أمریكا و هي قوة عظمی، وداسوا بأقدامهم إرادة هؤلاء الأعداء الذین یریدون منهم الإعراض عن حكومة حماس. سلام الله علی هذا الشعب الصامد العظیم. لقد فسّر أهالي غزة و حكومة حماس عملیاً هذه الآیات القرآنیة الخالدة :
« وَ لَنَبلُوَنَّكم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَ الجُوعِ و نَقصٍ مِنَ الأَموالِ و الأنفُسِ و الثَّمَرَاتِ و بَشِّرِ الصَّابِرِینَ * الذینَ إذا أصابَتهُم مُصِیبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ و إنّا إلَیهِ رَاجِعُونَ* أولَئِك عَلَیهِم صَلَوَاتٌ مِن رَبِّهِم و رَحمَةٌ و أولَئِك هُمُ المُهتَدُونَ » و « وَ لَتُبلَوُنَّ فِي أَموَالِكم و أنفُسِكم و لَتَسمَعُنَّ مِنَ الّذِینَ أوتُوا الكتَابَ مِن قَبلِكم و مِنَ الّذینَ أشرَكوا أذیً كثیراً و إن تَصبِرُوا و تَـتَّقُوا فَإنَّ ذَلِك مِن عَزمِ الأمُورِ ».
و لن یكون المنتصر النهائي في هذا الصراع القائم بین الحق و الباطل إلا الحق. إن الشعب الفلسطیني الصابر المظلوم هو الذي سینتصر علی العدو في نهایة المطاف. « وَكانَ اللهُ قَویّاً عَزیزا » .
و حتی في یومنا هذا، یُلاحَظ أنه بالإضافة إلی فشل هؤلاء في تحطیم مقاومة الفلسطینیین، تعرضت مصداقیة النظام الأمریكي و معظم الأنظمة الأوروبیة لهزیمة نكراء في الساحة السیاسیة بعد ما انكشف زیف مزاعم تلك الأنظمة في دعم الحریة و الدیمقراطیة و شعارات حقوق الإنسان، حیث لایمكنها تدارك هذه الهزیمة بسهولة. إن الكیان الصهیوني المفضوح، بات مسودّ الوجه اكثر من أي وقت مضی، كما أن بعض الأنظمة العربیة قد خسرت في هذا الإختبار الغريب ما كان قد تبقّی لها من مصداقیة ـ إن كانت تملكها أصلاً.
وَ سَیَعلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أيَّ مُنقَلَبٍ یَنقَلِبُونَ. و السلام علی عباد اللهِ الصَّالِحینَ
السیّد علي الحسیني الخامنئي
4 ذي الحجة الحرام 1429 هـ