موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي

كلمة قائد الثورة الإسلامية المعظم لدى لقائه القائمين على شؤون الحج

بسم الله الرحمن الرحیم 1

الحمد لله ربّ العالمین، والصلاة والسلام علی سیدنا ونبینا أبي القاسم المصطفی محمد، وعلی آله الطیبین الطاهرین، وصحبه المنتجبین، ومن تبعهم بإحسان إلى یوم الدین.

قدمتم خير مقدم أيها الإخوة الأعزاء والأخوات العزيزات والخادمون لفريضة الحج والحجاج الموفّقين والمعززين، وخدمتكم هذه بحد ذاتها هي فخر كبير. فإنّ تمهيد المقدمات وتهيئة الأرضية وإسداء العون لأداء فريضة الحج العظمى - التي تفوق أبعادها ما نصفه منها بكثير - ونفس تقديم الخدمة لإقامة هذه الفريضة يعتبر ثواباً عظيماً وعملاً كبيراً وخدمة ثمينة.

هذا وإنني أوصي كل العاكفين على الخدمة في مختلف الأقسام - سواء في البعثة أو في منظمة الحج أو في الحملات أو في الأجهزة المعنية - والباذلين جهودهم والممسكين بجانب من العمل أن يعرفوا قدر هذا التوفيق، وأن يشكروا الله ويحمدوه على أن منّ عليهم بهذا التوفيق، وأن يحاولوا إنجاز هذا العمل على أتم وجه.

إن هذه التقارير التي أدلى بها حضرة السيد قاضي عسكر ورئيس منظمة الحج الموقّر، لهي تقارير جيدة جداً. وحتى لو افترضنا بأن البعض منها قد يتعثّر ويتوقف في منتصف الطريق، فأن مجموع هذه التقارير والأعمال التي تم إنجازها هو مجموع جدير بالاهتمام، ولكني أريد القول بأن جميع هذه الأمور التي ذُكرت، بالقياس إلى ما تحتاج إليه إقامة الحج الإبراهيمي والحج النبوي والحج القرآني، هي مازالت في منتصف الطريق، وبالإمكان إنجاز الكثير من الأعمال.

إنّ الذي أودّ اليوم ذكره هو أنه بالإضافة إلى جميع الجهات المختلفة والمتوافرة في الحج - هذه الفريضة الكبرى - فإن الحج يتسم بهذه الخصوصية وهي أنه مظهر للجمع بين المعنوية والسياسة، وبين المعنوية والمادية، وبين الدنيا والآخرة. ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾2.. هذا هو المطلوب والمقبول لدى القرآن، وهو أن يدعو الإنسان ويطلب من الله سبحانه وتعالى الحسنة الدنيوية والحسنة الأخروية، وهذا يعني أن الدنيا والآخرة مجتمعتان في الحج، فالحج مظهر لمثل ذلك.

لقد بذل البعض جهودهم على مدى أعوام طويلة، وهاهم اليوم يبذلون المساعي أيضاً لأن يفصلوا في الإسلام بين المعنوية وبين قضايا الحياة وإدارة شؤون المجتمعات؛ أي «فصل الدين عن السياسة». منذ سنين طويلة - لربما أمكن القول عشرات الأعوام.. مئة عام أو أكثر - وأعداء الإسلام والجاهلون الذين لا يفقهون من الإسلام شيئاً، قد وظّفوا جهودهم في هذا المضمار، ولكن حين انبثقت الجمهورية الإسلامية وانتصرت الثورة الإسلامية أبطلت كل هذه الأقاويل، وتبيّن أن الإسلام بمقدوره إدارة ميدان السياسة وميدان الحياة وميدان إدارة البلد وميدان إنزال الناس إلى الساحة بكل طاقاتهم وقدراتهم على أتم وجه، وأنه نجح في هذا المجال أكثر مما كان يُطلقه الشيوعيون أو الليبراليون أو الغربيون من شعارات (براقة). وعلى هذا فقد تم إحباط كل المساعي التي كانوا يبذلونها خلال فترة طويلة، ولكنهم عاودوا الكرّة من جديد، وبادر البعض إلى إلقاء مفهوم الفصل بين الدين والسياسة وبين الدين والحياة وبين الدين والعلم وبين الدنيا والآخرة وبين المعنوية والمادية - الموجودة برمتها في الإسلام - في أذهان الجيل الشاب، وإبعاد أذهانهم عن التلاحم بين هذه المسائل، بيد أنّ الحجّ يشكّل ساحة عمليّة للدلالة على هذا التلاحم.

ولكن كيف ذلك؟ إنّ لكم في الحج تضرّع ودعاء وتوسّل وبكاء وطواف وسعي وصلاة، واجتماع جماهيري كذلك، وهذا غاية في الأهمية. فليتدبّروا بأن الله سبحانه وتعالى حين دعا الناس إلى الحج، لو كانت غايته مجيئهم إلى هذه البقعة في سبيل أن يتسموا بالمعنوية خلال بضعة أيام، لما كان من الضرورة أن يحدّد لهم وقتاً معيناً، وإنما (كان سيسمح) لكل واحد بالذهاب إلى ذلك المكان متى ما شاء ورغب طوال السنة.. كلا، إن للحج وقتٌ معين ومحدد. وعلى الناس أن يهبّوا في ذلك الوقت المحدّد من جميع أقطار العالم الإسلامي، لا سنة وسنتين، بل على مدى التأريخ، وأن يجتمع في تلك الأيام المعدودات وفي تلك النقطة المعنية من كان قادراً ومستطيعاً من العالم الإسلامي برمته، فما هو معنى ذلك؟ معناه أن نفس هذا الاجتماع هو موضع اهتمام الله سبحانه وتعالى وإرادته. وهذا يعني تشكيل الأمة الإسلامية والنظر إلى اجتماع المسلمين وتجمهرهم، والحج مظهر لذلك.

وحينذاك بعد أن قصدتم هذه البقعة، ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾3، هنا أيضاً يرد الكلام عن الناس، ﴿سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾4، لا فرق بين أهل مكة وغيرها، فالمكان هذا ملكٌ للجميع، والأرض هذه ملكٌ لكل المسلمين. ولا ينبغي للبعض أن يزعم بأنّ الأرض هذه ملكٌ لهم وأنه يحق لهم التصّرف فيها بكل ما يحلو لهم.. كلا، فإن لكافة المسلمين حق واحد تجاه الكعبة الشريفة وتجاه المسجد الحرام وتجاه هذه المواطن المباركة والأجواء المقدسة للحرمين الشريفين. علماً بأن هذه الآية الشريفة تتحدث حول مكة، ولكن الكلام ذاته يجري بشأن المدينة أيضاً، فإنها هي الأخرى ملكٌ للمسلمين قاطبة، لأن النبي جاء للبشرية جمعاء.

التفتوا! هذا الاجتماع وهذا التعاطف وهذا التلاحم بين المسلمين يشكّل أحد أهم أهداف الحج التي لابد وأن تؤخذ بنظر الاعتبار. وفي جميع برامج الحجاج الكرام والمدراء المعنيين يجب النظر إلى هذا المعنى وهو الترابط والتواصل والتفاهم والتوافق. علماً بأن الحكومة المهيمنة على تلك المنطقة لا تروم ذلك، وتضع الموانع والعقبات كيفما تأتّى لها ذلك، والأدوات اليوم كثيرة أيضاً. و(لكن رغم ذلك) يجب إقامة العلاقات وتشكيل اجتماع الأمة الإسلامية.

إذن فأولئك الذين يفصلون السياسة عن الإسلام ويرفضونها لا يفهمون من الإسلام ومن آيات القرآن شيئاً. فإن الآيات القرآنية، سواء ما يرتبط منها بالحج، أو ما يتعلق منها بالجهاد، أو ما يختص منها بالعلاقات بين الناس في المجتمع، أو ما يُعنى منها بحاكمية الحاكم الإسلامي في المجتمع، كلها سياسات لها صلتها بالإسلام. كما أن سيادة الشعب الإسلامية التي تحدثنا عنها، مقتبسة من متن الإسلام ومتن القرآن. ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾5.. هذه هي النقطة الرئيسية في قضية الحج.

وثمة نقطة أخرى وهي أنه لا يحق لأي أحد الحيلولة دون ما ينطوي عليه الحج من مفاهيم ومسائل، فإن ذلك (مصداق لقوله تعالى:) ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾6. والصدّ هذا لا يقتصر على منعكم من الذهاب إلى مكة، فإنهم قد يسمحون لكم بذلك، ولكنهم يمنعوكم عن الاستفادة من مفاهيم الحج، وهذا أيضاً صدّ عن سبيل الله وصدّ عن المسجد الحرام. فإن تلك الجماعة التي تقوم بهذه الحركة، وتلك الحكومة والدولة التي ترتكب هذه الحماقة الكبرى، إنما تصدّ عن سبيل الله. إذ لابد من إدراك مفاهيم الحج وفهمها والعمل والتصرّف على أساسها. وخلاصة القول أن الكعبة ملكٌ للجميع.

نحن نعتقد أن الشعب الإيراني بعد انتصار الثورة، وببركة هداية الإمام (الخميني) العظيم، قد أدرك واكتشف وعرف معنىً جديداً من الحج. فإنه منذ العام الأول من انتصار الثورة، عندما ذهب عدد من الناس إلى الحج، وبعث الإمام بنداء (للحجاج)، تبلورت وتجسّدت للشعب الإيراني من الحج مفاهيم جديدة، سار خلفها واقتفى أثرها، وهي تتمثل في الحج المرافق للبراءة والحج الملازم للتفاهم بين المسلمين والحج الذي هو مظهر ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾7. فلابد أن يكون الحج مظهراً (لقوله تعالى:) ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾. والنقطة التي تقف على النقيض من ذلك هي إثارة الفرقة بين الإخوان وشقّ صفوفهم والارتماء في أحضان الاستكبار العالمي وأحضان أمريكا.. هذه هي النقطة التي تقف على النقيض مما يريده الحج من الناس ولهم ومما شرّعه الشارع المقدس لصالحهم. فلابد من أداء (فريضة) الحج بهذه الروح وبهذه الحالة.

علماً بأن مما يؤسف له أنّ السعودية تُضايق (الحجاج) وتصدّهم عن أداء وظائفهم وفرائضهم التي من حقهم أداؤها، فلابد من أخذها دوماً كمطالبات للمؤمنين والمسلمين بنظر الاعتبار. فإنهم قد يضعون العقبات، وهذا ما سيؤدي إلى خلق المشاكل، ولكن لا ينبغي نسيان تلك المطالبة أبداً.

وكما قال السادة فإن كارثة المسجد الحرام ومنى في سنة 2015 لا تغيب عن الأذهان، ولابد من ملاحقة القضية ومتابعتها بالتأكيد. فليتم تشكيل لجنةٍ لتقصي الحقائق بحضور المدّعي الرئيس - وهو الجمهورية الإسلامية -، ومراجعة الأوساط الدولية، والاستعانة بكل مكان يمكن طلب المعونة منه حتى استيفاء الحقوق، فقد ارتُكب ظلمٌ كبير هناك. ذلك إن حق الحجاج الكبير على المهيمنين على تلك المنطقة هو تحقيق أمنهم، وهذه هي مطالبتهم الرئيسية. فإن الأمن يشكل واحداً من الخصائص التي جعلها الله سبحانه وتعالى لبيته ولمكة وللحرم (حيث قال:) ﴿جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾8.. (جعلنا البيت) محلاً لاجتماع الناس ومكاناً آمناً لهم. فإن الأمن يعدّ واحداً من أساسيات الأمور للناس، ولكنه انتُهك (في هذه الحادثة). وهذا ما يحتاج إلى مطالبة ومتابعة، فلا تسأموا من متابعة هذه القضية. ويجب على المسؤولين الموقّرين - سواء في البعثة أو في منظمة الحج أو في الأجهزة المعنية بما فيها وزارة الخارجية والسلطة القضائية وغيرهم - متابعتها. وهنالك تقارير بلغتنا تفيد بأنّ عوائل بعض الشهداء الذين دُفنوا هناك لا يسمح لهم حتى بزيارة قبور أحبائهم وشهدائهم! فلا ينبغي استمرار هذا الوضع، ولابد من اتخاذ إجراءات حيال هذه الممارسات. كما وإن دية المقتولين أيضاً تعدّ قضية بحد ذاتها.

أيها الإخوة الأعزاء، أيتها الأخوات العزيزات! العالم الإسلامي اليوم بحاجة إلى صوتٍ واحد، وأيما صوتٍ ينادي بالشقاق والتفرقة فهو مبغوض من قبل الشارع المقدس لا محالة. فالتفرقة محظورة من أي طرف كانت وبأي أسلوب وطريقة كانت.. لماذا؟ لأن العدو قد ركّز جهوده على العالم الإسلامي. فانظروا ما الذي يجري في العالم الإسلامي؟ من جانب تُمارس الضغوط على اليمن، ويتعرض شعبه المظلوم لهجوم متواصل عدة أعوام، علماً بأنه شعب شجاع قوي مقاوم، ولكنه يعاني من الشدائد والصِعاب. ومن جانب آخر قضية فلسطين وهذه السياسة الشيطانية الخبيثة التي تمارسها أمريكا بحق فلسطين والتي عنونتها «صفقة القرن». وليعلموا بالطبع أن هذه الصفقة التي خططوا لها لن تؤتي أكلها إطلاقاً بتوفيق الله.

وعلى الرغم من أنف الساسة الأمريكيين الذين راحوا يُهلكون أنفسهم لإنجاز شيء في فلسطين، فإن القضية الفلسطينية لا تقلع عن الأذهان، ومدينة القدس المقدسة ستبقى عاصمة فلسطين، وقبلة المسلمين الأولى ستبقى للمسلمين. وهذا الحلم المضطرب الذي يحلم به اليهود من أنهم سيفرضون الهيمنة على القدس وأن المدينة سطحها وتحتها وعمقها وشرقها وغربها وكل مكان فيها سيقع بأيديهم، ليس إلا حماقة فارغة لا سبيل إلى تحققها، ولا شك في أن الشعب الفلسطيني سيتصدى لذلك، وأن الشعوب المسلمة بأسرها ستقف ظهيرة ومساندة لشعب فلسطين، وبتوفيق من الله ستحول دون تحقيق هذا الأمر.

ومما يؤسف له أن بعض الدول الإسلامية، وبسبب عدم إيمانها بأساس الإسلام فضلاً عن القضية الفلسطينية، قد جعلت نفسها ضحية للأمريكيين، لا تابعاً لهم وحسب، بل راحت تضحي بنفسها في سبيلهم، من منطلق الحماقة والجهل والمطامع والأهواء الدنيوية.. إن بعض الدول العربية تسير على هذا المنوال وللأسف، ولكن (أعمالهم) لا أثر لها ولا تُجدي نفعاً وستفشل مخططاتهم، وبتوفيق الله سوف تنتصر الأمة الإسلامية على أعدائها وينتصر الشعب الفلسطيني المسلم على أعدائه لا محالة، وسوف يشهدون ذلك اليوم الذي تُقتَلع فيه جذور الكيان الصهيوني اللقيط من أرض فلسطين.

نتمنى لكم إن شاء الله حجاً مقبولاً وللحجاج الأعزاء بإذن الله أن يذهبوا بصحة وأمان وأن يعودوا بملء اليدين، وأن نكون لله من الشاكرين.

والسلام علیکم و‌رحمة الله‌

 

الهوامش:

1- في بداية اللقاء تحدث حجة الإسلام السيد علي قاضي عسكر (ممثل الولي الفقيه في شؤون الحج والزيارة) والسيد حميد محمدي (رئيس منظمة الحج والزيارة).

2- سورة البقرة، آية 201.

3- سورة البقرة، جزء من الآيه 199.

4- سورة الحج، جزء من الآية 25.

5- سورة الشورى، جزء من الآية 38.

6- سورة الحج، جزء من الآية 25.

7- سورة الفتح، جزء من الآية 29.

8- سورة البقرة، جزء من الآية 125.